صفحات الثقافة

عشر سنوات على الثورات العربية، هل فشلت الثورات العربية؟، هل نجحت الثورات المضادوة؟!! -مقالات مختارة-

عشر سنوات على البوعزيزي: أية معرفة وأيّ دروس؟/ صبحي حديدي

احتفت الصحافة الغربية يوم أمس، 17 كانون الأول (ديسمبر) 2010، بالذكرى العاشرة لانطلاق «الربيع العربي» حين أقدم المواطن التونسي محمد البوعزيزي بإضرام النار في جسده احتجاجاً على امتهان كرامته من جانب شرطية تونسية منعته من ممارسة عمله. لافت، بادئ ذي بدء، أنّ معظم وسائل الإعلام الغربية التي احتفت بـ»الربيع العربي» انطلقت من ذكرى البوعزيزي هذه، وليس من تاريخ هرب دكتاتور تونس زين العابدين بن علي يوم 14 كانون الثاني (يناير) 2011؛ وقد ينطوي هذا على دلالة مختلفة تخصّ ذلك النسق من الحراك الشعبي الاحتجاجي، أي إضرام النار في الجسد، وليس النسق الآخر الذي يخصّ انهيار النظام ابتداء من رأسه وذروة الهرم في بنيته.

طريف أنّ غالبية الكتّاب المحتفين بالمناسبة في وسائل إعلام فرنسية وبريطانية وأمريكية وقعوا، من دون اتفاق مسبق كما يقول المنطق البسيط، في حيرة لجهة تحديد التسمية اللائقة بتلك الانطلاقة؛ على غرار تساؤل يومية الـ»فيغارو» الفرنسية: أكان الحدث، في نهاية المطاف، خلاصة «ربيع عربي» أم «خريف إسلامي» أم «شتاء جهادي»؟ وما معنى أن تكون تونس هي الاستثناء الوحيد، مقابل ليبيا وسوريا واليمن؟ وما دلالة الوقائع (إذْ يعزّعلى الصحيفة إيجاد تسمية محددة، مثل الانتفاضة أو الثورة) في السودان والعراق والجزائر ولبنان؟ وهل يصحّ القول إنّ «الإسلاموية» (التعبير الرائج في فرنسا هذه الأيام) أسلمت أقدارها إلى «الجهادوية» وما دلالة أنّ شرائح واسعة في الشارع الشعبي العريض ما تزال مستعدة لممارسة الاحتجاج والاعتصام والاعتراض؟

أسبوعية الـ«إيكونوميست» البريطانية اختارت مستوى تحليل أكثر رصانة، أو بالأحرى أكثر انسجاماً مع عراقة الخطّ الليبرالي، أو النيو ـ ليبرالي بين حين وآخر، الذي تنتهجه الدورية العريقة. «التاريخ ليس خطياً. الثورات تفشل، ويحدث أحياناً أن ينتصر الأشرار. لا سبب يدعو إلى توقّع أن تسفر الجولة المقبلة من انتفاضات العرب عن نتائج أكثر مدعاة للسعادة. وعلى المنوال ذاته، مع ذلك، لا سبب يدعو إلى تصديق الأوتوقراطيين حين يزعمون أنهم أكثر قدرة على منعها». هكذا يكتب تحرير الـ»إيكونوميست» في التقديم لملفّ بعنوان «قبل عقد من الزمان انتفض العرب. فلماذا لم تتحسن الأمور؟» بين الأمثلة على مناورات مستبدّي «الربيع العربي» تتوقف الأسبوعية البريطانية عند نموذج بشار الأسد: «لقد أقنع الكثير من أنصاره بأنّ الانتفاضة السورية هي من فعل المتطرفين. ولم يكن هذا رجماً بالغيب بل كان نبوءة مخططاً لها ذاتياً: إفراج عن جهاديين كفاية من السجون، وتصفية ما يكفي من المعتدلين، وتجويع الشعب زمناً كافياً ضرورياً، ولن يطول الوقت حتى تصبح الحركة السلمية جذرية متشددة».

فماذا عن سؤال الملفّ الأساس، أي لماذا اتخذت الأمور هذا المنحى في نهاية المطاف؟ لن يفاجئك خطّ التحليل الذي تعتمده الصحيفة الفرنسية اليمينية، لأنه ببساطة يتراوح بين التساؤل عن قابلية العرب (الإسلام ضمناً، غنيّ عن القول) لاعتناق الديمقراطية، شعوباً وأنظمة؛ وبين ردّ الحال إلى مزيج من تحالفات ضمنية بين الاستبداد و»الإسلاموية» و»الجهادوية». الأسبوعية البريطانية لا تركن إلى السطوح هذه، فتساجل بأنه لا إجابة على سؤال مسار الخطأ لدى بلدان دون أخرى: «يمكن إلقاء اللوم على قوى خارجية، من إيران إلى روسيا إلى غرب عاجز غير متسق. يمكن لوم الإسلاميين، الذين زرعوا التفرقة غالباً في سياق جشعهم إلى السلطة. وأكثر من هؤلاء وهؤلاء، يتوجب لوم الرجال الذين حكموا الدول العربية بعد أن نالت استقلالها في القرن العشرين. ورغم أنّ بعضهم فهم شيئاً ما عن الديمقراطية، فإنّ الأمر اقتضى ما هو أبعد من مجرّد الانتخابات».

الـ»فيغارو» و الـ»إيكونوميست» مجرّد نموذجين بالطبع، وثمة عشرات الأمثلة الأخرى خاصة في ميادين أكاديمية وعلى صعيد الدراسات والأبحاث الأكثر التزاماً بمعايير صارمة في القراءة والتحليل والاستنباط. مؤسف، مع ذلك، وفي يقين هذه السطور على الأقلّ، أنّ الحصيلة الإجمالية لا تبدو متقدمة بما يكفي عن الحال التي كان عليها المشهد التحليلي الغربي ساعة احتراق بدن البوعزيزي وانطلاق الحناجر بالهتاف غير المسبوق: «الشعب يريد إسقاط النظام!». يومذاك توفّر العشرات من أهل الكيل بعشرات المكاييل، ممّن كانوا هم أنفسهم نفر المراقبين ـ والمحللين والأخصائيين والمستشارين… أو فقهاء علوم الشرق الأوسط، باختصار ـ الذين رحبوا بـ»هبوب رياح الديمقراطية» على المنطقة؛ واستسهلوا تسمية ربيع (جاء في أواخر الخريف، مطلع الشتاء عملياً!) مستمدّ من بطون رطانة اصطلاحية غربية لا تعبأ باختلاط حابل بنابل.

وكان أمراً طبيعياً، وتلقائياً، ألا تُطرح الأسئلة بشفافية الحدّ الأدنى، بل يجري ليّها وتحويرها بما يقوّي حجة القائلين بأنّ الربيع انقلب إلى شتاء أو خريف (على هدي ما تفعل الـ»فيغارو» اليوم!)؛ ولكن، أيضاً، كي تُجرّد انتفاضات العرب من أغراضها الشعبية الكبرى، في الكرامة والحرية والمساواة، وتُسحب إلى حيثيات أخرى تَرفع، هنا أيضاً، راية حقّ لا يُراد منها إلا الباطل. توماس فريدمان، المعلّق الشهير في «نيويورك تايمز» كتب مقالة بعنوان «الربيع العربي الآخر» بدأها بافتراض أنّ البوعزيزي أحرق نفسه وسط مناخات ارتفاع أسعار المواد الغذائية عالمياً؛ وأتبعها بأنّ الفلاحين، في محافظة درعا السورية، ثاروا على النظام بسبب منعهم من بيع أراضيهم المحاذية للحدود مع الأردن!

وفي فرنسا، بمزيج من السخرية والاستهجان، هتف أوليفييه روا، أحد كبار الأخصائيين في شؤون الإسلام والشرق الأوسط: «ما الذي دهاكم! هل نبدأ من جديد؟ صدام الحضارات، وسخط المسلمين، والعالم المسلم الذي يلتهب، وعجز الإسلام عن قبول الروح النقدية وحرّية التفكير؟»… والرجل، الذي استهلّ «الربيع العربي» بتوبيخ زاعمي معرفة الإسلام والمسلمين، بمقالة شهيرة لاذعة عنوانها «ليست ثورة إسلامية»؛ ناشد الناس ألا يجرّموا «الربيع العربي» اتكاء على أعمال عنف هنا وهناك ضدّ فيلم أو رسوم كاريكاتورية. صحيح أنها لم تلجأ إلى هذا المستوى من العنف، ولكن ألم تتظاهر جماهير مسيحية في الغرب، وعلى نحو عنيف أحياناً، ضدّ «الإغواء الأخير للمسيح» شريط مارتن سكورسيزي، سنة 1988؟ ألم تضغط الكنيسة الكاثوليكية، وإنْ بطرائق أقلّ صخباً وأكثر فاعلية، ضدّ ملصقات «نزهة الجلجلة» شريط رودريغو غارسيا، سنة 2011، سأل روا؟

فإذا انتقل المرء إلى الساسة، وأهل الصفّ الأوّل بينهم، توفرت تلك الخديعة الكبرى، التي انخرط فيها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن، وكبار مساعديه، وبعض رجالات الصفّ الأوّل من «المحافظين الجدد»؛ والتي سُمّيت «نقل فيروس الديمقراطية إلى العرب» من خلال احتلال العراق، وإقامة نظام ديمقراطي غير مسبوق، ثمّ تصديره إلى الجوار بطريق الإغواء أو القسر. خَلَفه، باراك أوباما، تابع نهج السلف مع إضافة «مسحة أسلوبية» شخصية، هي مداهنة المسلمين (في خطبتَيه أمام البرلمان التركي ومن جامعة القاهرة) علانية؛ والإمعان أكثر فأكثر في تخريب العلاقات مع العالم المسلم من خلال سياسات الانحياز المطلق لدولة الاحتلال الإسرائيلي، ومراقصة الطغاة، وتعليق الأمل على نواياهم «الإصلاحية» حتى ربع الساعة الأخير قبيل سقوطهم (المرء يتذكّر مدائح هيلاري كلنتون، لأمثال زين العابدين بن علي وحسني مبارك وعلي عبد الله صالح، وحتى بشار الأسد نفسه).

