ماذا ينتظر سورية في 2021-مقالات مختارة-
ماذا ينتظر سورية في 2021؟/ مروة شبنم أوروج
جعل وباء كورونا عام 2020 عامًا استثنائيًا، حيث أثّر انتشار الفيروس سلبًا في حياة الناس الفردية والمجتمعية، كما أثّر في العالَم والسياسة العالمية، وبات الجميع تقريبًا ينتظرون مرور عام 2020 بفارغ الصبر.
في عام 2020، كانت مناطق الصراعات -وخصوصًا القضية السورية المستمرة منذ عشر سنوات- من أوائل القضايا التي ضعُف ذكرها وقلّ الحديث عنها، بسبب طغيان أخبار وباء كورونا على كل خبر، حيث كان حضور سورية في جدول أعمال العالم أقلّ هذا العام، ويبدو أن المجتمع الدولي الذي قلَّ اهتمامه بسورية لن يعود إلى الاهتمام بها، ما لم يكن هنالك صراع جديد أو موجة لجوء جديدة. إذًا ماذا ينتظر سورية والسوريين في 2021؟
إن الميزانية التي حددها نظام دمشق لعام 2021، وهي تُقدّر بـ 8.5 تريليون ليرة سورية (2.7 مليار دولار)، هي أقل بنسبة 27% قياسًا بالعام الماضي، وهي أقلّ ميزانية يحددها النظام منذ بدء الثورة السورية عام 2011. ويُظهِر التضييق القسري في الإنفاق الحكومي مدى عمق الأزمة الاقتصادية في سورية. وقد قال الخبراء: إن النظام سيتمكن، في عام 2021، من إنفاق ثُلث ما كان ينفقه في عام 2010، على الرغم من أن عدد السكان الذين يعيشون في المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام قد انخفض إلى النصف تقريبًا (انخفض عدد السوريين من 22 مليون نسمة، بحسب إحصاءات عام 2010، إلى 11.7 مليون سوري تقريبًا، وذلك نتيجة التهجير واللجوء إلى بلدان الجوار).
وقد شهدت الليرة السورية انخفاضًا كبيرًا مقابل الدولار، وذلك بسبب العقوبات المفروضة على إيران والدمار الاقتصادي الذي حلّ بلبنان والأزمات المتعلقة بالجائحة، وصولًا إلى قانون قيصر الذي دخل حيّز التنفيذ في حزيران/ يونيو الماضي. حيث إن التأثير الذي أصاب اقتصاد إيران (صديقة النظام السوري)، بسبب العقوبات القاسية التي فرضها الرئيس دونالد ترامب الذي سيسلّم كرسيه لـ جو بايدن، في كانون الثاني/ يناير، قد أثرت سلبًا في اقتصاد دمشق. وكذلك انعكست أزمة المصارف اللبنانية، التي كانت وسيلة الاقتصادي السوري لتفادي العقوبات منذ سنوات، على سورية. أما قانون قيصر، فكان له دور في انسحاب المستثمرين الطامحين للتعاون مع النظام. على سبيل المثال، كانت الإمارات العربية المتحدة تطمح إلى دعم النظام، ردًا على ازدياد نفوذ خصمها تركيا في المنطقة، لكنها لم تستطع تنفيذ طموحها بسبب القانون، إضافة إلى الخلاف الذي حصل بين بشار الأسد وابن خاله رامي مخلوف، وازدياد الضغوط الاقتصادية على دمشق التي تدعمها روسيا منذ سنوات، وكل هذه العوامل جعلت عام 2020 عامًا في غاية الصعوبة، بالنسبة إلى النظام.
لا شك في أن أكبر ضحايا الأزمة الاقتصادية هم الشعب، كما الحال في الحرب الأهلية؛ حيث إن اقتصاد السوريين المقيمين ضمن مناطق النظام، ويقدّر عددهم بـ 6.5 مليون تقريبًا، قد انخفض بنسبة 80%، وهذا ما جعلهم في مستوى الفقر الشديد. وقد أصبح الحصول على الطعام ووسائل التدفئة والخبز أمرًا صعبًا جدًا، ومع ذلك، لم يكن أي من هذا كافيًا لـ “تراجع” نظام الأسد، كما كان متوقعًا.
من ناحية أخرى، ووفقًا للبيانات التي تشاركها منظمات الإغاثة، أصبح من الصعب للغاية إيصال المساعدات الإنسانية إلى ملايين السوريين المحتاجين في عام 2020، حيث إن جميع المساعدات القادمة من الخارج، باستثناء المساعدات التركية للشمال السوري، أصبحت مرغمةً على العبور من دمشق، وهذا يجعل الجميع يتساءل: هل تصل هذه المساعدات إلى أهلها أم لا؟
من ناحية أخرى، يمكننا أن نتوقع أن التغيير الرئاسي في الولايات المتحدة لا يعِدُ بتغيير في سورية لعام 2021، باستثناء زيادة الدعم المقدم لـ YPG، الذراع السوري لـ PKK، الذي يستخدم اسم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شمال سورية. إن العملية العسكرية التركية التي بدأتها شرق الفرات عام 2019 وأطلقت عليها اسم “نبع السلام”، كانت السبب وراء سحب ترامب جزءًا من القوات الأميركية إلى بلاده، وانسحاب قوات YPG الموجودة على خط انتشار القوات الأميركية نحو الجنوب، كما كانت السبب في تقرّب YPG من قوات النظام وروسيا، في بعض المناطق. ومما لا شك فيه أن جو بايدن، وهو المعروف بأنه أحد أكثر شخصيات إدارة أوباما التي كانت تنظر بإيجابية إلى دعم تنظيم إرهابي في سبيل محاربة تنظيم (داعش) الإرهابي، سيسعى للضغط على تركيا من جهة، وسيتخذ خطوات من شأنها تعزيز قوة YPG من جهة أخرى، وإن مساعي الولايات المتحدة وفرنسا في دمج YPG مع باقي المجموعات الكردية ستستمر هذا العام أيضًا. من ناحية أخرى، من الممكن أن تزيد الإدارة الأميركية الجديدة الضغوط، في سياق ترك عناصر PKK غير السوريين المنطقة، وذلك لتظهر انفصال (قسد) عن PKK الذي يشكل تهديدًا وجوديًا على تركيا.
لن تتردد إدارة بايدن في قول: “نحن هناك لحماية الأكراد”، من خلال مواصلة جهود عهد أوباما لتصوير YPG على أنها الممثل الشرعي للأكراد السوريين، على عكس قول ترامب: “سنبقى هناك لحماية النفط في سورية”. لكن هل ستصل الأمور إلى أنْ تتهم واشنطن تركيا بشكل مباشر؟! سننتظر حتى نرى. ولكن من المؤكد أننا سنسمع الحجة بأن تنظيم (داعش) الإرهابي لمّا يُقضى عليه بالكامل. وفي الوقت نفسه، يمكننا توقع أن إدارة بايدن ستظهر مسامحة أكثر لإيران، قياسًا بإدارة ترامب. في حال أعادت الولايات المتحدة الاتفاق النووي الإيراني، ستكسب إيران مساحة لزيادة أنشطتها التوسعية في سورية، على الرغم من أنها فقدت صانع ألعابها قاسم سليماني.
في سورية، حيث أجريت الانتخابات البرلمانية التي احتجّت عليها المعارضة في 2020، ستجرى الانتخابات الرئاسية من جديد في ربيع 2021. في هذا السياق، تتجه الأنظار مرة أخرى إلى أعمال اللجنة الدستورية السورية التي ترعاها الأمم المتحدة. لكن يستحيل استكمال العمل الدستوري قبل الانتخابات الرئاسية، خاصة أن اللجنة الدستورية أجرت اجتماعين فقط في 2020، ومن المعروف أن النظام يبذل قصارى جهده لتأخير وتخريب هذا العمل. واللجنة التي من المتوقع أن تجتمع مرة أخرى، في كانون الثاني/ يناير المقبل، لها أهمية كبيرة على المدى الطويل، من حيث تحقيق الحل السياسي المأمول في سورية، ومع ذلك، من غير المرجح أن تحدّث عملية الانتقال المأمولة عام 2021. بصرف النظر عن السؤال عن مدى إمكانية مشاركة المعارضة في الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في سورية التي نزح أكثر من نصف سكانها، لا أحد يعتقد بالطبع أن هذه الانتخابات ستكون نزيهة وشفافة. لهذا السبب، لن نخطئ إذا قلنا إن بشار الأسد سيواصل الجلوس في الكرسي، ما لم تشعر روسيا بالملل من عائلة الأسد وتجد بديلًا عنها.
إدلب، هو عنوان آخر مهم في سورية، حيث شنّ النظام وروسيا هجمات على آخر معاقل المعارضة، في منطقة تجمع 4 مليون مدني في 2020، ولكن تركيا أفشلتها. كان تلك الفترة أول اشتباك مباشر بين النظام وتركيا. إن شدة المعارك وتقدم النظام وكثرة الضحايا وموجة النزوح التي وصلت إلى الحدود التركية، جعلت الرئيس رجب طيب أردوغان يقيم محادثات مع الرئيس الروسي بوتين في سوتشي، تم من خلالها إيقاف الحملة على إدلب. ومن المعروف للجميع أن الوضع الراهن لن يكون دائمًا، إلا أن العديد من العوامل، ومنها تفشي وباء كورونا، حالت دون إعادة اشتعال فتيل الحرب في هذه المنطقة حتى الآن.
يحتاج النظام إلى الضوء الأخضر من روسيا، لإعادة شن هجمات على إدلب. أما تركيا فإنها مستمرة في إرسال التعزيزات العسكرية، بالرغم من خسارة المعارضة بعض المساحات في فترة الاشتباكات في 2020. حتى لو أرادت روسيا بطريقة ما أن يستولي النظام على الطريق السريع M4، بين اللاذقية وحلب، فلن تكون في عجلة من أمرها في هذه المرحلة. في الواقع لن تسمح موسكو بإنشاء نقطة ساخنة جديدة، بسبب وجود روسيا وتركيا على خطوط التماس في مناطق مختلفة. إن روسيا التي لها غايات أكبر، مثل التقرب من تركيا العضو في الناتو وتعطيل التوازن داخل الحلف، لن ترغب في خسارة تركيا التي تُركت وحيدة في سورية وهي تريد إيجاد حل فيها. لذلك، نستطيع القول إن التطورات في إدلب مرتبطة بعلاقة الولايات المتحدة مع حليفتها في الناتو تركيا.
