سجن صيدنايا.. انتفاضة اللبن/ مالك داغستاني
هل بدا لكم العنوان طريفاً؟ نعم هو كذلك. نحن أيضاً كنا نتداوله بطرافة بعد حدوث الانتفاضة. كان ذلك قبل أن يتحوّل إلى اسمٍ مُعتَمد، يخلو من طرافته السابقة لدى كل من عاش تلك الفترة في سجن صيدنايا.
اعتاد رئيس الجناح أن يتسلم وجبات الطعام عند الباب الرئيسي للجناح. لكن ظهيرة يوم الأحد، الثالث والعشرين من نيسان عام 1989، وكان قد صدر عفو عن العسكريين الفارّين من الخدمة، وخلا السجن من أي أحد منهم، وكان مهمة هؤلاء القيام بكافة أعمال الخدمات في السجن، واصطُلح على تسميتهم “البلدية”. حضر الرقيب وطلب من رئيس الجناح أن ينزل برفقة مجموعة إلى المطبخ لإحضار طعام الغداء، وهو ما لم يكن يحدث عادةً.
في طريق النزول إلى المطبخ برفقة الرقيب “ثابت كيوان” (رقيب مجند كان من الواضح، وفي كل تصرفاته أنه شخصية عُصابية غير سويّة، ويمكن وصفه بأنه كتلة متكاملة من عقد النقص تنجدل على الكثير من الحقد المتأصّل فيه) تصادف مرور مجموعة أخرى من جناح آخر، فصرخ الرقيب بمجموعة جناحنا: “وجهكم عالحيط”. أبو زياد ودون تردد أجابه: “شو نحنا عبيد أبوك؟ أصلاً ما شغلتنا نطالع الغدا”. بعد مشادّة كلامية وصلت المجموعة للمطبخ لاستلام وجبة الغداء وكانت مكوّنة من “بْلَوّْ” برغل و”بيدون” لبن. كشف أبو زياد (علي رحمون. مدرّس مادة علم النفس في المعهد الرياضي، اعتقل أثناء تأديته الخدمة العسكرية، وأصيب بطلق ناري في ساقه أثناء الاعتقال) كشف الغطاء عن اللبن ليجد أنه يحتوي كميةً هي أقل من ربع ما يُفترض أن تكون عليه. أبو زياد سأل الرقيب: “وين اللبن؟ بهاي الكمية ما بيطلع للشخص عشر غرامات، والحصة المخصصة لكل شخص 150 غرام” وبدأت مشادة جديدة مع الرقيب، تطوّرت إلى أن حاول الرقيب مدّ يده، فقام أبو زياد بالرد عليه وهو أمر لا يحدث في السجن، ورفض استلام اللبن. لم تكن تنقص أبو زياد الشجاعة ليتصرف على هذا النحو الحاسم، فتم إنزاله إلى الزنزانة. أخذه للزنزانة الرقيب إبراهيم صيّوح الذي كان طالباً لديه في المعهد الرياضي قبل اعتقاله. عاد باقي أفراد المجموعة بالبرغل فقط لكنهم تركوه خارج الجناح، ما يعني رفض الطعام، وهذا أمر لا تمرره إدارة السجن بسهولة.
سريعاً وصل المساعد “علي عمران” إلى الجناح، وعمران هذا مشهود له بضعفه وغبائه الشديد، كان يبدو عكس ذلك، عندما لا يفتح فمه. تم إدخال السجناء إلى مهاجعهم وإقفال الأبواب. عمت الجلبة الجناح، وبدأ المساعد المرور على المهاجع ليسأل كل مهجع على حدة: “ما بدكِن تاكلو؟”. في المهاجع العشرة ودون أي استثناء، كان الجواب بالنفي. حتى من لم يكن يعرف عما جرى شيئاً أجاب بلا، ففي الجناح قد نختلف على كل شيء فيما بيننا، أمّا أمام إدارة السجن فهذه من المحرّمات.
سمعنا فتح باب المهجع الأول، ومن ثم بدأت ضربات “الكرباج” تنهال على أحد ما، دون أن نسمع الصراخ المعتاد أثناء التعذيب. فيما بعد سنعرف أنهم افتتحوا الضرب بمراد عباس ذي البنية الرياضية القويّة الذي احتمله دون صوت. تالياً سمعنا أصوات الضرب تنهال على شخص آخر، كان سمير كيّال (أستاذ اللغة الإنكليزية). على الفور وصل إلى آذاننا صراخه، ثم تلاه صراخ إبراهيم زورو (معلم ابتدائي).
ليس من المعروف بدقّة من الذي بدأ وأشعل الانتفاضة، لكن طرقاً بقطعة خشبية على باب أحد المهاجع جعل باقي المهاجع تستجيب على الفور. كلّ من استطاع الوصول إلى قطعة خشبية أو أي شيء صلب حمله واتجه إلى صفيح الباب المعدني وراح يضرب بأقصى ما استطاع من القوة. جدار المهجع من الجهة المطلة على الممر كان بالكامل من الصفيح المعدني السميك، بعرض ستة أمتار وارتفاع ثلاثة. كانت أصوات الضرب على هذا الصفيح مرعبة، ولا أذكر أنني سمعت بعد ذاك اليوم ما يشبه تلك الأصوات. بصعوبة بالغة، بدأنا نسمع صراخ المساعد منادياً بأعلى صوته، وبطريقة ندّية تخلو من أي صيغة للأمر كما هو معتاد: “نحنا وقّفنا، أنتو وقفوا.. نحنا وقفنا، أنتو وقفوا”. كانت صيحاتنا تتعالى وتتداخل من المهاجع العشرة، هناك أصوات هدّدت بإحراق البطانيات والفرش، وبالتالي حرق السجن. أخيراً تكررت تقريباً وتوحدت الصرخات المطالبة بعودة أبو زياد: “منوقّف بس تطالع رئيس الجناح من الزنزانة”.
إذاً هي المفاوضات التي لم تأخذ أكثر من دقيقة. وافق المساعد على الطلب وخلال دقيقتين عاد أبو زياد، وتوقف الطرق على الأبواب، وانسحب المساعد وعناصر الشرطة من الجناح. سيخبرني علي رحمون فيما بعد أنه كان يسمع الصوت من زنزانته، ويشعر كأن زلزالاً قد ضرب السجن، إلى أن سارعوا إليه وأخرجوه من الزنزانة وحملوا عنه البطانيات والعازل، وهم يطلبون إليه أن يسرع بصعود الدرج ليقوم بتهدئة الجناح، مع الوعد بأن مدير السجن قادم لحل المشكلة. مع شعورنا بالانتصر المؤقت، كنا نعلم أنه لا يمكن لهكذا خاتمة أن تكون مقبولة في أيٍ من سجون الأسد، وبدأنا انتظار الخطوة التالية.
لم يكن قد مضى كثير من الوقت، ونحن نتساءل حول احتمالات ردّة الفعل القادمة، عندما بدأنا نسمع أصوات ركض عناصر الشرطة. كان العقيد “بركات العش” مدير السجن قد أخذ علماً بما حدث فور وصوله لمنزله في دمشق، فعاد إلى السجن. العقيد العش لمن لا يعرف هو الدليل الذي رافق عناصر سرايا الدفاع حين كان نائباً لمدير سجن تدمر عام 1980 خلال ارتكابهم مجزرة تدمر الشهيرة. كانت المرة الأولى، وأظنها الأخيرة خلال وجودنا في السجن، التي نرى فيها سريّة من عناصر الشرطة يحملون أسلحتهم الرشاشة ويدخلون جناحنا برفقة مدير السجن. فكما هو معروف، ومن دواعي الأمن في السجون، يفترض ألا يكون هناك أي سلاح قريب من السجناء، فلربما استطاعوا السيطرة عليه. للمفارقة حضر العش حاملاً عصاه (عكّازه) الشهيرة ومرتدياً عباءة رقيقة (مزويّة) فوق بدلته العسكرية.
بعد تهديده بإرسالنا إلى سجن تدمر، والطلب إلينا أن نجهّز حاجياتنا فوراً، ونحن خلف الأبواب المغلقة، تم فتح المهاجع وإخراجنا جميعاً إلى الممر، مع أوامر بأن نقف ووجهنا إلى الجدار الخارجي. عبر الصراخ والحركات العصبية، حاولوا إشاعة جو من الرعب، مع توجيه أسلحتهم إلينا، ليبدأ العقيد مدير السجن بعدها واحدة من خطبه الاستعراضية المعتادة. عند الوصول للحديث عن سبب المشكلة، وهو وزن كمية اللبن، سيفاجئنا بقوله إن من ضمن كمية اللبن المخصصة هو الماء المضاف إليه. بعد جدال حول أننا غير مزارين وأننا نعتمد على طعام السجن فقط، سيطلق العش بصوته الممطوط جملته الشهيرة: “أنتو شايفين بقرات إمي عم يرعوا هون، وأنا ما عم جيبلكن لبن؟”. سينتهي الاستعراض بأوامر العقيد العش بنقل نزلاء خمسة من مهاجع الجناح إلى أجنحة الإخوان المسلمين. ليغيبوا عدّة شهور في عقوبتهم تلك. يومها بدت لنا تلك العقوبة كتسوية مقبولة أمام هول ما فعلناه.
سنعلم فيما بعد أن نزلاء الأجنحة الأخرى اعتقدوا أن أصوات ضربنا للأبواب كانت أصوات تفجيرات، وذهب بعضهم للظن أن مجزرة على غرار مجزرة تدمر كانت تحدث في سجن صيدنايا. هل كانت بضعة كيلوغرامات من اللبن تستحق ما حدث؟ في السجن لا تقاس العلاقة مع السجان بهذه الطريقة. هي معركة يومية ودائمة ليكون السجن أقل وطأة. حدث هذا معنا، نحن الناجين، قبل أكثر من ثلاثة عقود. اليوم مع تطور شراسة الحالة الأسديّة، السجناء في صيدنايا وغيره من السجون، لا يموتون من التعذيب فقط، بل ومن الجوع أيضا.
تلفزيون سوريا