في مساءلة خياراتنا وأهدافنا/ راتب شعبو
بعد تفكّك المنظومة الاشتراكية؛ حصلت الديمقراطية السياسية، في تفكير الوسط السياسي العربي المعارض، على اعتبار عال، بوصفها نقيض الحال السياسية البائسة التي تعيشها بلداننا، الحال التي تضيف إلى القمع المعمم فقرًا وفسادًا منهجيًا، يخنق التنمية ويضع غالبية السكان في دائرة القلق الاقتصادي (قلق تأمين العمل أو السكن أو الشيخوخة أو حتى تأمين الغذاء)، وعلى هذا؛ بات يُنظر إلى الديمقراطية على أنها المدخل السياسي لحلّ المشكلة الاقتصادية أيضًا. ويقوم هذا التصوّر على محاكمة منطقية، تقول إن الديمقراطية (انتخابات وتداول سلطة وحريات عامة)، بما تتيحه من حريات صحفية ورقابية.. إلخ، تحدّ من الفساد وسوء الإدارة الناجمين عن الاستبداد (احتلال طغمة للدولة واحتكار كامل للمجال العام)، وهما من أهم أسباب فشل التنمية وسوء توزيع الثروة في بلداننا.
هكذا عاد الاشتراكيون (الأمميون منهم والقوميون) عن عدائهم للرأسمالية الغربية، وقبروا (مؤقتًا كما يؤكد بعضهم) بديلهم التاريخي الذي طالما بشروا به، ووجدوا أن الديمقراطية التي كانت، حتى وقت غير بعيد، مجرد لعبةٍ سياسية فارغة تحافظ على أساس الاستغلال (الرأسمالية)، يمكن أن تخصلّنا من مشكلاتنا، كما يخلّصنا هرمون الأنسولين من أعراض الداء السكري.
صار تعبير “الديمقراطيين السوريين” شائعًا، فيما لم يكن له هذا الحضور قبل التحولات الديمقراطية التي شهدتها دول الكتلة الشرقية السابقة. احتلت كلمة الديمقراطية بعد ذلك المساحة التي سبق أن شغلتها يومًا “الاشتراكية”، حين كان الاشتراكيون السوفييت على سروج خيلهم، وكان الجميع (سلطات ومعارضات) يخطبون ودّ هذه المفردة الساحرة حينذاك. وغنيّ عن البيان أن هذا التحوّل جاء تحت تأثير متغيرات خارجية، تمثلت في ركود المعسكر الاشتراكي ثم تفككه، ولم يكن الداخل عنصرًا فاعلًا في هذا التحول الذي نقل القناعات “الداخلية”، من ضفة إلى أخرى. وهذا يعني أن عملية التفكير السياسي لدينا يغلب عليها “اختيار” النموذج بدلًا من صناعته. والسؤال الذي قد ينفجر في وجهنا: كيف نستطيع نحن، البلد الثانوي والشعب المقموع، أن نصنع نموذجًا؟
لا يمكن الجدال في مسألة تفوّق النظم الديمقراطية الغربية، قياسًا على نظم الاستبداد السياسي التي ترزح شعوبنا تحتها. ولا يمكن إنكار حق الشعوب في التطلع إلى تأسيس أنظمة حكم ديمقراطية تصون حياة الناس وكرامتهم في حدود معقولة، كما نراها في الدول الغربية. غير أن الأسئلة التي ينبغي مواجهتها: ما هو طريق الوصول إلى نظام ديمقراطي فعلي؟ وهل العقبة على هذا الطريق هي النظام المستبد القائم فقط؟ وهل “إسقاط النظام” يفتح الطريق فعلًا لبناء ديمقراطية سياسية؟ ألم نشهد سقوط نظام صدام حسين وتفكيك جيشه وأجهزته الأمنية، مع وجود وصاية أميركية “ديمقراطية” مباشرة، ثم لم يقدنا هذا إلى الديمقراطية التي نتصورها مدخلًا إلى الاستقرار والوطنية ومستوى معقول من العدالة الاجتماعية؟ ألم نشهد سقوط نظام حسني مبارك بثورة عارمة (دون تفكيك الجيش والأجهزة الأمنية) ثم لم يُفضِ ذلك أيضًا إلى الديمقراطية المأمولة. أين يكمن الخلل؟
في كلا المثالين، جرت، بعد سقوط النظام، انتخابات، وتنافس مرشحون وأحزاب، وتبيّن أن المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والوطنية تفاقمت، بدلًا من أن تتقدم على طريق الحل. النتيجة أن الانتخابات وتداول السلطة وغياب الدكتاتور الفرد، ليست بحد ذاتها مدخلًا إلى الخروج من معاناتنا، وهذه نتيجة تجريبية، وليست منطقية فقط. قد نقول إن الموجات الثورية سوف تتلاحق ثم تحقّق ما فشلت به اليوم. غير أن هذا لا يعفينا من التفكير في السؤال: ما الذي يضمن أن تكون الموجات الثورية التالية أكثر نجاحًا؟ وإذا كان للثورات في اندلاعها وهمودها قوانين خارجة إلى حد كبير عن إرادة الفاعلين، فما الذي يمكننا فعله بين “الموجات الثورية”؟ وهل يمكننا أن نفعل ما يزيد فرص الاستفادة من هذه الموجات في لحظة انفجارها؟
محاولة الإجابة عن السؤال الأخير تقودنا إلى التفكير في سؤال آخر: هل يكمن جوهر النظام الديمقراطي الغربي في فرض الانتخابات وتداول السلطة، أم أن هذا الشكل يبقى قليل القيمة، إذا عزلناه عن مشاركة شعبية دائمة عبر مختلف نوافذ الفعل، من نقابات وصحف وجمعيات متعددة المستويات والاهتمامات وتشمل كل مناحي الحياة.. إلخ؟ وهل تنبثق هذه المشاركة فجأة أم أنها تحتاج إلى نضال وتضحيات ومثابرة تعيد للناس امتلاكهم أو، على الأقل، اقتناعهم بضرورة امتلاك الفاعلية في ما يخص شؤونهم المباشرة، بدلًا من اقتناعهم بانتظار تغيير “سياسي” يُعيد كل شيء إلى نصابه؟
لكن هل يمكن البدء بأي نوع من النضالات المدنية، حتى البسيطة منها، في ظل الاستبداد؟ ألم يعتقل نظام الأسد مثلًا مجموعة من الشباب في بلدة داريّا، قبل اندلاع الثورة بسنوات، لأنهم بدؤوا حملة سمّوها “حتى يغيّروا ما بأنفسهم”، بادروا فيها إلى تنظيف الشوارع والأرصفة أمام المحال والبيوت، والحض على إدانة الرشوة والسلوكات الشائعة المشابهة؟ من الوهم الاعتقاد بأن مثل هذه الأنشطة المدنية ستكون موضع قبول من النظام، ومن الوهم أيضًا الاعتقاد بأن النظام سوف يقبل أنشطة سياسية معارضة أو حتى مستقلة، لكن لماذا لا نكفّ عن تشكيل الأحزاب السياسية المعارضة، ونحن نتهيّب النضالات المدنية، بالرغم من أن النشاطين سيواجهان القمع، ومن باب أولى أن تتعرض الأنشطة السياسية لقمع أشد؟ ثم كيف يمكن أن نضمن “إخلاص” حزب معارض (على افتراض أنه تمكّن من الوصول إلى السلطة) لمبدأ النزاهة والوطنية وتبدية حاجات الناس على حاجات نخبته ووسطه وجمهوره؟
من نتائج القمع المستمر أنه يمنعنا من اكتشاف حدود الخيار السياسي الذي نناضل لبلوغه، ومن نقده، فنبقى على قناعة أن المشكلة تكمن أساسًا في منعنا من الوصول إلى هدفنا، دون مساءلة الهدف نفسه. هذا فضلًا عن أن القمع يُكسب المقموعين وأهدافهم قيمة “استشهادية” تعوق المراجعة. وبالنظر إلى أن الاستبداد السياسي لا يسمح بالمشاركة السياسية، فإن النضال ضد الاستبداد يتحول، بصورة طبيعية، إلى نضال “استبدادي” هو الآخر، نقصد النضال الذي يستهدف “إقصاء” الطرف المستبد عن الحياة السياسية بالكامل، كما تجلّى مثلًا في تجربة اجتثاث البعث في العراق. على هذا، تكون السلطة السياسية هي مركز الصراع في البلد، ويكون الصراع عنيفًا إلى حدود قصوى، بوصفه صراع حياة أو موت. ولا غرابة أن هذا الصراع لا يولد الديمقراطية المتخيلة. هذا ما يمكن أن نسميه “التسييس المفرط للنضال” في مجتمعاتنا. والحق أن هذا التسييس يقود إلى إبعاد الناس عن السياسة وحصر الصراع في النخب، الأمر الذي يجعل الصراع نوعًا من التنافس العنيف، على السلطة وعلى الجمهور.
يستوجب ما سبق التفكير وتقديم تصوّر عن نضال ممكن وأكثر جدوى وقابلية للتراكم.
مركز حرمون