كتاب العام 2021؟/ نجوى بركات
ما هو أنجع، لبدء العام الجديد، من قراءة عمل يناقض المفاهيم السائدة (التي يصعب تكذيبها إذا ما راقبنا الواقع الكارثيّ الذي بلغه العالم) حول عنف الإنسان وطاقاته التدميرية، نزعاته الفردانية والأنانية، ومقدرته على سحق الضعفاء وإحلال الخراب من أجل مزيدٍ من الربح المادي؟ كتاب يُعيد إلينا بعض الأمل بإمكانية بناء عالم أفضل، لا تكون الغلبةُ فيه للأقوى، ولا تكون عبارةُ “حرب الجميع ضد الجميع” هي التوصيف الأكثر بلاغة. مضت 2020 وقد حفلت بالأسوأ، ووضعتِ العالَمَ مجتمِعاً في عين العاصفة، ونبّهتنا إلى أن بإمكان حبّة رملٍ صغيرةٍ أن تعطّل أعقدَ الآلات وأكثرها تقدّماً.
بعد مضيّ 40 عاماً على نشر تشارلز داروين نظرية التطوّر والانتخاب الطبيعي في كتابه “أصل الأنواع”، كتب الأمير بيتر (أو بيوتر) كروبوتكين (1842-1921)، وهو جغرافي روسي كان من أوائل المنظّرين للحركة الفوضوية، مؤلّفَه “التساعد، عنصر من عناصر التطوّر” (1902)، وفيه يناقض الداروينية الاجتماعية القائلة إن تَحَارُب الأنواع والأفراد وغلبة الأقوى هما في أصل التطوّر، رائياً، على العكس من ذلك، أن التضامن والتساعد هما ما أعانا الأنواع على البقاء ومقاومة الاعتداءات الخارجية.
في الجزء الأول، يركّز “الأمير الفوضوي”، بحسب ما كُتب عنه وشاع، اهتمامَه على عالم الحيوان، ذاكراً أمثلة عديدة عن أنواعٍ يتعايش أفرادُها معاً بهدف حماية الأمّهات خلال فترة الولادة، أو الدفاع عن الذات تجاه خصم أكبر وأشرس، لا تستطيع حياله شيئاً لو هاجمها بشكل فردي. أمّا المجتمعات الإنسانية، فهو يؤكد، في الجزء الثاني من كتابه، أن التعاون والتعاضد لطالما كانا من الخصائص التي طبعت المجموعات البشرية التي تشكّلت قبائلَ، أو قرىً، أو أخوياتٍ أو عائلاتٍ، وذلك بغية الحدّ من نشوب نزاعات داخلية، تغليب المصلحة الجماعية على المصلحة الفردية، أو حماية الأفراد من الجوع والأمراض والأخطار الخارجية.
هنا أيضاً، يعطينا كروبوتكين وفرة من الأمثلة تناقض الصورة القاتمة التي شاعت عن حقب معينة، وما زالت شائعة. هكذا نراه يُغفل المراحلَ التاريخية المضيئة، مثل فترة الإغريق والرومان والنهضة، ليركّز على الفترات السلبيّة التي يعتبرها البشر الأقل أخلاقية: البرابرة، قبائل المتوحشين، العصور الوسطى… إلخ، معيداً قراءتها من زاويةٍ مضيئة، مركّزاً على مظاهر التعاون والتآخي بين مختلف المجموعات البشرية، ومشيراً إلى أن الأحداث التاريخية قد دُوّنت من وجهة نظر الأسياد الذين جوّعوا وأخضعوا وقمعوا المدن والقرى الثائرة على ظلمهم. أكثر من هذا، يبدو كروبوتكين معنيّاً أيضاً بعلاقة الإنسان بالطبيعة، داعياً إياه إلى اعتبار مخلوقاتها الحية إخوةً له، ومشيراً إلى ضرورة حمايتها، لأنها مصدر رزقه وقوته، وسبب استمراره. هذا وقد يجد القارئُ الكاتبَ طوباوياً في نظرته إلى الحياة والواقع البشري، نظراً إلى الحقائق والوقائع السلبية التي يتجاهلها، لكنه لن يلبث أن يُدرك أنه، أي الكاتب، قد اختار التركيز على الجوانب الإيجابية المهملة، لكي ينشئ توازناً بينها وبين الجوانب السلبية التي يُشار إليها مراراً وتكراراً. ففي النهاية، ليس الإنسان، بحسبه، كائناً نظامياً يحترم القوانين الدينية أو الدنيوية، أو يتمتع بفضائل، بل هو مخلوقٌ محبٌّ بطبيعته للغير، ولا يمكنه التصرّف بشكل أناني فردي، بما أن ملكة التساعد “موجودة في جيناته” منذ آلاف السنين.
إنّ توق الإنسان العصريّ إلى السلوك فرديّاً وبأنانية مُطلقة على حساب الآخرين وضدّ مصالحهم، متمثّلاً اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً بانتصار رأسماليةٍ متوحّشةٍ تُثري الأثرياءَ وتسحقُ الفقراءَ والمهمّشين، سبّب انهياراتٍ صغيرة ستؤدّي حتماً إلى الانهيار الكبير. هذا ما نُدركُه جميعاً في حياتنا اليوميّة بالنظر إلى ما نشهده من أزماتٍ اقتصادية، وكوارثَ بيئية، وهجراتٍ بشريّةٍ لا تني تبشّرنا بالأسوأ. فهل يعود العالمُ إلى رشده باعتماده قيم التآخي والتعاضد وبتغليب حبّه للغير على كل ما عداه؟
كل عام وأنتم والبشرية بألف خير.
العربي الجديد