عشر سنوات على البوعزيزي علّمت الشعوب الكثير، أغلب الظنّ، ولكن لا يلوح أنها أضافت إلى معارف النطاسيين في الغرب إلا القليل، وفي مستوى السطوح وحدها.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

——————————-

عقد على الثورات العربية… خمس حقائق/ حسام عيتاني

كان عقداً عاصفاً هذا الذي انقضى منذ أضرم محمد البوعزيزي النار في نفسه أمام مقر بلدية سيدي بوزيد، لتنطلق شرارة ثورات وانتفاضات امتدت من الجزائر إلى اليمن، وعلى موجتين كبيرتين. المطالبة بالكرامة والاحتجاج على استباحتها اللذان تضمنهما احتجاج بائع الخضار التونسي الشاب كانا عنواني مظاهرات حاشدة كشفت، بحشودها المليونية وبنهاياتها المأساوية، الحدود التي يمكن أن يصل إليها تطّلب الديمقراطية والعدالة في العالم العربي وحقائق قاسية لم يكن من السهل الالتفاف حولها. بل إن تجاهل الحقائق في العديد من الحالات أدى إلى انهيار كل محاولات التغيير العربية أو أرجأها، في أحسن الأحوال، إلى مستقبل غير منظور.

الحقيقة الأولى هي أن «الشارع العربي» الذي قيل الكثير في شلله وموته، تحرك. لكن ليس للقضايا التي كانت تحمل الجماهير على النزول إلى الشارع. لنتذكر أن الانتفاضة الفلسطينية الثانية في 2000 واحتلال العراق بعد ثلاثة أعوام كانا المرتين الأخيرتين اللتين شهدتا مظاهرات في العواصم العربية تتعلق بشأن عربي عام (إذا استثنينا المظاهرات التي سارت في بيروت ودمشق سنة 2006 تنديداً بالرسوم المسيئة للرسول). بعد ذلك، وعلى الرغم من حروب إسرائيلية على لبنان وغزة والاقتتال الأهلي – الطائفي في العراق، لم يُسجَّل تحرك شعبي يُذكر حتى بداية الثورة التونسية.

تقترح هذه الحقيقة أن الحساسيات العربية تبدلت وحلت مكان تلك التي سادت بين الأربعينات والعقد الأول من الألفية الثالثة والتي حددها وعي قومي فطريّ حيناً ومصطنَع في أكثر الأحيان، منح الأولوية المطلقة للقضية الفلسطينية والصراع مع خارج استعماري ومتآمر، حساسيات مشتركة جديدة تعترض على الاستبداد وغياب العدالة وانسداد آفاق الارتقاء الاجتماعي أمام الشباب العربي. وأن التضامن في وجه سلطة غاشمة محلية يسبق التفاعل مع قضية خارجية خصوصاً بعدما تحولت القضية الفلسطينية إلى مطية لمعظم أنظمة المنطقة، العربية وغير العربية، لتبرير سلوكها وتحقيق المكتسبات لنفسها ولو على أشلاء الشعب الفلسطيني.

الحقيقة الثانية تتلخص في أن المعارضين، سواء الذين أسقطوا حكامهم أو من سعى منهم إلى هذا الهدف، كانوا يعرفون ماذا يرفضون لكنهم لم يتفقوا على ما يريدون. فهم يرفضون المهانة والفوات والتخلف والعنف الأعمى واقتصاد الزبائنية والفساد، التي كانت تمارسها السلطات… لكنهم كانوا يعجزون تماماً عن الإجابة الواضحة عن أسئلة تطرحها قوى أكثر حنكة وخبرة، مثل أحزاب الإسلام السياسي، في شأن المفاضلة بين الدين والعلمانية كخيار مؤسِّس للدولة، وشكل العلاقة مع الغرب، والقيم الاجتماعية المقبولة أو المرفوضة، وحقوق المرأة، وحرية التعبير والاعتقاد. الارتباك الشديد الذي قابل به الثائرون هذه المعضلات لا يدل على نقص في نضجهم الفكري بل على إدراكهم أن موازين القوى الاجتماعية ليست في صالحهم، وأن خصومهم الذين يدّعون شراكتهم في الثورات، قادرون على عزلهم وقلب الطاولة عليهم باستخدام سلاح الدين والقيم المحافظة، وهو ما حصل في سوريا ومصر وكاد ينجح في تونس.

يمكن التوسع هنا وإضافة لبنان الذي التحق بالموجة الثانية من الثورات العربية في 2019 إلى الحالات التي عجز فيها المنتفضون عن مواجهة البنى السياسية التقليدية، حيث وقف جمهور الطوائف ضد تغيير النظام وإسقاطه، مفضّلاً بقاء الزعامات التقليدية الفاسدة مع كل ما تجلبه من كوارث، على خوض تجربة تغييرية مع شخصيات وهيئات غير مجرَّبة وتفتقر إلى المصداقية وإلى القوة المادية والمعنوية الضرورية للتغيير.

ترتبط الحقيقة الثالثة بسابقتها، فالإسلام السياسي الذي وثب على الثورات العربية ولم يكن في أي مكان من محركيها أو الدافعين إليها، أثبت أمرين: الأول هو قدرته التعبوية والإعلامية وفاعليته كجهاز تنظيمي جاهز للعمل في اللحظة المناسبة وهو بالضبط ما كانت تفتقر إليه الجموع الثائرة التي تتحرك عفوياً ومن دون خطة أو تنظيم اللهم إلا بالحد الأدنى للبقاء على قيد الحياة. الأمر الآخر هو أن هذه الفاعلية المبنية على هيكل «جهازي» تنظيمي منضبط هي الحد الأقصى الذي تستطيع حركات الإسلام السياسي إنتاجه. فهي، وبصيغتيها الجهادية المسلحة والدعوية (الإخوانية) غير قادرة على إدارة مجتمعات مركبّة وذات نزعات متباينة من التحرر إلى التزمّت. وحدة التنظيم والهدف التي أعلى الإسلام السياسي من شأنها اصطدمت رأسياً بمجتمعات تطالب بالتعدد والاختلاف على ما تبين من الرفض الكاسح لأنظمة الاستبداد.

الحقيقة الرابعة هي أن المؤسسة العسكرية ما زالت ترى في نفسها ضمانة لاستتباب السلم الأهلي وعدم الانزلاق إلى الفوضى. وباستثناء الحالة التونسية التي حيّد فيها الجيش نفسه تماماً عن السياسة واكتفى بمكافحة الخلايا الإرهابية، أدت الجيوش أدواراً عدة في الثورات تتراوح بين التأييد الكامل للنظام على نحو ما جرى في سوريا (مع الإشارة إلى انشقاق آلاف الضباط والجنود) أو الانقسام والتحاق بعضها بالثورة كما في الحالة الليبية، أو التقدم لأداء دور المؤسسة المرجعية المكلفة الحفاظ على وحدة البلاد على غرار ما حصل في مصر. وفي الحالات كلها، كانت الجيوش تعكس تراثاً من العلاقة المعقدة مع المجتمع والدولة.

قد يصح وصف الحقيقة الخامسة بمشكلة «اللغة»، بمعنى الافتراق الشاسع بين «خطاب» وممارسة السلطات وبين الكيفية التي يعبِّر المواطنون وخصوصاً الشباب منهم عن نفسه وآماله وهمومه. اللغة ساحة صراع مستمر ولعلها من الساحات القليلة التي يمكن القول إن الثورات العربية لم تختفِ منها اختفاءً نهائياً. وسائل الإعلام البديلة التي تظهر على شبكة الإنترنت تحل جزئياً مكان الفضائيات والصحف الرسمية أو شبه الرسمية. وتحمل الوسائل تلك «حقائق» مغايرة لما تريد السلطة تعميمه أو فرضه كحقيقة وحيدة. ولا تقتصر المعركة هنا على التنافس في إبراز الوقائع أو نفيها، بل تصل إلى طريقة الكلام والأساليب والقضايا والقيم التي ينطلق كل جانب لخوض معاركه حولها. ورغم الحصار والإجراءات القمعية الدائمة لدى بعض الأنظمة، يمكن الجزم بأن الجولة المقبلة من الثورات العربية، أو لِنقُل – تواضعاً – محاولات التغيير، يجري التحضير لها هنا.

الشرق الأوسط

——————————–

الربيع الآتي..بلا إستئذان/ ساطع نور الدين

وفي الذكرى السنوية العاشرة للربيع العربي، التي تستعاد هذه الايام، لا يمكن لأحد أن ينكر بأنه كان هناك مصدر إلهام رئيسي تمثل بإنهيار المعسكر الاشتراكي في أوروبا الشرقية التي تحولت غالبية بلدانها الى  دول ليبرالية ديموقراطية، وإلتحقت بالعالم الغربي وكتله ومؤسساته وثقافاته، في عملية إستغرقت أقل من عشر سنوات، من دون مقاومة تذكر من الأجهزة العسكرية والامنية، ومن دون ممانعة من الهيئات الدينية الكنسية.

لكن هذا الإلهام الاوروبي للربيع العربي، الذي لا يُعترف به كثيراً، إحتاج الى عقد إضافي أو أكثر لكي يتكىء على حدث تاريخي أيضاً، تجسد في الغزو الاميركي للعراق الذي سجل نهاية النظام العربي القائم منذ أربعينات القرن الماضي، وتصفية أحد أسوأ رموز ذلك النظام، المتمثل بحكم الرئيس العراقي صدام حسين.. ما أثار الخوف لدى بقية الحكام العرب، والأمل لدى بقية الشعوب العربية، بأن سقوط مستبد عربي، ربما يكون مقدمة للإطاحة بزملائه الآخرين، حتى من دون الحاجة الى غزو أو إجتياح خارجي.

كان صدام مثالاً، وكانت أميركا عاملاً مؤثراً، في تشكل ذلك الوعي العربي العام بأن الانظمة الحاكمة إستنفذت غرضها عند الاميركيين، واضاعت فرصتها للبقاء، من دون إصلاح جذري، لا يقتصر النص الديني، الذي وضعته هجمات 11 أيلول سبتمبر العام 2001 في قفص الاتهام، بل يشمل أيضاً مختلف أنماط الحكم وتقاليده السائدة في جميع البلدان العربية من دون إستثناء، جمهورية كانت أم ملكية.

