«ما بعد الحقيقة» والناشطون المنزّهون عن الهوى/ محمد سامي الكيال
انتشر تعبير «ما بعد الحقيقة» إعلامياً، بشكل كبير، عقب تولي دونالد ترامب منصب الرئاسة الأمريكية، واعتُبر من أعراض انحدار الديمقراطيات الغربية، بُعيد صعود اليمين الشعبوي، فحديث مسؤولين في إدارة ترامب، عن «الأخبار الكاذبة» و»الوقائع البديلة»، كان بالنسبة لكثيرين علامة على رفض الحقائق الموضوعية، التي لا تستقيم حياة سياسية سليمة، بدون التسليم بها. ورداً على وقائع أنصار ترامب البديلة ركزت وسائل الإعلام، وجهات، كان من المستغرب أن تنهض بعبء الحقيقة، مثل مواقع التواصل الاجتماعي، على إجراء فحوص الوقائع Fact-checking، بشكل دوري، ما جعل تغريدات الرئيس الأمريكي نفسه تحت الرقابة.
يحمل هذا الدمج الإعلامي بين مفهومي «الواقعة» Factو»الحقيقة» Truth كثيراً من الالتباس والتبسيط، فالوقائع، أي البيانات والأرقام والأحداث الجزئية، لا تنتج بحد ذاتها، وبشكل مباشر، حقائق متكاملة، فالأخيرة تقوم على سياقات معينة من المعنى والدلالة، تندرج الوقائع العينية ضمنها، لصياغة رواية ما. والصراع حول سياقات المعنى والدلالة، أي الصراع على الحقيقة، لم يتوقف يوماً على المستوى السياسي والثقافي والاجتماعي. فضلاً عن هذا فإن نقد المفاهيم الفلسفية والثقافية التقليدية عن الحقيقة كان، طيلة العقود الماضية، من اختصاص اليسار الأكاديمي، وليس اليمين الشعبوي، لدرجة يبدو فيها حرص أنصار سياسات الهوية من اليساريين، على حقائق مجردة وعامة وموضوعية، أمراً مستغرباً بالنسبة لأيديولوجيا قائمة على النسبية الثقافية، اعتبرت دائماً أن النزعات الكونية، القائمة على مفاهيم كلية عن التقدم والحقيقة والعقل، ما هي إلا غطاء للكولونيالية والمركزية الغربية. وبالتالي فالحديث عن حقائق اجتماعية وسياسية ساطعة، يرفضها الشعبويون من أنصار ترامب، يبدو أقرب إما للخطاب التقليدي لليمين، الذي يؤمن بحقائق ثابتة، تبرر نفسها بوحي أو تقليد ثقافي متفوق؛ أو لخطاب النزعة الإنسانية – الجمهورية الكونية اليسارية، التي يواجه ما يسمى يساراً في أيامنا مشاكل سياسية وفكرية جدّية معها.
لا تقتصر المسألة على الحقائق، بل تتجاوزها إلى الأخلاقيات: إنكار الشعبويين للحقائق دليل على لا أخلاقيتهم، أو بالأصح يدفعهم لاتخاذ مواقف غير أخلاقية، كانت مراعاتهم للحقائق ستقودهم، بشكل مباشر، إلى تجنّبها. الأخلاق تُستمد، بالتالي، من حقائق ساطعة، وليس من الرغبة أو المصلحة أو السياق الثقافي، وأنصار ترامب والشعبوية ليسوا أصحاب دعوى سياسية مخالفة، أو لديهم موقع اجتماعي متمايز، يفسّر مواقفهم، بل هم، بكل بساطة، جهلة وأشرار، ما يجعل أنصار «اليسار الليبرالي» بالضرورة منزهين عن الهوى، لا يشتقون مبادئهم من منظور أيديولوجي معين، بل من الحقيقة والأخلاق بحد ذاتهما. ما يدفع إلى التساؤل: هل كانت الحقيقة والأخلاق واضحين للغاية في عصر ما قبل الصعود الشعبوي؟ وكيف يمكن بناء عملية سياسية وثقافية مع طرف يعتقد امتلاكه الحق والخير، وربما الجمال؟
ما بعد التواصلية
يربط كثير من نقّاد الشعبوية، الأكثر تعمقاً، بين اضمحلال المؤسسات الاجتماعية الوسيطة لدولة الرفاه الغربية وعصر «ما بعد الحقيقة»: وفّرت المؤسسات التعليمية والإعلامية والثقافية، في ما مضى، لأغلبية المواطنين، بيانات ووقائع شبه دقيقة، عُممت ونُشرت في الحيّز العام، ضمن سياق للمعنى والدلالة، اتفقت عليه معظم الأطراف الاجتماعية. ومع انحلال المؤسسات الوسيطة، تعطّلت وظيفة الاندماج الاجتماعي، ففقد الأفراد، المعزولون والمحرومون من الرعاية الاجتماعية، بمعناها الأوسع، سياقاً توجيهياً ضرورياً، وباتت كل جهة تملك حقائقها الخاصة، ضمن فقاعات مغلقة، معرّضة لكل أنواع المؤثرات والنزعات ضد الاجتماعية. تراجعت الحداثة الصلبة والتقدمية، التي بنت حيزاً عاماً يتداول البشر فيه شؤونهم العامة، عبر لغة عمومية مشتركة، تُنتج سياقات الحقيقة، لتصبح حداثة «سائلة» أو «تقهقرية»، لم تعد توفّر مجالاً عمومياً للتواصل.
إلا أن هذا التصور يقوم على تعميم تجربة عقود محدودة من القرن العشرين، انبنت على مبدأ «التفاوض الجماعي»، في المجتمعات الصناعية، بين ثلاثة أطراف: الدولة وأرباب العمل والنقابات، في عصر ما بعد «الصفقة الجديدة» في ثلاثينيات القرن الماضي، حين اندرجت النقابات العمالية، المُتهمة، من قبل اليسار الراديكالي، بالتواطؤ مع السلطة وتكديس الامتيازات، في العالم البورجوازي، وتخلّت عن السعي للتغيير الشامل، مقابل ضمانها موقعاً اجتماعياً مكرّساً، جعلها جهة ضغط، تخوض مداولات دائمة مع الحكومات والشركات. هذه المداولات لم تكن ممكنة، بدون سياق مُتفق عليه للمعنى والدلالة في الحيز العام، وهو سياق يتم اتهامه اليوم بأنه ذكوري أبيض، قام على تهميش فئات كثيرة، وعلى رأسها النساء والمثليون والملونون والمهاجرون، فضلاً عن كونه سياقاً وطنياً فيستفالياً (نسبة لاتفاقية فيستفالن عام 1648، التي ظهرت بموجبها بوادر الدول الوطنية الحديثة) لم يعد صالحاً في عصر العولمة. كثير من مؤرخي القرن العشرين يحددون عام 1968، الذي شهد ثورة مايو/أيار الشبابية في فرنسا، نهايةً للعالم الثقافي لأبوية دولة الرفاه الغربية.
قبل انتصار مبدأ «التفاوض الجماعي» كانت الحرب حول الحقيقة أكثر احتداماً، وسياسات الحيز العام أشد تصارعية، وأقل ميلاً للوسطية السياسية، وغالباً ما كان اليسار الطرف المشكك بالحقائق السائدة، والساعي لإنتاج «حقائق بديلة»: اعتُبر النموذج السائد للحق والأخلاق والجمال، مسيحياً أو بورجوازياً أو تسلّطياً، فقام مثقفو اليسار، بتأثير من أفكار ماركس ونيتشه وفرويد، وقبلها مبادئ التنوير الراديكالي، بمحاولة قلب القيم أو تفكيكها، وبناء تركيبات جديدة، ذات طابع تجريبي على الأغلب. لم يكن أنصار المبادئ التحررية واثقين من الحقيقة والأخلاق للدرجة التي نراها اليوم، بين مؤيدي ما يسمى يساراً، والأهم أنهم، رغم كل نقدهم للأيديولوجيا والوعي الزائف، لم يظنوا أن قيمهم مبنية على أسس موضوعية أو محايدة، بل وعوا أهمية السياق الاجتماعي والثقافي، ودور الرغبة والمصلحة في صياغة الحق والخُلُق.
اليوم يسعى أنصار «اليسار الراديكالي» الغربي للعمل على صفقة جديدة، «خضراء» هذه المرة، يبدو أنها ستؤسس لسياقات عمومية جديدة للمعنى والدلالة، ولكن علامَ تقوم هذه السياقات؟
صناعة الحقيقة
من الصعب التسليم بأن مبادئ التيار الأساسي، الذي يسمى ليبراليةً أو يساراً، مشتق من حق معلوم بالضرورة، والأجدى البحث عن جذوره الاجتماعية والمؤسساتية: يمكن ملاحظة أن مساحة النقاش والصراع الفكري ضاقت بشدة في المؤسسات الثقافية والسياسية السائدة، وأصبح من الممكن تجريم الآراء الإشكالية والمخالفة، ودفعها للهامش، بدعاوى سهلة التكرار والصياغة، مثل الاتهام بالعنصرية والذكورية والشعبوية. ولا يبدو أن هناك كثيراً مما هو مُختلف عليه ضمن تلك المؤسسات، لدرجة أن خطاب اليسار، الذي يُعتبر شديد الراديكالية، مثل برامج أنصار بيرني ساندرز في أمريكا، وجيرمي كوربن في بريطانيا، بات قابلاً للاستيعاب، بدون صعوبة شديدة، في التيار الأساسي.
قامت الحياة السياسية والثقافية في عصر «التفاوض الجماعي» على الاعتراف بتعددية المواقع الاجتماعية والمصالح، رغم الاتفاق على سياق الحقائق، فهنالك عمال وأرباب عمل؛ نقابات وحكومات؛ معامل متوقفة بسبب الإضرابات، ومجالس إدارات شركات تخوض محادثات صعبة، مع مسؤولي الدولة والاتحادات العمالية، لإيجاد حلول. اليوم يبدو أن الجميع في موقع واحد: أفراد ينشدون الاعتراف والتمكين، ومؤسسات متفقة على التنوّع، وخارج هذا الموقع توجد ثلة من الجهلة والأشرار، الذين يجب إخراجهم من جادة الحقيقة والأخلاق. وبعد أن كانت الأجهزة الأيديولوجية للدولة تهيئ المواطنين لخوض الحياة السياسية لضرورات التفاوض، انتفت الحاجة للسياسة، وتم استبدالها بـ»إدارة التنوّع» و»المهارات بين الثقافية»، فصارت تلك الأجهزة تُبرّئ نفسها من السياسة والأيديولوجيا، وتربط نفسها بحقائق ومبادئ أخلاقية صائبة، ما جعلها تربي جيلاً من الناشطين، الذين ليس بإمكانهم فهم كيف يجرؤ البعض على معارضتهم، وهم ممثلو الحق والخير ذاتهما.
«تقدمية» يمينية
يزداد الميل التسلطي، للناشطين المنزّهين عن الهوى، خطورة في أيامنا، فهو لا يؤدي فقط لفرض نوع من الصوابية السياسية الخانقة، في المؤسسات الإعلامية والثقافية، بل يهدد، في عصر يشتد فيه تغوّل السلطة التنفيذية، بتحالف ثقافي-سياسي ينكر السيادة الشعبية، التي قد يتسرّب إليها جهلة الشعبوية وأشرارها، لمصلحة سيادة قائمة على حقائق وأخلاقيات، سابقة لأي عملية سياسية أو جدل اجتماعي.
بهذا المعنى فإن الأيديولوجيا «التقدمية»progressive ، بمعناها المعاصر، المشتق من السياق الأمريكي، تكتسب كل الصفات الأساسية للأيديولوجيا التقليدية لليمين المحافظ: خطاب يسعى لتثبيت قيم ثقافية ومؤسسات اجتماعية سائدة؛ يبرّر السلطة القائمة، بمعناها الواسع، ويحاول تفسيرها بأسس جوهرانية، مثل الحقيقة والأخلاق؛ يحتفي بتنوّع قائم على تراتبية هوياتية، ويُعرّف المساواة بوصفها تعييناً للاختلاف، وما يترتب عليه من مراعاة نمط من الهرمية الاجتماعية، هي في حالتنا هرمية الضحايا، بدلاً من البناء على ما هو عام ومشترك بين البشر.
وبما أن ما يسمى يساراً في أيامنا يلعب الدور السياسي والاجتماعي لليمين المحافظ، فربما كانت حقائقه تستحق تشكيكاً مماثلاً لما تتعرّض له «الحقائق البديلة»، شديدة الهامشية، لليمين الشعبوي.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي