النساء المثقّفات في عالم رجّالي: الوجه الآخر لاختلال المثقّف العربي/ ياسين النابلي
من خلال تجارب الكاتبتين مي زيادة وأروى صالح، يستعرض الباحث ياسين النابلي فشل المثقّف العربي في التخلّص من الإرث الأبوي وتصورّاته الذكورية عن المرأة المثقّفة.
لقد قِيل الكثير عن المُثقّف العربي وعن “رجل القلم”، هذا الكائن السّابح في لُجّ الأفكار والنظريّات والأحلام، والتائه الأبدي وسط كتلة من الكلمات والرموز والاستعارات. ربّما أيضًا هو رجل مُوغل في أرض المجاز حتى يحجب عن الآخرين نصف الحقيقة أو كلّها، لذلك نجهل أحيانًا سيرته الذاتية رغم أنه أبدى براعة في كتابة فنّ السيرة الذاتية – بصلصال أدبي غير بريء في معظم الأحيان – وقد لا نعرف الكثير عن عوالمه الخاصة التي أخفاها عن قصد مثل الأسرار القديمة. وتتّسع رقعة الغموض في حياة المثقّف العربي عندما يتعلّق الأمر بالبحث في علاقاته مع النساء المثقّفات، فهذا الثائر المبشّر بمجتمع النّور كثيرًا ما يترنّح أو يُصاب بالاعوجاج عندما يمشي بأقدامه وأفكاره على طين الحياة. وهذا المترنح المنتشِي بهالة مبادئه يُقيم بيننا وربما في داخلنا، وقد يخوض معاركه اليومية من أجل استعادة توازنه المفقود، وربما تنتهي به الحياة مستسلمًا لانفصاميّته العجيبة.
في سنوات النضال الطلابي، كانت الرفيقات الأكثر خبرة بالحياة والأمراض والناس، يُرددن أن “الرفيق ينام ويأكل ويمرض ويتأوه حبًّا وفكرًا في حضن رفيقته، ثم يعود إلى حضن أمه لتنتقي له عروسًا صالحة”. قد يقول البعض من أبناء جيلنا إن هذا الكلام ينطوي على الكثير من الإجحاف والتجنّي على الكثير من القصص الكفاحية التي سلكت نهايات مغايرة، ولكن هناك صوت عميق يشير إلى أن الوعي القديم ما زال يسكن في مكان ما، في السلوك والتفكير والوجدان، إذ إن المرأة المثقّفة أو المناضلة السياسية التي تبحث عن عالم جديد يخلّصها من إرث الآباء وسطوتهم، دائمًا ما تُشكّل مصدر قلق وخوف وحيرة للمثقّفين الرجال أو المناضلين – عادة ما يُغلف بالاحترام والتبجيل – لأنها الانعكاس الأكثر شفافية الذي تنكسر عليه هشاشة أفكار الرجل-المثقّف. ولعلّ الكاتبة النسوية الهولندية يوكه سميت كانت محقّة عندما قالت: “ينظر الرجال إلى المرأة الموهوبة بأحاسيس متناقضة، فهي لا تولّد عندهم الإحترام فقط، بل تدسّ في قلوبهم الخوف. واحتمال أن تبقى هذه المرأة وحيدة كبير”.
ربما يلوح الخطأ الكبير في كينونة المرأة المثقّفة – كما يراها التصوّر الرجالي – في حفاظها على استقلالية نسَقها المعاشي والفكري، وقدرتها الفائقة على تهديد سكونية الصورة المجازية الوديعة والمضرّجة بالأنوثة التي يحملها المثقّف العربي عن المرأة ويلهج بها في أشعاره وخواطره ورسائله الخاصة. ولا يأتي الخوف عادة من كونها منافسة جديّة للرجل في سوق المعرفة، وإنما من عنادها الإنساني وتحطيمها لصورة الأنثى التقليدية التي تنتظر زوجها-المثقّف إثر عودته ظافرًا من “مسامرة معرفية”، فتحمل عنه معطفه وتفتح له قلبها ومطبخها، ثم تروّح عنه حتى يشعر باكتماله. ولكن عندما يقرر الكتابة لا يكتب عنها وإنما يكتب عن نساء أخريات بأسماء مستعارة. وربما كانت الكاتبة المصرية نوال السعداوي محقّة عندما لاحظت قائلة: “في بلادنا العربية لا يكتب الكاتب عن زوجته، إنه يكتب عن عشيقاته بأسماء مستعارة بالطبع، أو عن المومسات اللائي ضاجعهن في الشباب، أو عن أمه باعتبارها المرأة المثالية في حياته سواء صحّ هذا أم لا، فالنفاق مطلوب خصوصًا عند الحديث عن الأهل”.1
يعيش المثقّف العربي متأرجحًا بين زمنين، هناك زمن الكتابة والإنشاد الذي تظهر فيه المرأة كقدّيسة أو إلهة قديمة آتية من عصر آخر وليست إنسانة من لحم ودم، وهناك زمن الحياة والمعيش اليومي الذي يتقلّص فيه حضور المرأة إلى أن تصبح بحجم الأشياء العادية. فإذا غابت عن العيون التي تطيل فيها النظر، غابت عن الفكر والوجدان. ومنذ وقوفه على باب الحداثة العربية ما زالت لعنة الكاتبة اللبنانية مي زيادة تطارد المثقّف العربي وتؤرق سواكنه، إذ ألقت الأقدار قبل حوالي قرن من الآن – النصف الأول من القرن العشرين – بفتاة من أم من أصل سوري لكن موطنها فلسطين وأب لبناني في جَلبة المطابع والأفكار في القاهرة، هذه المدينة التي فتحت صدرها لمثقّفي الحداثة العربية كي تُنجيهم من بقايا عصور الانحطاط الطويلة ستكشف أيضًا عن وجوه العجز والخراب داخلهم. وفي صالون مي زيادة – الذي على الأرجح لم تزُره امرأة باستثناء صاحبته – ستبدأ لحظة “الانكسار البنيوي”2 في سيرة المثقّف العربي: زمرة من الرجال المثقّفين وعباقرة عصرهم، محمود عباس العقاد وطه حسين ومصطفى صادق الرافعي ولطفي السيد وسلامة موسى والشيخ مصطفى عبد الرازق وغيرهم، يترددون إلى فضاء أدبي تديره فتاة شابة موهوبة تتقن حوالي سبع لغات وتبحث عن ذاتها وسط زحام الأفكار والأوهام، وربما لم يكن هذا ما جذبهم إليها بقدر ما كان لطفها وسحر صوتها هو الذي جعلهم يتهافتون على مجلسها. لقد سَقتهم مي زيادة من فكرها ومائها وملحها، ولكنهم لم يدركوا سوى وجهًا واحدًا فيها، المرأة الفاتنة التي غازلها الجميع وأرادوها عشيقة ومرفأ يخلّصهم من جذب الحب بعد أن شاخت العواطف في خضم الالتزامات العائلية. أغدقوا عليها بكلمات الغزل والحب رغم أنهم يعرفون أن جبران خليل جبران الذي لم تلتقِه أبدًا هو الأحب إلى قلبها. وربما أدركت مي زيادة هذه الخيبة في وقت متأخر، عندما قالت: “تتهيب المرأة أمام مقدرة الرجل لاعتقادها أنه أبرع منها في الإلمام بالأمور من جميع جهاتها. فما أشد خيبتها يوم ترى الرجل الذكي الحساس لا يدرك ولا يريد أن يدرك من الحسنات أوالسيئات إلا وجهًا واحدًا فقط”.3
هؤلاء الرجال المثقّفين الذين تركوا نساءهم في المنازل وتوحّدوا مع حداثتهم صغروا كثيرًا في عينيّ مي زيادة عندما تخلّوا عنها في محنتها، إذ ألقى بها رجل مثقّف آخر، هو ابن عمها جوزيف زيادة، في جحيم مستشفى الأمراض العقلية في لبنان المعروف بـ”العصفورية”.4 دفعه إلى ذلك الطمع في ثروتها فأراد إثبات جنونها حتى يستطيع الحَجر على أملاكها، وقد استغلّ جوزيف ثقة مي العمياء وحالة الأرق التي عاشتها بعد أن رحل والداها وحبيبها السرمدي جبران. أثناء المحنة التي دامت عدة أشهر تخلّى عن مي تقريبًا جميع المثقّفين الرجال الذين غازلوها، بل إن الكثير منهم زكّوا تهمة الجنون التي اختلقها ابن عمها. وبعد وفاتها أراد البعض منهم كتابة فقرات أخيرة عن حياتها، ولكن فاحت منها رائحة الاستعلاء الذكوري الذي أريدَ به حفظ ماء الوجه بعد فوات الأوان. ولعلّ الكاتب المصري سلامة موسى يشكّل نموذجًا لهذا النوع من الكتابة، فقد كتب المثقّف النهضوي الكبير الذي طالما حدّث العرب عن فن الحب والحياة عن السنوات الأخيرة في حياة مي زيادة قائلاً: “إنّ مي لم تُطق انفضاض المعجبين بجمالها عنها. وكان هذا أحد الأسباب – بل لعلّه السبب الوحيد – لانهيار شخصيتها؛ ذلك لأنها لم تقنع بالتبريز في الأدب، ولو كانت قد قنعت به لوجدت فيه العوض مما فقدت من جمال الجسم عقب الخمسين من عمرها. ولعلّها كانت عندئذ تحتفظ بسلامة نفسها وعقلها”.5 ويلوح من هذا الكلام أن المثقّف الذي قضى معظم حياته يحارب “الخرافات الشرقية” لم يستطع في النهاية التخلّص من أكبر خرافاته الداخلية، التي جعلته ينظر دائمًا إلى كيان المرأة من خلال عدّاد الزمن وبريق الجسد.