كان مشهد إعدام صدام، وإنتشار القوات الاميركية في العراق وجواره العربي، راسخاً في أذهان الجمهور العربي الذي خرج في مثل هذه الايام من العام 2010 الى الشوارع والساحات للمطالبة بحقوقه الاجتماعية، ليكتشف على الفور ان الحكام العرب مرتعبون فعلاً من الحشود الشعبية وعاجزون أمام المطالب المعيشية العفوية.. وليلاحظ أن الاميركيين داعمون  للإصلاح والتغيير، ومتحمسون للجيل العربي الجديد الذي يطالب بالعدالة الاجتماعية لكنه ينادي أيضاً بالحرية والديموقراطية.

على هذا الأساس، مضى الربيع العربي في سنواته الثلاث الاولى، ونجح في إزاحة ثلاثة مستبدين، وتهديد رابع أو أكثر، وأرسى، في التجربة المصرية والتونسية بشكل خاص، فكرة الانتخابات الدورية كسبيل لتداول السلطة، وهو ما بدا في حينه إختراقاً تاريخياً للأفق السياسي العربي المسدود، أثار الذعر في السعودية والامارات تحديداً، وغيرهما من الممالك والجمهوريات العربية، التي هالها منظر الطوابير الطويلة أمام مراكز الاقتراع في مصر وتونس، ودفعها الى إعلان التعبئة لإحباط تلك التجربة،  بذريعة أنها أفسح المجال للاسلاميين للامساك بالسلطة، بتواطؤ مزعوم بينهم وبين إدارة الرئيس الاميركي الاسبق باراك أوباما.

وهنا، كان الإنقلاب في الموقف الاميركي من الإحتفاء بالربيع العربي الى التحذير من مخاطره حاسماً في كبح جماح الجمهور العربي، وفي وقف سيناريوهات تساقط الطغاة العرب، وفي تجديد التحالف معهم بوصفهم شركاء سياسيين وأمنيين مريحين ومطمئنين، يخففون العبء عن القوات الاميركية في حملتها على الارهاب، ويضاعفون الاستثمار في الاقتصاد الاميركي.

الثابت، أن أوباما الذي قاد بنفسه هذا الانقلاب، هو الذي أنهى الربيع العربي، بعدما كان أشد المحتمسين له، وكانت مشاركته في الثورة المضادة في مصر خاصة، ومباركته الحملة العسكرية الروسية والايرانية في سوريا، خاتمة لذلك الفصل المشرق من التاريخ العربي.. ما أتاح لخلفه دونالد ترامب أن يطور تلك الشراكة مع أعداء ذلك الربيع، ويستخدمها كوسيلة لابتزازهم، ثم لجلبهم صاغرين الى إسرائيل..الحليف الطبيعي الأول للطغيان العربي، والشرطي المكلف بأمن المشرق والخليج العربيين.

للذكرى العاشرة، أهمية وحيدة ربما، كونها مناسبة لتجديد ذلك السؤال المركزي حول الموقف الذي سيعتمده الرئيس الاميركي المنتخب جو بايدن، وما إذا كان سيدخل تعديلاً على تجربة أوباما المتقلبة والبائسة التي كان شريكاً في صياغتها، أم أنه سيلتزم المسار الذي حدده ترامب، والذي ثبت في السنوات الاربع الماضية أنه أشد إنسجاماً مع الثقافة السياسية الاميركية وأكثر جدوى لمصالحها، من التعلق العابر بأحلام ربيع عربي، لم يبق منه سوى بعض الذكريات المؤلمة والطموحات المؤجلة.

في الذكرى، تروج تنبؤات بأن الربيع العربي على وشك أن يتجدد، في هذا البلد العربي أو ذاك. وهو تقدير منطقي، لكن الحتمية التاريخية التي يضمرها، تأخرت سبع سنوات عجاف، زادت فيها الضغوط والقيود الأمنية والسياسية، وتضاعفت فيها الاعباء المعيشية والاقتصادية، ما يثير الشك في أن يعتمد الربيع الآتي، حتما، الدينامية السلمية نفسها التي سار على هديها الجيل السابق..قبل ان ينتهي به الأمر في القبور والسجون والمنافي.

وفي هذه الحالة ، لن يكون لبنان إستثناء أو شاهداً من بعيد.

المدن

——————————–

ثلاثة دروس في عشرية ثورات لم تنته/ مروان المعشّر

كُتِبت تحليلات عدة لمناسبة مرور عشر سنوات على الثورات العربية التي بدأت في تونس في شهر كانون الأول (ديسمبر) عام ٢٠١٠ وامتدت لأن تشمل إما احتجاجات واسعة أو تغييراً في أنظمة الحكم لأكثر من 12 بلداً عربياً. اعتمدت معظم هذه التحليلات على التغيرات الآنية التي حدثت في هذه البلدان، كما جاءت باستنتاجات تغلب فيها رؤية الأمور بالأبيض والأسود فقط، وتخلص إلى أن الاضطرابات التي شهدها العالم العربي ما هي إلا دليل على أن ما مرت به المنطقة هو خريف ودمار عربي، وليترحم الكثيرون على ما كانت عليه المنطقة قبل بدء هذه الثورات.

أزعم أن مثل هذه القراءة تكاد تكون سطحية، وتتجاهل الدروس التاريخية العديدة التي تعلمنا بأن أياً من موجات التغيير في التاريخ لم تنته باستقرار او ازدهار في فترة قصيرة مدتها عشر سنوات. كما ليس بالضرورة أن تنتهي كل موجة احتجاجية باستقرار أو ازدهار. وكما كتبت قبل سنوات في كتابي الثاني “اليقظة العربية الثانية والمعركة من أجل التعددية”، “قد يكون من المبالغ به الى حد كبير ان نتوقع من الناس ان يكون لديهم منظور تاريخي لما حدث منذ العام ٢٠١١. إن فترة انتباه الناس قصيرة، وصبرهم حتى أقصر … قلة من الناس لديها الوقت للنقاشات التاريخية أو للتفسيرات التحليلية”.

ومع ذلك، فقد علمتنا الثورات العربية الكثير خلال عشر سنوات، على الأقل لمن يريد أن يتعلم، وقدمت دروساً من الضروري الاستفادة منها حتى تكون العقود القادمة أكثر سلمية وازدهاراً.

الدرس الأول أن الوضع القائم لم يكن قابلاً للاستمرار لأن جُلّ الانظمة العربية يغلب عليها الطابع السلطوي، ولم تتمكن من محاكاة الهموم اليومية للناس وتوفير العيش الكريم لها ومحاربة الفساد المتفشي بطريقة منهجية. تُشكل هذه الحقيقة نقطة الانطلاق، وذلك رداً على من يتمنى ارجاع عقارب الساعة للوراء وتجاهل الأسباب الرئيسية، أي ضعف المأسسة والحاكمية الرشيدة، التي أدت الى اندلاع الثورات بالدرجة الأولى. أما وقد طالت هذه الاحتجاجات أكثر من 12 دولة، فقد تراجعت الحجة القائلة أن الموضوع ليس الا مؤامرة خارجية، بمعنى أن الشعوب العربية تساق هكذا دون أن يكون لها قرارها الذاتي. هذا لا ينفي بالطبع بروز تدخلات خارجية في العديد من الدول كليبيا وسوريا واليمن، ولكنها أتت استغلالاً لهذه الثورات، وليست مسببة لها. وقد أدت القراءة الخاطئة لقوى الوضع القائم إلى عودة الناس لبيوتها في العديد من الدول خوفاً أن تلقى دولها مصير سوريا أو اليمن أو ليبيا، الى رجوع هذه الانظمة لأساليبها السلطوية، دون معالجة الأسباب التي أدت أصلاً للثورات العربية. فكانت النتيجة ظهور موجة جديدة من الثورات عام ٢٠١٩، وذلك في السودان والجزائر والعراق ولبنان.

الدرس الثاني أن قوى الوضع القائم متجذرة في العالم العربي إلى حد كبير، وأنها قادرة في معظم الاحيان، حتى عندما تتعرض لهزات كبيرة كما في مصر أو الجزائر أو سوريا مثلاً، الى استعادة قواها واساليبها، مستفيدة من قلة خبرة وتنظيم الاحتجاجات الشعبية ضدها. كما من الواضح أن هذه القوى لا تملك رغبة او ارادة اصلاحية، وأنها تعتقد بأن بإمكانها استخدام الاساليب الامنية والسلطوية لإدامة الاستقرار ولو بالقوة، وأن بناء المؤسسات الحقيقية وانظمة الفصل والتوازن وسيادة القانون على الجميع ليس من أدبياتها ولن يكون.

أما الدرس الثالث والأساسي فهو أن الاحتجاجات والثورات بحد ذاتها لا تؤدي الى بناء دول حداثية قوامها مؤسسات راسخة وسيادة القانون واحترام التعددية، وان ذلك يحتاج الى أطر فكرية وتنظيمية، وإلى الوقت الكافي لنضوجها. لم يهتم الجيل الجديد بهذا في الغالب. ولم يُساعد الغياب الفاعل للحياة الحزبية ومؤسسات المجتمع المدني، في تحويل هذه الاحتجاجات الى بدائل مقنعة لعامة الناس، وبذلك فقد خبا نجم الاحتجاجات في كافة هذه الدول. وبعدما خرج الجزائريون للشارع بمسيرات مليونيه كل يوم جمعة على مدى أكثر من عام، لم ينجحوا في تحقيق التغيير الذين كانوا يطالبون به. وفي لبنان، فان ثورة تشرين الاول عام ٢٠١٩ خبت هي الاخرى. في معظم هذه الدول باستثناء تونس، كان المحتجون أقدر على تعريف ما هم ضده من تقديم ما هم معه من برامج وحلول. لا يعني ذلك أن الثورات العربية انتهت، و طالما لم تعالج المسببات التي أدت لهذه الثورات، فسيشهد العالم العربي موجات ثالثة و رابعة وخامسة.

كيف يكون الحل إذا وما هي أدواته؟ فان سلمنا أن عقارب الساعة لا تعود للوراء، وإن الاحتجاجات الشعبية دون تأطير فكري وسياسي وتنظيمي لا تؤدي الى تغيير ايجابي في معظم الاحيان، وأن الانظمة السلطوية قادرة على وأد أي محاولة لإنشاء أطر تنظيمية تقليدية كالأحزاب مثلا، فكيف السبيل لطرق سلمية فاعلة تعترف بصعوبة الواقع ولكنها لا تقف عنده؟

أعتقد أن امام الجيل الجديد مهمة شاقة تبدأ بالاعتراف بانه ما من طرق مختصرة للديمقراطية والازدهار، وان الطريق يبدأ من تثقيف نفسه فكرياً واستيعاب المبادئ الحقيقية للديمقراطية والايمان بها فعلاً لا قولاً، ثم بناء أطر تنظيمية غير تقليدية لا تستطيع الانظمة السلطوية التقليدية السيطرة عليها، أطر تمكنه من الحوار والمناقشة وتطوير نفسه فكرياً وتنظيمياً، وصولاً الى تقديم بدائل مقنعة لعامة الناس، فلا يمكن للأطر الفكرية أن تبقى أسيرة العقول النخبوية، بل يجب العمل الدؤوب لتوعية الناس كيف تؤدي التعددية والمدنية الديمقراطية لتحسين حياتهم اليومية.

