تصحيح التراث الثقافي: هل يوجد فن بدون تمييز؟/ محمد سامي الكيال
يلحظ عدد من الناشطين، والعاملين في المجال الثقافي والتعليمي في الدول الغربية، أن كثيراً من الأعمال الفنية والأدبية الكلاسيكية، التي يتم عرضها في المتاحف، أو تدريسها في المدارس والجامعات، تم إنتاجها وصياغتها قبل ستينيات القرن الماضي، أي في فترة شهدت ممارسات تمييزية وعنصرية شديدة، ضد فئات كثيرة، على رأسها النساء والملونون والمثليون وسكان المستعمرات. ويساهم الاستمرار بعرض وتدريس هذه الأعمال، بالأسلوب التقليدي، في تثبيت رواية ثقافية أحادية، ارتبطت بهيمنة الفئات ذات الامتياز، ولم تعد صالحة لعصرنا، المتسم بتنوع أكبر، فضلاً عن اصطدامها بالحساسيات الثقافية والاجتماعية لكثير من الجماعات، التي عانت تاريخياً من التمييز.
لا يسعى أنصار هذا المنظور إلى إلغاء أو حظر التراث الثقافي الكلاسيكي، كما يتهمهم بعض خصومهم، بقدر ما يريديون إعادة بناء السرد الثقافي في الحيز العام، ليصبح أكثر عصرية وعدالة، مع ملاحظة أن طريقة عرض وتدريس الأعمال الفنية، وتحديد معايير ما هو «كلاسيكي»، لم تكن يوماً قائمة على قيمة جوهرية ثابتة، بقدر ارتباطها بالسياسة والأيديولوجيا وعلاقات السلطة. وهي أمور متغيرة تاريخياً، وقد آن الآوان لملاحظة التبدل الاجتماعي والسياسي في الدول الغربية. يمكن بالتأكيد ملاحظة أصداء عربية لهذا الطرح.
الصراع على الرواية الثقافية العامة، أدى لبروز حركات مؤثرة، مؤخراً، في المؤسسات الثقافية والتعليمية، مثل حركة «عَطلْ النصوص» #DisruptTexts movement، التي نظمها عدد من الناشطين والمدرسين في الولايات المتحدة، بهدف إعطاء طابع أشد تنوعاً للنصوص، التي يتم تدريسها في المدارس الأمريكية، وجعل تلقي التلاميذ للأعمال الثقافية، التي تحوي تمييزاً وعنصرية، أكثر نقدية.
وعلى الرغم من أهمية الفكرة، إلا أنها تطرح إشكالات متعددة، أبرزها ماهية «التلقي النقدي» للنصوص والأعمال الفنية، في ظل توجيه فوقي، من المدرسين والعاملين في المؤسسات الثقافية، يحدد بشكل مسبق نوعية التمييز، وعلاقات السلطة التي أُنتج ضمنها العمل الثقافي. أليس هذا إسقاطاً لأيديولوجيا جاهزة، تستعمل المؤسسات الثقافية السائدة، وكثير منها حكومية، لفرض نفسها على المتلقين والطلاب؟ ثم هل المنتجات الثقافية، التي تُعتبر علامة على التنوع، أي التي صاغها أفراد ليسوا من «الرجال البيض»، خالية من التمييز والتهميش؟ يقود هذا لسؤال أكثر إشكالية: هل من الممكن وجود أي عمل ثقافي لا يندرج ضمن علاقات سلطة معينة، تقوم، في جانب منها، على إقصاء جهات وفئات ما، والتمييز ضدها؟ وهل يُعبر ناشطو التنوع عن علاقات سلطة أكثر عدالة مما كان سائداً، في ما مضى، ولماذا؟ يفترض السؤال الأخير تصوراً تاريخانياً معيناً، أي روايةً للتاريخ، تعتبر أنه متجه نحو غاية أو نتيجة معينة، هي في حالتنا الخلاص من هيمنة الرجل الأبيض، نحو يوتوبيا مجتمع التنوع ومكافحة التمييز. فهل الميل لتصحيح الرواية الثقافية، قادر أيديولوجياً على النهوض بهذا الادعاء؟
فنون اليوتوبيا
