نقد ومقالات

سلوى النعيمي… برهان العسل المعتق/ بشير البكر

لا تزال رواية الكاتبة سلوى النعيمي “برهان العسل” الصادرة اعام 2007 تحظى بترجمة إلى اللغات الأخرى، بعدما تجاوزت ترجماتها العشرين لغة. وطرح هذا الأمر سؤالاً جوهرياً منذ الترجمة الأولى بالفرنسية: ما هو السر وراء هذا الاقبال الواسع على نقل الرواية إلى اللغات الأخرى؟ وتعددت وتشعبت الاجابات كثيراً، وأثارت نقاشات، لكنها لم تصل إلى إجابة نهائية بسبب تعدد القراءات النقدية التي تناولت الرواية، وكثرة واختلاف المرجعيات والمواقف من الرواية. وانسحب ذلك على الموقف من الرواية بين القراء العرب. وكانت الحصيلة في الحالين أن الرواية والكاتبة تعرضتا إلى ظلم كبير بسبب جملة القراءات التعسفية التي تعاملت مع العمل ومع صاحبته.

قبل كل شيء، تجدر الاشارة إلى أمر مهم، فما إن عرف الناشرون الفرنسيون، أن الرواية التي أصدرتها بالعربية دار رياض الريس، مُنعت في بعض البلدان العربية، حتى هرعوا لشراء حقوق النشر باللغات الاجنبية، وقد فاز بها ناشر فرنسي باعها الى 16 دار نشر أجنبية، وأول ما صدرت بـ16 لغة أجنبية دفعة واحدة، وعمل الناشر الفرنسي(دار بيار لافون) على تحضير طبعة جيب ليرميها في الأسواق في اللحظة المناسبة، وقد استعد لذلك قبل ان ينزل الطبعة العادية للاسواق. ومن غير المستبعد ان دور النشر الاجنبية التي نشرتها أخذت في اعتبارها أن الرواية تكسر الصورة النمطية عن الثقافة العربية الاسلامية. وهنا تسجل الكاتبة جرأة رياض الريس الذي تلقف العمل وأرسله إلى المطبعة بحماس شديد، وكان يدرك مسبقاً أن الرواية لن تمر بسهولة من حواجز الرقابات العربية. وفي حوار حول الرواية بين الكاتبة وبيني أوضحت أن “حدس رياض الريس بذكائه المهن،ي النجاح التجاري الذي ينتظر الكتاب، وصدرت منه أربع طبعات متتالية خلال شهور قليلة بغلاف مختلف في كل مرة. صدرت الرواية في يناير2007 قبل الربيع العربي بسنوات وقبل فيضان الكتابات الجريئة التي نقرأها الآن. وكانت الضجة التي استقبلت الرواية عربياً، من خلال الكتابات النقدية من جهة والرواج التجاري من جهة أخرى، سبباً في رغبة دار النشر الفرنسية روبير لافون في ترجمته، ومن ثم بيع الحقوق الى دور النشر في العالم بمبالغ كبيرة. وتوالى صدور الترجمات من ايطاليا إلى البرازيل مروراً بتركيا حتى تجاوزت العشرين لغة، وآخرها العام الماضي في جيورجيا”.

