“خارج الكادر داخل السينما”: نصوصٌ تروي لا كتابة تنتقد/ نديم جرجوره
الكتابة تمرينٌ يُتيح، أحياناً، خروجاً من الكادر السينمائي، والبقاء ـ في الوقت نفسه ـ داخل السينما. نهاية عامٍ مليء بالبؤس والخراب والقلق، وبالبحث عن أدوات عيشٍ آمن، وبطرح تساؤلاتٍ عن مقبلٍ غامضٍ من أيامٍ مُنتَظَرة، تُحرِّض على كتابةٍ كهذه، وتدفع إلى تمرين يتجاوز النقد إلى مسام العلاقة الذاتية ـ الانفعالية بالسينما، أفلاماً وشخصياتٍ وقضايا، وعاملين وعاملاتٍ فيها ولها.
“حصاد سينما 2020” مختلفٌ هذا العام (“العربي الجديد”، 29 ديسمبر/ كانون الأول 2020). الدعوة إلى كتابةٍ ذاتية عن عام الوباء رغبةٌ في تأمّلٍ شخصيّ، لن يخرج كلّياً من السينما أو عليها، بل يتوغّل فيها أكثر فأكثر، استناداً إلى مشاعر، أكثر من إعمالِ تفكير وتحليل وتفكيك. العام المنتهي مليء باختباراتٍ وخيارات، ومساره دافعٌ إلى إمعان نظرٍ وإحساسٍ بها، ومناخه عابقٌ بإرباكٍ يطرح أسئلة، من دون التغاضي عن أسئلة سابقة، أو تناسيها. الحاصل في عامٍ كهذا سيعلق طويلاً في ذاتٍ وعقلٍ وانفعالٍ، والمُشاهدات الآتية، كما القراءات والتفاعل والتواصل، ستنبثق من تأثيراته، وبعض التأثير جذريٌ، يؤدّي إلى تغيير أو تعديل أو بلورة، أو إلى مزيدٍ من التمسّك بآراء وأحاسيس سابقة، من دون تغيير فيها أو تعديل لها أو بلورتها.
اعتماد عنوان “خارج الكادر داخل السينما” انعكاسٌ لرغبةٍ ذاتية في مقاربة كتابيّة، غير معنيّة بنقدٍ أو تنظيرٍ. هذا جزءٌ من معاينة عامٍ منتهٍ. هذا تحويل للكتابة المهنيّة إلى نصوصٍ لاحقة، تبغي السينما، فتُكْتَب بعيداً عن نقدها وقريباً منها، وتكون الكتابة مرايا ذاتٍ أمام فنٍّ. كتابةٌ مرجوّة كهذه يغلب عليها الذاتيّ والشخصيّ، كأنْ تُروى حكايات ناقدٍ مع شخصية سينمائية، أو موضوعٍ سينمائي، أو مهرجان غربيّ أو عربيّ، أو حالة أو تعبير أو جملة أو لقطة أو ممثل/ ممثلة، إذْ يُمكن حينها أنْ يتساءل كاتب النصوص، من دون التزامات نقدية بحتة، عن مصير شخصية في فيلمٍ بعد انتهائه، أو عن مدى إمكانية معالجة مسألة بطريقة أخرى، أو عن نتيجة اختيار ممثلة/ ممثل آخر لهذا الدور أو ذاك.
المسائل السينمائية خارج النقد السينمائي كثيرةٌ. معظمها يُثير حماسة تعليقٍ يبتعد عن نقدٍ مباشر، ويذهب ـ كما السينما نفسها ـ إلى آفاقٍ وتفاصيل وحكايات أخرى. هذا غير جديدٍ. هذا غير مبتكرٍ. نقّاد يقولون به، وإنْ يغلب نقدٌ مُخفَّف على ما يكتبون. هذه نصوصٌ تبتعد عن النقد، لكنّها لن تقترب من النميمة، ولن تغوص في أخبار غير سينمائية، تتعلّق بمن يعمل في السينما، كطلاقٍ وزواجٍ وفضائح، وكغيرها من حكاياتٍ غير ملائمةٍ أبداً لـ”خارج الكادر داخل السينما”، وغير مرتبطة البتّة بنقدٍ سينمائي أصلاً.
