طائر التم ورياحُ الطفولة: عن السيرة الذاتية للأكاديمي فهمي جدعان/ محمد تركي الربيعو
(1-2)
في سيرته الذاتية «طائر التم.. حكايات جنى الخطى والأيام»، التي ستصدر قريبا عن دار الأهلية، يعترف طالب السوربون والأستاذ لاحقاً في الفلسفتين الإسلامية واليونانية، فهمي جدعان، أن السنوات قد أثبتت له أن الخطاب أو السرد الحكائي، أبلغ من الخطاب الفلسفي الذي ألف مفرداته وأبطاله طوال عقود، فالسرد غدا برأيه أكثر قدرة على الكشف عن «الكينونة الإنسانية وعن أغوار الوجود وحيله وتشخصاته في الحياة الفردية والجمعية»، كما أن سردية العقل الذي يتسلح به الفلاسفة لم يعد قادرا على الولوج لعالم الوجد الإنساني العميق، الحي، المتوتر، الشاخص في أحوال وفي مقامات، بينما الأدب، يبقى قريبا من عالم الوجدان، فهو ليس دفعا للملالة كما يرى البعض، بل هو قادر على إنشاء دورة جديدة من الحياة وفسحة الأمل.
لذلك لن نعثر في نص جدعان الحكائي على نكهة رسائل خريف العمر، بل هو نص يعيد من خلاله المؤلف خلق أفكاره، فالذاكرة أحيانا كما تذهب لذلك سيمون دو بوفوار في أحد نصوصها، ليس الهدف منها رواية ما جرى فحسب، بل إعادة خلق أنفسنا، وهذا ما سنراه عندما يعرج جدعان على سيرة مؤلفاته (المحنة، أسس التقدم)، إذ سيعترف أن قراءة التراث والجدال حوله، لم تعد من أولوياته البحثية، وأن الواقع وحساسياته، وتقلباته وقضايانا اليومية قد غدت شغله الشاغل.
كما أنه لا وجود في هذه الرحلة لمعتزلة وحنابلة وإصلاحيين مسلمين؛ إذ لن يحتلوا دور البطولة كحال باقي كتبه، بل ستكون قريته، أو رحلة الانتقال من قريته (عين غزال) هي البداية، قبل أن تقوده عصا الوجدان لها من جديد في الصفحة الأخيرة من سيرته، وهو يردد قصيدة لصديقه الشاعر زهير أبو الشايب تقول «هذه المدينة لي أنا». هي حال الحياة، إذ تبقى مدن ولادتنا ملاحقة لنا أينما رحلنا، بدون أن نتمكن من الانفكاك عن رائحتها، أو طباعها حتى.
في حديثه عن ذكريات الطفولة، لم يكترث كثيرا بملاحظات بعض دارسي السيرة الذاتية، الذين وجدوا أنّ مرحلة الطفولة ضُخِّمت في القرن العشرين بسبب لوثة فرويدية، ترى أنّ الشخص هو نتاج الطفولة، بل نراه خلاف ذلك، يدعم هذا التوجه، إذ يؤكد على أن تلك المرحلة «هي التي أنتجت فيّ الأنا الهش، القلق، المغيب، الذي كافحته بخلق قاع نرجسية مقاتلة، تحمل أعراض الخوف والقلق، وتطلب تقدير الذات والدخول في دائرة الإبصار والمرئي».
قد تذكرنا بداياته كثيرا بالبدايات التي سعى أمين معلوف لجمع حكاياها وقصاصاتها من خلال رسائل جده وأعمامه، لكن من حظ معلوف يومها أنّ مدينته الصغيرة لم يجري تدميرها واحتلالها، رغم ما عاشته من أهوال خلال الحرب الأهلية اللبنانية، بينما لن يتمكن جدعان من العثور على صندوق العائلة، مع ذلك، سيلجأ تاسع ابناء العائلة «تالي العنقود/ آخر العنقود» إلى ما علق من صور في ذاكرته، وأحياناً في روايات أخوته الأكبر منه، ليروي لنا بعضا من حياة قريته، وهي القرية ذاتها التي ولد فيها المحقق إحسان عباس.
