هل يمكن للسينما أن تنشر أفكارًا فلسفية؟/ محمود عبد الغني
هل يمكن للسينما أن تكون فكرًا فلسفيًا؟ هل يمكن للفلسفة أن تكون إبداعًا سينمائيًا؟ هل يمكن للسينما أن تنشر أفكارًا فلسفية؟ هل الفيلسوف رجل سينما؟ هذه هي الأسئلة التي طرحها الباحث جان بيير زارادير، في كتابه “الفلسفة والسينما” الصادر حديثًا.
اهتم الفرنسيون مند سنة 2000، بعد الدول الناطقة بالإنكليزية، بعلاقة الفلسفة بالسينما. وكان امتداد السينما إلى حقول أخرى يُرسم على خارطة واضحة: بعد انعطافة دراسات التحليل النفسي بين 1960- 1970، وانفجار التاريخ في السينما في السنوات 1980 – 1990، عرفت الدراسات السينمائية بدءًا من سنة 2000 انعطافة فلسفية، كان من روادها الفيلسوف الفرنسي، جيل دولوز، والكاتب والفيلسوف الأميركي، ستانلي كافل، صاحب كتاب “فلسفة القاعات المظلمة”، الذي ترجم إلى الفرنسية سنة 2011. في الحقيقة، إن هذه الانعطافة مرتبطة بظهور فلسفة “تحليلية” للسينما أرادت الجواب عن أسئلة مفاهيمية كلاسيكية، كان فلاسفة السينما يطرحونها منذ ظهور السينما، بمساعدة من المرجعيات والاقتباسات السائدة من العلوم الطبيعية.
هنالك، إذًا، على الأقل طريقتان معاصرتان لمقاربة السينما فلسفيًا: الفلسفة التحليلية للسينما، التي تروم تناول القضايا المفاهيمية التي تطرحها السينما، والقراءة الفلسفية للأفلام، أو الفلسفة من خلال السينما، التي ترى أن اللقاء بين الفلسفة والسينما يمكن، ويجب، أن يكون فرصة للسينما لطرح ما تعتبره مسارًا، غاية ومصداقية. إن الأفلام يمكنها أن تقدم تجارب وتطور أفكارًا لا يمكنها إلا أن تؤدي بالفلسفة إلى التساؤل عن هويتها، والفلاسفة الذين ينخرطون في هذا المسار الثاني يدافعون عن مقاربة فلسفية للسينما سترفض ضرورة وجود منهج، أو نظرية خاصة للكتابة عن فيلم، وأن التجربة الجمالية التي نكونها هي من دون أساس فلسفي، لكنها تتهيأ، بالعكس من ذلك، داخل إمكانية البحث عن طرق جديدة في التفكير والكتابة، من أجل وصف ثراء وحقيقة التجربة السينمائية.
ليس المهم في موضوع علاقة السينما بالفلسفة تحليل مجموعة من الأفلام فقط، ولو أن التحليل
“هنالك على الأقل طريقتان معاصرتان لمقاربة السينما فلسفيًا: الفلسفة التحليلية للسينما، التي تروم تناول القضايا المفاهيمية التي تطرحها السينما، والقراءة الفلسفية للأفلام، أو الفلسفة من خلال السينما”
يرتكز أحيانًا على وجه من أوجه اللغة السينمائية (بانورامية، صوتية، فلاش باك..)، لكن يبقى أن الشيء الجوهري في القضية يوجد خارج ذلك. وهذا الجوهري يوجد في الرؤية التي يمكن أن يحملها الفيلسوف إلى عالم السينمائي. فهذا الحوار بين الصورة والمفهوم لا يسمح فقط بإضاءة المعاني التي يحملها العمل الفني إلى الأبد، بل يسمح أيضًا للفلسفة بأن تحمي نفسها من التجريد الخالص الذي ظلت دائمًا تحذره. باختصار، المؤلف جان – بيير زارادير يقترح، في كتابه “الفلسفة والسينما”، دخولًا جديدًا إلى الكهف، ويؤكد في خصوص هذا الدخول أن الأمر “ليس خيانة لدياليكتيك أفلاطون، ولا لأفكار بليز باسكال، ولا لمنطق هيغل، لمجرد محاولة العثور داخل الكهف على مفاتيح لفك شفرات هذا العمل السينمائي أو ذاك”.
يؤكد المؤلف أن مجهود التأويل لن يكون هنا، وهذا من نافلة الأمور، بمثابة استسلام لإحساس أن العمل الفني يوجد داخلنا. إن هذا الإحساس، هذه المتعة الخالصة، هو ما يقرر كل شيء. غير أن عودة التحليل، الذي من مهامه استخراج المعنى، قد يكون في حد ذاته مصدرًا للمتعة.
