سجن صيدنايا.. جناح “الإوّْ”/ مالك داغستاني
إثر انتفاضة اللبن التي سبق وكتبتُ عنها هنا. سأل أحد السجناء “العرفاتيين” المقيمين في الطابق الأول، عن أصوات ما ظنّه هو والكثيرون أنها انفجارات كانت تحدث في السجن، وبعد أن جاءه الجواب، وعرف أن ما حدث مجرد قرع قوي على الأبواب، سيتابع بسؤال آخر: في أي الأجنحة حدث هذا؟ وسيجيبه أحدهم: في جناح المعتقلين الجدد من حزب العمل الشيوعي. كان العرفاتيون قد احتكوا برفاقنا الأقدم في السجن المعروفين بثقافتهم واتزانهم والأشكال الحضارية لاحتجاجاتهم. لذا سيستغرب الرجل ويعلق: غير معقول، لا يمكن أن يكون هؤلاء حزب عمل.. هؤلاء “إوّْ”. تسمية العرفاتيون هي ما تطلقه المخابرات السورية على المعتقلين بتهمة الانتماء لحركة “فتح” والذين طالتهم حملة اعتقالات واسعة خلال الثمانينات. و”الإوّْ” مصطلح شعبي يطلق على المجموعة المسؤولة عن الأمن الشخصي لياسر عرفات وكان أسسها القيادي الفلسطيني علي حسن سلامة في بيروت الغربية والمعروفة رسمياً بأمن “الـ 17″، حيث كانت سمعة هذه المجموعة مضرب المثل على التفلّت من الانضباط، وصيحة “إوّْ” كانت النداء الذي يطلقه أحدهم عندما سيواجه أية مشكلة تحتاج إلى نجدة الزملاء الموجودين في المنطقة للمؤازرة. منذ ذلك اليوم سيتغير اسم جناحنا ولن يعود “ألف يسار” أو “جيم يمين” كما باقي الأجنحة، وسنصبح نزلاء “جناح الإوّ”.
في جناح “الإو” الذي امتاز باحتوائه على السجناء الأقل عمراً من معتقلي حزب العمل الشيوعي. وكانت أعمار نزلائه تتراوح بين العشرين والثلاثين عاماً وسطياً، في هذا الجناح سيتشكل مجتمع له قواعده وقوانينه التي ينبغي على الجميع احترامها وهذا شأن داخلي تماماً ولا علاقة لإدارة السجن به، بل ولا تعلم به، رغم أنها كانت تستشعره من خلال سلوكنا الجماعي. جزء كبير من تلك القواعد كان معمولاً به في الأجنحة الأخرى لرفاقنا القدامى، وسوف نضيف عليه نحن ما ميّز مجتمع “الإو” المشاكس، قواعد تشمل كل حياتنا بدءاً من الطعام ووصولاً لنظام مركزي للتراسل السري مع الأجنحة الأخرى.
كنا جدداً في السجن ولم نكن قد راكمنا أقل ما يحتاجه السجناء لحياة السجن بسبب انعدام الزيارات، وكل ما يأتينا من نقود أو ثياب وحاجيات أخرى، كان من رفاقنا القدامى المزارين. في مجتمع القلّة ذاك سيكون هناك لجنة اجتماعية للجناح منتخبة بتصويت داخلي عام، ورغم تسميتها تلك ستكون مهمتها الأولى اقتصادية، وستنحصر تحديداً بتوزيع الموارد القليلة من الثياب على الأشد حاجة من بيننا. أما النقود فكانت للمشتريات البسيطة التي تؤمنها إدارة السجن بعد أن نطلبها من خلال ما كان يسمى “الفاتورة” والتي كانت تشكل واحداً من منظومة نهب الإدارة للسجناء. الزيت والبهارات كانتا المادتين الدائمتين في الفاتورة. كنا نحتاجها لتحسين طعم أية وجبة كانت تأتينا، فطعام السجن هو نسخة سيئة عن طعام الثكنات العسكرية. أما الدخان فكان موضوع الخلاف الداخلي الدائم في وجهات النظر، فهو هدر بالنسبة لغير المدخنين وحاجة ملحّة للمدخنين الذين سيعانون لثلاث سنوات، حتى فتح الزيارات، من تقشّفٍ كان يصل في الكثير من الأحيان إلى الانقطاع التام. كان الدخان يوزع بحصص متساوية مادياً على المدخنين، وللمدخن أن يختار نوع السجائر، وهي تتراوح يومياً بين أربع سجائر من النوع الأغلى “الحمراء الطويلة” وإحدى عشرة سيجارة من النوع الأرخص “الناعورة”، أما عنّي شخصياً فقد دخّنت الناعورة لثلاث سنوات.