بنى راجح (والده) بـ(عزيزة/أمه) في أوائل القرن الماضي، وكانت عزيزة تتلقى الأذية والجرح من العمة مسعدة، التي ستعاملها كجارية، فمهتمها أصبحت إنجاب الأطفال والشغل في أراضي زوجها، بينما استأسرت هي بتربية أطفالها. كان والده قاسياً كما يبدو من كلام والدته، الذي توفي بعد سنة من قدومه. ستبوح له في أحد الأيام بعد أن كبر بأنها «لم تعش يوما هنيئا مع هذا الرجل». لا يعرف جدعان موعد ولادته، كان والده مزارعا، واستطاع أن يصبح «ملاكا» مرموقاً، ومما يذكره أخاه عبد الحفيظ (في مخطوطته) التي لم تنشر أن علاقته ببعض اليهود كانت جيدة في السنوات التي سبقت 1936، وهي الفترة التي غلبت عليها المواجهات العربية الإنكليزية، قبل أن ينحسب لاحقا بعد الثورة إلى حدود أرضه. أما حقائب ذاكرته هو، فإنها ستحتوي في هذه الفترة على بقايا صور من درس الكتاب، ولعبة النبانير في يوم الجمعة مع أحد أقرانه، جميل العيص.. وفاردة (موكب عرس) إحسان عباس الحاملة لعروسه الشركسية القادمة من قيسارية.. سفرة مع أخيه إلى حيفا لبيع البطيخ.. فجأة لن يتاح لهذه الذاكرة البريئة والهشة أن تنمو بشكل طبيعي، إذ ستدفعها الأحداث في فلسطين إلى أن تكبر بسرعة، لما عاشته من ظروف مريرة. ففي 22 أيار/مايو من عام 1948، هوجمت القرية ليلا من قبل ميليشيات الصهاينة، لكن أبناء قريته لن يقبلوا الهزيمة بسرعة. وسيبقى جدعان معتزا بهذا الموقف. يذكر جيدا اليوم الذي ألقت فيه إحدى الطائرات قنبلة في وسط القرية. ولأنه في سيرته هذه، وكما ذكرنا، يستخدم فنونا عديدة في توثيق ما عاشه، سيلجأ لتأكيد روايته إلى أحد كتب المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه، وربما بقايا شخصية المفكر والأكاديمي الرصين والدقيق (رغم محاولته هجرها قليلاً) هي ما جعلته ينحو لهذا النمط من الجمع بين التوثيق والذاكرة. يروي لنا بابيه ما حدث في قريته من إعدامات، وكيف أن قريته وخلافا للرواية الإسرائيلية الرسمية «لم تسقط بدون مقاومة»، مع ذلك، لن ينقل جدعان ما ذكره هذا المؤرخ الإسرائيلي بحرفيته، بل نراه يتوقف عند معلومة أوردها بشيء من الحيرة والدهشة، معلومة تقول بأن أهل قريته قد جاؤوا من السودان بحثا عن عمل في سوريا ولبنان واستقروا هنا، فيبدو الطفل جدعان، الشاهد على تلك الفترة، محتارا بشيء من الضحك والهزل، حيال مصدر هذه المعلومة، إذ يؤكد أنه في سنواته الأولى لم يعثر على وجه سوداني من أبناء القرية «حتى لقد ذهب بي التوهم إلى أن كثرة العيون الزرقاء أو الخضراء والوجوه والشعر الأشقر في كثير من أهلها، وبعض أهلي منهم، يمكن أن تكون بعضا من آثار ومخلفات الحروب الصليبية».
كانت الفوضى شاملة وكان الرعب يرتسم على الوجوه.. سيبقى هذا المشهد محفورا ومرافقا له كلما أقدم على خطوة جديدة، يومها أمسكت أمه بيده ودفعته ليسير مع من ساروا من قريتهم هائمين على وجوههم.