هذه المهمة ليست أهلاً لأصحاب القلوب الضعيفة، أو لمن أعتبرهم الرومانسيين الحقيقيين، أولئك الذين يستسلمون أمام الصعاب الجمة التي تعترض طريق الديمقراطية، وبخاصة بالتزامن مع الأحوال الاقتصادية الصعبة. حان الوقت كي يدرك الجيل الجديد في العالم العربي أن الطريق طويل وشاق، وأن الوصول لعالم عربي مستقر ومزدهر يتطلب عقوداً من الزمن، ولن يتحقق في حياة الكثيرين، بمن فيهم ابناء وبنات جيلي.

التوعية والاستعداد والتثقيف وبناء البرامج المقنعة واستخدام وسائل الاتصال الحديثة كلها عوامل ستساهم في خلق جيل جديد مختلف ينشد الحوكمة الرشيدة والسلمية والتعددية والتشاركية والانتاجية في الوقت ذاته، فهي الاسس التي سيقوم عليها أي ازدهار مستقبلي.

———————————-

في اضطرابات المشرق العربي ومعضلاته/ ماجد كيالي

تحولات معقدة لا يمكن التكهن بمآلاتها

باتت منطقة المشرق العربي من أكثر مناطق الاضطراب، أو التصدع، الدولتي والمجتمعي، في العالم، علما أنها من أكثر المناطق أهمية للعلاقات والاستراتيجيات الدولية والإقليمية، من النواحي الجغرافية والاقتصادية والأمنية والسياسية، أيضا. فتلك المنطقة التي تضم ما يعرف بمنطقة بلاد الشام وما بين النهرين، ومصر والسودان والجزيرة العربية، تعتبر بمثابة المفاعل السياسي، أو بمثابة المركز، للتطورات والتحولات في العالم العربي، وهي الملتقى، والجسر، الذي يربط القارات الثلاث القديمة (آسيا وأوروبا وأفريقيا)، وفي هذه المنطقة منابع النفط، ومواطن الرسالات السماوية الثلاث.

ومعضلة المشرق العربي، في هذه المرحلة، هي، أولا، في أنه يواجه قوى إقليمية ودولية عديدة تتصارع من أجل السيطرة عليه، والتحكم بالتطورات الجارية فيه، من دون أن تكون له هيكلية، أو ماهية، أو ذات واضحة ومتمثلة في دولة أو في نظام إقليمي.

هذا مع العلم أننا إزاء نظام عربي، هو أقرب إلى نظام افتراضي، لافتقاده للوحدة والفاعلية التي تضاهي الفاعلين الإقليميين والدوليين الآخرين، لاسيما أن المنازعات، بدلا من علاقات التكامل والتعاضد، باتت تحكم العلاقة بين الوحدات المشكّلة له.

هكذا، يواجه المشرق العربي على الصعيد الإقليمي، مثلا، ثلاث قوى صاعدة، فثمة إيران بقوتها النفطية والعسكرية (وضمنها احتمال امتلاكها قوة نووية)، تسعى لتعزيز دورها الإقليمي، عبر تصدير “ثورتها” إلى محيطها، بالاستناد إلى بعد ديني ومذهبي، وحامل طائفي، وبتوظيف واضح للصراع العربي ـ الإسرائيلي وللعداء للسياسة الأميركية في المنطقة. في مقابل ذلك تتقدم تركيا بهدوء أحيانا، وبشكل صاخب أحيانا أخرى، أي بالقوة الناعمة وبالقوة الخشنة (العسكرية أيضا) لتعزيز وضعها الإقليمي، بثقلها التاريخي، وقدراتها الاقتصادية، ونمط نظامها الديمقراطي/الإسلامي، والمنفتح على الغرب، أو المنازع له.

أيضا، ثمة إسرائيل، التي تحاول فرض ذاتها كلاعب، أو كفاعل إقليمي في المنطقة، لاسيما أنها تحمل في وجودها وجها دوليا، أيضا؛ بحكم علاقاتها المتميزة بالغرب وبالولايات المتحدة الأميركية تحديدا. وما يميز إسرائيل أنها على خلاف الطرفين الآخرين، أي إيران وتركيا، تتمتع بعلاقات ممتازة ومتميزة مع كل من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا (وأوروبا)، في حين يفتقد ذلك الطرفان الآخران.

أما على الصعيد الدولي، فثمة الولايات المتحدة التي ترى في وجودها في هذه المنطقة، ضمانة لاستمرار هيمنتها على النظام الدولي، بين ضمانات أخرى عسكرية واقتصادية وتكنولوجية. أما أوروبا فترى في هذه المنطقة (مع شمالي أفريقيا) نوعا من الامتداد التاريخي والحضاري والجيوسياسي الطبيعي لها. وخاصة أنها تتأثر مباشرة جراء التطورات والاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية في هذه المنطقة، بحكم الجوار الجغرافي، وبحكم انتقال موجات الهجرة من المشرق العربي (مع شمالي أفريقيا) إليها.

وطبعا هناك روسيا، وهي مشروع إمبراطورية تسعى لاستعادة نفوذ سبق أن خسرته، في مرحلة سابقة، لأسباب أيديولوجية (في زمن الشيوعية)، وبسبب خسارتها المنافسة في السباق الدولي مع الولايات المتحدة، وهي لذلك تسعى جاهدة، بالاعتماد على قوتها العسكرية، لمنافسة النفوذ الأميركي في أكثر من مجال، وبأكثر من طريقة.

واضح من كل ذلك أن معطيات تلك المنطقة وتشابكاتها جدّ معقدة ومتداخلة، ولا يمكن فيها الحديث عن سياسة محلية من دون بعد إقليمي، كما لا يمكن الحديث عن هكذا بعد، أيضا، من دون مداخلات دولية.

المعضلة الثانية، التي تواجه هذه المنطقة هي أن الصراعات والتنافسات السياسية، الداخلية والخارجية، لا تحلّ، على الأغلب، بالوسائل الدبلوماسية، والسلمية فيها، والديمقراطية، وإنما بطرق القوة والعنف والوسائل العسكرية. هكذا، مثلا، فإن إسرائيل تبحث عن حلّ أمني (عسكري) لصراعها مع الفلسطينيين، وفي عموم المنطقة، يتأسّس على التسليم وليس على السلام، وعلى الغلبة والهيمنة وليس على التكافؤ والمساواة، وعلى الردع والقوة وليس على العدل والتوافق.

وبذلك باتت المشكلة بالنسبة إلى إسرائيل ليست الاستيطان والعدوان والاحتلال، وإنما تخلي الفلسطينيين عن العنف وإعادة تأهيلهم لإدارة أوضاعهم. وهذا ما يمكن سحبه على الجبهات الأخرى، في التدخلات العسكرية الإيرانية والتركية لاسيما في سوريا والعراق. وفي هذا أيضاً قامت الولايات المتحدة بغزو العراق واحتلاله سنة 2003.

أما على صعيد الخلافات والصراعات الداخلية فالقوة هي الأساس، إن في تعامل الأنظمة مع القوى المعارضة (على ضعفها)، أو بالنسبة إلى حل القضايا الخلافية الداخلية (حالة حماس في فلسطين وحزب الله في لبنان والوضع

في السودان والصومال واليمن وليبيا).

المعضلة الثالثة التي تواجه المشرق العربي تنبثق من واقع أن الصراعات في هذه المنطقة سرعان ما تتخذ طابعاً دينياً وطائفياً وإثنيا ومذهبياً، بسبب ضعف الاندماج المجتمعي، وضعف تكون الدولة ـ الأمة، أو دولة المواطنين، في هذه المنطقة الفسيفسائية. وفي هذا السياق، فهذه إسرائيل تؤسس وجودها في المشرق العربي على فرادتها كدولة يهودية. وثمة تنام ملحوظ لتيارات الإسلام السياسي الحركي، المعطوفة على العنف. ونفوذ إيران إلى تصاعد مستمر، بسبب من توظيفها لعدائها مع إسرائيل والسياسات الأميركية. وثمة حركتان إسلاميتان باتتا تتصدران الصراع ضد إسرائيل (حزب الله في لبنان وحركة حماس في فلسطين).

وبدورها فإن الصراعات في العراق، بسبب المداخلات الإيرانية والتوظيفات الأميركية، باتت تتخذ طابعا مذهبيا، وإثنيا، وهي تكاد تمتد لتعم المشرق العربي، ما يهدد الدول العربية، على ضعفها. وقد شهدنا كيف تم تحويل الصراع في سوريا إلى نوع من صراع طائفي، أو حرب أهلية، في حين كانت في البدايات بمثابة ثورة ضد نظام العائلة الحاكم منذ نصف قرن.

المعضلة الرابعة، تتمثل في أن العامل الخارجي بات بمثابة عامل داخلي في الصراعات المذكورة، في العراق وسوريا واليمن وليبيا، وهو يتركز في السياسة التي تنتهجها الإدارة الأميركية، التي هي الفاعل الأكبر في المشرق العربي، إلا أن هذه ليست في وارد إصلاح الأوضاع في المنطقة، على رغم اللغو الأميركي الكثير في هذا المجال.

ومن ذلك يمكن الاستنتاج بأن منطقة المشرق العربي، وبسبب هشاشة النظام العربي، وضعف المجتمعات العربية، تمر بمرحلة انتقالية، وبتحولات نوعية، صعبة ومعقدة، لا أحد يمكنه التكهن بمآلاتها. وعلى ذلك، فإذا استمر الحال على ما هو عليه، يخشى أن هذه المنطقة لا تسير باتجاه إعادة التشكيل والاندماج، المجتمعي والدولتي، وإنما نحو المزيد من التفكك والتشقق وربما التصدّع، وهذا ما ينبغي الانتباه له، وتاليا العمل على تخفيف مخاطره وتجاوزه.

