الوكيل الأدبي الذي نفتقده في العالم العربي/ قاسم المحبشي
ترتبط مهنة الوكيل الأدبي بوصفه وسيطا بين الكتابة والمجتمع بحقل اجتماعي أوسع، هو حقل أو مجال النخبة بوصفها جماعة اجتماعية تدل على الصفوة والطليعة والندرة والقلة إذ هي تحيل على الاصطفاء والاختيار والانتخاب والقطف والانتزاع من رأس الشيء أو من أساسه وتمتد تلك الإحالة إلى ما يمثل خصيصة الشيء الأكثر تمييزاً له عما عداه وعلى أساس التميز والنقاوة والصفاء والرفعة وعدم الاختلاط مع ما هو عام ومبذول ومبتذل وعادي. والكتابة تعد من أهم المهن الإبداعية النخبوية تضم جماعة من الأفراد يمتلكون خصائص مميزة تجعلهم أكثر قدرة على التميز في أداء أدوار شديدة الأهمية في حياة مجتمعاتهم.
============
مهنة الوكيل الأدبي ليست ظاهرة حديثة بل تمتد إلى فجر التاريخ الاجتماعي للتمدّن الإنساني منذ مرحلة ما قبل الكتابة والتدوين، إذ يمكن رصدها بصيغ وأساليب متنوعة في مهنة الكهنة والدعاة والحفظة والأقران والخلان والتلاميذ كما كان الحال في اليونان القديمة. فلولا وجود أفلاطون لما عرفنا ماذا قال سقراط. ولولا وجود حواريي السيد المسيح لما عرفنا ماذا قال عيسى بن مريم، ولولا وجود الحفظة وأصحاب السيرة ورواة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف لما عرفنا الرسالة المحمدية. وتجدر الإشارة إلى أن تلك المسألة تتّصل بعلاقة المعرفة بالسلطة بالمعنى الفوكوي نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو. إذ بقدر ما يكون للكلام والكتاب والمتكلم والكاتب من دور ووظيفة اجتماعية معترف بها ومقدرة خير تقدير في المجتمع المتعين يكون للوكيل الأدبي قيمة وأهمية. إذ أن النخب الاجتماعية بما في ذلك نخبة الكتاب والمفكرين لا توجد كما توجد النباتات والأشجار في الغابات، بل تتولد في خضم الممارسة الاجتماعية وشبكة علاقات القوى المهيمنة، ولا سلطة الا بوظيفة والوظيفة تخلق العضو كما هو معلوم. ولا وظيفة إلا بدور اجتماعي معترف به ومقدر تقديرا إيجابيا في المجتمع. ويمكن ضرب مثال لذلك من المجال العلمي. أن تكون عالمًا يعني أن تنتمي إلى إطار اجتماعي متشكل من مجموع الفاعلين المشتغلين في النشاط العلمي؛ أي (الجماعة العلمية) بمعنى الانتماء إلى (مجال اجتماعي) مؤسسة محددة، يمكن تمييزها عن بقية المؤسسات الاجتماعية. ويعني ثانيا: أن يتم اختيارك وإدماجك في نسق يقيم فاعلوه علاقات ترابط وفق طرائق تتوافق مع مبادئ مهنية معيارية مخصوصة، وهو يعني أخيرا أنك موضوع لمراقبة اجتماعية، داخل المؤسسة، وأن عليك إتقان الدور الاجتماعي المقدر إيجابيا في الجماعة العلمية.