في جناح “الإوّْ” نشأ مجتمع تعليمي كامل. من تعلم اللغات وخاصة الإنكليزية والفرنسية إلى تعلم الموسيقا والتمثيل والفن التشكيلي ووصولاً لتعلم برمجة الكومبيوتر. وقد ساعد على هذا توفر مختلف الاختصاصات. لم يكن ينقص الجناح أي اختصاص أكاديمي، عدد من الأطباء باختصاصات مختلفة، وعدد أكبر من المهندسين المدنيين والمعماريين.. كهرباء، ميكانيك، بيتروكيميا، وصولاً للمهندسين الزراعيين، بالإضافة لأساتذة لكافة المواد التعليمية من خريجي مختلف الكليات الجامعية. وقد وصل الأمر بالرقباء حين يحضرون سجيناً جديداً إلى الجناح أن يدخلوه من الباب مع جملة: “تفضّلْ عالأكاديمية”.
كان يمكن لمن يسير في ممر الجناح بعد فتح الأبواب صباحاً أن يواجه العديد من الحلقات الدراسية لمن يتعلمون اللغات أو العزف على العود أو أن يصادف من يعمل على أخشاب صناديق الخضار ليصنع آلة موسيقية كالعود أو الغيتار أو الطنبورة. سيكون هناك مجموعة تتدرب على أنواع الإيقاعات أو المقامات الموسيقية، وليجتمع كل طلاب الموسيقا فيما بعد للتدرب على الصولفيج. وفي آخر الممر يمكن أن تصادف الفرقة المسرحية خلف ستائر مؤقتة وهي تجري البروفات على إحدى المسرحيات التي يعدونها للعرض القادم.
كل ما سبق وغيره الكثير كانت مجرد محاولات لتخفيف ما أمكن من الدور التحطيمي المعروف للسجن بشكل عام ولسجون الأسد خاصة، ومقاومة تأثيره على بنية السجين النفسية. في مذكراته سيكتب نيلسون مانديلا: “إن الكفاح في السجن رغم بساطته، ليس بأقل قيمة من النضال خارج السجن رغم زخمه وقوته، فالإنسان المناضل من أجل حريته وكرامته، يناضل من خلال أبسط الأشياء ولو ضمن زنازين محصورة”.
أول وصولي لسجن صيدنايا ولم يكن قد مضى على اعتقالي سوى عدّة شهور قابلت سجيناً بتهمة الانتماء إلى حزب البعث العراقي، حين أخبرني أنّه في السجن منذ ست سنوات، قلت لنفسي: يا للكارثة ست سنوات ! ورحت أتأمله وكأنه إنسان قادم من كوكب آخر. أكثر ما كان مستغرباً بالنسبة لي أنه يتحرك ويتحدّث بصورة طبيعية. بعد سنوات طويلة وبعد انتهاء الأحكام التي أصدرتها محكمة أمن الدولة العليا بحقنا، وعودتنا لفرع فلسطين لفترة قبل الإفراج عنّا، سينظر إلينا ويراقبنا معتقلون جدد بذات الطريقة، ونحن نتحدث ونغني بل ونلقي النكات.
حياة استمرت لسنوات على هذا النحو بعيداً عن رقابة إدارة السجن، واحتملنا لأجلها العديد من العقوبات الفردية والجماعية. ولكن رغم ذلك، ألم يفعل السجن فِعله بنا؟ بلى بالتأكيد، وقد خرج العديد منا بأمراض نفسية وجسدية لدرجةٍ أودت بحياة البعض بعد خروجهم من السجن، ولكن بالمقابل أيضاً، هناك الكثيرون جداً من نزلاء جناح “الإوّْ” سيتحولون بعد مغادرة السجن إلى كتّاب ومترجمين وصحفيين وتشكيليين وصنّاع أفلام وموسيقيين مرموقين.
تلفزيون سوريا