ترجمة فارس جاسم
مركز حرمون
—————————–
سوريا 2020… بين أسماء الأسد ورامي مخلوف/ خيرالله خيرالله
من “الصراع على سوريا” عنوان كتاب البريطاني باتريك سيل في منتصف ستينات القرن الماضي إلى كتاب “الصراع على السلطة في سوريا” للهولندي نيكولاس فان دام في سبعينات ذلك القرن، كانت هناك عودة في السنة 2020 إلى مزيج من الصراعين. ثمة صراع على سوريا وثمّة صراع على السلطة في سوريا في الوقت ذاته في هذه المرحلة. ثمّة ما هو أبعد من ذلك. ثمّة أسئلة مرتبطة بمصير سوريا التي عرفناها والتي صارت تحت خمسة احتلالات: الإيراني والروسي والتركي والأميركي والإسرائيلي…
جاءت تلك العودة إلى الصراعين بعد نصف قرن على قيام النظام السوري الحالي الذي لم يعد من مجال للشكّ في أنّه كان منذ بدايته نظاما عائليا قبل أي شيء آخر. في السنة 2020، بقي النظام عائليا، لكنّ تغييرا أساسيا طرأ على تركيبته في ظل صعود نجم أسماء الأخرس الأسد، زوجة بشّار الأسد، وأفول نجم رامي محمّد مخلوف. من نظام الأسد – مخلوف، الذي دام طويلا، إلى نظام الأسد – الأخرس الذي انتهى قبل أن يبدأ في بلد يغيب فيه الحد الأدنى من الوعي لما آلت إليه سوريا في ظلّ التجاذبات الدولية والإقليمية.
لم يستمر صعود نجم أسماء ابنة العائلة السنّية (من حمص) طويلا. جاءت العقوبات الأميركية على والدها ووالدتها وشقيقيها فراس وإيّاد لتؤكّد أن الإدارة الأميركية مصرّة على التغيير في سوريا وأن الأمر لم يعد مرتبطا بإدارة دونالد ترامب، بل يتعدّى ذلك نظرا إلى أن اللاعب الأساسي في هذا المضمار هو الكونغرس بمجلسيه (مجلس الشيوخ ومجلس النواب) حيث يحظى التغيير الجذري في سوريا بتأييد كبير من الشيوخ والنواب الديمقراطيين والجمهوريين على حدّ سواء.
كان لا بدّ من انتظار وفاة محمّد مخلوف قبل ثلاثة أشهر لاكتشاف أنّ الرجل كان ابن خالة حافظ الأسد وأن شقيقته أنيسة زوجة الرئيس السوري الراحل لم تكن من طبقة اجتماعية مختلفة. كلّ ما روّج له النظام طوال نصف قرن عن دور محمّد مخلوف في تسهيل زواج أخته من حافظ الأسد كان غير صحيح. كلّ ما في الأمر أنّه كان هناك، منذ البداية، توزيع للأدوار بين الأسد الأب وابن خالته الذي وضع يده على الاقتصاد السوري بغطاء منه وذلك من أجل السيطرة على الطائفة العلوية وتطويعها عن طريق صناديق مالية خاصة.
أسس حافظ الأسد للنظام القائم إلى الآن. كان ذلك في 16 تشرين الثاني – نوفمبر من العام 1970. انقلب حافظ الأسد، وزير الدفاع منذ العام 1966 والذي احتلت إسرائيل الجولان خلال توليه هذا الموقع في حزيران – يونيو 1967، في ظروف أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها غامضة، على رفاقه البعثيين والعلويين. تفرّد بحكم سوريا بعد وضعه العلوي الآخر صلاح جديد في السجن مع السنّيين نورالدين الأتاسي ويوسف زعيّن وآخرين. ما لبث أن تخلّص من الضابط العلوي الكبير الآخر محمّد عمران عندما أرسل من يغتاله في طرابلس، عاصمة الشمال اللبناني في العام 1972. كلّف ذلك تحوّل رئيس الوزراء اللبناني وقتذاك صائب سلام إلى شخص غير مرغوب به في سوريا بسبب إصراره على التحقيق في جريمة اغتيال محمّد عمران…
عقوبات واشنطن على عائلة أسماء الأسد جاءت لتثبت أنّ التغيير في سوريا سياسة أميركية عقوبات واشنطن على عائلة أسماء الأسد جاءت لتثبت أنّ التغيير في سوريا سياسة أميركية
يمكن وصف ما حصل في 2020 بتطور في غاية الأهمّية، بل بمنعطف، على الصعيد السوري وذلك بعد أقل بقليل من عشر سنوات على اندلاع الثورة الشعبية في آذار – مارس من العام 2011. ففي ظلّ الصراع الإقليمي والدولي على سوريا، تغيّرت طبيعة الصراع الدائر داخل العائلة الحاكمة. خرج رامي محمد مخلوف الذي ورث الدور الذي كان يلعبه والده وحلت مكانه أسماء الأخرس الأسد المرأة التي تمتلك شبقا ليس بعده شبق إلى السلطة والنفوذ المالي.
استطاعت أسماء في 2020 تدمير إمبراطورية آل مخلوف الاقتصادية والاجتماعية والطائفية والسيطرة عليها بالكامل وتفتيت ما بقي منها لمصلحة مشروع خاص بها. بذلك صارت العائلات العلوية ولقمة عيشها وخبزها اليومي تحت رحمة مؤسسات “الأمانة السورية للتنمية” التابعة مباشرة لأسماء الأخرس بعد أن كانت تحت سيطرة آل مخلوف منذ سبعينات القرن الماضي حين سمح حافظ الأسد لمحمد مخلوف بالسيطرة على الاقتصاد السوري واستخدام هذا المال للسيطرة على أبناء الطائفة العلوية وتطويعهم وتحويلهم إلى عبيد للعائلة الحاكمة. كذلك، استطاعت أسماء تحويل نفسها إلى ركيزة أساسية في معادلة اقتصاد الحرب السورية لضمان ديمومة النظام الأسدي.
تأمل أسماء بنقل السلطة إلى ابنها حافظ الصغير. باتت تسيطر اليوم على 70 في المئة من اقتصاد القطاع العام السوري عبر ما يسمى “صندوق شهداء وجرحى الجيش العربي السوري”. تشارك أسماء أيضا بطريقة مباشرة في الاقتصاد السوري الخاص. كذلك، تسيطر أسماء على موارد المؤسسات الدولية الإنسانية ومنظمات الأمم المتحدة العاملة في سوريا عبر تحكّمها بوزارة الشؤون الاجتماعية ومنظمة الهلال الأحمر السوري وإجبار كلّ المؤسسات الدولية العاملة في سوريا على العمل حصرا عبر هاتين الجهتين الخاضعتين لها مئة في المئة.
تركت أسماء الاقتصاد “القذر” لماهر الأسد وحيّدته في المواجهة الناجحة التي خاضتها مع رامي مخلوف ومجموعته. إضافة إلى ذلك، استطاعت فرض سيطرة أقارب مباشرين لها على قطاعات اقتصادية معيّنة.
لم يكن في حسابات أسماء الأخرس الأسد أنّه سيأتي يوم تستهدف فيه عائلتها بعقوبات “قانون قيصر” الأميركي. كانت تظن أن الجنسيات البريطانية والدور “السياسي الخفي”، الذي ظن والدها الدكتور فواز الأخرس أنه يلعبه، سيوفّر لهم حماية من العقوبات الأميركية التي سبق أن طالتها شخصيا كما طالت ابنها الأكبر الذي مازالت تحلم بتوريثه الرئاسة.
أثبتت العقوبات أن وضع العائلة على لائحة العقوبات الأميركية جاء بتنسيق كامل بين واشنطن ولندن. أكثر من ذلك، جاءت العقوبات لتثبت أنّ التغيير في سوريا سياسة أميركية بغض النظر عن الشخص الموجود في البيت الأبيض، أكان دونالد ترامب أو جو بايدن.
إعلامي لبناني
العرب
———————————-
النظام السوري في «فلسفته» للمقاومة/ حازم صاغية
قبل أيام قليلة، ليل الخميس – الجمعة تحديداً، أصيب اللبنانيون مجدداً بالهلع، لقد سُمعت أصوات صواريخ أُطلقت من جهة البحر الأبيض المتوسط فوق بيروت، ثم انعطفت شمالاً، مستهدفةً منطقة مصياف في محافظة حماة السورية. الحدث ليس جديداً. الخوف ليس جديداً.
ليس جديداً أيضاً أن تصيب الصواريخ الإسرائيلية أهدافها في سوريا. ليس جديداً كذلك أن تعلن دمشق أنها تصدت وأسقطت وكبدت العدو الخسائر…
الحوادث التي من هذا النوع باتت مألوفة. إنها تتكرر بأسماء وعناوين وتفاصيل أخرى منذ الستينات، وهي ذات «فلسفة» بسيطة؛ استخدام لبنان لمقاومة إسرائيل واستخدام إسرائيل للبنان في ردها على تلك المقاومة.
المدهش في ذلك أمران؛ أن المقاوم، أكان فلسطينياً في الستينات أم لبنانياً – إيرانياً – سورياً بعد ذلك، لا يطمح بتحقيق انتصار، ولا بتحقيق تكافؤ، ولا بمنع عدوان محتمل. إنه يعلم أن هذا ليس في الوارد تبعاً لتوازن قوى عسكري حاسم، الاختلال لمصلحة العدوانية الإسرائيلية. المقاوم هذا قد يقول عكس ذلك، لكن قوله لا يلغي معرفته العميقة بذلك. يكذب ويعرف أنه يكذب.