في عالم السينما، ربما أكثر من أي عالم آخر، يحدث أحيانًا أن يحجب المضمون السياسي الواضح في عمل ما بعده الفلسفي. تلك هي حالة، من بين حالات أخرى، العمل السينمائي للمخرج والكاتب الفرنسي بيرتراند تافارنييه (1941). كيفما كانت الرسالة السياسية، التي يروم المخرج إيصالها، فنحن لا يمكن أن نبقى محايدين أمام الإشكالية الفلسفية التي تخترق هذا العمل. ولتقديم هذه الأطروحة خصص الكاتب جان – بيير زارادير فصلًا كاملًا يحمل عنوان هيغل وتافيرنييه، كان الهدف منه تبيان هذا الطابع الفلسفي، ومحاولة تبخيس القراءة المبتسرة التي يفر منها المعنى الجوهري، من خلال تناول ثلاثة أفلام من إخراج تافيرنييه هي: ساعاتي سانت – بول، القاضي والمجرم، الموت مباشرة. والأفلام الثلاثة يمكن مشاهدتها بكونها ملفوظًا لنظام سوسيو – سياسي، أو إيديولوجي: نقد البورجوازية في الفيلمين الأولين، ومجتمع “الإعلام” في الفيلم الأخير. وبعيدًا عن هذا الملفوظ المتعدد الأشكال، فإن ما يظهر، رغم ذلك، هي بنية في عينها. فكل فيلم من أفلام هذا المخرج يدعو إلى تحول ما، لكنه لا يظهر إلا مقابل تمزق ينتظم داخله كل مسار أصيل. فلن يكون من المفاجئ، إذًا، أن الشخصيات الوحيدة “الضائعة” في أعمال تافيرنييه هي تلك التي، باسم أيديولوجية معينة، ترفض هذا التمزق: الشبيهة بفينومولوجيا العقل عند هيغل. مثل هذه الشخصيات تبقى صماء أمام نداء الانفتاح على الآخر الذي يشترط كل حرية حقيقية. إنه في هذا المستوى، وهذا المستوى وحده، يمكن للقراءة السياسية لأعمال بيرتراند تافيرنييه أن تظهر شيئًا آخر غير القراءة السطحية المختزلة.
يبدأ الفيلم الأول لبيرتراند تافيرنييه، ساعاتي سانت – بول (1974)، المقتبس عن إحدى روايات جورج سيمنون، بسهرة بين مجموعة من الأصدقاء، بينهم ميشيل ديسكومب الذي يمارس مهنة تقليدية: إصلاح الساعات في حي سانت – بول. كل من في السهرة يحملون القناعات السياسية نفسها، ويخوضون في نقاشات حول الانتخابات، حماقة الفرنسيين الذين ما زالوا يصوتون على اليمين، إضافة إلى رفض عقوبة الإعدام. كان اجتماعًا صغيرًا هادئًا يتباعد فيه الخير والشر بوضوح، مثل تباعد اليمين واليسار. لكن، ما ينبغي التأكيد عليه هو هذه الوحدة التي يكونها هؤلاء الأفراد الدين يتفقون على أشياء جوهرية. لكن هذه الوحدة كانت مهددة، وأول مؤشر على هذا التهديد هو الخمر، وهو حاضر هنا كما لو للإشارة إلى أن هذه الثورة، أو على الأصح هذا الاحتجاج الروتيني، تحمل داخلها ضدها: القبول بالواقع، الخضوع والعار. بعد ذلك تتراكم مؤشرات الفشل والتمزق: يعلم ميشيل ديسكومب من طرف الشركة أن ابنه بيرنار متهم بقتل حارس المعمل الذي تشتغل فيه صديقته. لم يعد ميشيل يعرف ابنه القريب منه جدًا. كل هذه العناصر تعلن عن التمزق. وبذلك يمكن القول إن فيلم “ساعاتي سانت – بول” يُفتح على التمزق، على القطيعة بين أب (رمز للتفكير اليساري الجيد)، وبين ابنه (المتياسر، أو المهمش) الذي ارتكب شرًا مطلقًا كان هو أصل هذا التمزق. ويستمر الفيلم بكامله باعتباره محاولة لفهم كيف ارتكب الابن هذا الفعل الشنيع. إن للتمزق هنا معنى واحدًا: ليس هناك استمرارية، والعلاقة الطبيعية و/أو البيولوجية بين الابن والأب ليست سوى إعلان عن علاقة أخرى أعمق، وأكثر حرية، لكنها في مظهر الانشقاق. هنا تحضر موضوعة “الخطيئة السعيدة” التي تفتح الباب على الحقيقة “السعيدة” التي من خلالها نتعرف على حقيقة الأشياء كما هي: كائنان يلتقيان من جديد، ويفهمان بعض من خلال الجريمة. وهذا ما أعطى للفيلم بُعدًا فلسفيًا.