الكتابة عن مسائل سينمائية كثيرة تبدو كأنّها مشاركة غير مباشرة في صناعة سينمائية، لن تتحقّق (المشاركة) من دون الكتابة نفسها. تمرينٌ على اشتغالٍ يُعبِّر كتابة عمّا يراه مُشاهدٌ، وظيفته النقد، لكنّه يرغب في الخروج قليلاً من النقد إلى عوالم سينمائية ينفر النقد منها، أو لا يستسيغها، أو لا يراها نقداً. ألن يكون تمريناً على كتابة مختلفة، قول ناقدٍ بأنّه يُحبّ روكي ويكره رامبو، وبأنّه يشعر بحنوٍّ كبيرٍ على سيلفستر ستالون، لأسبابٍ عدّة؟ أين النقد في هذا؟ ألن يكون النصّ “أجمل”، أحياناً، عند تحرّره من كلّ تحليل لأفلام مارتن سكورسيزي مثلاً، وذهابه إلى أمكنةٍ فيها يشعر الناقد أنّها تُناسبه، إنسانياً وانفعالياً، أكثر من مناسبتها إياه سينمائياً ونقدياً؟ ألن يُحقِّق قولٌ بانبهارٍ شخصيّ بعلاقة روبيرت دي نيرو بآل باتشينو خارج البلاتوهات والتمثيل، وإنْ عبر البلاتوهات والتمثيل؟
أيضاً: “أين الخطأ”، النقدي أو المهني، إنْ يكتب ناقدٌ رأياً بسلوك عامل/ عاملة في السينما، خارج البلاتوهات وداخل الحياة اليومية، رغم أن الرغبة الأساسية في “خارج الكادر داخل السينما” غير معنيّة بهذا، كلّياً؟ إجراء مقارناتٍ غير نقدية بين هنا وهناك، مثلاً: ألن تكون دافعاً إلى اقترابٍ إضافيّ، بأشكالٍ مختلفة، من أحوال بيئة ينتمي الناقد إليها، لبنانياً وعربياً؟
هذه تساؤلات، لا أكثر. التجربة غير مؤكّدٍ مصيرها. التمرين رغبةٌ تتّخذ من الآنيّ ركيزة، والمُقبل يتحدّد لاحقاً. كتابة مختلفة كهذه لن تُلهي الناقد عن وظيفته، بل تمنحه مُتنفّساً بسيطاً في عامٍ جديدٍ، يُريده كثيرون خلاصاً من ارتباكاتٍ قاسية، ومن هزائم مُدوّية، ومن تغييراتٍ مُثقلة بألف همّ وسؤال. لعلّ كتابة كهذه تكون همّاً أفضل، وسؤالاً أجمل، فللسينما سحرٌ قادر على مواجهة خضّات وقلاقل، وإنْ بتنقيبٍ عميقٍ في خرابٍ ووحشة وآلامٍ وانكساراتٍ.
كتابةٌ كهذه ستكون امتداداً للوظيفة وتكاملاً معها، فلمقاربة السينما مداخل عدّة، تُتيح تواصلاً تختلف وسائطه أحياناً، وتتشابه أحياناً أخرى، في سعيها إلى بلوغ لحظة مُحدّدة: عيش متعة السينما، رغم الدويّ الهائل لمواجع وصدامات. عيشٌ ينبثق من تمرينٍ، ومتعة متأتية من قراءة مفارقات وسرد حكايات تحيط بالسينما وصانعي أفلامها، وتغرف منها نصوصاً تروي، لا كتابة تنتقد.
العربي الجديد