الأمر الثاني أن المقاوم إياه لا يستوقفه الأذى الذي يُنزله به عدوه، من دون أن يكون هناك أي أفق لمعركته وأي أمل في أي مكسب سياسي يُجنى منها. وإذا كان مفهوماً ألا يعنيه الأذى الذي ينزل بلبنان، فإن الأذى الذي ينزل به، هو نفسه، لا يعنيه أيضاً.
التفسير الذي لا يُراد الإقرار به بسيط؛ إن مجرد خوض حرب، أو مواجهة، من لبنان (أو الأردن أو مصر أو سوريا…) ينم عن ضعف تكويني في فكرة المقاومة؛ القتال من أرض ثالثة. ولكي تصبح الأرض الثالثة صالحة لأن تدر الأرباح ينبغي إنجاز أهداف خرافية؛ أن نغدو كلنا واحداً، لا تُميزُ بيننا الفوارق في الجنسية والدين والطائفة والمذهب والطبقة والحساسية والثقافة، نتفق جميعاً على أننا نريد مقاتلة العدو، وعلى أننا جميعاً مستعدون لتقديم كل التضحيات، الممكنة وغير الممكنة، لهذا الغرض. أي أن يغدو ملايين العرب في البلدان المحيطة بإسرائيل كائنات شعرية.
الواقع الصارم كان بالمرصاد للقصائد؛ انفجرت حربان أهليتان في الأردن ولبنان، ودفعت الأكلافُ الباهظة للحروب كلاً من مصر والأردن إلى الخروج منها. أما منظمة التحرير الفلسطينية فهي أيضاً حسمت، أقله منذ أوائل التسعينات، بأن السياسة ربما كانت أجدى من الحرب في نيل الحقوق.
هذه اللوحة الإجمالية التي تدل إلى واحد من معوقات المقاومة، اخترقها استثناءان نسبيان:
عهد حافظ الأسد: صحيح أنه كان يخوض حرباً مستحيلة بغيره، يتلقى فيها الصفعات والإهانات. لكنه، بعلاقاته العربية والدولية وبجيشه في لبنان وباستغلاله الغيابين المصري (بسبب كامب ديفيد) والعراقي (بسبب الحرب مع إيران)، استطاع أن يقايض ويبيع ويشتري، فكان يحقق، بين الفينة والأخرى، هذا المكسب العابر أو ذاك.
أما إيران فصحيح أن السياسات التي تتبعها، بما فيها خوضها حرباً مستحيلة بغيرها، عادت عليها بالإنهاك والإفقار والإهانات المتتالية وآخرها اغتيال كبير قادتها العسكريين وكبير علمائها. لكن الصحيح أيضاً أنها فرضت نفسها طرفاً إقليمياً ذا أطماع ونفوذ في 4 بلدان عربية على الأقل. إنها اليوم تخوض رهاناً صعباً على أن يعوضها جو بايدن ما انتزعه منها دونالد ترمب.
الكارثة الصافية هي حالة النظام السوري في سنوات بشار؛ حيث يصل انعدام مردود المقاومة إلى الذروة. مجرد البقاء على قيد الحياة هو المطلب الواحد الوحيد. المقاومة والصمود يستدرجانه إلى مواجهات لم تعد تقتصر على لبنان والفلسطينيين، ولا سيما وقد أُخرجت قواته من لبنان. لقد صار هو نفسه معنياً على نحو مباشر لأنه يُضرَب في أرضه، وبالتالي صار مُهاناً على نحو مباشر. في المقابل، ليس قادراً بالمطلق على الاستثمار في شيء أو الاستفادة من شيء أو التعويل على شيء. حمايته تضمنها له روسيا وإيران و«حزب الله»، أما إسرائيل فلا يُستبعَد أن تعلن الجنوب السوري منطقة نفوذ لها.
بلغة أخرى، نحن أمام نظام عديم القدرات، ومن ثم عديم الأهداف. لأجل البقاء المحض يبقى مستعداً للتضحية بكل شيء، من أرض سوريا وكرامتها وشعبها. كل شيء مقابل لا شيء.
في هذه الحالة، لا تشبه سوريا إيران، لكنها أيضاً لا تشبه ذاتها في عهد حافظ الأسد. إنها أقرب ما تكون إلى قطاع غزة في ظل «حماس»: استدراج العدوانية الإسرائيلية، والباقي على الله. ونظامٌ يستعمر أرضه، ويهجر شعبه، هو وحده الذي يضحي بهما على هذا النحو في سبيل بقائه.
لقد طالب دائماً بعض اللبنانيين بتجنيب لبنان هذه المقاومة حرصاً على بلدهم. الحرص على سوريا صار اليوم سبباً آخر لهذه المطالبة.
الشرق الأوسط
—————————-
هل يبدل المتدخلون سياساتهم في سوريا؟/ فايز سارة
يبين الوضع الميداني في سوريا أن البلاد خاضعة لثلاث من سلطات الأمر الواقع؛ أولاها تسيطر في معظم القسم الغربي من البلاد، يديرها في الظاهر نظام بشار الأسد، وفي الواقع فإنها تحت سلطة مختلطة من ثلاثة أطراف، تضم إيران وروسيا والنظام. والثانية تمتد في شرق الفرات شاملة أغلب الجزيرة السورية، وتحكمها ظاهراً قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، لكنها خاضعة لنفوذ الولايات المتحدة. والثالثة، تضم القسم الأساسي من محافظة إدلب، وتشمل مناطق من أرياف محافظات مجاورة منها حلب واللاذقية. وإذا كانت السيطرة الرئيسية فيها للأتراك بمشاركة جماعات مسلحة، فإن «هيئة تحرير الشام» هي الشريك الأهم للأتراك في السيطرة على المنطقة.
وكما هو واضح في صورة السيطرة العملية، فإن اللاعبين السوريين من نظام ومعارضة وقوى متطرفة، لا يملكون إلا تأثيرات هامشية في الحدث السوري، واحتمالاته الكبرى من طراز اختيارهم مسار الحل سواء كان الحل عسكرياً أو سياسياً. وعلى سبيل المثال، فإن أي قرار للنظام في هذين الأمرين، لا بد أن يحوز موافقة حلفائه الروس والإيرانيين؛ إذ لا يستطيع وحده اليوم، أن يقرر وينفذ الاستمرار في الحل العسكري الذي اختاره في عام 2011 ردأ على ثورة السوريين.
ووجود السوريين في هوامش التأثير على الحدث، لا يعني أنه لا مكان لهم، بل هم أوراق في جملة الأوراق التي يحملها المتدخلون في القضية السورية، سواء كانوا أوراقاً مكشوفة كما حال نظام الأسد بالنسبة لكل من إيران وروسيا، أو أوراقاً مستورة، كما قوات سوريا الديمقراطية في شرق الفرات بالنسبة للولايات المتحدة، أو خليطاً بين حالتين على نحو ما هي عليه التشكيلات المسلحة («الجيش الوطني» و«هيئة تحرير الشام») في منطقة النفوذ التركي، ولهذا فإن كل واحد منهم يسعى للإبقاء على ورقته السورية جاهزة أمام كل الاحتمالات.
وإضافة إلى روسيا وإيران، وتركيا والولايات المتحدة (الأربعة الكبار المتدخلين في سوريا)، فإن الأوروبيين في ثلاثتهم الكبار بريطانيا وفرنسا وألمانيا محسوبون بين المتدخلين.
وإذا كانت أغلب الأطراف، اصطدمت بالتراخي وبالانكفاء الأميركي أحياناً، فأصيبت بحالة استعصاء وإحباط، خلاصته أنها لا تستطيع فرض حل، ولا التخلي عن دورها، وترك الملف لآخرين، لا يمكن القبول بحلولهم، وهو أمر ينطبق على الأوروبيين بشكل خاص الذين ربطوا ومنذ أواخر عام 2013 موقفهم على مضض بالموقف الأميركي الذي خطه أوباما، ومضى قريباً منه خليفته ترمب، رغم ما بين الرجلين من اختلافات كثيرة.
وفي واقع الحال، فإن الأمور يمكن أن تستمر في سوريا على ما هي عليه، لولا حدث رئيسي يلقي بظلاله على مجموعة المتدخلين وذات الصلة المباشرة بالقضية السورية، وهو مجيء جو بايدن إلى الرئاسة الأميركية، بما يمثله من اختلاف في السياسات عن سابقيه الأخيرين سواء أوباما الذي شاركه بمنصب نائب الرئيس، أو ترمب الذي عارضه في كل شيء، وكلاهما يدفع بايدن جدياً نحو سياسة مختلفة، تراوح بين العصا والجزرة بغية تأكيد الحضور والدور الأميركي في الشرق الأوسط وفي الموضوع السوري منه، حسبما يبدو في تصريحاته وتأكيدات مرشحين في فريقه، وشبه إجماع من محللين في وصف سياسة بايدن المقبلة.وإذا مضت سياسة بايدن في هذا الاتجاه، فإنها ستجد ارتياحاً أوروبياً مؤكداً، وقوة نشطة لدعمه، ليس لأنها، ستضع حداً للارتباكات الأوروبية، وتجعل الأوروبيين أقدر في التعامل مع تداعيات الوضع السوري، التي تزداد خطورتها في ظل الانسداد الحالي متزامنة مع تجديد الأسد رئاسة لفترة مقبلة أواسط عام 2021 وتصاعد الأزمة الاقتصادية والمعيشية، وما تتركه على أوروبا من أثر في ثلاثة موضوعات؛ الهجرة والإرهاب والمساعدات في وقت تواجه فيه أوروبا «كورونا» وتداعياته، خصوصاً ما تعلق منها بالتداعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ولن تكون أوروبا وحيدة في ترحيبها بمتغيرات سياسة بايدن الشرق أوسطية، بل سيكون على هذا الخط ولأسباب متداخلة العدد الأكبر من دول المنطقة؛ خصوصاً دول الخليج العربية ومصر، التي من مصلحتها المباشرة الربط الأميركي بين التشدد في مواجهة إيران ومشروعها النووي وسياساتها الإقليمية، القائمة على تمددها سواء عبر قواتها المسلحة وحرسها الثوري وميليشياتها كما في سوريا، أو عبر ميليشيات مسلحة وجماعات سياسية مرتبطة بطهران كما في لبنان والعراق واليمن وأماكن أخرى، وسيكون للأتراك فرصة للتخفيف من الضغوطات الروسية عليهم بما سيكون لهم من قدرة على مناورة مع شركائهم في حلف شمال الأطلسي، الذي تعرضت مشاركة تركيا فيه إلى هزات كثيرة بسبب سياسة الانكفاء الأميركية.
وبطبيعة الحال، فإن روسيا ووسط خلاصات وجودها وسياساتها في سوريا للخمس سنوات الماضية من حيث فشلها في تحقيق رؤيتها للحل السوري في سوتشي وآستانة، ووسط تحمل عبء شراكتها المربكة مع الإيرانيين في سوريا، وتحملها أعباء اللاسياسة التي يتابعها نظام الأسد في كل الاتجاهات، صارت أقرب إلى تفاعل إيجابي مع سياسات دولية، إذا كانت الأخيرة، تكفل حفظ المصالح الأساسية لروسيا في سوريا.
ووسط المجموعة الدولية – الإقليمية، فإن إسرائيل أكثر الأطراف الإقليمية قرباً من سياسة أميركا في ظل بايدن، ليس نتيجة العلاقات التقليدية الإسرائيلية – الأميركية، بل أيضاً بحكم تقاطعات الموقف من إيران ووجودها في سوريا، التي يخوض الإسرائيليون عليها حرباً متقطعة، تواصلت عملياتها الجوية والصاروخية في العامين الماضيين، وشملت أهدافاً عسكرية إيرانية ومواقع «حزب الله» اللبناني، امتنع الطرفان عن الرد عليها، واكتفى نظام الأسد باحتجاجات لدى الأمم المتحدة من دون أن تترك احتجاجاته أي صدى.
ومما لا شك فيه، أن إمساك جو بايدن القريب بزمام السلطة في واشنطن، وما أعلنه وفريقه من سياسات، يتبناها ويعمل عليها في الشرق الأوسط، يؤشر إلى تغييرات مهمة في منطقة تعاني من انسدادات ومشاكل باتت مزمنة، وهذا سيدفع إن لم يكن كل الأطراف ذات الصلة بالمنطقة فأغلبها إلى إعادة تقليب أوراقها وسياساتها، ولن يكون من الصعب إجراء تغييرات في الاثنتين، إذا باشرت واشنطن سياساتها الجديدة بصورة نشطة وفاعلة، لكن سياسات تلك الأطراف ستظل محاطة بالحذر، بفعل التجربة المرة لإدارة أوباما وترمب، التي كان شعارها: «أميركا أولاً».
الشرق الأوسط
———————————–
لا حل ولا تسوية زوايا/ ميشيل كيلو
بعد وصول موازين القوى إلى درجة معينة تحتم وجود رابح وخاسر في أي صراع، يرفض المنتصر التوصل إلى حل سياسي، ويفضّل الذهاب إلى تسويةٍ مع خصومه، بما أن الحل يتعيّن بثوابت سياسية وحقوقية تتنافي مع التسوية التي تتعيّن بموازين القوى، وبأرجحية كفّة المنتصر على المهزوم الذي لا يبقى أمامه غير العمل لبلوغ تسوية، لا يهزم فيها.
يقول هذا التعريف الأولى لمآلات الصراع السوري إن ما ينتظرنا لن يكون حلا سياسيا يتعين بمقومات وثوابت ثورة الحرية والوطنية السورية، بل سيكون تسويةً لصالح الأسد، تترك لنا خيارا لا خيار غيره: ألا نرى فيها نهاية الصراع مع الاستبداد، بل حالةً مؤقتةً نعمل لتغييرها منذ اليوم: عبر إعادة نظر جدّية في وضعنا الذاتي، تحول بين روسيا والتعامل معنا كمهزومين، سواء بقوة الغلبة العسكرية أو رغبة موسكو في استعمار سورية، وتقنع واشنطن بالتخلي عن موقفها السلبي من حل القرارات الدولية السياسي الذي يعترف بحق الشعب السوري في بناء نظام ديمقراطيٍّ بديلٍ للأسدية، وتبدأ باستخدام ما لديها من وسائل كفيلةٍ بدفع روسيا إلى التخلي عن الأسد. هذا الخيار، الذي أقترحه، يراهن على خروج المعارضة من ضعفها وعجزها، وقيامها بدورٍ يقنع الآخرين بربط مصالحهم بحلٍّ سياسي لصالح السوريين.
باستحالة الحل السياسي، وبالتسوية احتمالا يكرّس هزيمتنا بقوة موسكو العسكرية، وتعطّله واشنطن لحساباتٍ لا تدور حول حقوقنا، مصالحنا، يدخل الوضع السوري في حالةٍ من الجمود، يرجّح أن تستمر ريثما يتفق المتصارعون الإقليميون والدوليون على تفاهمٍ يبقي لهم الحصص السورية التي توزّعوها فيما بينهم خلال الصراع، ويعني حصولهم عليها قبل الحل والتسوية ما نعيشه من ركود واستمرار لما صار مأساة قرننا، وسط ما يسود الساحة من توازناتٍ غير متعادلة بين واشنطن وبقية المتدخلين الذين يعملون لحماية حصصهم، وتحسين شروط الصفقات القادمة حولها، والتي لن يكون للأسدية والمعارضة كلمة فيها.
إذا كان الحل السياسي قد عطّلته سياساتٌ دوليةٌ رفضت تطبيق قراراتها، وكانت التسوية معطلة أميركيا، وكانت روسيا عاجزة عن تغيير هذا الواقع الذي تعتبر المعارضة أضعف أطرافه، فإن العطالة القائمة التي يرجّح أن تستمر فترة غير قصيرة، تملي علينا الإفادة من الوقت الضائع لتحسين شروط التسوية، عبر إعادة نظر حاسمة في وضعنا الذاتي الذي يجب أن يمكّننا من الحصول على حصةٍ من وطننا، بقدرات شعبنا وتعاوننا مع الآخرين، ورفع مصالحنا إلى مستوى تتوافق فيه مع مصالحهم، وصولا إلى تحولنا إلى طرفٍ يمكنه بلوغ تسويةٍ متوازنة، تقبل التطوير إلى حل سياسي ديمقراطي بما ستطوّره قواه السياسية المختلفة من توافقٍ يتيح لها بلورة خطط مشتركة، تبلغ بواسطتها حلا تدريجيا يقرّر مصير شعبنا، انطلاقا من مصيره الوطني الجامع.
قد تبدو هذه المهمة صعبة التحقيق، لكن الصراع الذي سيدور بشأن نمط التسوية السياسية، وحتمية أن يكون لنا إسهام وازن فيه، يفرض علينا القيام بجهودٍ يضبطها تطوّر توجهه خطط مدروسة وتفصيلية، نبلغ بواسطتها تدريجيا ما كنا نريد تحقيقه بخطوةٍ واحدة، وآن لنا أن نقتنع أنها غدت مستحيلة، وأن تحسين شروط التسوية وعائدها هو المتاح لنا اليوم، الذي سيُخرجنا من عطالةٍ مديدةٍ لعب وهم الانتصار بخطوة واحدة دورا كبيرا في ما ألحقته بنا من كوارث.
ليس انخراطنا في صراع جدّي حول التسوية المنتظرة غير البديل الوحيد الذي يجعله استعصاء التفاهم الدولي حول بلادنا، الحل الذي تُمليه علاقات المتحاصصين، ورغبتهم في المحافظة، بأي ثمن، على حصصهم، من دون صراع يبدّلها أو يهدّدها، فنخرج نحن، عندئذ، صفر اليدين من الصراع على وطننا، كأننا لم نكن طرفا فيه، أو لم يدفع مواطنونا ثمنا يفوق الخيال لانخراطهم فيه.
العربي الجديد
————————————–
سوريا 2020… في كوارثها هي العالم/ علي سفر
رغم أن القضية السورية كانت تتراجع، ولسنوات خلت، عن الواجهة في سياق الأحداث، إلا أن تحولها إلى قضية شبه ثانوية بات مبرماً، مع غرق الكوكب كله في أزمة وباء كورونا. هنا، لا يمكن تجاهل مشاعر السوريين، وهم يرون دول العالم الذي أهمل قضيتهم، وتجاهل وجود نظام قاتل يفتك بهم، تعاني أزمة خانقة كهذه. ففكرة العدالة التي طمح لها السوريون، وثار حولها الجدل قبل أيام هل هي انتقالية أم تصالحية، باتت أعمق من مجرد جُملة مسطّرة في نص قانوني. إنها شعور المنكوبين والضحايا بالتساوي مع الآخرين، في اعتبارهم أصحاب حق، وتساوي العقاب الذي يفترض أن يقع على المجرمين والقتلة. لهذا كان المرء يلمح المشاعر المختلطة بين الفجائعية والشماتة، وتعميم الأذى.
فالوباء وجد أشباهه، في الأسد ونظامه، وكل من يقومون بأفعال مثل أفعاله، كما أن سوريا وبشكل فعلي، بمآسيها وتناقضاتها، وحضور الجميع في صراعاتها، باتت كناية عن العالم كله، في استعادة غريبة لعنوان رواية هاني الراهب “بلد واحد هو العالم”!
وبأي حال من الأحوال، لا يمكن التعامل مع نهاية العام 2020 في الحالة السورية بشكل إفرادي، كما كان يتم ذلك، في الرصد الذي يجري عادة في مثل هذه الأوقات على صفحات الجرائد والمواقع الإلكترونية. نهاية 2020 تعني بالنسبة للسوريين نهاية العقد الأول من مأساة كبرى لم يشهدوا مثلها، لا هم ولا آباؤهم ولا حتى أجدادهم. والمفارقة أن الأقلام، قبل سنتين أو ثلاث، كانت تمضي لتقارن بين المشهد السوري آنذاك وبين سنوات الحرب الكبرى بين العامين 1914 و1918، وذلك لجهة كارثة الجوع تحت حصار النظام، وقتامة الحرب بما تضمنته من كوارث على المستوى الإنساني. وبالتأكيد كلُ مقارنة تحتوي في ثناياها سعياً من صاحبها لافتراض وقوع نهاية الحدث الراهن، كما انتهى الحدث المقارن به، الذي جرى في الماضي، لكن ذلك الإحساس المأمول به لم يحدث، وبات على المرء أن يُجر بحبال الوقت الذي يكبله، إلى تداعي الوقائع التي لم تنته، ولا يبدو أنها ستنتهي ضمن الأفق المنظور!
