سيرة نتفليكس: من بيع الشامبو إلى ثورة في عالم الأفلام والمسلسلات/ محمد تركي الربيعو
في سياق قراءة السير الذاتية، اعتاد القارئ العربي على قراءة قصص وسير شخصيات في عالم السياسة أو الفكر أو غيرها من عوالم الشهرة، لكن في موازاة هذا العالم الحكائي، لم تتوفر لهذا القارئ فرصة الاطلاع بالمقابل على قصص وسير بعض المؤسسات العربية أو العالمية، التي كان كان لها تأثير كبير في الأحداث أو في حياته في السنوات الأخيرة، وربما يعود ذلك لأن هذا الأدب المتعلق بسير المؤسسات لم يحظ بالاهتمام والدراسة الكافية مقارنة بالسير الشخصية في عالمنا العربي، على الرغم من أن الواقع وحتى التاريخ أثبتا أن المؤسسات كان لها تأثير أكبر من تأثير الأفراد، وأن قصة بعض المؤسسات والتقلبات التي عاشتها، انما تعكس حجم التغيرات السياسية والاقتصادية، التي عرفتها بلدان عديدة.
ولعل من الكتب القليلة والممتعة التي صدرت في هذا السياق مؤخرا، هو الكتاب الذي ألفه مارك راندولف (مؤسس شركة نتفليكس) حول سيرة وبدايات هذه الشبكة، التي استطاعت في السنوات القليلة الأخيرة غزو حياتنا، وتعديل أسلوب تعاطينا مع الأفلام وطقوس مشاهدتها، كما تمكنت من توفير عوالم سينمائية للمشاهد، لم يحلم بها أكثر المتحمسين لهذا العالم، بمن فيهم صناع هوليوود، إذ بات بإمكان المشاهد، الاستمتاع بآلاف الساعات، وتحويل جهاز موبايله إلى صالة عرض، يمكن من خلالها متابعة أهم الأفلام السينمائية والوثائقية. كما أن هذه الشبكة، تمكنت في فترة قصيرة من تحرير بعض رواد السينما من عجز القنوات السينمائية التقليدية، على صعيد شراء ما هو جديد، إذ لم تعد قادرة على المجاراة، إن لم تكن السبب الأساسي في إغلاقها خلال السنوات القريبة المقبلة.
وبالعودة، لسيرة نتفليكس، فان القارئ لها سيكتشف أن قصة هذه الشبكة، ليست كما يخيل لنا في السرديات الامبراطورية، التي عادة ما تتحدث عن هذه الشركة بوصفها جزءاً من آلة رأسمالية ضخمة أو نيواستعمارية، كما يحلو للبعض وصفها، بل إن بدايات هذه الشركة في عام 1997 كانت بسيطة، وعادية، كما أنها بدايات لم تكن توحي بأي شيء مما نشاهده اليوم.
تبدأ قصة نتفليكس، في سيارة فولفو قديمة، كانت تقل مؤلف الكتاب راندولف وصديقه ريد هاستينغز، الذي سيغدو المدير التنفيذي لشركة نتفليكس، اللذين اعتادا على التنقل بها أحيانا نحو عملهما في (سيلكون فالي) في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، لا لتمضية الوقت مع بعضهما، بل لتخفيف أعباء تكاليف التنقل، ومشاركة سعر البنزين.
هذا لم يكن يعني أنهما فقيران، بل ربما هو نمط الحياة الأمريكية، الذي كان يدعوهما للحرص على المبالغ التي يصرفونها. وفي الطريق كان هذان الصديقان يتبادلان الحديث يوميا حول ضرورة بدء مشروع تسويقي، يوفر لعائلتيهما حياة رغدة، ويحقق لهما مغامرة اقتصادية جديدة. كان راندولف، كما يذكر قد ولد في إحدى المناطق الريفية الأمريكية، وكان منزلهم في الستينيات يعج بكتب وصور فرويد، عالم النفس النمساوي الشهير، لكن هذا الوله كما يؤكد لم يكن لأن فترة الستينيات مثلت حقبة التحليل الفرويدي بامتياز، بل لأن فرويد في الواقع هو عم والده الأكبر، وهو ما يعني أن جده كان مهاجرا كحال قصة أمريكا نفسها. في عام 1997، أخذ يفكر ببيع أي شي، ولذلك بدأ يفكر مع شريكه ريد بإنتاج مضارب بيسبول خاصة، ولاحقا فكرا بإنتاج شامبو مصنوع حسب الطلب، يرسل عن طريق البريد «كل ما عرفته هو أنني أردت بيع الأشياء على الإنترنت».
في أحد الأيام رفضت ابنته الصغيرة النوم مبكراً، وكان الشيء الوحيد الذي أقنعها بالعودة إلى النوم نسخة من فيلم علاء الدين، وخلال إكمال مشاهدته بعد نومها، خطر بباله أن يكون العمل هو في أشرطة الفيديو التقليدية. في تلك الأيام لم تكن الأقراص الرقمية (السيديهات) قد ظهرت بعد، وربما ما شجعه على هذا القرار، أن شريكه بدا غاضبا أيضا بعد هذه الحادثة، بسبب دفعه غرامة أربعين دولارا لشركة تأجير الفيديوهات الأشهر في أمريكا (بلوكباستر) ولذلك قرر بيع أشرطة الفيديو، من خلال الإنترنت الذي بدا يحظى باهتمام العاملين في التسويق، لكنهما سيعدلان لاحقا عن هذا الخيار، إذ كانت شركة بلوكباستر قد انتشرت بأكشاكها في كل شوارع أمريكا تقريبا.
مع ذلك، بقي موضوع تأجير الأفلام يشغلهما، وفي هذه الأثناء، اكتشف بالصدفة وجود أقراص الفيديو الرقمية، فقبل عام 1997، كانت هذه الأقراص موجودة في اليابان، وبحكم أن القرص صغير الحجم، فقد قررا تأجير هذه الأفلام، وإرسالها عبر البريد (لانخفاض تكلفة شحنها) بحيث يصل الفيلم في اليوم التالي، وهنا بدأت أولى خطوات تأسيس شركة لتأجير وبيع الأفلام الرقمية، يومها بدأت الشركة برأسمال صغير (مليوني دولار).
في الأسابيع الأولى وصلت مبيعات الشركة لـ100 ألف دولار تقريبا، مع ذلك كان هذا الرقم يعد فشلا، لأنه فكرتهم كانت تقوم بالأساس على تأجير الأفلام، وليس تحولهم إلى منصة للبيع. وفي هذه الفترة تمت دعوته مع شريكه للاجتماع بشركة أمازون للتباحث حول مستقبل الشراكة بينهما، وهنا يكشف لنا المؤلف عن قصص طريفة حيال شركة أمازون وصاحبها جيف بيزوس، الذي احتل العام الحالي قائمة أغنى الرجال في العالم، وكيف كان عليه حال هذه الشركة تقريبا في فترة 1998؛ إذ كان الموقع في تلك الأيام مكانا مخصصا لشراء الكتب، إلا أن بيزوس قرر في بداية عام 1998 أن موقعه لن يكون مكتبة فحسب، بل سيصبح متجرا لكل شيء، ولذلك طلب اللقاء بمؤسسي نتفليكس.
يذكر أن اللقاء جرى في مقر شركة أمازون «كان السلم الذي يقوده إلى الطابق الثاني مشوها ومخيفا، كانت صالة الشركة مبعثرة، وتتكون من سجادة متسخة، وكانت غرفة الاجتماعات تتكون من طاولة مصنوعة من أبواب معاد تدويرها، ولذلك كان بإمكانه رؤية مكان مقابض الأبواب، التي غطت بمقابس دائرية خشبية» وقد ذكر له بيزوس أن هذا التقشف مقصود لأنهم ينفقون أموالهم على الأشياء التي تؤثر في رضى الزبائن، مع ذلك يؤكد أن هذا التقشف عكس أيضا شخصية مؤسس أمازون، إذ كان «مشهورا بتقتيره إن لم نرد أن نقول بخله» حيث اشتهر بـ«اجتماعات فطيرتي البيتزا» وتقوم فكرتها على أنه إن كلف إطعام مجموعة من الأشخاص العاملين على مسألة ما، أكثر من فطيرتي بيتزا، فهذا يعني أنه قد جرى توظيف عدد مبالغ به من الأشخاص. بعد الاجتماع أدرك الشريكان في نتفليكس أن مستقبل بيع الأقراص الإلكترونية في خطر في ظل دخول أمازون، لذلك قررا الإقلاع عن بيعها، والاقتصار فحسب على تأجير الأفلام، قبل أن تأتي فكرتهم العبقرية عن الاشتراكات، حيث يتمكن المشترك من استئجار الأفلام، كما يشاء
في عام 2002، وبعد فترة من العمل، عرضت عليهم شركة بلوكباستر لتأجير أشرطة الفيديو، شراء الشركة، ورغم ممانعتهما في البداية، لكنهما قبلا بيعها بـ50 مليون دولار، مع ذلك رفضت الشركة هذا المبلغ، وبعد ذلك بعقدين تقريبا كانت قيمة نتفليكس قد بلغت 150 مليار دولار، بينما اضطرت الشركة السابقة إلى إقفال أكشاكها كافة والحفاظ على مركز واحد، ربما للتذكير بزمن بيع أشرطة الفيديوهات السميكة.
مما يذكره أن ما ساهم لاحقا في تطوير المشروع، هي الثورة التكنولوجية، وانخفاض سعر مشغلات الأقراص الرقمية الى النصف، وأيضا إقناع شركة سوني اليابانية بالتعاون في مسألة توزيع عروض مجانية لشهر، مقابل شراء هذه المشغلات من الشركات اليابانية، وهو ما كان يصب في التعريف بهم. وكما فعلت الشركة في البداية، عادت مرة ثانية للاستفادة من ثورة التقنيات، عبر استخدام تقنية تحميل الأفلام مباشرة بواسطة الإنترنت، الذي كانت خدماته تتطور ببطء، وهنا يؤكد أن المديرين التنفيذيين للاستديوهات العالمية كانوا قد تجاوزوا الستينيات من العمر ولا معرفة لديهم بهذه الثورة، ولذلك بدوا خائفين في البداية من تكرار تجربة انتشار الأقراص الموسيقية.
وفي سياق فكرة الاشتراكات، يؤكد أنه مع افتتاح الاشتراك المجاني لشهر، وجدوا أن آلاف المشتركين استمروا معهم لأشهر أخرى، كما وجدوا أنفسهم أمام نوعين من المشتركين، النوع الأول لقبوه بالطيور، الذي يزور الموقع كل بضعة أيام لمشاهد فيلم، بينما هناك مجموعة أخرى باسم الخنازير، التي لا تشبع من رؤية الأفلام. ومع نهاية هذه الفترة (2002) وخلافا لما هو متوقع حيال مؤسسي الشركات، كان راندولف صاحب الفكرة قد أدرك بأنه غير قادر على المضي أكثر من ذلك في تطوير نتفليكس، وأن مستقبلها يحتاج لأشخاص آخرين أكثر مهارة، ولذلك فضل بعد أن دخلت الشركة عالم الأوراق المالية، وغدت تقدر بالملايين، أن يغادرها، لتتطور الشركة لاحقا وتغدو أهم محتوى للأفلام في العالم، كما غدت مشاركة في إنتاج قسم كبير من هذه الأفلام، ولتتمكن بذلك من جلب 190 مليون مشترك. ومما يذكره أن سبب نجاح هذه الشبكة منذ البداية، أنه خلافا لبعض الشركات الكبيرة، لم تلزم العاملين لديها بدوام يومي، فقد كان المطلوب من كل واحد منهم تأدية عمله، سواء في المكتب، أو تحت ضوء القمر، أو في أي مكان يريد، وهو ما انعكس في علاقة الموظفين بالمؤسسة بوصفها تضمن لهم الحرية والمكانة اللائقة، بينما كان كثير من المؤسسات الأمريكية في ذلك الوقت توفر طاولات ومطاعم فاخرة لموظفيها لكنها كانت تتعامل معهم وفق قاعدة (ساعات العمل قبل ساعات الإنتاج) ولذلك فشلت، وربما كانت سببا أيضاً في فشل عدد من المؤسسات الإعلامية العربية في السنوات الأخيرة.
كاتب سوري
القدس العربي