رسالة إلى قارئ جاد/ شاكر الأنباري
الرواية كنشاط بشري لا يمكنها إلا التعبير عن مجتمع وزمن وإنسان، وقد شهدنا في العقود الأخيرة فورة من التحولات في بنى المجتمعات العربية، وفي وعي الإنسان العربي بالذات، إذ وجدت تلك المجتمعات نفسها في خضم ثورة المعلومات، وتهاوي النظريات الشمولية، وصعود الإسلام السياسي، واتساع رقعة التعليم، وخروج عارم للمرأة العربية من جدران بيتها الذكوري، واحتكاك هائل مع ثقافة الغرب عبر الصناعات والتكنولوجيا والهجرات والحروب والترجمة ووسائل الاتصالات، وتهشم بنى تقليدية كانت سائدة لقرون، وما نتج عن ذلك من تهشم للوعي المتماسك، والمتحجر، والقائم على الاختصار والتبسيط، والشعارات، والخطوط العامة.
فإذا مجتمعاتنا تتعرى تماماً أمام ذاتها وأمام العالم. وهي اليوم مطالبة بجرأة فائقة لكي ترى عريها ذاك، وتضع ذاتها في مبضع التشريح، والرصد، والقراءة الجادة، والتحليل النفسي والروحي والمادي. ومراجعة القناعات قد تكون واحدة من المهمات الصعبة للرواية. وتلك التغيرات الفائرة تتطلب نتاجاً فنياً جديداً، ووعياً للذات جديداً، لعل الرواية اليوم هي المختبر لكل تلك التغيرات. الرواية التي لم تعد تؤمن بالمسلمات، ولا تخشى من مقاربة المقدسات، أو الغوص في تفاصيل المدنّس والمعتّم عليه، والمهمّش في ثقافتنا العربية.
من جانب آخر فنحن لا نعيش في جزيرة وسط البحر. نحن نعيش ضمن حضارة عالمية تبسط روحها على الجميع تقريبا، وبدأت تخترق الحدود الوطنية، وتصل إلى الفرد في أية ضيعة أو بلدة. وارتباكات تلك الحضارة الكونية تنفذ الينا بالتأكيد، جالبة معها همومها ومشاكلها وتناقضاتها وسلبياتها وايجابياتها، وقسم منها هي تناقضات الفرد العربي وهمومه، سواء كان كاتباً أو انساناً عادياً. ومن هنا فتحولات المجتمعات العربية، أو العالمية، ليست بعيدة عن هموم الرواية العربية في حقبتنا الألفية الثالثة، الحقبة التي لم تعد فيها اللغة تشكل عائقا أمام التواصل البشري.
هناك تحولات هائلة في السرد الروائي بالتأكيد.
ولهذه التحولات أسباب لم تكن عرضية أو طارئة، لكنها متساوقة، بجدلية راسخة، مع تحولات مجتمعات وشعوب. لم يعد المثقف نخبة في محيط أمي، كما كان قبل نصف قرن على سبيل المثال. نخبة متعالية على الحياة اليومية للناس العاديين الأميين، النخبة التي كانت تجهل تمام الجهل تفاصيل واقعها، وهموم فردها البسيط في الشارع، والحقل، والجامع، والمحلة. لقد سحبت تطورات عالمنا المثقف، عموماً، لكي يصبح أقل تأثيرا في صنع الحدث أو توجيهه، ولنقل صار هامشياً، ومهملاً وسط صراعات جديدة لم نألفها. فالمثقف في الوقت الحاضر أكثر التصاقاً بجريان الحياة اليومية. بمعنى آخر لقد خرج من معطف القرية، والصحراء، والحارة الشعبية، ومعسكر التدريب، والمقابر السكنية، واشتغل خبازاً ولحاماً وسمكرياً وحارساً وجندياً بسيطاً وموظفاً فائضاً عن الحاجة. صار متفقّهاً بالإيقاعات اليومية للمجتمع، لا نخبة متحدرة من عائلات ارستقراطية قيّض لها أن تكون متعلمة لهذا السبب أو ذاك.
تحول المثقف من النخبة إلى الهامش كانت له مقومات لا يمكن إغفالها، منها شيوع المعرفة والتعليم بصورة شعبية، وهذا ما رسم خريطة طريق لأي كان لممارسة مهنة الثقافة، بغض النظر عن مستوى الإجادة في هذا المجال، إلا أنه أدخل كتلة سكانية واسعة إلى دنيا الكتابة.
إلى المتحف
قبل عقود ليست كثيرة، كانت المجلات الجادة في العالم العربي تحسب على أصابع اليد. وكذلك الصحف والمطابع. اليوم هناك آلاف المجلات والجرائد والدوريات في عالمنا العربي، عدا عن دخول الشبكة العنكبوتية إلى كل بيت، وتناسل الفضائيات، رسمية وغير رسمية، مثل الفطر، وتحول اليد في عملية الإبداع من القلم، باعتباره وسيلة تراثية للكتابة، إلى أزرار الكومبيوتر التي تختصر الوقت والجهد، وتربط حركة العقل بالشاشة الفضية. فكان أن أرسلت المحابر والأقلام والورق والمماسح والمباري إلى المتحف، ومعها، ربما، أرسل النمط الإنشائي في الكتابة، والإطالة، واللا منطق، والكسل الروحي والجسدي، وقسم كبير من التراث المكتوب منذ قرون. نحن إذن في حقبة أخرى من الفن. فالتكنولوجيا الهائلة، والمتطورة سريعاً، ولحظياً، أتاحت المجال واسعاً لتداخل الفنون. السينما والمسرح واللغة والرسم والغناء والرقص أصبحت متجاورة، متلاقحة، متداخلة، يغني بعضها بعضاً، ويستفيد بعضها من بعض، مما فتح المجال واسعا لخلخلة البنى التقليدية في السرد. وتحول السرد بعد هذه الثورة إلى مختبر تجارب مستمر، يخلق دائما ما هو مدهش وجديد وغرائبي. وهذا المختبر متاح اليوم للجميع، لم يعد نخبوياً ولا مقتصراً على أبناء الذوات أو اصحاب السلطة، كما بات يصعب على أية رقابة اجتماعية أو دينية أو سياسية أن تقف في وجه تحولاته.
كل تلك المستجدات بحاجة إلى عقل منفتح، إلى حساسية جديدة في الفن والنظرة إلى الكتابة واللغة المستخدمة فيها. وهي بالضرورة تخلق كاتباً متعدد المواهب، والاهتمامات، واللغات، شرّع أبوابه إلى الجهات كلها، وحطم قوقعته التي طال عليها الزمن.
لقد تربت الأجيال العربية منذ قرون على الشعر، تنفسته في دمها، وجعلته وسيلة للبوح والنقد والاعتراف والمدح والحلم، لكن التحولات الضخمة التي هزت ركائز المجتمعات العربية، التي كان يعتقد أنها متماسكة، شكلت أول انزياح عن الهوس الشعري ذاك. الهوس الشعري الذي تلازم سابقا مع النظر بقداسة إلى اللغة، الالتصاق بالتراث والإعجاب به وترديده والنوم في جنته الغامضة، جنة الماضي.
تلازم الشعري في الذائقة العربية التقليدية السابقة مع الأحلام، والخرافات، والأساطير، واللا منطق، والحماس، والانغلاق على الذات. الرؤية إلى العالم بمنظور شعري، كالذي استحكم في الروح العربية، وتوغل في ثنايا الكتابة الروائية، لم يعد ملائماً للهزات الأرضية المتعاقبة علينا. كما لم يعد ملائماً للمواجهة الشرسة بين الحداثة والبنى التقليدية. تلك المواجهة التي تكاد أن تتحول إلى حرب أهلية في الشارع، بالمعنى الحرفي للكلمة. لذلك اتجهت الأجيال الجديدة إلى تحطيم الرؤية الشعرية للعالم بمعول الرؤية السردية، وهي تتخذ عدتها من المنطقي، والملموس، والفلسفي، واليومي، ومقاربة المحرمات، والابتعاد عن الموروث، وضرب قداسة اللغة عن طريق تعويم اللغة المحكية لتفصيحها، ودخول المناطق المغلقة، والالتفات إلى الجسد، وتأصيل المكان بجمالياته وقبحه وهشاشته.
إن كل ذلك مبررات كافية لكتابة روائية غير تقليدية، لم تخلخل شكل الرواية المؤسس عبر الرواد، بل خلخلت موضوعها، ونمط ذلك الموضوع، وكيفية تمثله في الرواية. وهنا يأتي السؤال الأهم في هذا المجال، ألا وهو تمظهر خلخلة البنى التقليدية في الرواية العربية. كيف يظهر وأين يتجلى، وما هي إشاراته الدالة عليه؟
وهي إشارات بدأت تتبلور تحديدا في أجيال الألفية الثالثة من الروائيين والروائيات العرب. تيار عريض يطل من أكثر من بلد عربي، ويمكن لي أن أسميه تيار الألفية الثالثة كي يسهل وضع حدود افتراضية تميزه عن الرواية العربية التقليدية، أو التي ظلت تموج بتقليديتها حتى وإن حاولت الظهور بمظهر التجديد وكسر المتعارف عليه في الكتابة. فكانت اللغة هي أول التمظهرات، في خلخلة ما هو سائد من أساليب روائية عتيقة، وأشكال متعاقبة ومكررة.
وهناك نوعان من العلاقة بين الكاتب ولغته، الأول هو هيمنة اللغة التقليدية، وبناها، وأطرها، وكليشهاتها المتوارثة عليه، يظل يدور في كنفها دون أن يستطيع اختراق كتلتها السميكة. وهو عبر هذا الحامل المعقّم، والمقولب، والصلد، يستحيل عليه الوصول إلى مرتبة المعبّر الأمين عن عنفوان واقع فائر، ومتغير، وشاذ أحيانا، كالواقع العربي. وهناك الكاتب الذي يهيمن على اللغة، ويكسر قداستها، ويستبدل كليشهاتها بلغة الشارع، أي لغة الحياة اليومية، التي تكتنز بالجديد والسري، وتعبر عن هموم الناس غير المدجنين. اللغة التي تسمي الأشياء بأسمائها، سواء في المجال الاجتماعي أو الجسدي أو السياسي أو الديني. لغة خالية من الاستعارة، والبلاغة النصية. اللغة غير المعقمة، ولا المقموعة عبر ما توارثناه من رقابات اجتماعية ودينية وسياسية. البشر هم الذين يتكلمون اللغة، لا اللغة التي تنطق بديلا عن البشر. وتلك بداهة بالتأكيد.
اللغة المنبثقة من الحياة تتخلص من انشائها، ومن الحشو، والمشاهد المفتعلة أو المفبركة من قبل الكاتب، وفي ذات الوقت تتبدى البراعة الفنية في هندسة تلك اللغة لكي تعبر عن الملموس والمعيش واللا مقال.
الحدث الروائي
التخلص من الإنشائية المتوارثة، واحد من أهم مقومات النص الروائي الجديد. وهذا يقربها، ربما، من أسلوب المسرودات الصحافية اليومية، المكتوبة لقراء مختلفي المستويات المعرفية، لا المكتوبة حصراً إلى فلاسفة ومفكرين. أصبح الحدث الروائي هو المولد للغة، عكس البنى التقليدية في الكتابة السابقة، حين كان الكاتب يستولد أحداثه بواسطة اللغة. هنا لم تعد اللغة هي المبررة للحدث، بل العكس. وهذا ما جعل المفردات تتطابق مع المشاهد والشخصيات والأحداث، تتطابق مع الأمكنة الصلدة، ومع حجم الشخصية كذلك، مما اختصر النص السردي إلى بؤرة ضرورية، مكثفة ومتماسكة.
كما شكل دخول الكتابة النسائية إلى ميدان السرد الروائي حيوية واضحة لواقع الكتابة العربية الجديدة. صار هناك منطق أنثوي للسرد، يقارب حيزاً ظل مغلقاً لقرون أمام الرجل. عالم الأنثى، البيت، الهموم الصغيرة، التفاصيل، قراءة الرجل بوضوح وعلنية ودقة تفصيلية، وكأننا أمام مرآة تضع مجتمعاتنا الذكورية أمام صورة غير نمطية.
المسلّمات الذكورية لمجتمع كامل بدأت تنهار، وانهارت معها مواصفات راسخة للكتابة، بما تحتويه من آيديولوجيا، وتضخيم للذات، وتبني شعارات كبيرة، والخجل الزائف من الجسد ومعاناته ولغته.
هناك جهل تاريخي لعالم المرأة في الثقافة العربية، أي بمعنى ثان، جهل لنصف المجتمع. وها هو النصف يتكلم من جديد، يستعيد النطق للتعبير عن وساوسه، وروحه، ويتلمس تضاريس غيتواه الحريمي، بتلك اللغة المتمتمة غير الواضحة، أحيانا، لكنها مسموعة، وبحاجة إلى وقت طويل كي يستطيع الرجل ومؤسساته الحاكمة أن يفهم رموزها، وإشاراتها، ودلالاتها. اللا يقينية، هو ما يميز النص الروائي الجديد، وساهم نص المرأة في تأصيل هذه اللا يقينية. لا يقينية الشعار، الحوارات، اللغة، الأفكار، المسلمات، ونعود مرة أخرى لنقول إن اللا يقينية هي سمة من سمات مجتمعاتنا العربية المهتزة الركائز، التي وجدت نفسها خالية الوفاض من الآيديولوجيات القانعة بمبادئها، واللاهوت الديني الصارم، والأخلاقيات التي أصبحت نسبية دون أن يقرر أحد ذلك. تخلى الشكل الروائي عن تماسكه التقليدي، وسيرته الخطية في الزمن، وتماسك حوارات الشخصيات ووثوقيتها.