قبل سنوات من الآن كان تلميذ جدعان الكاتب والسيناريست وليد سيف، برفقة المخرج الفلسطيني حاتم علي، قد أعادا تصوير مشهد النزوح ذلك بحرفية قلّ مثيلها في الدراما العربية، رغم مأساويتها. يومها ذرف الملايين الدموع، وهم يشاهدون نساء وأطفالا يعبرون نحو المجهول، وهو مشهد سيتكرر لاحقاً مع أولاد الثورة اليتيمة في سوريا، وربما لم يتوقع حينها أن يتمكن أحدهم من إعادة تصوير ذاك المشهد بتلك الحساسية، لكن جدعان استطاع في هذه السيرة التغلب على هذه القاعدة، كيف لا، وهو الشاهد على ما حدث يومها، ولذلك فقد استطاع بلغته، وأنينها بالأحرى، من تقليب المواجع مرة ثانية «كان الظلام دامسا والطريق أمامنا غائضة الملامح.. كنت ارتعد وأضطرب اضطرابا عنيفا وأمي تشد على يدي أو تضغط على رأسي وتحتضنني بين الحين والآخر لتهدئ من روعي… وظللت أسير بقدميّ الحافيتين اللتين أصبح الدم يتفجر من الجروح التي أصابتهما»، سيبقى الخوف الذي تشكل في هذه الليلة مرافقا له طيلة حياته، «فأنا إلى اليوم أمر بتجربة الخوف في كثير من المسائل والأمور.. حتى في العمل الإداري كنت أجنح إلى السلم واجتنب القرارات العنيفة القاسية.. وفي كتاباتي الفكرية المبكرة كنت اجتنب الدخول في معارك فكرية».
في حارة اليهود في دمشق
وصل الطفل مع عائلته إلى الأردن، وهناك تفرق شملهم بين نابلس وعمان وإربد، بينما حملته رياح المكتوب هو واخته جميلة ووالدته وعمته إلى الشام.. إلى دمشق.. إلى حارة اليهود ومخيم الأليانس. يقول جدعان «عبرت قاطرتنا حي الميدان من المدينة، واستقرت في مبنى كبير، بدا أنه مدرسة ألحقت بها ثلة من الخيام باتت مأوى لنا ولموجات من العائلات.. قيل لنا إنها مدرسة الأليانس». كانت هذه المدرسة قد أنشئت من قبل الاتحاد الإسرائيلي العالمي في عدد من الأقطار العربية من أجل مجابهة النشاط التبشيري. كان هذا المخيم عند نهاية شارع الأمين ويقترن به حي شعبي هو حي الشاغور، لكن الحي البارز الذي كان بالقرب منهم هو حي اليهود. كان وضعهم هنا مقصودا، لأنّ البقاء في جوار اليهود يعني بقاء مشاعر الغضب والكراهية تجاه الذين اغتصبوا أرضهم.
أبدى أهل الشاغور، كما يذكر جدعان، شهامة ومروءة حيالهم، كان الرجال يأتون كل صباح إلى المخيم مزودين بأشولة وأكياس من الخبز الشامي والفواكه واللحوم.. لكن ذلك لن يغير من قدر وتعاسة الخيمة التي عاش فيها. ستضطر أمه، التي بقيت مكسورة الجناح وهي شابة، من عيش مرارة القهر مرة ثانية. أخذت تعمل، وقد بلغت الستين من عمرها، في أراضي الغوطة في دمشق «كن يسرن بعد صلاة الصبح ويمسين عند صلاة العشاء».. يصف لنا بحرقة معنى العيش في الخيمة «فهي عالم ذو معنى وذو حدود.. حين تأتي إليها من المدينة تأتي إلى الفراغ، إلى غياب الأفق.. تسيجك بغطاء ذي لهب لا يطاق في الصيف، وتزنرك بثوب كله خروق تنهال منها المياه وتضربها وتقلع أخدودها كالأعاصير في الشتاء.. الخيمة عالم منقوص يفتقر إلى معنى الوجود.. يفرض في ضلوعك الوجع وانكسار الروح، الخيمة كائن بلا حراسة، لا قيم، لا معيل.. للخيمة بابان، بل فتحتان، إحداهما تأخذك إلى العدم والثانية تأخذك إلى الوجود». ويبدو أن الباب الثاني، هو الذي سيعبره جدعان بالاجتهاد والدراسة.