فسوريا الراهنة وفي العام 2020 باتت عنواناً لأبشع حياة يمكن أن يعيشها قومٌ على وجه البسيطة، ففي فصل الانقسام؛ لم يحدث أن انشطر شعب كان يعيش لعقود في إطار يجمعه مثلما انقسم السوريون، في نواحي الصراعات القائمة، التي باتت طبقاتٍ متراكمة. تبدأ بالانقسام بين تأييد نظام الاستبداد وبين معارضته، وتمر بالانقسامات الطائفية التي تندرج ضمن تفاصيل الصراع، وتلك التعارضات القومية، وأيضاً الطبقية التي باتت أوضح من أن يتم تجاهلها، مع تسيد طبقة أمراء الحرب في المشهدين المتقابلين أي مشهد النظام ومشهد المعارضة!
أيضاً، لا يمكن تجاهل الانقسام بين السوريين الذين انتهى بهم الحال ليعيشوا خارج مناطق سيطرة النظام، وصولاً إلى المنافي، وبين أولئك الذين يعيشون في الداخل!
وبالضرورة، فقد أفضت سلسلة المآسي غير المنتهية إلى انقسام ثقافي واضح، عابر للمتاريس والتخندقات، بين فئتين من السوريين:
الأولى، وهي التي مازالت مصابة بمرض الإنكار، لم تر في ما حدث خلال العقد الماضي سوى الأفكار الأولى التي خلفتها صدمة الثورة/المؤامرة، وفي ميكانيزمات تفكير هذه الفئة، يقوم الصراع في سوريا بين مجموعتين تتميزان بكونهما كتلتين من صَمَم، مجبولتين بالإسمنت، لا تحتويان تفاصيل تجعل أفراد هذه الفئة يتوقفون عندها، فمن ثاروا ضد الأسد هم إرهابيون وبيئاتهم حاضنة للإرهاب، وسكان المخيمات هم جزء من هؤلاء! كما أن السوريين المنفيين هم جزء من هذا المجموع، وكل نتاج مثقفيهم هو تكرار لأغنية الشيطان ذاتها، وكل سياقات النشر والنشاط الإبداعي إنما يتم صنعه بتمويل أطراف المؤامرة أنفسهم. وفي الجهة، ثمة سوريون معارضون، يميلون وبشكل صريح في تفكيرهم وكتاباتهم، إلى اعتبار أن من بقي في مناطق سيطرة النظام هم شياطين خرس، سكتوا عن الحق، وبالتالي بات عليهم أن يدفعوا ثمن مواقفهم، من دون أن يستحقوا التعاطف من قبل الآخرين، لا بل أن تتم إدانة أي ملمح من ملامح التعاطف معهم!
أما الفئة الثانية، فهي ذات صوت منخفض، حاولت وما انفكت تحاول، خلال العقد الماضي، أن تبحث في التفاصيل، من دون أن يجرها الصراع والدم إلى الانغماس في التخندق، الذي يصل إلى حد إلغاء الآخر، وإنكار وجوده. ولعل المشكلة التي اختصت بها هذه الفئة العابرة أيضاً للجماعات والمتاريس، أنها لم تستطع أن تكرس لأفرادها منصات حوارية، تجعلهم يختبرون الأفكار، التي يمكن لها أن توحدهم كتيار، يمتلك قدرة على العمل، في سبيل إنهاء التأزم الحاصل نتيجة الحدث.
وبينما كان أفراد الفئة الأولى يتحاورون اشتباكاً في صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، كان مثقفو الفئة الثانية يتغربون أكثر فأكثر في مواقفهم، فيغيب الحوار والتقبل بين جبهتي الداخل والخارج، وسط ابتلاء هذه الفئة بمجموعات وضعت نفسها في عتبات فجة، تلبس لبوس الراديكالية، ولكنها فعلياً تتصرف كنهج عدمي، يدين الجميع، ولا يعلن عما يناسبه من حلول
ضمن هذا المشهد كان صوت الفئة الثالثة، التي يمكن لها أن تقارب بين مواقف السوريين، الذي يتفقون على رفض الاستبداد، بوصفه أساس المشكلة، ويرفضون أيضاً إعادة إنتاجه في مقلب المعارضة، وتفريخه لأشكال محلية دينية وطائفية، وقومجية، وقبلية، يغيب ويضمحل، حتى ليبدو وكأن سوريا كلها لم تعد سوى فئتين متصارعتين، وبما يوجب انقسامها بين سوريتين وعلى إيقاع هذا الاستنتاج، كان هدوء الجبهات العسكرية، غير المعتاد، يؤشر إلى أن هناك معملاً يصيغ شكل الانقسام الراهن السوري، بين سوريا النظام، وسوريا جبهة تحرير الشام، وسوريا قسد، وبما يتناسب مع رؤية النظام، الصانع الأكبر لمشاكله، والمستفيد الأهم من تشظيه وتبعثره، والقوى الداعمة له كروسيا وإيران، ويتوافق مع الاسترخاء التعميمي الذي تشتغل وفقه القوى الإقليمية والدولية!
ترجمة ما سبق على مستوى الإنتاج الثقافي ممكنة، لا سيما مع استمرار عمل مؤسسات النظام الثقافية، في تكرار رؤيته للثورة ولحربه ضدها، وإنكار وجود الآخر الذي يرفض جوهر الاستبداد وكينونته، وتصديرها لأعمال بين السينما والمسرح، وبعض منشورات وزارة الثقافة، تعاني من الضحالة في رؤيتها للحدث، والانسجام الكامل بينها وبين لغة الحرب، وقعقعة السلاح، وصورة البسطار العسكري.
وفي المقابل ظهرت أعمال سردية وشعرية كثيرة تروي حكاية الثورة ووقائعها، لكن قلة منها نجت من فخاخ الغرق في أسر الشعار السياسي، الذي يؤدي إلى إنتاج مقولات تعميمية، ويقسم الواقع بين مؤيدين للحق وأعداء له، بينما ركزت أعمال أخرى على إعادة انتاج سردية الثورة في سنتها الأول بوصفها ثورة السوريين الباحثين عن مستقبل يقوم على وجود الدولة المدنية الديموقراطية.
كما أن قلة من الأعمال التي ظهرت هذا العام، قامت بالاشتغال على فنية وشعرية النوع الإبداعي، ما أدى في المحصلة إلى غياب التميز الذي يكشف عن وجود التراكم الإبداعي المفترض، والذي يحدث عادة، بالتوازي مع الأحدث الكبرى المؤدية لانعطافات كبرى في حيوات الشعوب. لا بل إن ملمحاً غير حميد بات يظهر في كتابات كثيرين من الجيل، الذي ظهرت أعمالهم في العقد الماضي، هو الترهل في الخطاب الإبداعي، وانتحال موقع الحكمة في القول، رغم ضعف التجربة العمرية والحياتية، فغابت حيوية الشباب، واللغة المتمردة، وانتفت الصياغات المختلفة! ما جعل النص المنتج في المشهد غير متمايزٍ، فلا يعرف القارئ أياً من المبدعين الشباب قد كتبه، بسبب التشابهات بينهم، واشتغالهم على ثيمات معدودة، يربط بينها أنها صالحة للتداول في أسواق النشر الأوروبية. فصار السعي لإنتاج النص القابل للترجمة، والذي يرضي القارئ الأجنبي الافتراضي، هاجساً يلهث خلفه هؤلاء.
انهيار فعالية مؤسسات الدولة في الواقع، وفشلها أدى إلى التصدر المركز لدولة موازية قوامها الفساد كل شيء في الداخل السوري، أبرز فعلياً الاحتفالية الاستعادية التي اُشتغل عليها في مؤسسات عديدة، للمملكة السورية، التي ولدت العام 1918، ودمرت بعد سنتين على يد الجيش الفرنسي الذي فرض الانتداب على سوريا.
ولعل أهمية ما تم تداوله والحديث عنه في هذه التظاهرة تأتي من الأسئلة التي طرحت حول أسباب انهيار التجربة في ذلك التاريخ العاصف، ودور القوى المحلية في السياق، ومواجهة الإرادات الدولية، والتي عملت على تدمير الديموقراطية السورية الوليدة! وقبل ذلك تبسط مسألة المقارنة بين واقعي الحال بين الماضي والحاضر، تفكيراً معمقاً، في البنى المتحكمة والراسخة في سيطرتها على فئات المجتمع وأدواته المنتجة.
المدن
—————————————
“اللاحل” الإيراني في سورية/ سميرة المسالمة
حملت السنوات التسع الماضية ما يكفي من دلالاتٍ للسوريين على أن التدخل الدولي المنشود لإنهاء الصراع في سورية ليس من ضمن خيارات جميع الأطراف المعنية بالملف السوري، بما فيها التي تحولت من داعم لأحد طرفي الصراع (النظام والمعارضة) إلى شركاء أو مستثمرين في الصراع. وزاد من احتمالية ترك سورية خارج القرار الدولي الفعلي لوقف المأساة تشتت الطرفين المحليين وانقسامهما إلى عددٍ يتوالد مع طول أمد الصراع، وفتح بازارات المصالح الدولية والإقليمية في سورية.
لم تعد سورية (النظام) كذلك كتلة موحدة تقف بحماية الواجهة الإيرانية، كما هو الحال قبل التدخل الروسي المباشر عام 2015، وهي أيضاً ليست سورية الأسد المتماسكة تحت ظل الحماية الروسية، بل هي انقساماتٌ بين التبعيتين محلياً، كما هو حال الملف السوري على طاولات الحوار الأممي الذي ينظر إلى الحل في سورية من زوايا المصالح مع كل من إيران وروسيا، وكما تعاينه الولايات المتحدة الأميركية ملفا تحدّده زاوية الانفراج مع الملف النووي الإيراني، أو زاوية الانعكاس مع العلاقة الأميركية – الروسية.