يحيل المؤلف على هيغل الشاب الذي كان الحب في مؤلفاته المبكرة هو ما ينجح في استعادة، أو بتعبير أفضل في إنشاء، علاقة أصيلة بين الوالد والولد. أو كما يقول هيغل بلغة تمثيلية ثقيلة إلى
“فيلم “ساعاتي سانت – بول” يُفتح على التمزق، على القطيعة بين أب (رمز للتفكير اليساري الجيد)، وبين ابنه (المتياسر، أو المهمش) الذي ارتكب شرًا مطلقًا كان هو أصل هذا التمزق”
حد ما لها مضمون تأملي: “الجورب المرتق أفضل من الجورب الممزق؛ الأمر لا بتعلق بالوعي الذاتي”. فمن دون هذا التمزق، من دون هذا الخطأ المرتكب من طرف الابن، لا يمكن أبدًا معرفة ذلك التلاحم الحميمي التي تشهدها نهاية الفيلم. هنا يمكن العودة إلى هايدغر: “هل يمكن الحديث عن الوحدة قبل التمزق؟”.
يرى جان – بيار زارادير في المخرج الأرجنتيني هيغو سانتياغو (1939 – 2018) فيلسوف السينمائيين، بالرغم من كون مجموعة من الفلاسفة يجهلون اسمه. هو تلميذ لخورخي لويس بورخيس. عمل مخرجًا مساعدًا لروبير بروسون. أنجز العديد من الأفلام الطويلة، من بينها فيلم “الآخرون” عن سيناريو من كتابة خ. لويس بورخيس، أدولفو بيو كازاريس، وهيغو سانتياغو، “أرصفة زحل”، سيناريو: خوان خوسي ساير، خورخي سامبران، وهيغو سانتياغو، “خرافة القارات”، بتعاون مع الموسيقي جورج أبارغيس. ليست أفلام هـ. سانتياغو أفلامًا عادية، ولا تصدر عن مقاربة فلسفية كيفما كانت. فكل فيلم من أفلامه هو في حد ذاته تأمل فلسفي طويل يمزج بين الصور، الحوارات والأصوات. لكن حدث لمجموعة من النقاد أن طرحوا هذا السؤال: هل نجح هيغو سانتياغو فعلًا، وإلى أي مدى، في التفكير بالصور؟ كيف أمكنه أن يكون دائمًا سينمائيًا وفلسفيًا. شيء واحد مؤكد: هذا الاستفهام الذي قيل عنه “إنه يحمل التوسع نفسه الذي للنصية، وهو من يضمن وحدة النص، ويعمل على تأكيد معناه”، حسب تعبير الناقد الأدبي فرانسيس جاك (1934-…)، يوحد في قلب العمل السينمائي، عن طريق عدد من الأسئلة: ما هي الأنا والهوية الشخصية؟ كما في فيلم “الآخرون”، ما المنفى؟ كما في فيلم “أرصفة زحل”، ما الحوار بين الحضارات؟ كما في ” خرافة القارات”. ربما هيغو سانتياغو لا يطرح سوى السؤال ذاته: ما هي السينما؟
تجربة سينمائية عالمية أخرى اهتم بها كتاب ج. ب. زارادير: المخرج السينمائي الفرنسي فيليب دي بروكا (1933 – 2004). السؤال الذي طرحه المؤلف في خصوص أعمال هدا المخرج: مادا يفعل بطل فيليب دي بروكا حين لا يحلم؟ يصطاد بالصنارة (خرطوش)، يلعب الكرة الحديدية (العجيب)، ينظف بيته بدقة (الدجاجة اللطيفة). وهناك أبطال آخرون، في أفلام أخرى، يعانون من الملل والفراغ الوجودي. لذلك تجدهم يلجؤون إلى الحلم من دون تردد، ومن دون تسجيل وقت ميت على هذا المستوى. كل شيء، إذًا، ممتلئ بالخيال والتخييل الفني. من هنا تنبع حيوية أفلامه الرائعة. وهي من يقضي على الفراغ الوجودي الذي تبدأ أو تنتهي به أفلامه.
يجعل كتاب جان – بيير زارادير القارئ يقتنع بقوة انتماء السينما إلى الفلسفة، وبقوة انتماء الفلسفة إلى الفن عمومًا والسينما على الخصوص، من خلال دراسة، وتقديم، مدونة غنية من الأفلام الفرنسية والعالمية التي جعلت الفلسفة تقدم نفسها خارج مجالها التقليدي.
ضفة ثالثة