كاتب سياسي فلسطيني

العرب

———————————-

ثورات الربيع العربي مستمرّة بضرورتها/ محمود الوهب

صادف يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول الحالي الذكرى العاشرة لانطلاقة ثورات الربيع العربي التي دشنها التونسي محمد البوعزيزي، بإحراق نفسه في مدينته سيدي بوزيد، مجسّداً بذلك تراكم زمن طويل من فقرٍ وقهرٍ وظلمٍ وإذلالٍ وتهميشِ، تعدّدت وجوهه، وألوانه، ودرجات فعله، وعمق تجذّره، وما تلاه أكد وجوده في البلاد العربية كافة، وإنْ بنسبٍ مختلفة. وقد أعطى، بالإضافة إلى مسائل أخرى، شرعية تلك الثورات، بدوافعها الموضوعية. وعلى ذلك، هبَّ الشباب العربي معبراً عنها، إثر الشرارة التونسية التي أشعلها البوعزيزي، والتي تلتها في اليوم الثاني مظاهرات ضخمة في عدد من المدن التونسية، أدت إلى سقوط الرئيس زين العابدين بن علي بعد أقل من شهر، لتهبَّ مصر بعدئذ على نظام متوارث عسكرياً منذ عام 1952، ومنه بالذات فتح بابِ العلاقات مع إسرائيل، على الرغم من أن مصر كانت الدولة العربية الأكثر استعداداً، بما تملكه من مؤهلاتٍ تفتقر إليها دول المنطقة، للنهوض دولةً إقليميةً لها دورها ومكانتها، وربما قاطرةً للدول العربية كافة. وهكذا جاءت ثورة 25 يناير في 2011، بغضّ النظر عن مآلها، وتسلط العسكر من جديد على شعبها، محرّضاً رئيساً لبقية الدول العربية، إذ تلتها اليمن في 11 فبراير/ شباط لتتبعها ليبيا في 17 الشهر نفسه، ثم لتشتعل سورية في 15 مارس/ آذار، وكأنَّ الجميع على موعد واحد. ولمَ لا؟ أليس طعم الظلم واحداً، وإنْ ظن بعض هؤلاء أنهم في منأى عن ذلك الربيع، فسورية “الله حاميها” (الله لا يحمي الظالمين، لكنه، “يمهل ولا يهمل”)، إذ صرح ذلك الحاكم، آنذاك، بأن سورية ليست رمال الصحراء الليبية! وهكذا تتابعت الاحتجاجات في بقية البلاد العربية، وإنْ على نحو أقل قليلاً في البحرين والأردن وعُمان والمغرب وجيبوتي والسودان 2011 أولاً، ثم عادت في الجزائر والعراق ولبنان في 2018، بغضّ النظر عن الابتزاز الأميركي/ الصهيوني الذي قد يخلق فرزاً جديداً.

ما يهم هنا، تأكيد أن هذه الثورات ليست مؤامرات خارجية، ولا هي نتيجة خيانات داخلية تأتي من نكرات، أو جراثيم (ليبيا وسورية)، فالمؤامرة، أية مؤامرة، لا يمكنها أن تنجح، وتدخل بلداً ما، إن لم يكن لها أرجل، ولقد صنعها لها الحكام، بابتعادهم عن شعوبهم وتصغيرهم إياها بسجنها، وبما ارتكبوه من جرائم بحقها وحق أوطانهم وما نهبوه من أموال، وبما عاشوه من بذخ وتبذير ما لا يملكونه، ولم يجلبوا لشعوبهم، في النهاية، إلا التخلف، وذلَّ الهزائم، وبعض هؤلاء تراهم اليوم، يحتمون بعدو بلادهم التاريخي، فيفتحون أبواب بلدانهم وثروات شعوبهم دونما خجل أو وازع من ضمير.

قالت الشعوب كلمتها بوعي من أجيالها الشابة التي تعيش عصرها الديمقراطي، وثوراته التكنولوجية متعدّدة الأوجه، وهي ماضيةٌ نحو بناء حياتها الجديدة، وتحطيم هياكل نظم عفا عليها الزمن. النظم الباقية من عهود الإقطاع، وعقلية زعيم القبيلة أو الطائفة. أما تلك التي زعمت البناء والنهوض ومقاومة العدو الإسرائيلي، فإنها دارت في فلك نظم هي وجه آخر للأولى، إنها النظم البيروقراطية التي أنهكت شعوبها، وبدّدت ثرواتها دونما طائل أيضاً، فتخلّفت عن ركب حضارة جاورتها، على الرغم من كل ما تملكه من مؤهلاتٍ مادية وبشرية، لأنها كانت تعلك الشعارات، وتهدّد بها شعوبها، فكان القمع الرهيب، وكانت السجون والمعتقلات والقتل والتهجير والخراب الشامل الذي طاول بلاداً عربية عديدة. وكان لهؤلاء الحكام تعاونهم على الشعوب من حال جديدة لا يريدون الاعتراف بها، إذ تشكل خطراً عليهم، وعلى ما ينعمون به، وفضحاً لجرائمهم السياسية والعسكرية والاقتصادية والأخلاقية التي تصل إلى حدَّ الفعلية للأوطان والشعوب.

قيل الكثير في دوافع تلك الثورات، وفي مبرّرات قيامها، على الرغم مما اعتراها، ويمكن إيجاز ذلك في أنه يعود إلى غياب الحريات العامة، وما تفترضه من وجود أحزاب سياسية غير مدجّنة، تنظِّم عملها قوانين واضحة ودقيقة تنبثق من دستور يقره الشعب، لا يتجاوزه أي فردٍ في الدولة، كبيراً كان أو صغيراً، وقضاء عادل لا سلطة عليه غير سلطة القانون، وإعلام حرّ يكون مرآةً للمجتمع بأطيافه، وتطلعاته، وتنمية ثرواته، وإبداع أبنائه وكل ما يعتريه من مشكلات، وعقباتٍ لا للحاكم وحاشيته ومنجزاتهم المظهرية، بحسب عبد الرحمن منيف ومدنه الملحية. وبذلك انصرف هؤلاء الحكّام عن تنمية بلادهم وحمايتها في اقتصاد قوي، وعمل آمن لمواطنيها، فكان الفساد، والقمع وسطوة أجهزة الأمن، ومن ذلك كله أتت الهزائم المريرة، ثم الاستخفاف بالحكّام والطمع بثروات بلادهم.

عمق تلك الثورات العربية قد تجذَّر، وهي مستمرّةٌ بأشكال مختلفة، على الرغم من أن أصابع دولية وإقليمية تعبث بها، وتتناحر حول غنائم هذه البلاد، وعلى الرغم من تناقض القائمين عليها وصراعهم، لكنها لا تزال قائمة، وقد دفعت الشعوب ثمنها دماً وخراباً ومعاناة مريرة في اليمن وليبيا وسورية والعراق ولبنان، فالثورات لا تحقق غاياتها بين يوم وليلة، إنها عملية حفر في الصخر. ولا بد من التذكير بأن الثورات لا تسير وفق خط مستقيم، وأن ما يحدث في بلادنا ثورات فعلية، على الرغم من نواقصها وسلبيات القائمين عليها. وهذا ما يهم الآن، وما يمكن استخلاصه، والاطمئنان إليه.

هرولة بعض الحكّام العرب خلف عمليات التطبيع مع العدو الإسرائيلي، وإن ارتدى لباس الضغط الأميركي الذي يفخر به ترامب، وبه يكسب ود اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، ويدعم صديقه نتنياهو. ولكن الهرولة، في لبّ حقيقتها، هي الرعب من أن تمتدَّ تلك الثورات إلى أنظمةٍ عفا عليها الزمن، فتهرّأت، وتعفّنت، وأنتنت، وتفسّخت، وآن أوان سقوطها. ومن هنا، فإن فعل الهرولة هذا هو هروب إلى الأمام. وهو ناجمٌ عن ضعف وجبن وطبع خيانة يبحث عن حماية جديدة. هؤلاء اليوم في حالة رعب، فعلى الرغم من كل القتل والخراب والأموال التي أُهْدِرَت تراهم محاصرين في مآزق لا منجاة منها، فما يفعلونه لا ينفع بشيء، غير أنه يقوي مبرّرات الربيع العربي.

ثورة المعلوماتية والاتصالات تبشّر اليوم بعالم جديد، وهي، في الوقت نفسه، سلاح بيد الأجيال الجديدة، فسلاح العلم والمعرفة، والوعي الحقيقي غير المزيف، قد قشَّر الأغلفة التي تستّر بها الحكام، فبانت عوراتهم. وها هو ذا العراق تزداد بروق ثورته لمعاناً. إذ لا يزال الشباب يتقدّمون بصدورهم العارية لمواجهة رصاص المليشيات الطائفية، يفضحون زيفها برفعهم الهوية الوطنية العراقية، وما تنطوي عليه من معانٍ قوميةٍ واجتماعيةٍ، تؤكد مشروعية نضالهم ضد بؤس الحال وروائح الفساد وتفاهة الفكر الطائفي المغرق في الجهل والتخلف الحضاري. ويرفع المحتجّون شعاراتٍ تمجِّد شهداء حراكهم منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2019، وقد بلغ عددهم حتى الآن أكثر من سبعمائة شهيد، ويفضح المتظاهرون فساد النخب الحاكمة وتقاسمهم المواقع السياسية، ويهتفون ضد الأحزاب، ويطالبون بوطن عراقي صرف يفدونه بالروح والدم.

العربي الجديد

——————————

نجاح المثقف وفشله/ ميشيل كيلو

كثيرون هم الذين شيّعوا المثقّف إلى مثواه الأخير، وقد حمّلوه مسؤولية “فشل الربيع العربي”، إذ عدّوا فشل مشاريعه فشلًا للمثقف قبل غيره.

في عالم عربي تسوسُه نُظمٌ فاشلة ومارقة، تعارضها تنظيمات حزبية أنهكها القمع وغياب مجتمعاتها عن شؤونها، أخذت قطاعات شعبية واسعة، يغلب عليها الطابع الشبابي، تقتحم الساحة السياسية، متجاوزة عقودًا من التغييب، لتُخرج نفسها وأوطانها من احتجازات قاتلة، كانت تزداد تجذرًا من يوم إلى آخر، وكان قد كرّسها رهانان تناحرا طوال عقود في المجال العربي؛ عُدّ أحدهما حداثيًا والآخر تقليديًا، وكلاهما أخفق في إدخال العرب إلى عصرهم، بشروط تتكفل بتحريرهم من التأخر والتخلف، فكريًا وثقافيًا وعلميًا واجتماعيًا واقتصاديًا، وفي إشراكهم -بهذا القدر أو ذاك- في تقرير شؤونهم العامة.