لا يحتاج الأمر الى بحث كبير، حتى يبرهن المرء على أن الناشر يتعامل مع العمل الأدبي والكتاب عموماً من منظور الخبطة التجارية بغض النظر عن قيمة العمل الفنية. وبالتالي، فإن المعيار الأول للشهرة في الغرب تجاري، ويأتي الاعتبار الابداعي في مرتبة متأخرة، وهذا ينطبق على رواية سلوى النعيمي، وأعمال نجيب محفوظ حائز نوبل، بالسوية نفسها. ويهمني هنا التوقف عند بعض المفارقات. الأولى، طغت رواية برهان العسل على كل أعمال سلوى النعيمي التي تعتبر نفسها شاعرة قبل كل شيء، ولديها دواوين عديدة تضعها في عداد الشعراء المتميزين، وصار النقد والصحافة يختزلان سلوى في هذه الرواية، وأصدرت بعدها رواية أخرى (شبه الجزيرة العربية)، إلا انها لم تحظ بتسليط ضوء يليق بها رغم أنها عمل جيد، وتجربة اخرى في الكتابة مختلفة عن برهان العسل. والنقطة الثانية هي ان موضوع الرواية طغى على قيمتها الأدبية، وأخذ النقاش حولها إلى موضوعات بعيدة كل البعد من العمل الادبي، ويمكن ملاحظة أن مواقف بعض النقاد من الرواية كانت أخلاقية أكثر منها فنية. والنقطة الثالثة ان الضجة التي رافقت الرواية أصابت الكاتبة بالدهشة، ومبعث ذلك ردود الأفعال حيال الكتابة عن الجنس، وكأن الأمر يحصل للمرة الأولى، وكأن كتاباً مثل نجيب محفوظ والطيب صالح وآخرين لم يخوضوا في موضوع الجنس باستفاضة.

أما النقطة الرابعة والأساسية فهي أن النص الذي كتبته سلوى يحاكي التراث، لكنها لعبت لعبتها الخاصة، فهي استحضرت الموروث لتقول ما تريد وفي الكيفية التي تعرضه، ذلك أن بعض كتب التراث ذو حمولة ايروتيكية اكبر، ويبقى الفن في عمل سلوى هو المعيار الأساسي، فهي لم تتنازل عن السوية الفنية العالية من أجل ترويج النص. وأكثر من ذلك حرصت أن تكتب بلغة عربية مباشرة وحية وطازجة في حين أن الموضوع معقد ومحل اختلاف على مستويات عديدة. ومن نقاط قوة الرواية طريقة السرد، وابتكار شكل الحكاية بذكاء شديد فيه توظيف ساحر للتراث واختيار موفق جداً للغة العربية والجرأة وتجاوز الخطوط الحمر وليس الفضائحية، واختراق جدار الممنوعات كما يصف بعض النقاد الرواية، فهناك كتب فاضحة كثيرة لم تثر ضجة، وثمة كتب كثيرة كتبها اصحابها بهدف المنع كي تحصل على شهرة، لكن لا هذا ولا ذاك يصنع أدباً يترك بصمة خاصة ولا يفقد مفعوله بفعل الزمن والأحداث.

وحين نتحدث عن الاستخدام السلس للغة العربية في هذه الرواية، فإننا نعني تبيان قدرتها على نقل الحميمي من دون ابتذال للغة والحالة التي تعرضها الرواية. ويعد هذا من بين أبواب التجريب في العربية الذي يشبه السير على خيط رفيع. ونحن نعلم أن الجنس يحتل مكانة أساسية في النصوص العربية، لكن هذه الرواية تحتفي بلذة الجنس بعيداً من الخطيئة والدنس، وتبرهن على أن الثقافة العربية ليس مغلقة أو متحجرة، بل هي منفتحة وتتجاوب مع ما هو حميم بكل تلقائية. واللافت أن النقاد في الغرب أجمعوا على أن الرواية تكسر الصورة النمطية السائدة عن الثقافة العربية الاسلامية، وتقدم صورة جديدة عن الجنس فيها، بعيداً من مفهوم الخطيئة والدنس. الرواية تشد القارئ بقوة، وتأخذه بلهفة حتى النهاية. وبينما هو يزداد متعة في قراءته، سيجد نفسه أقترب من الخاتمة. حينها يعتريه شعور بأنه خاو وجائع، كالذي يخرج من سهرة عامرة، وهو لم يلمس شراباً أو يقترب من طعام. وقبل كل شيء إن أول ما يشد في الكتاب، هو خفته التي لم نعتدها في الروايات التي أدمنّا مطالعتها في هذا الزمن الرديء، ولذا فإنه يعفيك سلفاً من واجب التعامل معه كرواية، ويتركك حراً طليقاً، تحلق مرة في الأدب، ومرة اخرى في الدين والتراث، وفي مرات أخرى في الفلسفة والتصوف والأسفار. إلا انه في الحقيقة،  لا أدري أين يمكن أن أصنفه، إذا كان قد استطاع أن يخترق الأشكال كلها. هل يمكن اختصاره في رواية فعلاً مثلما اختار له الناشر(رياض اريس)، أم أن فضاءه أوسع من مدى الكتابة الروائية؟ ذلك سؤال لم يقترب منه النقد.