الرهان الإيراني اليوم، على واقعة عودة الديمقراطيين إلى الحكم في البيت الأبيض، يحمل أكثر من بعد في تحسين العلاقات البينية الأميركية – الإيرانية، وهو لا ينطلق فقط من أنها عودة إلى ما قبل السنوات الأربع لإدارة الرئيس دونالد ترامب المنتهية ولايته في 20 يناير/كانون الثاني الحالي، وطي صفحة الردع الإسرائيلي لأدوارها في المنطقة، بل هي مبنيةٌ أيضاً على عمق التفاهمات السابقة للديمقراطيين في الملف النووي، ونقاط تحوّل العلاقة غير المباشرة بين الطرفين، إلى أدوارٍ تكامليةٍ قد تصل إلى ممارسة إيران دور الشرطي الأميركي في سورية وعموم منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يؤشّر إليه الخوف الخليجي الذي تظهر ملامحه تارة باللجوء إلى إسرائيل منقذا، أو بالبحث عن تقاطعاتٍ تقرّبهم من الحوار مع إيران وتركيا لتجنب مفاعيل أدوارها القادمة عليهم.
ومن جهة ثانية، تراهن إيران أيضاً على موقف الحكومات الأوروبية الغارقة في مشكلاتها الاقتصادية، والضغوط الشعبوية عليها الرافضة للاجئين، وتداعيات جائحة كورونا، وتعرف حقيقة موقفها من القرارات الأميركية “الترامبية” وعقوباتها على إيران. وقد دفعت الدول الأوروبية الشريكة في الاتفاق أثمانا باهظة لتلك العقوبات، واضطرارها إلى الانسحاب من الاستثمارات الكبيرة في إيران أو معها، بل ترى أوروبا أن الانسحاب الأميركي كان متنفساً لإيران للمضي في تطوير منظومتها النووية والصاروخية، وهي ترى في العودة إلى اتفاق 2015 (5 زائد 1) الباب الوحيد الذي يمكن، من خلاله، فتح المفاوضات لتهذيب السلوك الإيراني، وضغط طموحاته النووية، وتعليبها في إطار الاتفاق القابل للتطوير.
وبذلك، ترى إيران بقاء اللاحل في سورية (أي بقاء الوضع على حاله في سورية) هو الحل الحقيقي الذي يمكّنها لاحقاً من صناعة أقلّ من تسوية، وأكثر من اتفاق وتوافق تضمن به وجودها الفاعل والمؤثر في سورية وجوارها لبنان، وهو ما عملت عليه منذ بدء التفويض الأميركي لروسيا بالملف السوري، واتفاق وزيري خارجية البلدين، جون كيري وسيرغي لافروف، في سبتمبر/أيلول 2016، حيث عملت على تعطيل وانتهاك كل عملية وقف إطلاق نار أو تسوية، حتى تلك التي هي طرفٌ فيها، كما هو الحال في اتفاقات أستانة التي أبقتها كقميص عثمان ترتديه وقت تشاء، شريكة في الحل، أو تخلعه حين الحاجة معطّلة له.
استنفذت روسيا، خلال السنوات الأربع الماضية، فرصها في إلزام الأطراف السورية بحل توافقي يجمعهم (معارضات ونظاما) في حكومة واحدة، تسرّع من عملية البدء في إعمار سورية لتعويض خسائرها، بعد أن كانت شريكةً فعليةً في تقويض نفوذ إيران، من خلال إبعادها عن طاولة المفاوضات الدولية بشأن سورية، واستفرادها على مدار السنوات الماضية بتمثيل النظام في المحافل التفاوضية، وكانت تأمل في أن تكون سورية ورقة “تقايض” بها على ملفاتها الأوروبية والأميركية، ولكن عدم تمكّنها من استعادة كامل الأراضي السورية، ومنها إدلب، إلى النظام السوري، من بوابة اتفاقات آستانة، واستهانتها بالمطامع التركية في سورية، أعادها إلى نقطة البداية التي تجعل منها شريكةً لإيران في سورية، وليست بديلا عنها.
ليست روسيا، بواقع وجودها الحالي في سورية، طرفاً ضعيفاً، ولكنها ليست الطرف الأقوى في ظل الانفتاح الإيراني – الأميركي المرتقب، وهي تدرك أن مساحتها في سورية في عهد ترامب ليست المساحة نفسها في عهد الرئيس الأميركي المنتخب، جو بايدن. ولهذا، قد تأخذ مصالحها الاقتصادية والعسكرية ضماناتٍ أكبر بوجود حل سياسي للمأساة السورية تحت قرار مجلس الأمن 2254. ومقدّمة لذلك، ستتصاعد في روسيا استعادة التصريحات أن الحل في جنيف، وليس في مكان آخر، وستعود موسكو إلى تشجيع جلسات اللجنة الدستورية كمؤقت لضبط النفس، بينما تتضح لديها الرؤية عن السياسات الأميركية في سورية، وإذا ما كانت الإدارة الجديدة ستمدّد لها صلاحية الحركة في الأجواء السورية، لصياغة تسويةٍ قابلة للتطوير في اتجاهين: لمصلحة تثبيت النظام قوة مطلقة تحت وصايتها، مع تعديلات للسماح للمعارضة بمشاركة وهمية غير فاعلة. أو لمصلحة تشذيب سلوك النظام أو تنظيفه، سواء من أعلى قمته، أو من أوسطها كما هو مطروح الآن، وإدخال تعديلاتٍ تسمح بتغيير شكل الحكم ونوعه، بما يتوافق ودستورها المقترح للمعارضة في العام 2016، وبما يضمن المصالح الكردية التي تحميها الولايات المتحدة في سورية، وبعض مصالح المعارضة السورية.
بينما سيكون “اللاحل” في سورية هو سيد الموقف، في حال كان تفاؤل إيران بديمقراطي البيت الأبيض (بايدن) في مكانه، بحيث تبسط إيران كامل سيطرتها على واقع سورية، وتطوّق مصالح روسيا داخل قواعدها واتفاقاتها الاقتصادية، وتمضي بالنظام السوري، وعلى رأسه بشار الأسد، إلى ما هو أقل من إصلاح، يتعكّز عليه أمام المجتمع المحلي، خلال ولايته الجديدة التي تبدأ منتصف هذا العام، ويقود خلالها العملية السياسية لإصلاح الدستور مع “كيانات المعارضة”، على مدار الأعوام السبعة المقبلة.
ربما كانت روسيا أهون الشرّين في قراءة المشهد السوري، إذا توفرت للسوريين معارضة وطنية بمشروع حقيقي وأجندة سورية، تفاوض من أجل مصالحهم، وليس على مصالحهم، وتضع المجتمع الدولي أمام خيارٍ واحدٍ، وهو القبول بحق الشعوب في تقرير مصيرها، وبناء مستقبلها، ولو كان ذلك على حساب القبول بحلولٍ تراكميةٍ مفتوحةٍ على التغيير والإصلاح، وليست بيد أيٍّ من الأطراف الساعية إلى تقاسم سلطةٍ حاليةٍ استبداديةٍ محصنةٍ بالحديد والنار والسجون.
العربي الجديد
————————
حتى لا يكون عام 2021 عام الأسد/ موفق نيربية
في اليوم الأخير من العام المنصرم لتوّه، جاء في صحيفة «الوطن» السورية التي كان يملكها رامي مخلوف، تايكون الاقتصاد الأسدي المطلق سابقاً، حتى صراعه مع رئيسه: «كعادته وكما عرفه السوريون حضر الرئيس بشار الأسد إلى جانبهم ومعهم، وهم يعملون من جديد على بناء ما دمره أعداؤهم، وهذه المرة عبر زراعة أرضهم، التي أحرقها مرتزقة لا ينتمون لها، مرسلاً المزيد من الرسائل عن الشجرة التي نغرسها في الوطن فتنبت حباً. الرئيس الأسد فاجأ الفرق التطوعية لطلبة سوريا، التي كانت تقوم بعمليات تشجير في حرش التفاحة بالدريكيش، وحضر برفقة عقيلته السيدة أسماء، وأبنائهما حافظ وكريم وزين الشام، ومعهم باسل شوكت ابن شقيقته، إلى مكان التشجير الذي سبق وتعرض للحرائق».
بيةجاء ذلك الخبر بصيغة دعاية انتخابية، ما أعاد تذكيرنا بقوة بأهم ما يمكن أن يتعرض له السوريون – فوق ما حصل لهم حتى الآن – وهو انتخابات رئاسية لتجديد وتمديد رئاسة بشار الأسد، تتمحور حولها السياسات السورية والروسية منذ فترة من الزمن، مع الغياب الحالي للسياسة الكبرى. كان يمكن للمرء أن يتناول مع نهاية عام وبداية آخر، أهم ما كان أو ما يمكن أن يكون، وتغري كثيراً حالة الوباء وطغيانه، مع أخبار طفو المعركة الانتخابية الأمريكية فوق الوضع الدولي، وما شكّلته السياسات التي قادها دونالد ترامب من ظواهر تنذر بتشكيل عالم جديد، أو تدارك ذلك، ولو إلى حدود معقولة.
إلّا أن استفزاز مسألة الأسد يفرض علينا، نحن السوريين، على الأقل مواجهتها، ابتداءً من على الورق. ليس هنالك من شرعية لرئاسة الأسد منذ 2011 ومهما كانت مرجعيتها، سوف تتآكل حتى خيالاتها، في حالة مضيّه في إعادة ترشيحه وانتخابه. وهي مهما كانت شكلية لا تضيف جديداً إلى واقع الحال، كما يمكن أن يقول البعض؛ إلّا أنها أيضاً مهمة لصاحبها، وليس هنالك من لا يأبه بشرعية ما لسلطته وصورته، مهما كانت درجة طغيانه واستبداده بالأمر. قد تأتي الشرعية من التقاليد التي يحافظ الناس عليها، حين تستحكم بهم وتأسرهم بعد طول ممارسة للسلطة على نسقٍ محدّد، ومع أشخاص بعينهم، أفراداً أو عائلاتٍ أو نخبة أو فئة، عشيرة كانت، أم طائفة، أم عصابة معمّمة. ولا ريب في أن أيّ شيءٍ من هذا القبيل قد تبخّر في الأعوام الأخيرة، بعد أن أنهت الثورة أثر تلك التقاليد، وما يتداخل معها من» قوة العادة» والعجز عن احتمال التغيير، وصدمته المجهولة المفاعيل. ولكن ذلك أيضاً قد تلاشى، وصغرت تلك الدائرة المعرّضة لتلك الظاهرة، حتى لدى قريبين من مركزها ورئيسها.. وتدهورت الأحوال حتى بدأ البعض يقولون» لا يمكن لأيّ تغيير أن يؤدّي إلى الأسوأ، لأننا في الحضيض».
يمكن للتاريخ أن يهب بعض شرعية مطلوبة، حين تكون هنالك «منجزات» كبيرة وعملية، كخلق مكانٍ للبلد في المنطقة والعالم، أو النصر في حروب خارجية كبرى، تؤمّن الحماية للدولة والمجتمع من الأخطار الخارجية، أو بناء اقتصاد مزدهر، وتنمية لا تأكلها النيران – كما فعلت- وهنا، لو كان لأبيه شيءٌ من ذلك مهما اعترض معارضوه، فليس للابن منه إلّا الكاريكاتير والمسخرة.. وليست لديه في هذا حتى إمكانية تقديم الوعود.
وقد تأتي الشرعية للمستبدّ خصوصاً من كتب التاريخ ومن «الغلبة». وهذه منطقة أثيرة للنظام ومربط فرسه، منذ قال وزير دفاع الأب قديماً وبصراحة مذهلة: «لقد أخذنا البلاد بالبندقية، ومن كان قادراً على أخذها منّا بالبندقية فأهلاً وسهلاً» أو ما هو من هذا القبيل. وتكفي نظرة لتوزّع القوى، ليس في المناطق الخارجة تماماً عن سيطرته، كما في الشمال بشرقه وغربه، بل في مناطقه ذاتها، بعشرات أو مئات العصابات المنفردة – وأحياناً المنفلتة- وتشتّت الجيش «العربي السوري» وتهلهله إلى ما يشبه تلك العصابات.. إضافة إلى جماعات أكثر انضباطاً، ولكن لأوامر الغير في إيران، أو روسيا، أو أيّ مكان آخر.. ليس هنالك «غلبة» إلّا بمقدار ما تسمح تلك الفوضى لفلول النظام بالتسلّط واللصوصية والقمع أو القتل.. وليست تلك «غلبة» ابن خلدون، ولا هي خيالٌ لها. أمّا الشرعية «الرسمية» من حيث الاعتراف الدولي رسمياً بالنظام، فلن نعود له ولحساباته، إلّا لنقول إن عشرات الدول ربما تتحفّظ على سحب اعترافها، ولكن لنذكّر هنا بأن الجامعة العربية وأوروبا وشمال أمريكا، لا شائبة في اعتراضها على الأسد ونظامه، اعتراضاً ليس شكلياً أبداً، مهما جاءت أنباءُ مناقضة لذلك من هنا أو هناك. ولا يمكن اعتبار محاولات البعض للركوب على النظام حالياً لأهداف عابرة أمنية، أو مستقبلية تتعلق بعوامل جيواستراتيجية، أو بإعادة الإعمار؛ اعترافاً فعلياً به وبشرعيته.
ليست لدى بشار الأسد شرعية كذلك النوع القديم، كالذي تكوّن لدى المرشد الأعلى للثورة الإيرانية – الولي الفقيه – علي خامنئي أيضاً، مهما اعترضنا على منطق الحقّ فيها: الشرعية الدينية، ولا ضرورة للتفصيل في افتقار بشار لذلك بأي شكلٍ وعلى أيّ الجانبين يميل. وبالطبع، ليس هنالك، ولن يكون، لبشار شرعية صندوق الاقتراع الحديثة، المعروفة العناوين والعناصر، وليترك اللاجئين والنازحين ينتخبون بحرية، وليترك أهله أنفسهم ينتخبون بحرية مع الناس العاديين البسطاء من دون إسار الرعب و»التشبيح».. وليترك للأمم المتحدة والمجتمع المدني الدولي أن يشرفا على الانتخابات.. مع أن ذلك قد «يخدش» السيادة الوطنية، وصلح ويستفاليا ومعاهدة فيينا، وحتى تفاهمات يالطا أيضاً. وربّما يكون واحداً من مصادر الشرعية، مهما كانت منقوصة أو جزئية، الاعتماد على ولاء أقلية عرقية أو عشائرية أو دينية أو طائفية، بشكلٍ متماسك عسكرياً ومدنياً وطائفياً غير متخلخل. وقد نجح هذا الرجل ببعثرة إرث أبيه، وَقلَب على نفسه طائفته التي كان أبوه سابقاً، وهو من بعده، يعتبرانها الحصن والملاذ.
لقد أدّت سياساته إلى خسارة «طائفته»- وليست كذلك على الإطلاق – لمئات الآلاف ربّما من شبابها، وهي في ذلك تختلف حتى عن خسارة «خصومه» لمئات الآلاف من كلّ الأعمار ومن الجنسين. لقد استطاع بشار أن يورّط من اج\تمعوا حوله، ويودي بهم إلى الدمار والهلاك، الذي لا يختلف كثيراً عن هلاك ودمار من ثاروا عليه ومن قاتلوه.. وفي ظروف العوز الخانق، ونزيف الدماء المستمر، واسوداد الأفق وانسداده، لم يبق لبشار مما كان لديه إلّا القليل، الجاهز للانفضاض عنه أمام أي عملية سياسية، وإسهام دولي لائق ومقنع فيها. ومع العقوبات الدولية التي زادت من ضيق الخناق على النظام، وحشرت محاولات شرعنته في الزاوية؛ ومع تطوّر المحاسبة الدولية وقضايا الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها، التي سوف تكون على أي طاولة يتمّ التحضير لها، خارج تلك الطاولات الحالية البائسة العاجزة، ومع تضييق «قانون قيصر» حتى على داعميه من بعد، وانهيار العملة وتحليق الأسعار التي سوف تعيد تخليق الشجاعة لدى الناس الموجودين في مناطق سلطته؛ ومع زيادة الضغوط للإفراج عن المعتقلين، وأعدادهم تقارب المئة ألف أو أكثر.. ومع ميزانية جديدة هي الأقل حجماً، والأكثر تدجيلاً في تاريخ سوريا الحديث.. مع ذلك كلّه ليس من شرعية لإعادة انتخاب الأسد، لا شكلاً ولا مضموناً.
وربما قبل أيّ شيء آخر، لا شرعية لحكومة عميلة لمحتلّ، إيرانياً كان أم روسيا ً(وهذا لا ينطبق على النظام وحده بالطبع، ولا على إيران وروسيا وحدهما أيضاً). ولا ننسى أيضاً كيف قوّض هذان المحتلان، ما كان للأسد من شرعية كاذبة، من خلال سيطرتهما على المرافق العامة، وكلّ ما للدولة من خصائص في استقلالها، ومن ذلك تكبيلها بعقود تمنع ذلك الاستقلال لعشرات السنين المقبلة، ولا تحترمها حتى كشريك أصغر. ونسمع منهما في الوقت نفسه تكريساً لشرعيته حين يتعلّق الأمر بشرعنة وجودهما ومستقبله، ونيلاً منها حين يكون الحديث عن دور كلّ منهما الحاسم في الحفاظ على النظام وضمان استمراريته.
تبقى مهمة النخب السورية المعارضة وغير المعارضة، الرسمية والشعبية والمدنية، هي جعل ذلك أكثر صعوبة، وإغلاق الأبواب على تمرير ذلك الأمر.. وكذلك لجم شهيّة الانتهازيين لانتهاز الفرص الرخيصة، على التعامل معه وكأنه باب إجباري لا بدّ من سلوكه.. وتشجيع حيائهم على الأقل، أو حذرهم وخوفهم من غضب الناس والتاريخ.
كاتب سوري
القدس العربي
————————
2021 سيكون عاماً حاسماً بالنسبة إلى سوريا/ شارلز ليستر
من شأن الأزمة السورية، في غضون شهرين قادمين، أن تبلغ من العمر عشر سنوات كاملة، فيما يعد علامة فارقة لأكثر الحروب الأهلية دموية وفتكاً وتدميراً في التاريخ الحديث. عندما خرج عشرات الآلاف من المواطنين السوريين إلى شوارع البلاد في مظاهرات سلمية للمطالبة بإجراء الإصلاحات السياسية، لم يكن بوسع القليل منهم أن يتصور حجم العنف الوحشي والخراب الرهيب الذي قد يعمد نظام بشار الأسد إلى استخدامه لقمع مواطني بلاده. فلقد جرى تدمير أكثر من نصف البنية التحتية في عموم سوريا حتى اليوم، مع غياب الاحتمالات الواقعية لأي عمليات إعادة بناء ذات مغزى. وما يزال النظام السوري الحاكم منبوذاً على الصعيد الدولي، ومذنباً بقائمة اتهامات لا نهاية لها من جرائم الحرب الشنيعة. ووفقاً إلى منظمة الأمم المتحدة، لا يزال النظام السوري يواصل انتهاك اتفاقية الأسلحة الكيماوية، واتفاقية نزع السلاح لعام 2013 ذات الصلة بها.