في صبيحة أحد الأيام سأله أحد الرجال الدمشقيين، إن كان يرتاد المدرسة «أخبرته يومها بأن ليس لديّ من يعينني في ذلك»، حينها طلب منه الالتحاق بمدرسة ابتدائية اسمها (موسى بن نصير).. بعد خمسين سنة تقريبا، سيعود جدعان لهذا الحي، باحثا عن مدرسته، بدون أن يتمكن من رؤيتها. ستتساقط دموع ساخنة من عينيه، أو لنكون أكثر صدقاً، بأن عيوننا أيضا ستفيض حزنا، ليس لعدم تمكنه من العثور عليها وحسب، بل لأن قصة دخوله لهذه المدرسة، ارتبطت في أحد صورها بدموع اخته جميلة، التي سترحل لاحقاً إلى العراق، ولن يراها إلا بعد خمسة عقود، والتي لم تتمكن من مرافقة أخيها إلى المدرسة بسبب فقرهم وعوزهم، ولذلك كانت تكتفي كل يوم بالوقوف أمام باب الخيمة لتبكي، بينما هو يخطو بخطواته الصغيرة نحو طريق المدرسة.. في هذا العالم بدا الطفل مولعا بدروس الأدب.. في إحدى زواياها معلم لطيف أنيق وسيم اسمه غسان كنفاني، يشارك بعض الحضور لعبة كرة الطاولة. ولكن الخيمة وظروفها بقيت تحاصر عائلته، كان العوز والفقر شيئاً لا يصدق ولا يوصف.. وهنا سيبوح لنا بقصة مؤلمة، قد لا تخطر بالبال حيال مؤلف «المحنة»، ففي أحد الأيام انتهى إليه أن التجار الشاميين، اعتادوا بعد صلاة الجمعة التصدّق ببعض الفرنكات على الفتيان الذين يلقون عليهم عبارة «تقبل الله».. ولذلك أخذ الطفل يزور تلك الأماكن للتزود بشيء من الطيبات ليحملها لعائلته الفقيرة، يتوقف فجأة، ليكمل كلامه بجرأة، وألم يتردد صداه بين الكلمات «لقد مارست في أيام معدودة ما يشبه أن يكون تسولاً». التحق بالاعدادية في مدرسة التجهيز في حي القنوات العريق، ولاحقا الثانوية في مدرسة الآسية في باب توما، التي وفرت له فرصة الاحتكاك بطلاب من مذاهب وديانات أخرى، مما كان له أثر كبير في رؤيته. ومع خروجه من حارته، بدأت يوميات غرام الشاب مع شوارع وأحياء دمشق وبوظة بكداش وشاورما الصالحية وسوق الحميدية، ومنذ ذلك اليوم، بقي جدعان مصرا على أنه ما من أحد عشق هذه المدينة كما عشقها هو.
في صيف عام 1957 انتقلت العائلة إلى مخيم اليرموك، المؤسس حديثا، ليقيموا على قطعة صغيرة من غرفتي نوم وحمام وصالة جلوس ومطبخ. وفي أحد تلك الأيام أقنعه أحد الأصدقاء بمرافقته لحضور جلسة حول أفكار حزب التحرير الإسلامي، فقد كان «الهواء الذي يستنشقه كل الناس في دمشق ذا رائحة سياسية»، ورغم عدم اقتناعه بنقاشاتهم وانسحابه، إلا أنه تعرض لتجربة اعتقال ليوم واحد في المكتب الثاني الذي اقترن اسمه آنذاك بضابط قومي يدعى عبد الحميد السراج.. تمكن في نهاية المرحلة الثانوية، خلال فترة الوحدة بين سوريا ومصر، من الحصول على وظيفة براتب فلكي (300 ليرة)، كما تمكن من الالتحاق بقسم الفلسفة والدراسات الاجتماعية في جامعة دمشق. ومما يذكره عن هذه الفترة أنه زار عفرين برفقة وفد سوفييتي، كما سنتمكن في هذه الفترة من الدنو أكثر من أجواء جامعة دمشق آنذاك، ومن كان يدرس فيها. لم يقتصر جدعان في سيرته على تدوين ما تبقى من حكايا الماضي، وإنما استخدم فنونا أخرى ليقمش بعض الشقوق، ولذلك نراه أحيانا وقد تحول إلى مؤرخ لبعض الوجوه العلمية في دمشق، وهو أسلوب يوحي في جانب آخر، لا يقل أهمية، شعور الوفاء والدين الذي بقي يحمله لقسم من الأساتذة والأصدقاء ممن كان لهم حضور وتأثير علمي أو اجتماعي كبير في حياته. كان قسم الفلسفة آنذاك يدار من قبل خيرة من الأساتذة المرموقين من أمثال عادل العوا وبديع الكسم «فيلسوف دمشق في القرن العشرين» وعبد الكريم اليافي، حمصي الولادة واستاذ علم الاجتماع والتصوف، وعبد الله عبد الدايم، الذي جمع بين التنوير التربوي والنضال الفكري القومي في البعث، ومما سيعلق في ذاكرته أيضا عن تلك الفترة زيارة عبد الرحمن بدوي للجامعة. كانت نتائجه في السنة الأخيرة توحي بأنه سيحصل على منحة من الجامعة بسبب تفوقه، وقد بذل العوا والكسم الكثير من أجل أن تقدم له، لكن هوية اللاجئ حالت دون ذلك، وهو أمر بدا لجدعان آنذاك طبيعيا.