ما يهم القارئ في هذا الكتاب هو ملاحظة ان الكاتبة كتبت على نحو مختلف، وتعمدت لتبدو وكأنها كما لو أرادت أن تكتب للمرة الأولى في حياتها. يبدو انها تدربت على النسيان، بينها وبين الكتابة(أو الكآبة) الراهنة، فقررت ذات صحوة إبداعية ان تحذف من رأسها كل ما سبق لها أن كتبته، وشرعت حرة في خوض مغامرة جديدة. إن الحكمة من وراء ذلك هي الذهاب بالكتابة نحو تنظيفها من “التابو” الشخصي والعام، ولأن البدايات لا تعرف الحدود عادة، فإن أول ما يجده قارئ كتاب، هو انه لا يكتشف نفسه متورطاً في تجربة من نمط مختلف، إلا حين يطوي صفحة النهاية وكله شوق للعودة الى البداية.

لا يحرض القارئ في أحسن الظروف، إلى قراءة الكتاب مرتين اكثر من سببين: الأول، هو اعادة التقاط التفاصيل التي تسقط عادة في أفخاخ فن القراءة السريعة الدارجة في هذه الأيام. والثاني هو اعادة اكتشاف القارئ لمتعة القراءة، وذلك افضل شرط من شروط نجاح الكتاب. إن اجمل ما في كتاب النعيمي هو أنه لا يأخذ القارئ نحو الملل. هو ليس مؤلفاً حول الشطرنج أو الجنس أو المغامرات العاطفية، كما انه بعيد كل البعد من أدب الرحلات التراثية. ويبدو ان الكاتبة بعدما ملّت الشعر والصحافة، قررت تنوير حياتنا بهذا الكتاب، لكي نكتشف في المرتين ما في اعماقنا وأعماق ما يحيط بنا، وما لنا به من صلة. ونعيد قراءة ذلك بصوت عال جداً. وهناك من يرى بأن هذا الكتاب يتيح قراءة ثالثة، هي تلك التي تجري ما بين السطور، حيث يختلف الشكل والطعم واللهفة، وذلك يتبع الحرفة التي لا يفهمها كل قارئ.

والأهم من كل هذا وذاك هو ان الكتاب يدفع الكاتب الى التفكير بكتابة كتابه الممتنع عن الكتابة. قد ينجح مرة، ويفشل في مرات أخرى، فيأخذ القراء عملاً واحداً من أعماله على سبيل الاعتبار.

وبعد مرور زمن طويل على صدور هذه الرواية وتوالي ترجماتها، فإن الكاتبة ما زالت تعيش وتواجه الأسئلة ذاتها “صحيح أن برهان العسل كان روايتي الأولى، لكنها كُتبت بعد سنوات من العمل في الصحافة الثقافية وكتابة الشعر والقصة القصيرة. لا يزعجني أن يُنسى ما كتبت من قبل ومن بعد. أقول لنفسي إن هناك من يكتب عشرات الروايات من دون أن يجد قارئاً، كتابي وجد قارئه العربي أولاً وهذا ما يهمني. أعيش في فرنسا منذ سنوات طويلة، لكنني أكتب بلغتي العربية وبحُريتي الآتية من تراِثي العربي الاسلامي قبل كل شيء”

المدن

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button