بهذا الفشل، الذي كشفته هزيمة حزيران العسكرية أمام إسرائيل، انخرط العرب في لحظة صفرية، محليًا ودوليًا، ووقعت القطيعة بين نظمهم الشمولية التي تأسست بذريعة “الردّ على العدوان الخارجي”، لكنها لم تحارب غير عدوها الداخلي: شعوبها، فترتبت على ذلك الأمر نتيجتان: القطيعة الجذرية بين الحكّام والمحكومين من جهة، وظهور المثقف كطرف يتصل دوره بحريته، من جهة أخرى، وبإخراج مجتمعه من الفراغ الشامل الذي تحميه نظم تطلعت إلى احتوائه بعد أن احتوت مجتمعه، لتحول بينه وبين تأسيس حقل فكري/ معرفي خاص به، تتقاطع مسائله مع الشأن العام في بعده الشعبي، وتلزمه بالانحياز إلى مجتمع الناس المغيب الذي سيجد في نتاجه ودوره ما قد يعينه على الخروج من غيبوبته الإجبارية، وإحداث تبدّل ما في الواقع السياسي القائم وعلاقات أطرافه، حيث سيمثل المثقف المجتمع، بحكم حاجتهما إلى الحرية، وحاجة الثقافة إلى بيئة إنسانية تفاعلية ومفتوحة.

هل أدى ظهور مثقف النظم الاستبدادية إلى تحميله مهام تضعه في مواجهتها، بحيث تتجه ثقافته نحو التخلّص منها على مراحل، أولّها خروجه من حقلها السياسي المؤمم، الذي لا يتّسع له، ويُعدّ تدخله فيه خطرًا عليه، ويجب تحوله إلى مثقف عضوي ثوري الوظيفة، وصرف اهتمامه إلى موضوعات ثقافية يفارق من خلالها نظام الاستبداد العنيف والمغلق، ويلتزم، بالمقابل، بحامل مجتمعي واسع ويتخطى إطاره المباشر، لا يبقيه انتماؤه إليه وحيدًا ومكشوفًا، ويساعده في الخروج من دائرة الاحتواء والإفساد التي سيعمل الاستبداد بإغراقه فيها، لمنعه من النهوض بدوره، ومن الالتقاء مع مجتمع الشعب، الذي يطالب مثله بالحرية، وسيحوّل مطالبته إلى ساحة تفاعل تجمعهما، يضع لقاؤهما فيها حجرَ الأساس لتغيير علاقات القوى السياسية، وإعادة المجتمع إلى السياسة، والسياسة إلى المواطن.

بدأ الربيع العربي، بعد فترة من غياب أحزاب المعارضة عن دورها، وبروز دور المثقف، الذي جعل الحرية هدفه السياسي الوحيد، وحاضنة مطالبه جميعها، التي تنتفي في غيابها إمكانية التحرر من الاستبداد، وتحويل أفكار المثقف إلى قوة مادية، يمكن بمعونتها بناء مجال عام مضاد لحقل السلطة السياسي. وقد زاد من هذا الاحتمال طابع المثقف الجديد الذي لم يكن مثقف برجه العاجي الشهير، بل كان أيضًا مثقفًا ميدانيًا يتقن تحريك الناس، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وكسر حصار الإعلام الرسمي المضروب حوله، وجسر الهوة بينه وبين رجل الشارع: شريكه ورفيقه في حراك يترجم وعي المثقف المناهض للاستبداد إلى حراك تنخرط فيه كتل شعبية كبيرة.

برز هذا الدور خلال موجة الربيع العربي الأولى التي طالبت بإسقاط النظم، لكنه تراجع بعد عجزه عن تطوير بدائل فاعلة للاستبداد، وللتطرف المذهبي المسلح. وفشل بالنتيجة في ما تحقيق كان منتظرًا منه: بناء قيادة سياسية وفكرية لثورة الحرية توحّد جناحيها السياسي والعسكري، وتصلب حاملها المجتمعي الوطني، فلا عجب أن تراجعت مكانته، وبرز في صفوفه قدرٌ تعاظم باضطراد من التبعثر والتشتت، فزاد عجزه عن إنجاز مهمته الثورية الكامنة في تحويل تمرّد مجتمعي يحمل سمات ثورية، إلى ثورة مكتملة الأركان، عبر تزويده ببرامج وخطط تتفق مع هويته وتنمي قدراته وتوحدها حول الحرية، كرافعة ثورية وهدف وطني جامع، لكن غياب المثقف عن دوره، وفشل المعارضة في القيام بالمهمة المطلوبة، أديا إلى انحدار التمرد إلى اقتتال مذهبي خطط له، ونجح في فرضه، النظام الأسدي، والتيار المتعسكر المتأسلم، الذي خطفها وطارد مثقفيها وكتم أنفاس حاضنتها.

هل يعني هذا أن دور المثقف قد آل إلى فشل نهائي، أو أن مراجعته صارت مستحيلة، بدلالة الحاجة إلى إخراج الثورة من مأزق هو مأزقه الذي يؤذن بفشلها وإفلاسه في آن معًا، وبوقوع قطيعة نهائية، ستستمر مدة طويلة جدًا، بين المثقف والشعب، بعد أن أدى تشابكهما وتفاعلهما إلى الثورة، وسيؤدي انفكاك علاقتهما إلى هزيمتهما، ورضوخهما لطور استبداد غير مسبوق، أشد هولًا من أي كارثة سبق لهما أن تعرضا لها، بعد أن أدرك الاستبداد ما للمثقف من دور في إعادة المجتمع إلى السياسة والسياسة إلى المجتمع، ومن تهيئة الشروط الضرورية للثورة عليه!

باحتجاز المجتمع، سياسيًا وفكريًا، أضفى الاستبداد سمة ثورية على دور الثقافة، وحوّل المثقف إلى حامل فكر عضوي، يضع دوره في خدمة مجتمعه، ويعمل لتثوير وعيه، تمهيدًا لتثوير واقعه. وإذا كانت ثورات الربيع العربي قد أكدت أهمية المثقف، وعززت نقاط قوته، فإن الثورة أظهرت بالمقابل نقاط ضعفه، وضرورة ترجمة أفكاره إلى برامج سياسية ثورية، تسهم في نقل مجتمعه إلى طور تاريخي جديد، يصنعه مواطن مثقف تجاوز هويته كفرد في نخبة، يرفض الاندماج في السلطة ومغانمها من جهة، وينحاز إلى مجتمعه ويندمج فيه، ويخوض معركته ضد الاستبداد، ويعمل لجعل ثورة الحرية عصية على الكسر.

مركز حرمون

———————————-

عشر سنوات على الثورات العربية: براعم الربيع العربي

في الذكرى السنوية العاشرة لاندلاع انتفاضات الربيع العربي في شمال إفريقيا والشرق الأوسط يرى كثيرون أن حركة الاحتجاجات قد آلت إلى الفشل، إلا أن الأمر لم ينتهِ بعد، حيث دخلت الاحتجاجات مرحلة أكثر نضجا بأشكال جديدة. الصحفية الألمانية كلاوديا منده تستخلص نتائج الأحداث وحصادها وموقف الغرب منها لموقع قنطرة.

لقد كان الأمر أشبه برفرفة جناح فراشة تسببت بحدوث تسونامي. ففي 17 كانون الأول / ديسمبر 2010 أضرم بائع الخضار محمد بوعزيزي النار في نفسه بمدينة سيدي بوزيد التونسية. وسرعان ما أثار انتحار الرجل البالغ من العمر 26 عامًا، والذي تعرض لمضايقات الشرطة والسلطات، احتجاجات حاشدة في جميع أنحاء المنطقة.

وقد بدأت هذه الاحتجاجات في تونس، ومن ثم في مصر، وفي ليبيا، وفي اليمن؛ حيث خرج الآلاف إلى الشوارع في جميع بلدان المنطقة تقريبًا للتظاهر ضد أنظمة الحكم في بلدانهم آنذاك، قاطعين بذلك عقودًا من الاستياء المكبوت ضد السيطرة الاستبدادية والفساد وسوء الإدارة.

كانت الأردنية روان بيبرس قد بلغت من العمر آنذاك 22 عامًا، وقد أكملت وقتها دراستها الجامعية في مجال التسويق، وتابعت الاحتجاجات عبر شاشة قناة الجزيرة، ورأت كيف نفّس المحتجون عن غضبهم الناجم عن الحكم السلطوي، وكيف صرخوا من أجل الحرية والخبز والكرامة.

وشاهدت روان -التي تعمل حاليًا في الصّليب الأحمر في عمّان- عبر الشاشة كيف تمت الإطاحة بالمستبدين: في تونس في 14 كانون الثاني/ يناير 2011، وبعدها بشهر واحد فقط في القاهرة، وفي اليمن، ومن ثم في ليبيا، وكيف انهارت أنظمة حكمهم.

تقول روان اليوم: ” لقد شكّل ذلك نقطة تحوّل في حياتي. فقد نشأتُ مع الشعور بأن كثيرًا من الأشياء من حولنا ليست على ما يرام، ومن ذلك، على سبيل المثال، عدم وجود حقوق مدنية. وكنت أعتقد بأن الحال لن يتغير، حتى وإن كان فظيعًا، [إلا أني] أدركت منذ الربيع العربي أن الأمور يمكن أن تتغير”.

ولا يزال هذا الإدراك قائمًا حتى اليوم، كما ترى روان، رغم تدهور الظروف المعيشية الاجتماعية والاقتصادية لكثير من الناس بعد مرور عشر سنوات [على انطلاقة الربيع العربي]. وبالنسبة لروان نفسها، لا يمكنها إلا بالكأد العثور على وظائف مؤقتة تتخللها فترات من البطالة، رغم ما أنجزته سابقًا من تعليم جيد وما قضته من فترات تدريب عملي عديدة.

