الاستراتيجي والتكتيكي في سياسات حزب العمال الكردستاني/ عبد الباسط سيدا
يدرك المتابع لسياسات وممارسات حزب العمال الكردستاني “ب. ك. ك” منذ تشكيله عام 1978 إلى اليوم، أنه قد اعتمد منذ البداية أربع قواعد أساسية، لم يتخل عنها حتى اليوم، بل ان الظروف الإقليمية التي ساعدته، والملفات العديدة التي كُلف بها من قبل المتعهدين، قد أتاحت له المزيد من مساحة الحركة، والاستمرار في الحرص على القواعد التي وضعها لنفسه، أو وُضعت له منذ البداية، وهذه القواعد هي:
اعتبار الساحة الكردستانية بأسرها ساحته، وهذا فحواه أنه قد منح نفسه حرية التحرك والتنظيم والمنافسة، والانخراط في النزاعات بين الأطراف الكردية في هذا الجزء أو ذاك.
الحرص على إقامة العلاقات مع الأجهزة الأمنية لمختلف الدول؛ وذلك في سعي منه لمد الجسور مع القوى الخفية التي تتحكم بدول المنطقة، وذلك من أجل الاستقواء بها في عملية إبعاد الأطراف الكردية الأخرى عن دائرة الفعل والتأثير. وقد بلغ به الأمر إلى حد الاندماج في مشاريع الأجهزة الأمنية المتعددة المشارب والجنسيات؛ ولكن علاقاته مع الأجهزة السورية والإيرانية ظلت ثابتة خاصة، وهي مستمرة منذ عقود.
عدم الاعتراف بالشركاء أو الأنداد في إطار أي تحالفات أو اتفاقيات، التي سرعان ما يتراجع عنها، أو يفسرها وفق منطقه الخاص الذي لا يقبل إلا بالأتباع والمريدين. فهذا الحزب لا يقبل بالرأي الآخر ضمن صفوفه أولاً، وأي مخالف لهذه القاعدة يشيطن، بل وقد يتم تغييبه بمختلف الأشكال؛ وتجري عملية فبركة القصص التي تقنع المريدين بصوابية ما يقوله الحزب ويفعله، وتمثل في الوقت نفسه تهديداً مبطناً للمتمردين الذين يستخدمون ملكتهم النقدية. كما لا يثق الحزب المعني بأي شركاء حقيقيين من أحزاب وقوى سياسية لها وزنها، يمكنها أن تكون مستقبلاً من المنافسين.
وللتغطية على هذا التوجه، يعمل هذا الحزب على تقريب وتسويق مجموعة من الأحزاب الصغيرة التي تبحث عن اسم وموقع، وبعض الفئات والشخصيات المتسلقة الباحثة عن فتات يومي، ليستخدمها واجهات تزيينية تضليلية مسلوبة الإرادة، بل مجرد بيادق في مشروعه الغامض.
اعتماد التقية، وديماغوجية الشعارات، و”الشعبوية القوموية”، وكذلك “الشعبوية الوطنياتية” إذا صح التعبير. هذا إلى جانب البراغماتية الزئبقية التي تتغير وفق مزاج صاحب الطلب، وبموجب ما يتناغم مع أهداف الحزب الخفية.
هذه القواعد والمرتكزات يتلّمسها المراقب المتابع الموضوعي لمسيرة حزب العمال الكردستاني منذ دخوله إلى سوريا عام 1979 ومن ثم لبنان عام 1980، وفي ما بعد دخوله إلى كردستان العراق، ومن ثم إلى كردستان إيران.
وقد تمكن في سوريا من تثبيت مواقعه، وتوسيع دائرة نفوذه، وذلك بفعل الدعم الكبير الذي حصل عليه من جانب نظام حافظ الأسد الذي سمح له بحرية الحركة على الساحتين السورية واللبنانية، ليستخدم ورقة الحزب ضمن سياسته في ذلك الحين التي كانت تقوم على أساس التحكم بالأوراق الإقليمية الأساسية، مثل الورقة الفلسطينية، واللبنانية، وورقة المعارضة العراقية، وذلك تمهيداً لأداء دور إقليمي فاعل بعد خروج مصر من الساحة نتيجة توقيع أنور السادات على اتفاقيات كامب ديفيد في 17 أيلول/سبتمبر 1978.
وما ساعد حزب العمال في مهتمه هو ضعف الأحزاب الكردية السورية، وانشغالها بخلافاتها الحزبية والبينية والشللية، وهشاشة برامجها وضبابيتها، وضعف امكانياتها، وتعرضها في الوقت ذاته لحملات قمع النظام والأساليب المخابراتية في تمزيق صفوفها، وزرع بذور الشك حولها بين الناس، وتوجيه سياسات قسم كبير منها عبر مختلف الوسائل.
أما الوسط الكردي السوري، وهو المعروف بارتفاع مستويات التعليم فيه، ونضاله من أجل الحفاظ على هويته القومية عبر التصدي للسياسات التمييزية العنصرية التي اعتمدتها سلطات البعث باستمرار في التعامل مع القضية الكردية السورية، وهي سياسات تقوم على إنكار الوجود الكردي السوري الأصيل، وبالتالي إنكار، أو عدم الاعتراف، بأي حقوق تترتب على هذا الوجود؛ فقد وجد هذا الوسط (الوسط الكردي السوري) في شعارات الحزب المذكور، وأساليبه الجديدة في الدعاية، وقدراته التنظيمية، قوة يمكن الاتكال عليها.
هذا إلى جانب قدرة الحزب المذكور على التحرك العلني، وتنظيم الاجتماعات الجماهيرية؛ فهو كان يحظى بدعم مكشوف من جانب السلطات السورية، بل إن هذه الأخيرة طلبت من الكرد الذين كانوا في فلكها التقرب من الحزب المذكور، والانضمام إلى صفوفه؛ لأنها كانت تخطط لمشروع كردي تابع لها، بعيد المدى، يكون تحت تصرفها، وورقة من أوراقها. وهي كانت بذلك تضرب عصفورين بحجر واحد، إذا صح التعبير. فهي من جهة تُخرج الكرد السوريين من دائرة المعارضين لسياساتها، وتحول قضيتهم من قضية وطنية داخلية سورية إلى قضية مركزها خارج الحدود. ومن جهة أخرى استخدمت السلطات المذكورة ورقة الحزب المشار إليه في المناورة مع تركيا؛ وحاولت الظهور بمظهر القوة الإقليمية المؤثرة.
وما ساعد نظام حافظ الأسد في مشروعه هذا هو التوافق الذي تم بينه وبين النظام الإيراني بعد وصول الخميني إلى الحكم عام 1979. والتنسيق بينهما للتعاون في لبنان؛ والعمل ضمن المعارضة العراقية التي كان الكرد يمثلون عمودها الفقري في ذلك الحين. ومن هنا كان وجود ورقة كردية بيد النظام السوري، يعد ركيزة أساسية في سياسته الإقليمية. وقد استفاد الحزب المعني هنا من واقع الخلافات البينية بين الأحزاب الكردية العراقية، خاصة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، لدرجة أن كل حزب حاول أن يقربه من نفسه، ويستخدمه بهذه الصورة أو تلك في مواجهة منافسه، سواء على الصعيد الدعائي أو التنظيمي. وكانت النتيجة أن حزب العمال حصل على المقرات في جبال قنديل وغيرها من المواقع. وتمكن لاحقاً من مد الجسور مع النظام العراقي نفسه في عهد صدام حسين؛ مع أنه كان على علاقة مع النظام الإيراني، وذلك في إطار نهجه البراغماتي القائم على الجمع بين المتناقضات تماما كما يفعل اليوم من جهة العلاقة مع الأمريكان من جهة، ومع الروس من جهة أخرى؛ ومع النظام من جهة ثالثة، ورغبته في الحوار مع تركيا من جهة رابعة، ودخوله في حوارات عقيمة مع الأحزاب الكردية السورية من جهة خامسة، وتقربه، وابتعاده من حين إلى آخر من وعن الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي من جهة سادسة، وعلاقاته مع الاتحاد الوطني الكردستاني من جهة سابعة، وهكذا دواليك…
وما شهده إقليم كردستان العراق، ويشهده من حين إلى آخر، من توترات وتشنجات وصدامات ما زالت في نطاق المحدود الذي يمكن السيطرة عليه، بين هذا الحزب وسلطات الإقليم وأحزابه، خاصة مع الحزب الديمقراطي الكردستاني، إنما هو حصيلة لجملة تراكمات لأخطاء جزئية كانت في إطار التعامل مع الحزب المذكور الذي سعى منذ البداية، خاصة في مرحلة ما بعد اعتقال أوجلان 1999 من أجل التحول إلى جزء من الحالة الكردية العراقية الداخلية، وقد تمثل ذلك في إعلانه عن تشكيل حزب الحل الديمقراطي، وهو يعد الموازي العراقي لحزب الاتحاد الديمقراطي: الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني.
لقد استغل حزب العمال منذ البدايات الخلافات الحزبية بين الديمقراطي والاتحاد. كما انه استغل ظروف الأحزاب الكردية الإسلامية الأخرى، ونسق معها بصورة تكتيكية ليستفيد منها، ويتمكن من كسب الأنصار.