وقبل أن نختتم هذه الحلقة من سيرة فهمي جدعان، حول طفولته ومرحلته الجامعية في دمشق، فإن ما يلاحظ هو تعدد طبقات سيرته، من الخاص إلى العام، وقدرته على ربط تاريخه الشخصي بتاريخ أوسع، وربما هي الصدف التي جعلت ذلك ممكناً، إذ يذكر أنه وخلال وقوفه على اعتاب التخرج من الجامعة، حدثت كارثة (كما يصفها) الانفصال بين سوريا ومصر على يد ثلة من الضباط والبعثيين، ولذلك لن يمكث الشاب بعدها لفترة طويلة، وكأن رياح الأقدار والعناية الإلهية التي سيشعر بها جدعان بعد حادث سير كاد أن يودي بحياته، خلافا لأفكار أرسطو وابن سينا وديكارت، هي التي ستنصفه هذه المرة، وتؤمن له فرصة الدراسة في فرنسا. ولولا ذلك، ربما لكتب له مصير آخر. إذ بعد سنتين تقريبا من رحيله انقلب البعثيون واستلموا السلطة، لتبدأ معها عقود الخوف والبربرية، وفق تعبير ميشيل سورا، ولن يتمكن جدعان من العودة لدمشق إلا بعد خمسة عقود تقريبا.
في الحلقة المقبلة نكمل مسيرة جدعان الأكاديمية في فرنسا وعدد من الدول العربية.
(2-2)
باريس وعبد الرحمن بدوي ومدن الخليج… عن السيرة الذاتية للأكاديمي فهمي جدعان
في تكملتنا لسيرة فهمي جدعان الصادرة عن دار الأهلية، نقف عند لحظة سفره إلى باريس لإكمال الدراسات العليا في جامعة السوربون. إذ يذكر أنه قبل رحيله زوده أستاذه بديع الكسم برسالة لأحد الأساتذة الفرنسيين، وعند وصوله اقترح عليه هذا المشرف أن يتصل بروبير برنشفيك، ليكون مشرفا على أطروحته الفرعية والمتعلقة بعلم الكلام.. في ذلك اليوم، حظي جدعان باستقبال جيد، وعندما همّ بالمغادرة، كان أستاذه يستقبل طالبا آخر، يدعى جيل دولوز، الذي كان يعد أطروحة بعنوان «الاختلاف والتكرار».
في هذه الفترة، عكف جدعان على الدراسة، والتعرف قليلا على الثقافة الفرنسية، من مسرح وأفلام وموسيقى، وعلى حضور محاضرات كبار أساتذة الفلسفة والتاريخ من أمثال هنري غوييه وبول ريكور وهنري كوربان وكلود كاهن. أما على صعيد الطلاب العرب، فقد جمعته الصدف بعدد منهم من أمثال حسن الترابي، الذي درس ماجستير في القانون في جامعة لندن، وجاء إلى باريس ليلتحق ببرنامج الدكتوراه في جامعة باريس «كان لطيفا، كيسا، دمثا، وسيما، عذب الحديث، إنسانيا.. ذا شخصية كاريزماتية».. بيد أنّ ثراء هذه الفترة سرعان ما اصطدم بواقع عدم إمكانية توفير تكاليف العام الدراسي الثاني، وأيضا انتهاء وثيقته السورية، وخوفه من الاعتقال في حال عاد لتجديدها.. ولذلك بدا له أنّ كل شيء قد يضيع. مضى أسبوع وهو في حيرة من أمره، قبل أن يزوره مرسال القدر الطيب من جديد، إذ وصلته في هذه الأثناء، كما يذكر، رسالة من عميد كلية الآداب في جامعة جديدة اسمها (الجامعة الأردنية) في مدينة عمان، «كان هذا العميد مؤرخ الأدب الجاهلي المشهور، صاحب كتاب مصادر الشعر الجاهلي، ناصر الدين الأسدي» وبعد تردد وحيرة، سارع إلى السفارة الأردنية ليصل عمان عام 1963/1964.. في هذه التجربة سيتعرف فهمي على مدينة عمان، وكذلك على عدد من الأساتذة من أمثال ألبرت بطرس وهاشم ياغي ومحمود السمرة، وبعد مكوثه لفترة، استدعاه الأسدي وعرض عليه فكرة الحصول على الجنسية الأردنية، ليتم إيفاده من جديد إلى السوربون، وهنا يقول جدعان «فكرت وفكرت وفكرت، وإذا ذهبت إلى دمشق لتجديدها( وثيقته الفلسطينية) هناك قد تنتظرني مفاجآت غير سارة.. ولذلك أدركت فجأة أنني قبالة حالة (ضرورة قصوى).. كما أنّ الهوية العربية تظل هي مشتركي العميق مع المواطنين الجدد الذين سأصبح واحدا منهم».
مع اكتسابه لقب المواطن الأردني، تمكن من العودة للسوربون، وربما الأهم من ذلك، لشوراع باريس.. إذ سيبدي هذه المرة شغفا كبيرا بقيم باريس، ومما يأتي على ذكره هنا، أنّ هذا الانفتاح لم يوازه بالمقابل انفتاح على الجنس اللطيف، وأنه بقي ملتزما في هذا الجانب، حتى أنه يذكر قصة عن إحدى جاراته التي رافقها إلى إحدى المدن الفرنسية، وفي الليل فضّلَ المبيت على كنبة، بينما بقيت هي تبكي طوال الليل لهذا الإهمال. وهو التزام لا يرده إلى موقف ديني بالضرورة، بل ربما إلى تقاليد ترفض علاقات الحب، خارج إطار الزواج، وربما هو الخوف الذي بقي يرافق جدعان منذ طفولته. لكن الأجمل في هذه الفترة، هي التفاصيل التي يذكرها عن لقائه وعلاقته بعبد الرحمن بدوي، الذي شاهده للمرة الأولى عندما كان طالبا في جامعة دمشق. كان بدوي، كما يقولُ جدعان، يأتي على ذكر بعض المشتغلين في الفلسفة والاستشراق، ولا يكفّ عن توجيه النقد اللاذع هنا وهناك، وربما من الأمور الطريفة التي يذكرها عنه، أنه كان حريصا على المال، ولذلك فقد تفاجأ جدعان في أحد اللقاءات، وبعد احتسائهم لأكثر من مشروب، أنّ بدوي أخرج قلما من جيبه، وراح يسجّل على فاتورة المقهى الأرقام، ليقول له عليك أن تدفع لي ثمن ما شربته، ورغم أنّ البخل قد لا يكون من الشيم الطيبة في الرجال، ومنفرا في الغالب، لكن هذه الحادثة لم تقلل من مكانته في مخيلته، كما يؤكد أنه لم يحاول في يوم ما الاصطدام به، أو محاولة مجادلته، ولذلك بقي يحظى بمكانة لديه، ولذلك يختتم حكايته معه بالقول: «بدوي شخصية فذة، ظريفة، غريبة، ساخرة ، عنيفة في ازدراء الآخرين، لا يكف عن النقد، ويبغض جمال عبد الناصر بغضا لا حدود له».
مع قرب نهاية سنوات الدكتوراه، حاول جدعان التعرف أكثر على المجتمع الفرنسي، وبالأخص مجتمع الأرياف، ويذكر أنه عاش في منازل بعضهم، وأنّ الفرنسيين آنذاك لم يكونوا بهذا التعصب تجاه الغريب مقارنة بأيامنا هذه. أحلك أيامه في فرنسا، ستكون مع هزيمة يونيو/حزيران عام 1967 «هجرت العناية بكل شيء.. هندامي وشكلي» أدرك يومها أنّ المشروع القومي العربي أصيب في الصميم، لكن ما يلفت النظر ربما في هذه اللحظة، أنّ إجابة جدعان عن الهزيمة ستأتي مخالفة بعض الشيء لبعض الأصوات العقلانية العربية آنذاك، كما في مثال الفيلسوف السوري صادق جلال العظم، الذي وجد أنّ الهزيمة ناجمة عن العقل الديني الإسلامي، الذي بقي يؤمن بالأساطير والتقاليد، بينما وجد جدعان أنّ كلام العظم مستفز للغاية، وأنّ الهزيمة ناجمة عن الحكم العسكري، الذي أغلق الطريق أمام حكم «النظام المدني، النزيه، الحكيم».