احتجاجات حاشدة في ميدان التحرير في القاهرة عام 2011 – مصر. (Foto: Picture / alliance/ dpa/F.Trueba)

مركز لزلزال الثورات العربية: يعدّ ميدان التحرير في القاهرة مركزًا لزلزال الثورات العربية بلا منازع، إلا أن روح الحرية التي أطلقها ميدان التحرير في ذلك الوقت ما لبثت أن اختنقت في نهاية المطاف ضمن سياق الثورات المضادة واستعادة السلطوية عافيتها في العديد من الدول العربية.

الاستثناء التونسي

لقد تبددت الآمال في التحول الديمقراطي السريع. فبالكأد حققت الحركات الاحتجاجية بعض التوقعات. وباستثناء ما حدث تونس، لم يتسنَّ تحقيق أي شيء من أجل إرساء الحقوق المدنية والحريات بصورة شاملة.

ففي مصر، أسفرت أولى الانتخابات [الرئاسية] الحرة عن انتخاب محمد مرسي المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين. مرسي [الرئيس الجديد] المثقل بالأعباء أغرق البلاد في حالة من الفوضى، و[سرعان ما] أطاح الجيش به في العام 2013. و[أسفر ذلك عن] مقتل الآلاف من أنصاره. وتشهد البلاد منذ ذلك الحين قمعًا أسوأ مما كان عليه الحال في عهد الرئيس السابق مبارك. ويكاد لا يُتاح للمجتمع المدني مُتنفّس. إذ يريد الحاكم العسكري عبد الفتاح السيسي أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء وأن يمحو أي ذكرى لأحداث يناير/كانون الثاني 2011.

أما في سوريا، فقد صُيّرت الاحتجاجات حربًا أهليةً داميةً تغذيها قوى إقليمية ودولية. واليوم، وبعد مقتل ما يزيد عن 500 ألف شخص وملايين من النازحين، لا يزال الدكتاتور بشار الأسد في السلطة بفضل دعم روسيا وإيران.

وفي اليمن، اندلعت الحرب الأهلية بعد استقالة الرئيس الذي طالت مدة حكمه، علي عبد الله صالح، في كانون الثاني/ يناير 2011. وهناك أيضًا، يحدد التنافس الجيوسياسي بين إيران والمملكة العربية السعودية معالم الصراع. أما الضحايا فهم شعب اليمن، حيث تحدث هناك حاليًا أكبر كارثة إنسانية في هذا العالم.

أما في بلدان أخرى مثل الأردن والمغرب، فقد تمكّن حكامها من تهدئة الاحتجاجات عبر تقديم بعض التنازلات السّياسية الطفيفة. في حين تمت تهدئة المواطنين في دول الخليج العربي بمزيد من المال، ومن ذلك على سبيل المثال، زيادة رواتب العاملين في الدولة.

[ضمن هذا المشهد المؤلم] تبدو تونس المثال الوحيد للنجاح، حتى وإن كانت الديمقراطية فيها غير مستقرة، في وقت تهدد فيه البطالة والتدهور الاقتصادي بسبب قلة السيّاح والديون الوطنية أسس هذا البلد المتوسطي الصغير.

التغييرات الهيكلية تستغرق وقتًا

فهل أخفق الربيع العربي؟ هل تحوّل إلى شتاء قارس كما يقال في كثير من وسائل الإعلام الغربية؟ هناك أسباب عديدة من شأنها أن تفسر التطور الذي آلت إليه ثورات الربيع العربي.

ففي حين عرف ناشطو المجتمع المدني، الذين كان جلهم من الفئة الشابة، ما ينبغي عليهم معارضته، إلا أنه لم يكن لديهم تصورات سياسية محددة. إذ أدت عقود من القمع وانعدام حرية التعبير إلى استحالة وجود إمكانية إجراء مناقشات مفتوحة للمفاهيم السياسية. أضف إلى ذلك الانقسام الشديد في هذه المجتمعات ما بين تيارات موجهّة على أسس علمانية أو إسلامية.

وفي حين توفّر لدى الجماعات الإسلامية إمكانية العودة إلى هياكل السلطة الموجودة مسبقًا [في النظريات السياسية الإسلامية]، إلا أن ذلك لم يكن حال القوى السياسية العلمانية وبذلك فقد كانت هذه القوى في وضع غير مؤاتٍ لخوض أيّ انتخابات، كما حدث في مصر.

وتسود اليوم خيبة أمل كبيرة لاسيما في أوساط الشباب. وتضيف روان بيبرس: “[لا] يريد معظم أصدقائي [سوى] المغادرة فقط، هذا محزن حقًا”. لقد اعتبروا حالة المنطقة ميؤوسًا منها، وبأنها لا شيء أكثر من كارثة.

وتذهب ريما ماجد، الباحثة المتخصصة في علم الاجتماع في الجامعة الأميركية في بيروت، للقول بأن تصور القدرة على تحقيق تغيير سريع كان تصورًا ساذجًا. إذ تحتاج التغييرات الهيكلية للكثير من الوقت؛ ولا يمكن الحكم على الربيع العربي بمجرد مرور بضع سنين، إذ استغرق تطبيق المثل العليا للثورة الفرنسية مئة عام. وعليه، لا تحبذ ريما ماجد “الحديث عن إخفاق [الربيع العربي]”، لاسيما وأن الاحتجاجات في المنطقة لا تزال مستمرة، وإن كان ذلك بصورة جزئية تحت أنظار الجمهور الغربي.

وربما كان العام 2011 مجرد بداية لتحولات طويلة الأمد. ففي العام 2019، اضطر الحاكم الذي طالت مدة حكمه، عبد العزيز بوتفليقة، إلى مغادرة الجزائر؛ وكان هذا حال عمر حسن البشير في السودان بعد 30 سنة من حكمه، حيث تولت حكومة انتقالية مقاليد السلطة هناك. أما في شمال المغرب، فتعارض حركة ‘حراك الريف’ الإهمال الحكومي لهذه المناطق الريفية. في حين يشهد العراق بدوره احتجاجات محلية متكررة ضد الفساد والبطالة وسوء نوعية الخدمات العامة. الأمر نفسه ينطبق على لبنان، حيث انفجر مستودع يحتوي على الأمونيا نتيجة الإهمال، ففقدت النخب السياسية في البلاد ما تبقى لها من مصداقية منذ ذلك الوقت.

ويقول الباحث الفلسطيني مروان المعشر من مؤسسة كارنيغي الأميركية: “لقد ظنت الناس أن الربيع العربي قد انتهى، ولكن هذا غير صحيح، فنحن نشهد حاليًا مرحلة من حركات الاحتجاج ربما تكون أكثر نضجًا”. ويضيف مروان المعشر بأن المتظاهرين قد تعلّموا من أخطاء الموجة الأولى من الاحتجاجات، وبأن مطالبهم “بإنهاء الفساد وبالحكم الرشيد لا تزال قائمة”.

وهذا رأي الباحثة المتخصصة في علم الاجتماع اللبنانية ريما ماجد أيضاً. فوفقاً لتجربة العام 2011، ظهرت أشكال جديدة من الاحتجاج. وتضيف ريما ماجد قائلةً: ” إن لم تعد الناس تخرج إلى الشوارع، فهذا لا يعني أنها لا تكترث بالمظالم”.

وبهذا، فإن طريقة الاحتجاج تتغير، وهذا لا ينطبق فقط على لبنان. ففي المغرب، على سبيل المثال، اكتشف بعض الناشطين أن مقاطعة المنتجات وسيلةً ناجعةً للتعبير عن الاستياء، حيث دعا ناشطون مجهولون عبر الإنترنت المستهلكين في العام 2018 إلى التوقف عن شراء بعض المنتجات المصنعة من قبل كبار رجال الأعمال، منها على سبيل المثال زبادي دانون، فأسفر ذلك عن انخفاض مبيعات هذا المنتج لعدة أشهر. وفي السودان، اعتصم المحتجون -جزئيًا- في الشوارع والساحات بشكل سلمي لعدة أسابيع رافضين المغادرة. هذه الأمثلة تبين لنا الكيفية التي تتطور بها حركات الاحتجاج.

أما بالنسبة للغرب، فقد فقد الجمهور الغربي اهتمامه [بأحداث الربيع العربي] إلى حد كبير، بعد ابتهاج أولي بعالم عربي على مشارف عهد جديد. وسرعان ما عادت بعض الصور النمطية البالية عن العالم العربي إلى الرواج مجددًا، من قبيل القول بأن المنطقة وشعبها متدينان جداً، ومتخلفان جداً، وكذلك مختلفان [عن الغرب] كثيرًا؛ وتنتشر هذه الصور النمطية هناك على نطاق واسع.

الغرب يواصل الرّهان على الاستقرار

إلا أنه ينبغي على الغرب قبل إصداره مثل هذه الأحكام أن يفحص دوره في الشرق الأوسط بطريقة نقدية. ففي حين تتشدق أوروبا والولايات المتحدة بالقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان باستمرار، فإن بعض سياساتهما تتعارض بصورة مباشرة مع ذلك، حيث تواصلان تصدير شحنات الأسلحة إلى المملكة العربية السعودية ومصر والجزائر والإمارات العربية المتحدة لدعم الأنظمة القمعية فيها ولتأجيج الصراعات في المنطقة.

وباسم الديمقراطية، غزت الولايات المتحدة الأميركية العراق في العام 2003، وأطاحت بصدام حسين، تاركةً البلاد تغرق في فشل ذريع. وعندما أطاح الحاكم العسكري الحالي في مصر، السيسي، بالرئيس المنتخب ديمقراطيًا، مرسي، مستخدمًا العنف في العام 2013، لم تصدر عقوبات [بحق السيسي ونظامه]، وبدلاً من ذلك، لا تزال مصر تتلقى مليارات الدولارات من المساعدات.

فلا غرو إذًا أن تثير كلمة “ديمقراطية” مشاعر متناقضة في الشرق الأوسط، إذ لطالما استخدمتها بعض القوى الغربية للتستر على مصالحها الخاصة. وفي نهاية الأمر، وفي حالة التشكك، تفضل هذه القوى دعم الاستقرار المفترض بدلًا من التحول الحقيقي نحو مزيد من الديمقراطية.

وقد أظهرت الاحتجاجات الأخيرة في لبنان أن الشعب يواصل النضال من أجل حقه في حياة كريمة، حيث لم تعد الهياكل القديمة والاستبدادية والإقطاعية قادرة على التحمل، في وقت لا تزال فيه ملامح النظام الجديد غير مرئية حتى الآن.

