مدائح صيدنايا المؤجلة.. ألتيكو رينولدز وورق الشام/ مالك داغستاني
حتماً لم يكن رجل الأعمال الأميركي ميلتون رينولدز ينتظر أن يتلقى الشكر على إنجازه بعد نصف قرن من سجين سوري، ليشعره بالامتنان على تطويره لقلمٍ كان حصل على عينات منه في “بوينس آيرس”، واستطاع خلال شهور تقليد نسخة عنه وجنى ملايين الدولارات من سرقته تلك. كان قلم “رينولدز”، والذي اعتقدنا في سجن صيدنايا بداية تسعينيات القرن الماضي، مخطئين أنه صناعة فرنسية، الوحيد من بين أقلام الحبر الجاف الذي يمرّ على الورق الناعم دون أن يترك أثراً ولا بقعاً خارج الخط الدقيق للكلمات، وهكذا استطاع جميعنا كتابة الرسائل بيسر وسهولة للزوجات والأبناء والأحبة وتهريبها دون رقيب خارج أسوار السجن.
لا يمكن لأحد أن يتتبع بسهولة من أين تولد الاكتشافات التي يحققها السجناء للتحايل على شروط وقيود السجن، فأي اكتشاف سرعان ما كان يتطاير في عموم فضاء السجن، حين يكون عملياً ومفيداً لتحسين تلك الشروط، ليصبح على الفور جزءاً من مخزون المعلومات العام للسجناء، وليندرج بعدها في الثقافة العامة للسجن.
بماذا يمكن أن تقاس الدموع؟ بالعدد أم بالغرام؟ باللتر أم بالمتر المكعب؟ وهل هناك مقياس لآلام أرواح السجناء؟ قلم رينولدز كان الشاهد الأكثر قرباً من دموع السجناء في صيدنايا ليحصيها.
السيد اللطيف الذي صمم ذاك الرأس الساحر والذي لم يكن يترك خلفه سوى خط دقيق دون أية زوائد، حيث تجيء النقطة في مكانها، كان يومها يستحق شكر آلاف السجناء لإتقانه عمله قبل نصف قرن، عندما طوّر ذاك الرأس الكروي لقلم الحبر الجاف.
كنّا نحتاج لحفر بذرتي تمر، وصناعة تجويف في كل منهما، ثم إلصاقهما مع بعض بعد ملء التجويفين المتقابلين بأوراق الرسائل. كان وصول لاصق ألتيكو المصنوع في اليابان إلى السجن هو ما ساعد على هذا الإنجاز، وإلا فكيف ستتلاصق البذرتان بإحكام؟ سيطلق الزملاء نزلاء الجناح على الفترة التي تلت وصول هذا اللاصق إلى سجن صيدنايا اسم “عصر الألتيكو”. أجل، فقد اختلفت حياتنا ما بعد عصر الألتيكو عما كانت عليه قبلها، لجهة الرسائل ولعشرات الاستخدامات الأخرى لهذا السائل السحريّ.
نحتُ بذور التمر ولصقها ثم ملء الفراغات الخارجية ببرادة التمر معجونةً بالألتيكو، لتبدو كعروق بلون أكثر قتامة من لون بذرة التمر الرخامية، ليستمر بعدها التشكيل حتى إتمام صناعة ميدالية للصدر سيكون لها تعليقة معدنية في الأعلى والانتهاء إلى كتابة حروفٍ عليها واستخدام الألتيكو ثانية لطلائها بطبقة لامعة، كانت تلك مراحل صناعة “الظرف” الذي يضم رسائل السجناء إلى الخارج.
في ستينيات القرن الماضي اتّخذ الصناعيّان الدمشقيان الأخوان صبحي وصلاح شربجي من بيروت وعمّان بدلاً من دمشق مركزاً لصناعة ورق سجائر “الشام”، الذي غزا المنطقة في تلك الحقبة ولسنوات طويلة. هما أيضاً لم يتوقعا هذا الاستخدام الغرائبي لأوراق السجائر في السجن، وبالتأكيد لم يتوقعا بأن آلاف البشر والعائلات ستستفيد على نحو غير متوقع من هذا المنتج، وسوف تستهلك منه مئات آلاف الأوراق.
أمٌّ أو حبيبة أو طفلة، وأحياناً سجينة في سجن دوما للنساء، وعشرات الآلاف غيرهم كانوا سيقرؤون الرسائل التي يتم تهريبها من صيدنايا. كل هؤلاء كانوا مدينين ربما دون أن يشعروا بذلك الامتنان يومها لبذرتي تمر ولاصق ألتيكو وقلم رينولدز وأوراق سجائر الشام. أجل كانت أوراق سجائر الشام هي الأفضل لتكون أوراق الرسائل. من سوف يصدق، إن لم يرَ بأم العين، أن ورقة السجائر المستطيلة قليلة المساحة تلك كانت ستتسع، مع بعض التركيز، لكتابة ثلاثمئة كلمة على سطح واحد منها؟ ليحتاج من يتلقاها فيما بعد إلى عدسة مكبّرة ليقرأ بيُسرٍ ما جاء فيها.
يتحدث، من مرّوا بتجربة الاعتقال السياسي، عن السجن وقضاياه الرئيسية كالتحقيق والتعذيب والمقاومة، وغالباً لا يهتمون بالدخول في تفاصيله الصغيرة التي غيّرت الكثير من طبيعة يوميّاتهم. تلك التفاصيل، على بساطتها في الحياة العادية، إلا أنها في ظرف السجن ستشبه الاختراعات الانقلابية والمفصلية للبشرية، التي لا تُذكَر في التاريخ كثيراً، فمن سيتحدث عن اختراع “السحّاب” المذهل الذي يدخل في معظم قطع ثيابنا، ومن سيذكر اختراع المقصّ باعتباره حدثاً نوعيّاً، على سبيل المثال.
اختراعات أو اكتشافات السجن كانت عملية يومية دائمة، وإن كانت تشي بشيء، فإنها ستخبر أولاً عن مقاومة الروح لموات السجن. كنّا في سباق يومي مع قوانين السجن المتبدّلة، ودائماً كان سيأتي اليوم الذي تكتشف فيه إدارة السجن طرائقنا في التحايل، لنعيد اكتشاف غيرها.
بعد انتهاء زيارة أحد زملاء السجن وخروج الزوار من صالة الزيارات، كان أحد عناصر الشرطة بحسب العادة يرافقهم إلى الباب الخارجي. في الطريق وقعت إحدى قطع التمر من يد أحدهم على الأرض، فانكسرت وظهرت من داخلها الرسالة، لتنكشف طريقتنا تلك بالتراسل، ويمنع على الفور إخراج مشغولات بذور التمر من السجن. كان يوماً سيئاً، لكن البدائل كانت جاهزة على الدوام. يومها انتقلنا فوراً لحفر تجاويف في لوحات الخشب وإخفاء الرسائل داخلها وإلصاق الفتحات بالغراء، لتبدأ مرحلة جديدة لم تقتصر على إخراج الرسائل وإنما القصائد والروايات والترجمات أيضاً. كان علينا في كل صباح أن نسبق السجّان بخطوة.
تلفزيون سوريا