اتسمت الدعاوى التاريخانية، خاصة في العصر الحديث، باتساق أيديولوجي كبير، وربما كانت نسخ الماركسية، في القرن العشرين، المثال الأبرز عن هذا: المجتمعات الطبقية قائمة بنيوياً على الاستغلال والقمع، ولا يمكن الخلاص من هذا الشرط إلا من خلال ثورة اجتماعية، تفرض ديكتاتورية الطبقة العاملة، ليس لأسباب أخلاقية وحسب، بل لأن هذه الطبقة قادرة، بحكم موقعها الاجتماعي والتاريخي، على تحرير البشرية بأكملها. في المرحلة الأولى ستستخدم الطبقة العاملة جهاز الدولة لإقامة نمط طبقي جديد، هو النمط الاشتراكي، يعبر عن سلطتها، ويقمع خصومها الطبقيين، تمهيداً لاضمحلال جهاز الدولة، والطبقة العاملة نفسها، في المجتمع الشيوعي، وهكذا يصل الصراع الطبقي إلى أوجه، ما يفضي إلى تركيب جدلي جديد، تنتفي فيه الطبقات الاجتماعية، والحاجة إلى الدولة، وهي جهاز القمع الطبقي الأساسي، في نمط من المساواة الكاملة. وبهذا المعنى فإن فنون المجتمع الاشتراكي ستكون واعية لطابعها الطبقي، التمييزي ضد الطبقات السائدة القديمة، على خلاف فنون المجتمع الشيوعي، التي ستتخلص تماماً من ضرورة التمييز، التي تفرضها المجتمعات الطبقية.
لا تملك أيديولوجيات التظلم ومكافحة التمييز المعاصرة سرداً تاريخانياً مماثلاً، ولا تقول، في خطابها المعلن، إنها تمثل حصيلة تقدم تاريخي نحو مجتمع مثالي، وهي ناقدة، على الأغلب، للادعاءات التاريخانية لعصر التنوير، ولفكرة التقدم نفسها، التي كثيراً ما تُصور بوصفها غطاءً لهيمنة مركزية غربية استعمارية. وبهذا المعنى فإن التاريخ لا يتجه إلى تركيب جدلي خالٍ من التمييز وعلاقات السلطة، وبالتالي سيكون عمل الناشطين المعاصرين، لتصحيح الرواية الثقافية، ليس أكثر من فرض علاقات سلطة جديدة، ونمط تمييزي بدلاً من آخر.
إلا أنه من الممكن استنباط نمط معين من التاريخانية في خطاب حركات مكافحة التمييز المعاصرة: قبيل الحداثة والاستعمار لم تعرف المجتمعات الإنسانية الأشكال التمييزية المُمأسسة، التي عانى منها من همشهم المشروع العقلاني الغربي، ثم جاء الرجل الأبيض ليطوع العالم كله تحت سلطته، ونحن الآن نشهد بوادر الخلاص من هيمنته، وتفكيكها من الداخل، عبر تغيير المؤسسات لتصبح أكثر تقبلاً للتنوع، بدلاً من إجبار المهمشين على تطويع أنفسهم لينالوا القبول المؤسساتي، أي أن التاريخ أتم دورة كاملة، ليصل إلى نوع من نفي النفي: ما نفاه الرجل الأبيض عبر التهميش والإقصاء، يعود اليوم لينفي خطيئة الرجل الأبيض نفسها، ويفكك هويته، القائمة على التمييز الهيكلي، ضمن تركيب جدلي جديد. وبذلك تكون أيديولوجيا مكافحة التمييز المعاصرة مزيجاً من فكرة «الخطيئة الأصلية» المسيحية؛ ونمط من الهيغلية غير الواعية بذاتها.
تصحيح الرواية الثقافية إذن هو أقرب لطقوس الاعتراف الكنسي بالخطيئة ومنح الغفران، من كونه تدريباً للمتلقين والطلاب على التفكير النقدي بالمنتجات الثقافية، فهو قائم على سرد تاريخاني جاهز، ونتائج أيديولوجية معروفة سلفاً، سيُجبر الجميع على التوصل إليها، بسلطة المؤسسات الثقافية والتعليمية.