بعد عقود على رحيل مي زيادة، حاولت كاتبة مصرية أخرى موهوبة التسلل دون خجل إلى السجلات المنسية في تجربة أبناء جيلها من المناضلين اليساريين الذين ازدحمت بهم الحركة الطلابية في مصر في سنوات السبعينيات. لقد سعت أروى صالح إلى تفكيك المسارات الشخصية لرجال تقمّصوا مبادئ كانت أكبر بكثير من أحجامهم، فقالت عنهم “المهم أن هؤلاء اليساريين استقبلوا تجاربهم مع المرأة بنفسية الوسط التقليدي الذي صنعهم، لا بمبادئهم، فكانت هذه التجارب خرقًا لمحظورات قديمة لا اختيارًا حرًّا لأخلاقيات جديدة. ومن ثمّ انتهت تجاربهم – المفصولة عن مبادئهم، بل التي تعقدت بها – إما إلى زواج تقليدي أو إلى تجارب في الانحلال تتجاوز مرضيتها ولا أخلاقيتها كل حد، أو إلى الجمع بينهما”.6
ومن خلال الحديث عن المثقّف-العاشق أرادت أروى صالح الكشف عن البعد الأسطوري في تمثّلاته لفكرة المرأة. فعندما يكتب عنها يحاول أن يجعل منها كائنًا خرافيًا ويوشح سردياته النسائية بجملة من المعايير الجمالية التي يستعرض من خلالها تصوّره للجسد المثالي. أما في الواقع، فهو يخوض حربًا ضروسًا من أجل ترويضها وعقلنتها حتى تكون امتدادًا لصورته وصوته. وفي كل الحالات دائمًا ما يظل مشدودًا إلى نصفه الأسفل، لذلك تقول أروى صالح عن هؤلاء المثقّفين: “هم الوحيدون القادرون على أن يتكلموا عن أحرّ “القضايا” وعيونهم على ذلك النصف الأسفل، ولكن المجتمع لا يطلب الخجل إلا من النساء”.7
1.
نوال السعداوي، معركة جديدة في قضية المرأة، ط 1، مصر: سينا للنشر، 1992، ص: 8.
2.
الانكسار البنيوي: عبارة تم اقتباسها من كتاب “الفكر النهضوي العربي: الانكسار البنيوي” لفؤاد خليل.
3.
مي زيادة، الأعمال المجهولة (تحقيق جوزيف زيدان)، ط 1، الإمارات: منشورات المجمع الثقافي، 1996، ص: 216.
4.
لقد ألّف الروائي الجزائري واسيني الأعرج رواية للحديث عن هذه التجربة عنوانها مي، ليالي إيزيس كوبيا: ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية.
5.
سلامة موسى، تربية سلامة موسى، مصر: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2012، ص: 229.
6.
أروى صالح، المبتسرون: دفاتر واحدة من جيل الحركة الطلابية، ط 1، مصر: دار النهر للنشر والتوزيع، 1996، ص: 67.
7.
المصدر نفسه، ص: 91.
صحافي وباحث في الحضارة العربيّة والإسلاميّة. مهتمّ بتاريخ الحركات السياسيّة في تونس وفي المنطقة العربيّة.
موقع جيم