لماذا يعتبر التبسيط لغة العظماء والناجحين/ حمود المحمود
يستغرب الكثيرون عندما يعلمون أن مؤلفي الأفلام السينمائية يحظون بمدة تتراوح بين 3 إلى 5 دقائق فقط لعرض أفكار أفلامهم، وأن المنتجين السينمائيين يحتاجون إلى 45 ثانية ليقرروا ما إذا كانوا سيستثمرون في هذا الفيلم أو ذاك. وفي عالم الأعمال يستغرب بعض رواد الأعمال أنهم يحظون بفرصة تسمى بـ “حديث المصعد” والتي تستمر لمدة دقيقتين أو ثلاث دثائق فقط لعرض أفكارهم على المستثمرين المحتملين، وكأنهم في مصعد مع هذا المستثمر وعليهم استغلال الدقائق المحدودة لجذب انتباهه وإقناعه بالمشروع من خلال الوضوح والتبسيط في عرض الأفكار.
احصلوا اليوم على آخر الإصدارات المطبوعة (الإصدار المزدوج 26-27) والاشتراك السنوي المميز الذي يتضمن إصداراتنا المطبوعة.
وأذكر أنني حينما كنت أشرف على العديد من الصحفيين العرب لإنجاز التحقيقات الصحفية خلال عملي مع إحدى مؤسسات التدريب الإقليمية، كان الشرط الأول الذي نطلبه من الصحفيين، هو: “قدم لي الفكرة في جملتين أو ثلاث فقط”. وكنا نجد التذمر من الصحفيين كالذي يمكن أن نسمعه من رواد الأعمال وكتّاب السيناريو وغيرهم، وهو: “كيف يمكنني تلخيص أفكاري وتبسيطها في جملتين؟” وكان الرد على الصحفيين الذي يقولون: “نحتاج إلى الكثير من الوقت والكتابة لشرح الفكرة”، هو أنك إذا لم تستطع تقديم الفكرة في جملتين أو ثلاث والتي يجب أن تتضمن “السبب والمسبب والنتيجة”، أو “المشكلة والحل”، فمعنى ذلك أن الفكرة لا تزال غير واضحة لديك أصلاً.
وهذا يجعلنا أمام معادلة غريبة، وهي: “لماذا يعتبر الوضوح صعباً؟” ولماذا يصعب على الناس تبسيط الأفكار؟ سنكتشف في هذا المقال وبشكل فعلي عبر الأمثلة الواقعية أن القدرة على التبسيط هي ما يميز الناجحين والقادة العظماء، لأن التبسيط هو أساس القدرة على “الإقناع”، فالمدير يحتاج إلى التبسيط ليقنع موظفيه ومجلس إدارته بقراراته والموظف يحتاج إلى التبسيط ليقنع مديره بمشروع أو فكرة جديدة ربما لا يفهمها المدير، ومدير المبيعات يحتاج إلى التبسيط ليقنع المستهلك بسلعته وأسعاره ومن أجل أن يقنع من يتفاوض معهم في صفقات وأعمال، ويحتاج رائد الأعمال إلى التبسيط ليقنع المستثمر بتمويل مشروعه، كما يحتاج الصحفي إلى التبسيط ليقنع جمهوره، والطبيب ليقنع مريضه، والسياسي ليقنع ناخبيه.
صعوبة التبسيط وتحريك الجبال
صحيح أن التبسيط يبدو صعباً، لكن يمكن لمن يتقنه أن “يحرّك الجبال” كما قال الراحل ستيف جوبز، مؤسس شركة “آبل”. وهو اليوم يبدو صعباً لأن سرعة تدفق المعلومات وكميتها الهائلة، أدى إلى تخفيض مستوى الانتباه لدى معظم الناس فصارت قدرتهم على التركيز والتفكير بوضوح صعبة. لذلك كانت كلمة ستيف جوبز الشهيرة تحلل ذلك بدقة، فقد قال: “قد تكون البساطة أصعب من التعقيد، لذا ينبغي لك أن تعمل بجد لتوضيح أفكارك لجعل الأمر مبسطاً، لكن الأمر يستحق العناء في النهاية، لأنه بمجرد وصولك إلى هذا الحد، ستتمكن من تحريك الجبال”.
