سوريا… سجون الاختفاء القسري والابتزاز المادي
على رغم أنّ الاختفاء القسري ليس استراتيجيّة جديدة بل أداة لطالما استخدمها النظام السوري لقمع المعارضين، إلّا أنّ استخدامها ارتفع بشكل كبير بعد انتفاضة 2011، فعشرات الآلاف من الناس تم إخفاؤهم قسراً.
“أدخلوه إلى القاعة، وهنا سأكمل الرواية نقلاً عن والدتي وشقيقتي اللتين كانتا في الزيارة. حمله اثنان من السجانين، أو جرّاه، وكي يستمرّ واقفاً ألصقا جسده بالشبك وأسنده أحدهم بيده من ظهره. في هذه اللحظة لمحته أختي فقالت لأمي: “ليكي ليكي هادا الشب… كيف أهله بدّن يزوروه؟!”. فنظرت إليه أمي وقالت: “إي والله خطي… هادا كيف أمه رح تتحمل تشوفه!”. حتى أذاع السجانون الاسم، ونادوا أمي قائلين: “هادا ابنك”!”.
يصف محمد تجربته المريرة في سجون سوريا في شهادة أدلى بها لـ“رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”. فالزيارات التي من المفترض أن تكون أمنية السجناء وبصيص أملهم، كانت جحيماً عليهم إذ يقول أشرف الحسين “في أيام الزيارات كان كل منا يأخذ زاوية ويدعو ألّا تأتيه زيارة، وحتى أننا كنا نتبادل التوصيات، في حال الإفراج عن أيّ منا، بأن يزو أهالي الآخرين لطمأنتهم عنا وأن يطلب منهم عدم زيارة ابنهم السجين إن أرادوا رؤيته حيّاً ذات يوم، فقد يُقتل نتيجة هذه الزيارة. لأن السجانين يأخذونه من المهجع ضرباً ويعيدونه ضرباً”.
وكأنّ التعذيب والظروف اللاإنسانيّة التي يتعرّض لها المعتقلون في السجون السوريّة وأبرزها سجن صيدنايا، لا يكفي، إذ يتعرّض أهاليهم للابتزاز ويُجبرون على رشوة المسؤولين للسماح لهم بزيارتهم أو للإفراج عنهم.
فساد المسؤولين والابتزاز المادي
بحسب دراسة استقصائيّة صادرة عن رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا في كانون الأوّل/ ديسمبر 2020 – وتشمل أكثر من 1200 سجين، تمّ نشرها في صحيفة الغارديان البريطانيّة – هذا الابتزاز في نظام الاحتجاز ليس فرديّاً أو استثناءً بل مقصود واستراتيجيّ، إذ إنّه يسمح بجباية أموال ضخمة لجهاز الأمن في البلاد، وقد يساعد كبار أعضاء نظام الأسد على تجنّب العقوبات، وفقاً للغارديان.
ويوضح التقرير أنّ المسؤولين في سجن واحد حصلوا على ما يزيد عن 2.7 مليون دولار أميركي من خلال عمليّات الابتزاز هذه سواء للحصول على معلومات عن السجناء أو لزيارتهم أو إخلاء سبيلهم. فحوالى ربع الذين شملهم الاستطلاع إنهم ضُغط عليهم وتمّ ابتزازهم ماديّاً، وتفاوتت قيمة المبالغ بين بضعة آلاف من الدولارات إلى حوالى 30 ألف دولار (22 ألف جنيه إسترليني)، خصوصاً من العائلات التي تعيش في المنفى.
أمّا المبالغ المدفوعة فتوزّعت على الشكل الآتي:
أ- الحصول على معلومات عن المختفي قسراً بلغت نحو 462 ألف دولار أميركي بحيث أكّد أكثر من ربع المشاركين في عيّنة المختفين قسراً في الدراسة أي حوالى 129 مشاركاً أنّهم دفعوا مبالغ ماليّة لقاء الحصول على معلومات.
ب- وعود بالزيارة: 7 في المئة من المشاركين أي 38 مشاركاً دفعوا أموالاً بقيمة نحو 95 ألف دولار أميركي.
ج- وعود إخلاء السبيل: تجاوزت المبالغ المدفوعة المليون دولار.
أمّا الناجون فقالوا إن المبلغ الإجمالي الذي تمّ دفعه للحصول على معلومات حول مصيرهم ووعود بزيارتهم، يتجاوز المليون دولار أميركي فيما دفع المشاركون الـ196 في الدراسة ما يفوق المليون دولار أميركي أيضاً، ما يسلّط الضوء على حجم ظاهرة الابتزاز المادي، باعتبار أنّ خلال السنوات التسع الماضية من النزاع، قامت القوات الحكومية السورية والمجموعات التابعة لها باحتجاز ما يقارب 100 ألف شخص بشكل تعسفي أو غير قانوني. هذه الاعتقالات جزء من سياسة واسعة النطاق ومنهجية لاعتقال المدنيين، “المنشقين، وكذلك أولئك الذين يُعتقد أنهم متعاطفون مع الجماعات المسلحة” بحسب تقرير للمركز الدولي للعدالة الانتقالية صادر في أيّار/ مايو 2020. عام 2011، قدّرت “منظمة العفو الدولية” عدد الذين قُتلوا في الحجز بأكثر من 17700 شخص.
الاختفاء القسري
عام 2012 هو عام الاختفاء القسري وفقاً للدراسة، ونصف هذه الحالات حصلت في محافظتي دمشق وإدلب، “وتظهر إدلب كحالة خاصّة” فالمختفون قسراً من مواليد إدلب يشكلون حوالى نصف المختفين قسراً وأقل من ربع الناجين الذين تم توثيقهم في الدراسة.
“معظم مواليد إدلب المختفين قسراً تم اختطافهم على أحد الحواجز (53.36 في المئة)، بينما بالنسبة إلى مواليد بقية المحافظات فتنخفض النسبة إلى نحو 43 في المئة (المعدل العام هو 48 في المئة). إدلب أعلى من المعدل بخمس درجات تقريباً. إذا قارننا بين نسبة المختفين قسراً على يد الجيش العربي السوري من مواليد إدلب وغيرهم، نلاحظ وجود فارق كبير (50 في المئة مقابل 31.45 في المئة). إدلب أعلى من المعدل العام بنحو 12 درجة. كل هذا من شأنه أن يشير إلى احتمال وجود عمليات اختفاء قسري على الهوية”.
دراسة رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا
فعلى رغم أنّ الاختفاء القسري ليس استراتيجيّة جديدة بل أداة لطالما استخدمها النظام السوري لقمع المعارضين، إلّا أنّ استخدامها ارتفع بشكل كبير بعد انتفاضة 2011، بحسب تقرير المركز الدولي للعدالة الانتقالية، فعشرات الآلاف من الناس تم إخفاؤهم قسراً. ويبقى مصيرهم في كثير من الحالات مجهولاً بين من تمّ إعدامهم، ومن توفي نتيجة التعذيب الوحشي أو الظروف القاسية والإهمال، ومن ما زال على قيد الحياة ومصيره غير معروف.
والجدير ذكره أنّه بحسب البيانات حوالى 5 في المئة فقط من المختفين قسراً كانوا خاضوا تجربة اعتقال سابقة مقابل حوالى 94 في المئة ممّن لم يتعرّضوا للاعتقال سابقاً.
أمّا السجن الذي يرجّح معظم الأهالي وجود المختفين قسراً فيه فهو سجن صيدنايا نظراً لأنّه أحد أكثر السجون رعباً وهمجيّةً في سوريا. فهو مسؤول عن أكثر من 80 في المئة من الحالات.
“إذا سجلت أنك مريض فقد يعني هذا نهايتك، بسبب الضرب الذي تتعرض له ذهاباً وإياباً في الطريق إلى مستشفى تشرين العسكري، وحتى من الطبيب. عندما يصحبك السجانون يعطونك رقماً وتمنع من ذكر اسمك. في إحدى المرّات سجّلت أنّي مريض فاعطوني الرقم 2529. كنا حوالى 30 محالاً إلى الستمشفى، وعندما وصلنا كان أربعة منا قد توفوا. في اليوم التالي أخذوني لوضع جثث من قضوا في المستشفى في أكياس. كانوا أكثر من 15 قتلوا على يد الشبيحة والأطباء. أعتقد أن عدد الذين لاقوا حتفهم في هذا المستشفى أكثر من الذين ماتوا في سجن صيدنايا!” يقول عماد الدين شحود.
على من تقع المسؤوليّة؟
بما أنّ آخر مشاهدة للمختفين قسراً وقعت في مراكز احتجاز تابعة لوزارة الدفاع، فالوزارة هي المسؤولة الأكبر عن معظم حالات الاختفاء القسري. ويعتبر المسؤول الأوّل فيها عن الاختفاء القسري هو الجيش العربي السوري إذ إنّ البيانات تظهر “أنه مسؤول عن أكثر من ثلث الحالات” فحوالى نصف المختفين قسراً يتمّ توقيفهم على الحواجز التي ترتبط بالجيش العربي السوري.
وتأتي في المرتبة الثانية شعبة الأمن العسكري بحوالي 19 في المئة على الأقل من الحالات. ثمّ إدارة المخابرات الجوية وشعبة الأمن السياسي بما يقارب 5 في المئة. هذا إضافة إلى أنّ أكثر من نصف هذه الحالات شوهد في المرّة الأخيرة في مراكز تابعة للشرطة العسكرية وتحديداً في سجن صيدنايا.
درج