لا يمكن، في هذه الحالة، تقديم نموذج روائي متماسك طالما كانت الأحداث تتواتر من دون سببية واضحة. ولأن مجتمعاتنا العربية قلقة، تتعرض لهزات متوالية بين الحين والآخر، أصبحت هجرة البشر منها معتادة وأليفة وذات تواريخ معروفة. صارت لدينا شعوب مهاجرة، مقتلعة من أوطانها لهذا السبب أو ذاك. وصار لدينا مثقفون مهاجرون، وثقافة مهاجرة بالتالي. وصار لدينا رواية مهاجرة. وخلال العقود الأخيرة أنتجت عشرات الروايات في المهجر، وغزت هي الأخرى ذائقة القارئ العربي. هذه الروايات لها مواصفاتها أيضا، لعل من أهمها تمتعها بحرية القول، والاعتراف، والتعبير، خارج نطاق رقابة المؤسسات التقليدية العربية. ولها فضيلة تأثرها مباشرة برياح الرواية العالمية الهائجة.
شخصيات هكذا نمط من الروايات لم تعد شخصيات تقليدية، فكثير منها تتنقل في أمكنة عالمية عريضة، وتناقش أفكارا عالمية، وترصد أمكنة غير مألوفة وغريبة على ما هو سائد. انتقالات الشخصيات الروائية في الزمان والمكان، وطرح حوارات وتأملات في إشكالات اجتماعية وفلسفية وبيئية مغايرة، تجليات أخرى للنص الجديد، الذي يمكن اعتباره رافدا مهماً للرواية العربية في وقتنا الراهن. وهكذا يمكن القول إن الرواية العربية الجديدة نزلت إلى ميدان الثقافة العربية وهي متسلحة بكل ما وصلت إليه الحضارة الراهنة. فوجدت نفسها في خضم عالم معقد، لم يعد يحتمل الثنائيات التقليدية في السرد السابق، الخير والشر، المناضل والخائن، الملحد والمؤمن، العربي والآخر، السلطة والفرد، بل حملت في أحشائها الهزيمة، التمرد، التشظي الروحي، العجز، النفي، فقدان الهوية، الانتصارات الفردية الصغيرة. صارت بالتالي انعكاساً لروح الكاتب المأزومة، وانعكاساً لروح شخصياته المأزومة. وهما بالتالي انعكاس لواقع مأزوم خال من القناعات، وصارت بالتالي معبّراً أميناً عن حيْرات كرتنا الأرضية.
(*) أمضى شاكر الأنباري طفولته في مدينة النجف. غادر العراق العام 1982 حاملاً مخطوطات رواياته، ولم تصدر الأولى منها “شجرة العائلة” حتى العام 1994. دمّر صاروخ أميركي منزل أسرته تماماً، وقتل معه 11 شخصاً، وأصاب نحو 30 آخرين، وفقد والده الشيخ حسين حميد الأنباري ووالدته واثنين من إخوانه واثنين من أبنائهم وعدداً من أبناء عمومته وأقربائه. عاد إلى العراق العام 2003، قبل أن يغترب مرة أخرى العام 2007.
النتاج الروائي:
• “شجرة العائلة”، “الكلمات الساحرات”، “ألواح”، “موطن الأسرار”، “كتاب ياسمين”، “ليالي الكاكا”، “الراقصة”، “بلاد سعيدة”، “نجمة البتاوين”، “أنا ونامق سبنسر”، “مسامرات جسر بزبيز”، و”أقسى الشهور”.
النتاجات الأخرى:
• “أنا والمجنون وقصص أخرى” (قصص)، 1995.
• “أسوار أوروك” (مقالات)، 2003.
(*) هنا رسالة الروائي العراقي شاكر الأنباري، وهي الرسالة الأولى من سلسلة رسائل يوجهها الشعراء والكتّاب مع نهاية العام 2020، باقتراح وطلب من “المدن”.
المدن