وحتى ننظر إلى حالات واقعية من القادة والشخصيات الناجحة، فسنجد أنهم دوماً واضحون بأفكارهم ولديهم القدرة على إيصالها باختصار وتبسيط، بينما ترتبط الشخصيات الفاشلة مع التعقيد والغموض والتضارب بالأقوال والتصريحات أو التلاعب بالألفاظ. وقد وقعت خلال بحثي في الشخصيات القيادية التي تتصف بالوضوح وتلك التي تتصف بالغموض في أقوالها، على صفات اشتهر بها اثنان من أهم رؤساء البنك “الفيدرالي الأميركي”، أولهما هو بول فولكر، الذي ترأس البنك الفيدرالي خلال الفترة بين 1979 و1987، والثاني تلاه مباشرة وهو ألان غرينسبان، الذي تولى رئاسة البنك بين عامي 1987 و2006. الأول، كان معروفاً بأنه شخص واضح ووصف بأنه “يعني ما يقول ويقول ما يعنيه”، بينما غرينسبان، فقد اشتهر بقوله: “إذا بدا لك أنني أتحدث بوضوح شديد، فمن الممكن أن تكون قد أسأت فهم ما قلته”، فقد كان غير محدد في تعابيره وصاحب عبارات عمومية غامضة. فما الذي نتج عن سياستهما وما الذي سجله التاريخ عن كل منهما؟ النتيجة كانت كما يلي؛ في ظل رئاسة غرينسبان الغامض للبنك الفيدرالي حدثت كل السياسات والمخالفات التي أدت إلى ظهور الأزمة المالية العالمية عام 2007. أما فولكر، فقد أعاد أوباما تعيينه عام 2009 بعد 20 عاماً على تقاعده ليكون عضواً في المجلس الاستشاري لإعادة إنعاش الاقتصاد وإصلاح ما تسببت به سياسات غرينسبان. وبالفعل هذا ما حصل، فقد أُنقذ الاقتصاد الأميركي ومن ثم العالمي بخطة سميت “قاعدة فولكر”.
وما تؤكده قصة غرينسبان وفولكر، هو أن الوضوح والمباشرة اللتين اشتهر بهما فولكر كانتا انعكاساً لشخصيته ورؤيته. وهذا ما يذكرنا بالإصرار الشديد على صفتي الوضوح والتبسيط اللتين كان يتصف بهما وينستون تشرشل كقائد ناجح في حرب عصيبة. حيث نصح في مذكراته الإداريين الحكوميين في كل زمان اعتماد الوضوح والتبسيط واستبدال الجمل الطويلة المنمقة بكلمات مفردة بسيطة متداولة، مؤكداً أن الأسلوب المباشر يساعد على فهم الأمور بسهولة أكبر. وقد كتب عالم النفس دانيال كانيمان الحاصل على جائزة نوبل في كتابه “التفكير السريع والبطيء” (Thinking, Fast and Slow): “إذا أردت أن تبدو ذكياً وذا مصداقية، فلا تستخدم لغة معقدة حين تكون البساطة كافية”.
قادة القصص
لطالما كان الناس الأكثر قدرة على الوضوح والتبسيط، هم الأكثر قدرة على الإقناع والنجاح، لذلك يعتبر تُوصيف ستيف جوبز (على سبيل المثال) لجهاز الآيبود عندما أعلن عن ولادته بأنه الجهاز الذي تحمل فيه “1,000 أغنية في جيبك”، التوصيف الأكثر تبسيطاً ووضوحاً وتأثيراً، وقد أصبح قصة تروى عن قوة التبسيط في الإقناع.
وفي مقال نشرناه في هارفارد بزنس ريفيو، كتبه كارمين غالو ، خبير التواصل والمدرس في جامعة “هارفارد”، بعنوان: “فن الإقناع لم يتغير منذ ألفي عام” بيّن أن قواعد الإقناع منذ عهد أرسطو كانت تعتمد 5 مبادئ أبرزها “التبسيط والاستعارات” بمعنى التشبيه ورواية القصص. وقد توصل علماء الأعصاب إلى أن أدمغتنا تفهم ما حولها عن طريق ربط الأشياء الجديدة أو غير المعروفة بالأشياء المألوفة. وعندما نواجه فكرة جديدة، لا يسأل الدماغ: “ما هذه؟” بل: “ماذا تشبه؟”.
ويعتبر الملياردير وارن بافيت شهيراً بقدرته على تقديم تشبيهات واستعارات لشرح أفكاره، لدرجة أن تشبيهاته صارت عناوين تتصدر وسائل الإعلام، وبالمناسبة، فإن الشهادة الوحيدة التي يعلّقها الملياردير وارن بافيت في مكتبه مفتخراً بها هي شهادة مخاطبة الجماهير، والتي تحصّل عليها من دورة تدريبية للكاتب والمحاضر ديل كارنيغي. وقد أخبر “بافيت” طلاب كلية الأعمال ذات مرة أن تطوير مهارات التواصل لديهم يحسّن قيمتهم المهنية بنسبة 50% على الفور.
وعندما نقرأ عن سيرة جيف بيزوس، مؤسس “أمازون”، نجد أنه كان يطلب من موظفيه ومدراء شركته الاستغناء عن عرض شرائح (الباوربوينت) في اجتماعاتهم واستبدالها بالقصص، وكذلك حظرت شركة “ثري إم” (3M)، عرض النقاط المهمة على الشرائح قبل سنوات واستبدلتها بعملية كتابة “الروايات الاستراتيجية”، كما أن شركة “نايكي” عيّنت جميع كبار المسؤولين التنفيذيين ممن اعتبروا “رواة القصص للشركات”، فيما استأجرت شركة “بروكتر آند غامبل”، بعض مدراء هوليوود لتدريس تقنياتهم في سرد القصص لتطوير المدراء التنفيذيين. ولقد أصبحت رواية القصص الوسيلة الأولى للتعريف بهوية الشركة واستراتيجيتها سواء لتعزيز اندماج الموظفين بشركتهم أو لتعزيز ولاء الزبائن، وقد أثبتت الأبحاث أن أدمغتنا تفكر في الشركات ليس باعتبارها أشياء بل باعتبارها أشخاصاً.
ولقد خلقت شركة “ساوث ويست أيرلاينز”، على سبيل المثال، قصة متكاملة لفكرتها في مجال الطيران الاقتصادي، وقد شرّبت كل موظفيها أجزاءً من هذه القصة تسهم في تحقيق الهدف الأكبر، إذ تم تعليم العمّال الذين يحملون الأمتعة لنقلها من وإلى طائرات ساوث ويست، أنه لا ينبغي لهم التعامل مع هذه الحقائب على أنها مجرد حقائب، بل اعتبارها دواء الإنسولين الذي أرسلته ابنة لوالدتها التي تعاني من مرض السكري، أو هي اللعبة التي يحملها والد لطفله في عيد ميلاده، وغيرها من تلك المعاني الإنسانية التي جعلت عمّال التحميل يتعاملون مع الحقائب بحرص وشعور بالتعاطف في كل مرة ينقلون الحقائب من مكان إلى آخر. وفي السياق ذاته نتذكر القصة الشهيرة التي تروي أن الرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي وفي إحدى زياراته لـ “وكالة ناسا”، سأل عامل النظافة في الوكالة “ما هو عملك هنا؟”، فأجابه: “أنا أساهم في إرسال الناس إلى القمر”، حيث تشرّب كل موظف في “ناسا” قصة المهمة التي يعمل عليها الجميع وهي “إرسال الناس إلى القمر”، بصرف النظر عن طبيعة وظائفهم لأنهم جميعاً مساهمون في تحقيق هذه المهمة.
لماذا نرتكب الغموض؟
يكمن سر عدم قدرتنا في كثير من الأحيان على تقديم أفكارنا بوضوح وتبسيط في 3 أسباب:
1- غموض مقصود، مثل حالة غرينسبان ومن اتبع نهجه من المسؤولين الحكوميين والذين يفضلون الغموض والكلمات العائمة التي تسمح لهم بالانسحاب أو تغيير التفسير متى شاؤوا، أو حتى اتهام الآخرين بأنهم أساؤوا فهمهم. وهذه سياسات تنبع عن عدم الثقة بقوة ووضوح القرار أو القدرة على إقناع الآخرين به، لذا يلجأ بعض المسؤولين إلى هذا الإسلوب عندما تكون قراراتهم من النوع الذي يصعب الدفاع عنه.
2- يقدم كثيرون أفكارهم بشكل غامض أو عبر شروحات طويلة ومعقدة، لسبب آخر، وهو أن لديهم فكرة في أذهانهم لكنها غير مكتملة أو مشكلة لم تجد حلاً حقيقياً، لكنهم – وهذه طبيعة بشرية- يحاولون استعجال الحل، ولا يمنحونه الوقت الكافي للمناقشة والبحث.
3- وهناك سبب آخر لغموض أحاديثنا وأفكارنا، وهو أننا نقع ضحية التحيّز غير المقصود في التعبير عن أفكارنا، فالمتحدث أو الكاتب، قد يرتكب سلوك التحيّز في التعبير، عندما تكون الأفكار واضحة في ذهنه، لكنه لا يمتلك مهارة تقديمها بشكل واضح ومبسط، أو يخلط ما بين المعلومات التي شكّلها في ذهنه عن الموضوع وبين ما يتحدث به أو يكتبه. ولذا فقد كتبت كارين مازوركويش، خبيرة الاتصال والتسويق، بأنها عندما كانت تعمل في صحيفة “وول ستريت جورنال”، كان يتم تدقيق الخبر الذي يحتل الصفحة الأولى من قبل 5 محررين، إذ إن تركيزهم ينصب بالأساس على توضيح وتبسيط المصطلحات. وقد تدرّب هؤلاء المحررون على قاعدة مفادها؛ أنهم إذا لم يتمكنوا من فهم النص الذي بين أيديهم، فإن قراءنا أيضاً لن يتمكنوا من ذلك.
تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.