كما استغل هذا الحزب امتعاض الناس ونقمتهم على حالات الفساد التي لم تتمكن سلطات الإقليم من معالجتها كما ينبغي بكل أسف. وجاءت الأزمة المالية التي تمثلت في العجز عن دفع رواتب الناس التي باتت العصب الأساس المحرك للسوق؛ وذلك في ظل غياب أي مشاريع تنموية فعلية في الميدانين الزراعي والصناعي، الأمر الذي كان من شأنه توفير الفرص للعاطلين عن العمل، والحد من تزايد أعداد الموظفين. وهذا ما كان من شأنه تخفيف الضغط على السلطات، وتوفير مصادر إضافية للدخل سواء عبر التصدير أم عن طريق تحصيل الضرائب.
هذا مع أنه في المقابل، ورغم الظروف الاقتصادية الصعبة التي عانى، ويعاني، ومنها الإقليم نتيجة الضغوظ والثغرات العديدة في ميدان الإدارة، خاصة من جهة العلاقة مع بغداد، يسجل له استقباله لأعداد كبيرة من اللاجئين السوريين، والنازحين العراقيين من مختلف المناطق. كما أنه أثبت للعالم قدرته على إدارة التنوع المجتمعي والمذهبي والقومي، إلى جانب احترامه للتعددية الفكرية والحزبية بصورة إيجابية، وذلك مقارنة مع دول المنطقة، وهو الأمر الذي كان مثار إعجاب الكثيرين.
واليوم، وبعد انتهاء ورقة الإرهاب التي يدور حولها الكثير من الاستفهامات والاستفسارت الخاصة ببروزه واختفائه السريعين، والأسباب التي تقف وراء ذلك، فضلا عن القوى الداعمة له، والمستفيدة منه، والوظائف التي كلف بها، والأهداف التي كانت وراء ذلك كله؛ يحاول حزب العمال بالتنسيق مع حليفه الاستراتيجي، النظام الإيراني، استخدام فائض القوة لديه لتنفيذ مشروعه القديم – الجديد المتمثل بالضغط على إقليم كردستان العراق، وإرغامه على السير ضمن السياسة الإيرانية في العراق والمنطقة. وذلك لمنع إدارة الإقليم من أداء دور جامع بين العراقيين من مختلف المكونات لصالح مشروع عراقي وطني يكون لجميع العراقيين، وبمشاركتهم جميعاً. مشروع يؤسس لدولة وطنية تمتلك كامل السيادة على أراضيها ومواردها، وتطمئن جميع مكوناتها على قاعدة احترام الخصوصيات والحقوق، والمشاركة العادلة في الإدارة والموارد. كما تطمئن جوارها الإقليمي والمجتمع الدولي.
حزب العمال الكردستاني لا يمتلك مشروعاً سياسياً يستهدف الوصول إلى حل عادل للقضية الكردية في تركيا، حيث ساحة عمله الأساسية كما هو مفروض. وقد توافرت الظروف من أجل تحقيق ذلك، وكانت هناك عملية سلمية، ولكن الحزب المذكور، وبالتناغم مع بعض القوى القومية التركية المتشددة في الدولة التركية، تمكن من اجهاض تلك العملية عبر افتعال سلسلة من الأحداث والمصادمات والاعتداءات، وهو الأمر الذي لم ولن يخدم كرد تركيا، ولا تركيا عامة. كما أنه لن يخدم الكرد في أي مكان. أما استفادة النظام الإيراني من فشل العملية السياسية تلك فهي لا تخفى على أحد.
هل من سبيل لتطويق الأحداث والتوترات الأخيرة بين الحزب المذكور وإدارة إقليم كردستان بالحكمة والتوافق على القواعد والمحددات التي لا بد أن يلتزم بها حزب العمال باعتباره الوافد المقحم؟ أم أننا سنشهد المزيد من التصعيد والتطورات السلبية بفعل صراع الإرادات على الإقليم، ودور الحزب المذكور فيها؟
من خلال متابعتنا لمسيرة هذا الحزب منذ الثمانينات وحتى اليوم، نرى أنه براغماتي حتى النخاع، يتظاهر باستعداده للتوافق في حالة الضعف، ولكنه سرعان ما يتنصل من جميع الالتزامات في حالة القوة بديماغوجيته التضليلية المعهودة.
هل سيخالف الـ “ب. ك. ك” قاعدة سلوكه هذه المرة، أم سنكون على موعد مع عرض مكرر لما شاهدناه من جانب هذا الحزب حتى الآن؟
لنترك الإجابة لتطورات ومتغيرات الأيام المقبلة.
القدس العربي