فنون التمييز
إذا تجاوزنا المنظور الخلاصي فمن الصعب الحديث عن فنون وأعمال ثقافية بريئة من التمييز: لا تقوم الأعمال الفنية بالتعبير عن علاقات السلطة وحسب، بل كثيراً ما تصوغها وتعيد إنتاجها على المستوى الثقافي، بكل ما تحويه من تراتبيات وتمييزات وإقصاءات. إلا أن اختزال الفن بالوظيفة الأيديولوجية أمر شديد التبسيط والإجحاف، كما أن اختصار تلقيه بتصيد إشاراته عن علاقات السلطة هو أكثر أشكال القراءة سطحية وتسرعاً، فإذا استثنينا الأعمال، التي يمكن إدراجها في خانة البروباغندا، يعبر الفن عن موضوعاته عن طريق منح إداراك وشعور وتبصر ما، يختلف عن التعبير العلمي والأيديولوجي والفلسفي، القائم على المفاهيم والمقدمات المنطقية والبراهين والنتائج، ويمنحنا محسوسات جديدة، وتجربة معاشة، وفقاً لنظامه وشكل تعبيره الخاص، ما يجعله يتخذ مسافة عن الأيديولوجيا التي ظهر ضمنها، تتيح له مشهداً كاشفاً لها، وهذه المسافة هي «أثر العمل الفني»، حسب تعبير المفكر الفرنسي لويس ألتوسير.
بهذا المعنى فإن الأعمال الفنية، التي تحوي إشارات تمييزية «مسيئة»، ليست مجرد أداة للاستبعاد والتهميش، بل هي صياغات تعطينا إشارات ورؤى عن التجربة الإنسانية المعاشة مع السلطة والأيديولوجيا والهرمية الاجتماعية، ضمن شرط تاريخي معين، لا يمكن محاكمتها بمنظورات نظامي الأخلاق والسياسة، وليس من مهامها أن تُظهر مجموعات الهوية بالصورة التي يرضى عنها ناشطو حركات التظلم المعاصرة. أما الفنون، التي تحاول أن تكون بريئة من التمييز، فلن تكون أكثر من صياغات رديئة، فلا هي اتخذت مسافة كاشفة من الأيديولوجيا المعاصرة، التي صدرت عنها، كما يُفترض بالفن، ولا قدمت طرحاً مفاهيمياً يليق بأيديولوجيا متماسكة.
إطلاق النصوص
ربما كان من الأجدى، للمهتمين بمكافحة التمييز، إطلاق النصوص بدلاً من تعطيلها، فإتاحة الوصول إلى الأعمال الثقافية الكلاسيكية، بحرية وبدون توجيه مسبق، والتعامل مع ما تحتويه من إشارات وتفاصيل صادمة للحساسيات المعاصرة، يفتح المجال لجدل اجتماعي وثقافي، لا ينبني على تقويم الماضي أو تجريمه، بل على اكتشاف تعددية الدلالات والأصوات في التراث الثقافي، ما يتيح للأجيال الجديدة إنتاج تركيبات مستحدثة، تقوم على استيحاء الأعمال الكلاسيكية وتفكيكها ومحاكاتها، بشكل جدي أو ساخر، وهذا لا يمكن أن يتم ضمن شروط تحكم أيديولوجي خانق، مثل الذي يفرضه الصواب السياسي ودعاوى التظلم الهوياتي. قامت كثير من الحركات التحررية، عبر التاريخ، على تحقيق إزاحة ما في معنى ودلالة السرد الثقافي السائد، واللعب برموزه وعناصره الأساسية، أما تثبيت الدلالات على معانٍ ثابتة ومستقرة، مهما كانت معادية للتمييز، فلن ينتج أكثر من تسلطية جديدة، وربما كانت أهم منجزات الحداثة إتاحة إمكانية إعادة القراءة والتأويل: لا يوجد معنى نهائي ومقدس، وكل خطاب قابل للجدل والنقد والتداول في حيز عام، يجب أن يكون مفتوحاً، وتسود فيه لغة عمومية مشتركة، وهو ما لا يتسق مع ثقافة الإلغاء وتعطيل النصوص.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي