مُسافر لا يدّعي أنه كلب/ عدنان نعوف
بأقلّ الجُّروح، انتهى مُهاجرٌ شابٌّ للتوّ من حلاقة شَعرِ ساقيه، بعدما صبغَ شعر رأسهِ وحاجبيه باللون الأشقر، تنفيذاً لتوصية المُهرّب: “بعرف مانك متعود عهلحركات خيوو.. بس لازم تبيّن وكأنك سائح أوروبي لما تلبس شورت..حتى ما تشكّ فيك الشرطة”.
المُهرّب نفسه كان قد اتفقَ مع مجموعةِ مهاجِرِين يُقيمون مؤقتاً في الحيّ ذاته، وسوف يلتقيهم هذا المساء في مقهى قريب ليعطيهم جوازات سفر مزوّرة وتذاكِر، سيحاولون السفر بها من مطار أثينا. وبين هؤلاء، إمراةٌ خمسينيةٌ بملامح أمومةٍ شرقيّة. يَداها مزيجٌ لونيّ من الحنّاء وآثار صنع المُونة. ها هي اليوم قد قامت بالتغييرات المطلوبة، فذهبت إلى كوافيرة ثم إلى محل ألبسة، وبات شكلها أقرب للممثلة الإيطالية مونيكا بيلوتشي.
تختلف التضحيات المبذولة في سبيل الخروج من اليونان من لاجىء إلى آخر. فبينها ما هو مادي وما هو معنوي، بحسب مرونة الإنسان ونظرته لنفسه. وبالنسبة للمهاجر الثالث في المجموعة “حسام”؛ الجامعيّ صاحب التحفظات الكثيرة، فقد رأى أنه حان الوقت لتجريب طُرُقٍ جديدة بعد تِسعِ محاولاتٍ فاشلة للطيران نحو أوروبا.
وزادَ في اندفاعه للمغامرة، اقترابُ فصل الصيف وموسم الزِّحام وحركة السفر من نهايته. ما يعني أنه قد يَعلَقُ حتى فترة الميلاد أو ربما إلى العام المقبل، أو يضطر للاستقرار نهائياً في هذا البلد البائس. لذا، ومن دون استشارة أحد، قرّرَ أن يشتري عدسات عيون لاصقة زرقاء اللون، كي يبدو أجنبياً، مُعتقداً أنها ستساعده على السَّيْر بثقة أكثر في المطار، من دون التعرُّض للتدقيق.
مَقطعانِ في موقع “يوتيوب” كانا كافِييَنِ له ليَعرِفَ طريقة وضْعِ العدسات. وكسبَاً للوقت انطلقَ نحو المقهى. لم يلتفت حسام يميناً أو يساراً؛ بينما عبَرَت أمامهُ بعضُ الحافلات الحمراء المكشوفة المخصصة لرؤية معالم المدينة. كانت تغصّ بمجموعات السيّاح ذوي البشرة الاسكندنافية المُكتوِيَة بالشمسِ، المهووسين بتصوير كل شيء.
لكنه كعادته استرسلَ في التفكير باحتمالات الفشل والبدائل، وهذه المرّة استذكرَ قِصصاً مُدهِشة سَمِعَها منَ اللاجئين عند وصوله إلى جزيرة “رودس” قبل أشهر. ومنها قصةٌ تتحدث عن نجاح لاجىء بالسفر إلى ألمانيا بجواز سفرٍ يَعود إلى كلب! ليس بالاعتماد على التشابه بين شكلِ حامل الجواز وبين الصورة طبعاً، وإنما باستعطاف المُضِيفة عند باب الطائرة بنظرَةِ انكسارٍ كلبيّة، تجعلُها تبتسمُ للاجىء، وتتركه يَعبُر!
فكرةٌ لن يقبَلها عقل، إلا إذا كان عقلَ مُهاجرٍ ليس لديه أداةٌ يستخدمها للتفكيرٍ سوى القَلق. وككلِّ الحكايات التي تداعب أحلام العالقين في اليونان، تُساقُ هذه القصة الغريبة مُبتدِئةً ومنتهيةً بلازمةٍ إقناعية لا بد منها في أي حديث يتداوله اللاجئون: “أساساً بأوروبا الزلمة بيجي بالمرتبة الرابعة بعد المرأة والطفل والكلب….. هيك قوانينهم”.
في وجدان حسام لم يَكنْ ليتساوى الإنسان والحيوان بأيِّ حالٍ من الأحوال. مع أنه كمُهاجر ذاقَ من البرْدِ ما يجعل الكائن الحيّ يَعوي ويَنبح، ونامَ مع حشرات فِرَاشٍ طفيلية قد لا تألفُها بعضُ الحيوانات الشاردة. لذا وقبل أن تَحطّ خواطره المجنونة وتستقرّ أكثر، حاوَلَ إخافَتَها بضجيجِ قدمَيه، فحثَّ الخُطى إلى أن وَصلَ المقهى. وهناك كان المهاجر الشابّ الآخر والسيّدة يجلسان مع المهرّب. استلمَوا جميعاً أوراقهم، وتلقّوا نصائح التحرّك الذكيّ في المطار، كلٌّ حسبَ رحلته.
إنها الساعة العاشرة صباحاً. تمكّن المُهاجران من السفر بفضل الخطط والتغييرات التي أحدثاها في شكليهما. أما حسام فهوَ في قفص احتجاز المهاجرين غير الشرعيين في مطار أثينا. لقد اكتُشِفَ أمرهُ عند الحاجز الأول لتفتيش الأمتعة.
بطاقة هويّة بالأبيض والأسود تعُودُ لشخصٍ أوروبيّ يُشبه حسام بنسبة مقبولة، لا جواز سفر كما كان الاتفاق مع مُهرّبه. تُضاف لها نظراتٌ فاحصة منه في كل الاتجاهات جَعلَته مَوضع شكٍّ، واستدعت طلبَ أوراقه وتوجيه أسئلة مربكةٍ له، فاعترفَ على إثرها.
هنا القفص سَكنٌ مؤقتٌ لتجميع المقبوض عليهم ريثما يأتي شُرطيٌّ يقودهم إلى خارج المطار عقِبَ استجواب سريع. مكانٌ مِثاليُّ لالتقاط الأنفاس، ومراقبة العابرين، وسيلانِ لُعابِ الأفكار الغريبة مجدداً: “ما المانع بالسؤالِ عن مُهرّب بشرٍ لديه جوازات سفر لكلابِ هاسكي زرقاء العيون؟”.
المدن