نجاح طاهر.. الغلاف صورة موازية للنص/ بشير البكر
حين يضع المرء رجله داخل المكتبة ويشتم رائحة الحبر، فإن ما يأخذ عينه إلى كتاب دون غيره هو الغلاف، وحتى لو لم يدخل واكتفى بالمعاينة من الخارج، فإن الغلاف يلعب دورا في استدراج العين. والغلاف يعني حسب بعض دور النشر الغربية التي قطعت شوطا طويلا على هذا الطريق، بمثابة الحلوى التي تغلف النص، إنه تمرين في الأسلوب. يجب أن يكون لفتة بسيطة وقوية ومؤثرة. جذاب ومميز على أرفف المكتبات. في إيماءة واحدة، يجب أن تكون قادرًا على تحديد النص بدقة. إنه تحد فني رائع! وكما هو في البلدان التي تحتل الثقافة مكانة خاصة في حياتها، بدأت بعض دور النشر في العالم العربي تولي أغلفة الكتب اهتماما، وصار هناك مصممون للأغلفة يعملون وفق معايير خارج الارتجال، بالاستناد إلى قيم ومواصفات فنية، باعتبار أن الغلاف جزء من شخصية الكتاب. للغلاف دور الإغراء. يجب أن يفاجئنا ويجذبنا. له نفس دور الملصق. سيحدث كل شيء على الغلاف، مشهد الكتاب في الواقع. إذا نجح الغلاف، فسنأخذ الكتاب في متناول اليد، وسنقرأ المزيد، وسنديره، ونقرأ الغلاف الخلفي، ونشتري الكتاب في خاتمة المطاف.
وعندما تزور نجاح طاهر في محترف الزاوية في راس بيروت تجدها منهمكة في عملها، تجلس خلف طاولة مستديرة، وأمامها كميات كبيرة من الأقلام الملونة واوراق الرسم والكتب الفنية، وهناك مشاريع اغلفة كتب واغلفة جاهزة وكتب دور النشر العربية وغير العربية. وهكذا دأب نجاح منذ اوائل ثمانينيات القرن الماضي عندما كانت تعمل في دار الفتى العربي التي اسسها المصري محي الدين اللباد. هناك بدأت وتشكل وعيها بالغلاف وتعلمت ان الغلاف مفتاح الكتاب، وهذا يرتب مسؤولية كبيرة على مصمم الغلاف. وذهبت نجاح إلى هناك لطالما كانت قارئة شغوفة بالكلمات والأدب والملمس والورق والمواد. وخلال ممارسة هذه المهنة عملت كثيرًا على الورق والحبر. لذلك ، كان من الطبيعي أن تبني علاقة خاصة مع الكتب والطباعة.
هل يجب أن يكون مصمم غلاف الكتاب قارئًا نهمًا؟ نعم، لأن القراءة عادة. هذا ما تعترف به نجاح. ويحس من يتأمل اعمالها إن الغلاف أكثر من مجرد لعبة تصميم، إنه أيضًا حقيقة معرفة ما هو مريح للقراءة، والقدرة على إنشاء شبكة داخلية وهوامش كافية لوضع أصابعنا دون تغطية النص، ومعرفة الوزن والشكل والمناولة. لذا، نعم، يجب أن تكون معتادًا على الاتصال بكائن الكتاب لتتمكن من تقديم واحد مناسب قدر الإمكان.
حين ذهبت نجاح لتعمل في دار الفتى العربي كان الكتاب بالنسبة لها أبعد ما يكون عن سلعة والغلاف أبعد ما يكون عن الصنعة. فهي على صلة خاصة مع الكتاب الذي كان مفتاح النهار والليل والنافذة إلى الشمس في الخارج وهي تراها ولا تستطيع أن تخرج اليها، كات قوانين المنزل تحول دون خروج الطفلة، فلم يكن سوى الكتاب، وبقيت هذه العلاقة قائمة إلى يومنا هذا. لا تستطيع نجاح أن تصمم غلافا من دون أن تقرأ الكتاب، ويحصل أن صممت غلافا بسهولة، والعكس هو الصحيح. والمعيار هنا هو الحب والعلاقة التي تنشئ مع الكتاب بوصفه كائنا حيا له كل المواصفات، بداية ونهاية، ومصير. الغلاف هو عنوان المصير.
وساعد نجاح لتنمية هذه الروحية تجاه الغلاف العمل في دار الفتى العربي، وهي مشروع نشأ في العام 1974 كأول دار مستقلة لكتب الاطفال وشارك في تمويله عدد من رجال الأعمال اغلبيتهم من الفلسطينيين مثل حسيب الصباغ وعبد المحسن القطان، واشرف على المشروع شخصيات ثقافية وفكرية مثل احسان عباس، ومن كتاب القصة زكريا تامر، وشارك في الرسوم نخبة من افضل رسامي الأطفال العرب وعلى رأسهم محي الدين اللباد، نذير نبعة، حلمي التوني، عدلي رزق الله، بهجت عثمان، برهان كركوتللي، كمال بلاطة. وكبرت تجربة نجاح وسط هذه الحديقة الواسعة من الألوان والملونين الكرماء، واختارت هذا المجال لانها تحمل مشروعاً فنياً ادبياً متكاملاً، اذ اعتبرت ان الكتاب هو انجاز جماعي. لا شك، ان النص فردي بطبيعته، لكنه، بعد ذلك، يخرج من حالته هذه ويصبح بين يدي الناشر والطابع والمصحح والمصمم والقارئ ايضاً. وأرادت ان تكون احد المشاركين في بلورة ما يسمى مشروع “الكتاب العربي”، حيث يسهم كل بمجهوده، وهذا ما مكنها لتحلق عاليا وتصبح خلال ثلاثة عقود في عداد طليعة مصممي الأغلفة في العالم العربي، ومن يلقى نظرة على كتب دار الآداب يستطيع أن يميز ببساطة أن هناك عددا كبير من الأغلفة تجمعها شخصية واحدة، هي تلك التي خرجت مت تحت يدي نجاح برؤية تلخصها في أحاديثها الصحفية، بأن الغلاف يمنح المتلقي عدة خيارات حين يقف أمام الكتاب، له حق التأويل، في أن يرى ما وراء الغلاف من إيحاءات وأبعد مما هو ظاهر، وله أن يراه غلافاً برسمٍ جميل مثلاً فقط.
وتشرح أكثر في واحد من أحاديثها “النص المكتوب هو لغة، والصورة المرئية لغة ثانية. ولأنتقل من هذه اللغة إلى الأخرى أعمل على التأويل لا على الترجمة، أنا أقدم صورة موازية للنص، لا ترجمةً حرفية له. وبالتأكيد فإن هذا التأويل هو تأويلي الشخصي بعد قراءة النص” ويبقى الأمر خاضعا للتجريب، ولكن ليس التجريب الذي بلا معايير أو محددات، وتتدخل في ذلك ايضا طرق العمل على الغلاف، الألوان، الرسم بالفحم، بالماء، بالرصاص، بالباستيل. ويمكن أن تستعمل عدة أنواع من الورق، او الصور، أو الغرافيتي، وتبقى حريصة في كل غلاف أن يكون التأويل مفتوحاً، “أن يكون تساؤلاً عن النص. وهنا يمكن أن أضيف أن كل غلاف ليس مغامرة فحسب، بل هو أيضاً محاولة. محاولة في فهم النص وتأويله” في الزمان والمكان، حيث تقوم الفنانة بدراسة للعناصر والظروف الزمانية والمكانية التي ولد فيها الكتاب أو تشكل موضوعه، وغالبا ما يتم توظيف نتائج البحث في الغلاف من خلال تأويل فني يلعب فيه تكوين الفنانة دورا أساسيا، فهي تتفاعل مع العمل عبر مرجعياتها، ولذلك شعرت بسعادة ذات يوم حين قالت لها صديقة فنانة ان رسمها للأميرة في كتاب أندرسن “الأميرة وحبة البازلاء” قد جعلت من هذه الأميرة تبدو وكأنها “فيفي عبده”.
وعلى ذلك، حين نتأمل مجموعة من الأغلفة وعلى سنوات متباعدة، فإننا نقف على وحدة واتساق وتكرار بين جميع الأغلفة، ونجاح في خلق تفرد وخصوصية وجو لكل كتاب. تعدد أساليب وتقنيات العمل يسمح بالحرية في النمط أو الإطار أو الصورة أو الإيماءة المضمنة في شبكة الرسوم هذه. التحدي الكبير هو تجديد الذات داخل نفس السياق من دون تعب وملل على مر السنين. ويبدو التجريب أحد محفزات نجاح، فمن دونه لا يأتي الغلاف على هواها ” أحب أن أجرّب وأبحث دائماً، لذلك هناك أغلفة صممتها وهي مفاجئة، وهناك أغلفة غير مكتملة. هذه ضريبة التجريب والمغامرة. أعتقد أنني حين أفقد هذه المتعة في المغامرة والمحاولة سأتوقف عن تصميم الأغلفة”.
إن أعمال نجاح بلا شك ضد التيار، وفي مفارقة مع كل ما يتم اليوم، حيث هناك جاذبية كبيرة للتكنولوجيا الرقمية. يخبرنا الجميع من أصحاب دور النشر أن المطبوعات ميتة أو في حالة تراجع. ولكن بعض الدور ما تزال تراهن على الطباعة، وهناك دور نشر جديدة مثل المتوسط طبعت خلال وقت قصير مئات الكتب التي لاقت رواجا. قد يكون رهانًا من قبل هؤلاء الناس الذين يؤمنون كثيرًا بالأشياء الجميلة. نطبع أقل ، لكن ربما أفضل.
وبعد هذا كله، فإن الرحلة شاقة، ولا تنتهي دائما على غرار ما يحصل في الكتب السعيدة، ويحدث كثيرا أن لا تسير أمور مصممة أو رسامة الأغلفة على نحو جيد مع الناشر الذي لا يقدر هذا الشريك في صناعة الكتاب، وقد يأتي رد الفعل أو الاعتراض من الكاتب كما فعلت الكاتبة أحلام مستغانمي حين قررت في الطبعة الثانية من كتابها ان تزيح غلاف نجاح طاهر ووضعت صورتها مزينة بالذهبي النافر، ولكن الفنانة لم تقف عند كل ذلك، بما فيها نصيحة الكاتب حنا مينة “ما حرام تعملي أغلفة، روحي ارسمي”!
وبعد هذه الرحلة أين تقف نجاح طاهر اليوم؟ تختصر المآلات بقولها “كل رحلة تصميم غلاف جديد؛ ابدأها كأني ابدأ من الصفر. لا ذاكرة ولا تجربة كل مرة أقف أمام نص مرسل جديد، يُستفز فضولي، وبتهيب أقف كمن يطرق بابا لأول مرة. علّه يكتشف عالماً غامضاً فيه متعة ومعرفة وأصدقاء محتملين. طوبى لذاك الفضول الذي ما زال يسكنني. عندما ابدأ رحلة تصميم غلاف جديد، ابدأ رحلة لا اعرف الى أين ستقودني هكذا، وكأني مجرد وسيلة نقل، أو وسيلة طيران تأخذها رياح مُلتبسة الى أماكن لم تكن في الحسبان. بين الرحلتين، رحلة القراءة ورحلة تصميم الغلاف، أقف احيانا لأستغرب مما أفعل واتمنى أن لا أكون، في المحصلة، “أطرق الباب من الداخل” على حد قول للرائع جلال الدين الرومي.
المدن