والأهم من ذلك، أن الاقتصاد السوري في حالة إنهاك شديدة يُرثى لها؛ ممزق إثر صراع داخلي لا يمكن تحمله، ومهلهل بسبب الفساد العميق المستشري في كل أوصاله، ومنهار للغاية نظراً للانهيار المالي الذي يعاني منه لبنان المجاور. ولا تعتبر أزمات الخبز والوقود المتفاقمة في البلاد ناجمة عن العقوبات الدولية على سوريا، وإنما بسبب الرفض الروسي الحالي لإنقاذ الدولة السورية الفاشلة والمفلسة تماماً. وبعد الزلزال الشديد الذي عصف به النظام السوري بحليفه السابق رامي مخلوف في مايو (أيار) من عام 2020، واصل النظام الغاشم محاولاته الدورية في ممارسة الضغوط الشديدة على الأصول القيمة من بين أعضاء النخبة الآخرين المحسوبين على النظام، ولكن بصرف النظر تماماً عن المكاسب التي يمكن تحقيقها من وراء ذلك، فلن تكون كافية بحال.
ولقد أسفر الانزلاق السوري المستمر في هوة الأزمات المالية العميقة عن تآكل شديد في الطبقة الوسطى في البلاد، حيث بات ما نسبتهم 90 في المائة من سكان البلاد يعيشون تحت خط الفقر حالياً. وأصبح شراء رغيف الخبز لوضعه على المائدة محنة من المحن اليومية المستمرة. ومما لا يثير الاستغراب، أن حالة الإحباط العامة حيال النظام الحاكم هي في تزايد مستمر، كما أن إشارات الغضب والسخط العام من قلب قاعدة الدعم والتأييد للنظام قد صارت أبلغ وأكبر من أي وقت مضى. ومع اعتبار الصعوبات الشديدة في الوصول إلى الدولارات الأميركية داخل سوريا راهناً، انقلبت النخبة التجارية الموالية للنظام على بعضها بعضاً مع تنافسات بالغة القسوة لكسب الأفضلية في خضم بيئة الأعمال والتجارة المقيدة للغاية وغير اليقينية بصورة متزايدة.
وإيجازاً للقول، فإن سوريا في حالة سيئة للغاية – ويمكن القول إنها أسوأ حالاً إزاء آفاق المدى البعيد مما كانت عليه الأوضاع في أوج الصراع الأهلي المسلح بين عامي 2014 و2015. ولا نرى بصيص ضوء في نهاية النفق المظلم، كما لن يبرح النظام السوري الحاكم مكانه قريباً. ومن واقع الضوء الأخضر الروسي – الذي يُقال إن النظام السوري قد حصل عليه إثر سلسلة من صفقات الأعمال وعمليات الاستحواذ على الأصول التي طالبت بها روسيا، فضلاً عن وضع الجدول الزمني لسداد الديون المستحقة إلى موسكو – سيخوض بشار الأسد الانتخابات الرئاسية في الصيف المقبل. والفائز في تلك الانتخابات القادمة شخصيته معروفة ومحددة سلفاً، على الرغم أنه من المرجح أن تدفع روسيا بعدد من المرشحين الإضافيين في محاولة لتفادي نوعية الانتصار الانتخابي بنسبة 95 في المائة المقدسة التي اعتاد عليها السوريون من قبل.
وفي مواجهة هذه التحديات، تدخل إدارة الرئيس الأميركي المنتخب جوزيف بايدن إلى معترك الأحداث قريباً. وفي ضوء سلسلة من التصريحات والبيانات الواضحة وقوية اللهجة الصادرة خلال الشهور الأخيرة من قبل الرئيس الأميركي المنتخب وكبار الشخصيات المعينين حديثاً في إدارته الجديدة، من شاكلة جيك سوليفان وأنتوني بلينكن، فمن شأن القوات الأميركية المنتشرة في سوريا والمعنية بمحاربة تنظيم «داعش» الإرهابي، إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية في شرق البلاد، أن تستمر رفقة المسار العام الأساسي للسياسات الأميركية الأوسع نطاقاً تجاه سوريا والمتصفة بالمعارضة الحازمة لنظام حكم بشار الأسد طويل الأمد. ومع ذلك، فإن هذا في حد ذاته ليس كافياً بحال، لا سيما مع اعتبار الديناميات والتحركات السائدة حالياً في البلاد، والتي إن تُركت دونما تناول وتعامل وانتباه، فإنها سوف تضمن بتفاقم الفوضى التي تعد بالمزيد من زعزعة الاستقرار المحتمل على الصعيدين الإقليمي والدولي. والوقت ليس في صالح الجميع، ومن واقع كافة الاحتمالات، فإن القرارات التي سوف تُتخذ في عام 2021 الجديد هي التي سوف تحدد الكثير من آفاق المستقبل السوري.
ومنذ البداية، سوف تحتاج إدارة الرئيس بايدن إلى تنشيط التفاعلات الدبلوماسية بشأن القضية السورية – الأمر الذي كانت الأوضاع تفتقر إليه بشدة إبان سنوات الحكم الأربع المنقضية من إدارة الرئيس دونالد ترمب. وفي جوهر الأمر، فإن التحركات الدبلوماسية النشطة بشأن الأزمة السورية لا بد أن تكون متعددة الأطراف، ولسوف تحتاج الولايات المتحدة إلى دعوة الحلفاء كافة للمشاركة، لا سيما أولئك الموجودين في منطقة الشرق الأوسط، وفي أوروبا. ومن واقع النظر إلى الجهود المحمودة التي بذلها غير بيدرسن، مبعوث منظمة الأمم المتحدة الخاص بالأزمة السورية، من أجل المحافظة على استمرار العملية الدبلوماسية قائمة من خلال اللجنة الدستورية السورية، فإن تلك الجهود قد عانت الكثير من العراقيل لإحراز التقدم الملموس، وباتت وكأنها ذريعة من جانب الحكومة الروسية للقضاء ببطء شديد على الجهود الدبلوماسية المعنية. وفي حين أن تعزيز المناقشات الدستورية السورية سوف تكون مفيدة بكل تأكيد، إلا أن الفائدة الحقيقية سوف تكون محققة من خلال إعادة تنشيط مجموعة «أصدقاء سوريا» تحت إطار تحالف دبلوماسي يعمل بصورة أكثر حزماً، من أجل المضي قدماً على سبيل تحقيق الأهداف المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254. ومن شأن تلك الجهود أن تبدأ بدفعة صوب التوقف الحقيقي لإطلاق النار على الصعيد الوطني السوري مع وصول المساعدات الإنسانية غير المقيدة بُغية التخفيف من معاناة المدنيين في أرجاء البلاد كافة.
وبالتوازي مع ذلك، ينبغي على الولايات المتحدة وحلفائها استثمار المزيد من الجهود في الحوار مع روسيا، مع السعي للوصول إلى أرضية مشتركة يمكن انطلاقاً منها بناء مستوى معين ومقبول من الثقة. وما تزال مكافحة الإرهاب هي المبعث الوحيد لاستمرار التبادلات الأميركية – الروسية مع سوريا كما أنها تشكل نقطة انطلاق ذات أهمية. ومع ظهور تنظيم «داعش» بصورة واضحة في الصحراء الوسطى الخاضعة لسيطرة النظام السوري الحاكم، ومع شروعه في التأثير على الأوضاع الأمنية في المناطق التي تشرف عليها الولايات المتحدة في شرق الفرات، تتضح أمامنا فرصة سانحة لعقد المناقشات المحدودة بشأن مكافحة الإرهاب.
إن مواصلة الحملة الأميركية ضد تنظيم «داعش» تستلزم إيلاء النظرة العاجلة إلى التوترات الداخلية لدى قوات سوريا الديمقراطية. والأهم من ذلك، حالة العداء المستمرة بين تلك القوات وبين تركيا. أيضاً تقدم المجلس السياسي لقوات سوريا الديمقراطية بمبادرات متكررة تجاه قوى المعارضة السورية المدعومة من أنقرة على مسار استكشاف سُبل الانفراج والتعاون في المستقبل، غير أن الحكومة التركية نفسها تظل العقبة الرئيسية في ذلك. ومن شأن الولايات المتحدة إعادة استكشاف آفاق بناء الثقة والضمانات الأمنية في شمال شرقي سوريا من أجل الحد من التوترات وتيسير المفاوضات الجارية – وإنما المجمدة – بين مجلس سوريا الديمقراطية والتكتلات السياسية الكردية السورية ذات الصلة بالحكومة التركية. ورغم المحافظة على قناة اتصال مفتوحة مع النظام الحاكم في دمشق، فإن مجلس سوريا الديمقراطية قد اكتشف أن أي صفقة تُبرم مع نظام بشار الأسد سوف تعتبر بمثابة استسلام – تلك الحقيقة التي ينبغي أن تمنح الولايات المتحدة قدراً من النفوذ، وليس العكس.
هذه ليست سوى بعض التحديات المباشرة ذات الصلة بالملف السوري. أما تسوية أزمة إدلب فهي أمر مختلف تماماً، وكذلك المصير المعلق الذي ينتظر الآلاف من معتقلي «داعش»، فضلاً عن عشرات الآلاف من أفراد العائلات المرتبطين بهم، بالإضافة إلى استمرار وجود أكثر من 5 ملايين لاجئ سوري في كل من تركيا، ولبنان، والأردن، والعراق، كذلك الضغوط التي لا يمكن تحملها والمفروضة على اقتصادات تلك البلدان.
وفي خاتمة المطاف، لا تزال سوريا أولى بالأهمية – بالنسبة للعالم بأسره على نطاق كبير. وتقدم لنا الأحداث التي جرت خلال السنوات العشر الماضية دليلاً واضحاً وملموساً لأسباب تلك الأهمية. وعلاوة على ما تقدم، فإن بشار الأسد لم ينتصر في هذا الصراع، بل إنه يحاول النجاة منه فحسب. لقد تعمد إحراق البلاد بهدف تأمين نجاته وبقائه على رأس السلطة، ولسوف تبدأ تبعات سياسة الأرض المحروقة التي اتبعها في الظهور تباعاً. ولا يمكن للعالم المعاصر الاكتفاء بمجرد مصافحة سوريا، إذ لا بد عليه الالتزام الحقيقي بالتعامل المباشر معها، وأن يقدم أحسن ما في جعبته لتأمين المستقبل الأفضل من ذلك الموعودة به سوريا اليوم تلقاء الوضع المزري الراهن.
الشرق الأوسط
—————————————
=======================