ويرى الكثير من الباحثين أن النقطة المركزية في دراسة نمو العلم تتصل بوجود دور العالِم المعترف به والمقدر تقديراً إيجابياً في ثقافة المجتمع المعني، وهذا معناه أن المشتغلين في العلم ليسوا أشخاصاً معزولين عن مجتمعهم، بل هم فاعلون ثقافيون يعتمد وجودهم واستمرار نشاطهم على شبكة واسعة من الدعم والإسناد المؤسسي على شكل فرص للتعليم والبحث العلمي وقنوات لمناقشة نتائج أبحاثهم ونشرها، والتقبّل والاعتراف الاجتماعي الضمني بهم بصفتهم علماء يحظون بالقيمة والتقدير الإيجابي في مجتمعهم. وأخيرا الجزاءات التي ينالونها مقابل القيام بأدوارهم المتعددة، دور المعلم أو الأستاذ ودور الباحث العلمي ودور العضو في القسم العلمي ودور المدير أو العميد الإداري، ودور المناقش أو المحكم العلمي في إجازة الأبحاث والأطاريح العلمية أو حارس البوابة.
يعد مدخل الدور الاجتماعي للعالِم من أهم الأنساق المفتاحية في فهم وتفسير سوسيولوجيا النخب، إذ “أن استمرار نشاط اجتماعي ما على مدى فترات زمنية طويلة، بغض النظر عن تغيير ممارسي هذا النشاط، يعتمد على ظهور أدوار اجتماعية لتمكين استمرار وترسيخ ذلك النشاط وقواعده وقيمه ومعاييره، وعلى فهم فئة اجتماعية لهذه الأدوار وتقييم المجتمع الإيجابي لها؛ أي منحها مشروعية وقيمة مقدرة خير تقدير”.
ومعنى الدور هو “ما يتوقع من شخص وعدة أشخاص بوصفهم (جماعة منظمة) القيام به مؤسسيا بصفتهم أعضاء فاعلين داخل الأنساق المختلفة للمؤسسة المعنية، وبهذا المعنى يختلف (الدور) عن (الوضع) كما ذهب جوزيف بن دافيد في كتابه “دور العالم في المجتمع”؛ إذ أن الوضع يشير إلى الجزاءات التي ينالها هؤلاء الفاعلون لقاء القيام بأدوارهم، وهكذا فإن مصطلح “دور” يحدد الوظيفة ومصطلح “وضع” يحدد الموقع التراتبي لوحدة ما في نسق اجتماعي مشخص. في هذا السياق يمكن لنا النظر إلى أهمية وقيمة مهنة الوكيل الأدبي في المجتمع العربي. فالنخب المهيمنة هي التي لديها الوكلاء والحجاب والسماسرة لترويج وتسويق بضاعتهما. في حين أن الكتاب المفكرين والمبدعين في صناعة الكتابة العلمية والفكرية والفلسفية والثقافية والفنية وفي مختلف المجالات الإبداعية لازال يرين عليهم التهميش والإهمال ولم يتم الاعتراف بدورهم الاجتماعي الحيوي في عالم باتت الثقافة فيه هي رهان التنافس ومضماره. فكم هم الكتاب العرب الذين يضطرون إلى اضاعة نصف عمرهم في طباعة افكارهم وتنقيتها والبحث عن دور نشر لطباعتها وتسويقها بسبب ضيق ذات اليد؟
نعم مهنة الوكيل الأدبي مهمة وتستحق الترويج لها بكل الوسائل الممكنة لاسيما في عالمنا الراهن عالم الثورة العلمية والاتصالات والمعلومات إذ شهد العالم المعاصر منذ منتصف القرن العشرين أحداثاً عاصفة ومتغيرات متسارعة على مختلف الأصعدة (الحضارية والثقافية والمدنية)، متغيرات لم يشهد لها التاريخ مثيلاً من حيث جدتها وسرعتها وأثرها وقوتها الصادمة وتعد المعرفة أهم سمات اللحظة الراهنة كما وصفها المفكر الأمريكي أولفين توفلر الذي يرى أن أمم الموجة الثالثة تقوم “بإنتاج ونشر وتوزيع وبيع المعلومات والإعلام والمبتكرات، والإدارة، والثقافة الرفيعة والفنون الشعبية، والتكنولوجيا المتقدمة، والسوفت وير (برامج العقل الإلكترونيSoftware) والتعليم، والتدريب المهني، والرعاية الطبية، والخدمات المالية وغيرها للعالم”.
ومن بين تلك الخدمات الأخرى يمكن أن تقدم أيضاً الحماية العسكرية القائمة على امتلاكها لقوات عسكرية متفوقة تنتمي إلى الموجة الثالثة” بحسب توفلر. هذا معناه اتساع متزايد للمؤسسة الثقافية المعرفية التي يقع الكتاب والمفكر والمقترع بوصفه فاعلًا اجتماعيًا مبدعًا في قلبها ولا تنهض إلا بممارسة نشاطه الإبداعي.
في الغرب صارت مهنة الوكيل الأدبي من التقاليد الراسخة في الدوائر الثقافية والأكاديمية والإعلامية وتقوم بوظائف حيوية تستدعي وجودها وديمومتها، بينما لازالت تلك المهنة مجهولة لدى كثير من النخب العربية. كتبت الكاتبة البريطانية، جوان آيكن في كتاب لها صادر منذ أكثر من ثلاثين عاماً، عن دور وكيلتها الأدبية في أحد كتبها وتنصح الكتاب «بضرورة أن يكون لديك وكيل أدبي»، وتلخص مهامه في «تحسين شروط الناشرين، ومراجعة الاتفاقات، وتقديم الاقتراحات لمنافذ بيع جديدة، إذ قالت: إن وكيلتها الأدبية ‘جين لي روا’ قد كتبت دليلاً صغيراً ممتازاً للتأليف للمجلات والمسلسلات، تحت عنوان ‘بع لهم قصة’ حثت فيه الكتاب الذين كانت تتولى أعمالهم، وكان بعضهم مرموقاً، على أن يعودوا أنفسهم على كتابة ست صفحات يومياً على الأقل، كان شعارها ‘لا بد أن تبقى الكتابة متدفقة وإلّا ستنضب، مثل البقرة تحتاج إلى الحلب’، وقد قالت: لها وكيلتها إن وقت فراغك سيتسع دائماً طالما أنا بجانبك”. وقد لفت نظري أن وكيل أدبي أميركي هو الذي اكتشف الروائي المصري علاء الأسواني وجاء عنوة إلى القاهرة لعقد اتفاقية الوكالة معه. يقول أندرو وايلي، وهو أحد أبرز الوكلاء الأدبيين المعروفين على مستوى العالم، فهو يمثل من خلال وكالته التي تحمل اسمه 700 كاتب على مستوى العالم منهم علاء الأسواني الذي لا يخفي وايلي لحظة واحدة مدى ولعه واهتمامه بأعماله الأدبية التي قادته قراءتها في الولايات المتحدة إلى زيارة مصر للقاء الأسواني لإقناعه بتمثيله من خلال وكالته. يقول أندرو وايلي في حوار معه «جئت إلى مصر في المرة الأولى للقاء علاء الأسواني، بعد إعجاب واهتمام شديدين بأعماله الأدبية، وتحوّل هذا الاهتمام إلى رغبة حقيقية في التعرف على هذا الكاتب العربي المؤثر، ولذلك جئت إلى مصر للقائه، بالرغم من أن الوصول إليه آنذاك كان صعباً، فقد التقينا، وبالفعل استمر الحديث حتى منتصف الليل واتفقنا على أن تمثله وكالتي”.
والخلاصة أن الحاجة باتت ماسة اليوم أكثر من أيّ وقت مضى لمهنة الوكيل الأدبي الذي يقوم بدور الوسيط بين الكتاب والمجتمع بمختلف مؤسساته ويضطلع بأدوار كثيرة منها دور الطباعة والتنسيق والتصحيح والإخراج والترويج والتعاقد والتوقيع والتصدير والبيع وغير ذلك من الوظائف التي تخفف من على كاهل الكاتب الكثير والكثير من الهموم المضنية وتجعله يمنح كل وقته وفكره للكتابة والنشاط الإبداعي الجدير بالقيمة والأهمية والاعتبار.
كاتب من اليمن
مجلة الجديد