العودة إلى الأردن
مع هذه الهزيمة، وصلت رسالة لجدعان من عميد كلية الآداب في الجامعة الأردنية عبد الكريم غرايبة، تطالبه بالعودة وانقطاع تمويل الدراسة بسبب ما حدث.. وقد استأنف العمل معيدا في قسم الفلسفة وعلم الاجتماع، مع عدد من الأساتذة مثل سري ناصر (كان ذا إعداد علمي في علم الاجتماع على الطريقة الأمريكية). مما يذكره أيضا أنه في الفترة الأولى أخذ يتعامل بشيء من الاستعلاء، وهذا ما انعكس أحيانا على علاقته بزملائه، وأنه جاور زميلين مرموقين الأول المصري زكريا إبراهيم، والثاني هو صادق جلال العظم، «والحقيقة أنّ قدوم العظم إلى الجامعة الأردنية كان يمثل حدثا، الماركسي، الليبرالي.. تم استقباله في الجامعة الأردنية، الجامعة المحافظة، في فترة دقيقة من حياة الأردن». لكن العظم لم يمكث طويلا، إذ شكّل ظاهرة بدا أن لها تأثيرا قويا على قطاع واسع من الطلبة، فقد كان صادق «كاريزماتيا بامتياز، طبيعيا، متواضعا.. قريبا من قلوب قطاع واسع من الطلبة، خاصة الصبايا اللواتي كن يتحلّقن حوله معجبات مفتونات ويترددن على مكتبه باستمرار».
مع فترة السبعينيات، كان جدعان قد قرّر التعديل قليلا من مساره العلمي، الذي كان يركز على نشر أبحاث بالفرنسية، إذ أخذ يبدي اهتماما أوسع بالفكر العربي الحديث وبالأوضاع الفكرية والثقافية العربية، وبالنشر باللغة العربية ليضع كتابين أساسيين الأول بعنوان «أسس التقدم» والثاني بعنوان «المحنة» ويؤكد هنا، أنّ هذين الكتابين «يرتبطان ارتباطا وثيقا بوقائع يونيو والمد الإسلامي» وأنّ كل كتاب منهما استغرق خمس سنين كاملة، مع ذلك، ومنذ عام 1990 «حولت بصري عن القرون الماضية ودفعتني دفعا لا راد له على طريق المستقبل». وربما لم يكن جدعان المؤلف الوحيد آنذاك الذي انشغل بقراءة التراث والفكر الإصلاحي، وإنما كثيرون كانوا قد عملوا في الاتجاه ذاته، مثل الطيب تيزيني وحسين مروة، أو مشروع محمد عبد الجابري، الذي يأتي جدعان على ذكره عاتبا كونه غرف من كتابه «المحنة» دون أن يأتي على ذكر ذلك في كتاب «المثقفون في الحضارة العربية».
لكنه لا يبين لنا هنا أسباب هذا الانكباب من قبل جيله على تفسير الواقع من خلال بوابة التراث، وهل كان نابعا من موقف فلسفي، يعتقد مثلا أنّ الأزمة تكمن في النصوص المؤسّسة، وأنّ لا بديل عن إصلاح ديني مواز للإصلاح الديني الأوروبي؟ أم أنه ناجم عن عدم الاكتراث كثيرا، بمقاربات العلوم الاجتماعية والتاريخ اليومي، إذا ما قارناها بجيل الباحثين الغربيين في فترتهم، ريتشارد ميتشل وروجر أوين، اللذين بدوا أكثر قربا من يوميات وتفاصيل العالم العربي آنذاك؟ أم أنه نبع عن محاولة للتخلص والهرب من رقابة الأجهزة الأمنية، عبر محاكمة ونقد أبطال التاريخ، وهو تخوّف يبدو أنّ جدعان بقي يحتسب منه، ولذلك عاتب محمد الرميحي بعد حرب الخليج الثانية، عندما نقل على لسانه تفسيرات حول موقف الملك حسين من صدام حسين وغزوه العراق.
الجامعات الأردنية… ذاكرة العتب
في هذه الفترة أيضا، وعلى صعيد العمل في الجامعات الأردنية، يوحي لنا كلام جدعان بشيء من الخذلان والعتب، وهو يتذكر تلك الأيام، والطريقة السلبية التي قوبل بها من قبل عدد من الإداريين والأكاديميين، وحالات العتب وسوء النية والنميمة التي قوبل بها أحيانا، وأيضا عدم تمكن بعض المشاريع الأخرى التي عمل فيها من المضي قدما، وربما إخفاقها كما في مشروع تأسيس مركز الدراسات الإسلامية في جامعة اليرموك، الذي جعله يشبه نفسه بمحمد أركون «الذي اعتاد طرح أفكار جديدة، لكنه لم يتابعها، وإنما كان يترك للآخرين مهمة المتابعة، فلا يكترث أحد بذلك» وربما هذا ما دعاه في فترة الثمانينيات إلى القبول بالتدريس في قسم الفلسفة في جامعة الكويت، إذ كان هذا البلد آنذاك قد تحول إلى قبلة للمثقفين العرب، ولأهم المجلات العربية مثل مجلة «العربي» و«عالم المعرفة» وكانت جامعاته تضم خيرة الأساتذة الكويتيين والعرب من أمثال خلدون حسن النقيب وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا وعبد الغفار المكاوي، وقد شعر في هذه الفترة بالاستقرار الأكاديمي، والمادي كذلك، لكن حدوث «يوم القيامة» في الكويت سيحول دون إكمال ذلك. ففي غضون الساعة الثانية والنصف ليلا من الثاني من أغسطس/آب 1990 غزت القوات العراقية الكويت، يومها كان يتواجد في الأردن، ولذلك رفض العودة للتدريس هناك، إلا أن هذا القرار لم يكن بالأمر السهل، خاصة أنّ الجامعات الأردنية رفضت إعادته لعمله، بسبب دور بعض الأصدقاء السلبي، مثل موقف محمود السمرة الأكاديمي الأردني المعروف، كما أنّ وضعه المالي بدأ يتأزم، لدرجة لا مثيل لها بسبب أنّ كل مدخراته المالية بقيت حبيسة في بنك الكويت، وفي أحد الأيام، وبينما هو محتار أين يذهب، رن جرس هاتفه وإذا بالأستاذ الفرنسي أندريه ميكيل يسأل عنه وعن أحواله، اعتقد حينها أنّ المكالمة لم تكن سوى شكل من أشكال المجاملة، لكن بعد أسبوعين من ذلك وصلته رسالة من سكرتيرة مدير (الكوليج دي فرانس) تعلمه بها أنّ الأستاذ اندريه ميكل، مدير الكوليج، يدعوه ليكون أستاذا زائرا في هذا المكان، لكن جدعان القلق والحائر لن يمكث طويلا في هذا المكان، وربما لأن الدعوة كانت قصيرة، سيعود بعدها إلى جامعة البتراء، ولاحقا إلى سلطنة عمان، قبل أن يعيده القلق أو الحظ التعيس مرة أخرى لعمان ليتعرض لمكيدة جامعية أخرى، على يد ممول إحدى الجامعات ما جعله غير قادر على البقاء، ففضّل السفر إلى الكويت مرة أخرى ، ومن ثم الخوض في مشاريع جديدة (مثل مشروع مؤمنون بلا حدود) قبل أن يعدل عنه، ويسير بمشروع التدريس في معهد الدوحة.
في النهاية، يمكن القول إن سيرة جدعان الأكاديمية هي «سيرة القلق» بامتياز، ولا ندري إن كانت هي الظروف، أم شخصية جدعان الحائرة أحيانا جراء طفولته القاسية، أم هي النوايا الطيبة، وأحيانا حساسيته الزائدة، أم هو واقع قسم كبير من الأكاديميين والمثقفين العرب، في ظل عمل مؤسساتي مضطرب وبائس. وبغضّ النظر عن أسبابها، تبقى سيرة جدعان واحدة من السير الغنية في عالمنا البحثي والأكاديمي العربي.
٭ كاتب سوري
القدس العربي