ويقول مروان المعشر بأن الطريق لا يزال طويلًا نحو إرساء سيادة القانون. كما أن أزمة كورونا وعواقب تغير المناخ تقود إلى تفاقم الصراعات القائمة. ومع ذلك، لا يزال هناك دائمًا أشخاص مثل روان بيبرس، ممن يؤمنون بمستقبل لوطنهم ولا يريدون مغادرته على الرغم من الظروف المعاكسة. هؤلاء هم الأمل لمستقبل أفضل.

كلاوديا منده

ترجمة: حسام الحسون

حقوق النشر: موقع قنطرة 2020

ar.Qantara.de

 ————————–

لماذا فشل الربيع العربي؟/ حسين عبدالحسين

بعد 10 سنوات على إحراق التونسي محمد البوعزيزي نفسه واندلاع سلسلة من التظاهرات الشعبية التي أطاحت بحكّام تونس ومصر وليبيا واليمن والجزائر والسودان، وأدت الى حروب أهلية في ليبيا وسوريا واليمن والعراق، يقف العالم العربي أمام قبور مليون ضحية، ويعاني من تهجير أكثر من 15 مليونا، وهي تكلفة مرتفعة جدا، خصوصا أنه لم يولد من رحم هذه المأساة إلا جمهورية واحدة، في تونس، ما تزال ديموقراطيتها فتية وعرضة للانتكاس في أي وقت.

نجحت هذه الشعوب العربية بالإطاحة بحكامها المستبدين، لكنها لم تنجح في بناء حكومات ديموقراطية بديلة، بل أن البدائل التي قدمها حكام “الربيع العربي” نافست بركاكتها ركاكة الاستبداد المندثر. كانت أولى قرارات حكام ليبيا تعديل قانون الأحكام الشخصية للسماح بتزويج القاصرين وتعدد الزوجات، وكأن مشكلة نصف قرن من استبداد معمّر القذافي كانت في قوانينه حول الزواج. ومثل في ليبيا، مضى حكام مصر في فرض ممارسات قارب بعضها الفكاهة: مثلا، تباهى اسلاميو مصر أنهم رفعوا الآذان داخل مبنى البرلمان، وكأن وصول الاسلاميين الى البرلمان هو فتح قسطنطينية وتحويل كنيسة آية صوفيا الى مسجد، أو كأن الجالس تحت قبة البرلمان لا يمكنه سماع آلاف المآذن التي تصدح في سماء القاهرة.

ومثل ثوريي ليبيا ومصر، راح اسلاميو سوريا ينقلون المناطق التي انتزعوا السيطرة عليها من حكم بشار الأسد الاستبدادي الى حكم إسلاموي قروسطوي، وكأن مشكلة الأسد لم تكن طغيانه، بل المشكلة أن طغيانه كان علمانيا، فيما المطلوب هو طغيان إسلاموي.

في الواقع، تصرفت الشعوب العربية التي انهار حكامها بنفس الطريقة التي تصرف بها العراقيون بعدما أطاحت الولايات المتحدة بطاغيتهم صدام حسين. وعلى الرغم أن العراق محسوب خارج الربيع العربي، لكن تجربة التغيير فيه تكاد تكون متطابقة مع التغيير في سوريا أو ليبيا أو اليمن: الكثير من الموت والدمار، ولا تقدم. أما المفارقة، فتكمن في أن ما جرى في الربيع العربي أكد أن انهيار العراق وفشل قيام ديموقراطيته لم يكن بسبب التدخل الأميركي، بل بسبب غياب ثقافة الحرية والديموقراطية بين العراقيين أنفسهم.

الفشل في إقامة بديل ديموقراطي للاستبداد العربي موضوع حيّر كثيرين. مجلة “ايكونوميست” المرموقة عزت سبب الفشل العربي الى قيام الطغاة بالقضاء على الثقافة الديموقراطية، والتهديد بأن البديل الوحيد عن استقرارهم هو الفوضى. ما يفوت المجلة العريقة هو التالي: من أي أتى طغاة العرب؟

غالبية العرب تستهويها نظرية المؤامرة القائلة بأن الغرب الاستعماري، أي بريطانيا وفرنسا، أو الولايات المتحدة بعدهما، هي الدول التي أقامت الديكتاتوريات لأن الدول الغربية حاقدة على العرب والمسلمين ودولهم، وتخشى نهضتهم، وتعمل على إبقائهم في عوز وفقر وتخلف تحت حكم طغاة مطاوعين للغرب ورغباته. لكن نظرية المؤامرة هذه فاشلة، وتنم عن كسل لدى هؤلاء العرب في محاولة فهم أن الدول تسيرها مصالح، لا رغبات وحقد، وتنم كذلك عن كسل عربي في نقد الذات، والبحث عن مكامن الفشل لإصلاحه، اذ أنه من اليسير القاء اللوم في الفشل على الآخرين، وعلى رأي المثل، “من لا يعرف كيف يرقص يقول الأرض عوجاء”.

طغاة العرب لم يأتوا من المريخ، ولا الغرب هو من نصبهم حكاما على دولهم. طغاة العرب، من العراقي صدام حسين الى الليبي معمر القذافي والسوريين حافظ الأسد وابنه بشار، هم نتاج ثقافة قبلية عنيفة مبنية على مبدأ “إما قاتل وإما مقتول”. لا يتسع الحكم لغير طاغية واحد، ولا تتسع الدولة الا لعشيرة ومناصري هذا الطاغية، ولا تسامح حتى مع الاحلام بالتغيير.

الحرية ثقافة، لا يمكن لمن هو متسلط داخل منزله، على أمه وأخته وزوجته وأولاده، أن يكون حرا خارج المنزل، بل هو يساهم في تكريس ثقافة الأقوى، داخل البلاد، وداخل المنزل، وداخل غرفة الزوجية.

والديموقراطية مستحيلة في غياب الحرية. في السنوات الأولى التي تلت انهيار نظام صدام، ساد اعتقاد أن الانتخابات هي مفتاح الديموقراطية، وراح العراقيون يرفعون سباباتهم المطلية بالحبر البنفسجي للدلالة على قيامهم بالاقتراع وفخرا بالحرية. لكن تبين أن الاقتراع وحده لا يكفي، إذ هو يتطلب أن يدرك المواطن الارتباط بين خياره وبين مستوى معيشته، فالشيعي الذي يقترع لشيعي نكاية بالسنة ويزيد، قاتل الحسين، يسيء فعليا استخدام الديموقراطية، اذ أن المطلوب هو أن يختار المواطن المرشحين الذين يعتقد أن لديهم المقدرة على تحسين الاداء الحكومي، وتاليا معيشة العراقيين، فالانتخابات لا يمكنها أن تكون انتقاما لواقعة كربلاء وأحقية الحسين في الخلافة قبل 1340 عاما.

المواطنية عملية تحتاج الى علم وثقافة ومواظبة ومتابعة. كلّما كان المواطن أكثر دراية بشؤون الدولة والديموقراطية، كلّما كانت خياراته في الاقتراع أفضل، وكلّما تحسن أداء الدولة ومستوى معيشة المواطنين. لكن من أي تأتي الثقافة في عالم عربي لا يقرأ، بل يتناقل معلوماته في جلسات الشيشة وعبر ثرثرة واتساب؟ كيف يمكن تجفيف مستنقعات الجهل العربي – وهي الأرض الخصبة لانتشار نظريات المؤامرة – بدون أن يقرأ العرب؟

في كتاب “دولة الإذاعة” لصديق طفولة صدام حسين، يقول إبراهيم الزبيدي إن صدام المراهق قال له إنه يرغب في أن يكون لديه يوما سيارة ومرافقين، وعندما سأله الزبيدي عن السبب، أجاب صدام “كشخة” أي “تباهي” باللهجة العراقية. لم تكن زعامة صدام أعمق من ذلك أبدا، فقط “كشخة” مطرّزة بشعارات “حزب البعث العربي الاشتراكي” الذي وضع فكره أستاذ المدرسة الابتدائية السوري ميشال عفلق.

ولم يكن خصوم صدام أعمق منه. السيد محمد باقر الصدر، كاتب باكورة المؤلفات الشيعية حول دور رجال الدين في الوصاية على الحكم، أصدر مؤلفات – مثل “فلسفتنا” و”اقتصادنا” –  يخالها اتباعه أعمالا فكرية باهرة فيما هي عبارة عن انشاء كلامي، ومثله قريبه محمد محمد صادق الصدر، الذي يقتصر فكره على خطابات يوم الجمعة. أما ابن الأخير، أي مقتدى الصدر، فهو أكثر ضحالة من الصدرين، ولا مؤلفات معروفة له، فقط تصريحات مضحكة وبيانات صبيانية.

من أين ستأتي المواطنية إلى العراق؟ من سطحية صدام وعفلق أم من ضحالة الصدرين وبعدهما مقتدى؟ ومثل ذلك، من أين ستأتي المواطنية – ومعها الحرية والديموقراطية – الى سوريا أو ليبيا؟ من كتاب القذافي “الأخضر” أم من نظريته المضحكة إسراطين حول الصراع الاسرائيلي الفلسطيني؟

شعوب هذه الدول العربية ماتزال متأخرة عن اللحاق بركب الحضارة، وما تزال مشغولة بفحوص عذرية النساء، وجرائم شرف الرجال، وإطلاق النار في الهواء، حزنا ام احتفالا ام الاثنين معا. هي شخصية عربية ماتزال بحاجة لمؤلفات كثيرة مثل التي قدمها العراقي علي الوردي أو الفلسطيني هشام شرابي أو غيرهما. وهي حضارة عربية ليست بحاجة لمؤلفين ومؤلفات فحسب، بل لقارئين وقارئات، وما لم يتم ذلك، لن يأتي ربيع، ولن يكون في العالم العربي ورود.

حسين عبدالحسين

الحرة

—————————

الربيع العربي لم يكن عبثا.. والمرة القادمة مختلفة/ اسل درويش

نشرت صحيفة “الغارديان” مقالا للصحافية نسرين مالك، قالت فيه إنه في نهاية عام 2010، كنت في طريقي إلى السودان؛ لقضاء إجازة عيد الميلاد، حيث كنت أتصفح وسائل التواصل الاجتماعي العربية؛ بحثا عن قصاصات من المعلومات حول قصة تتكشف في تونس، قصة كان الإعلام العربي يحجبها، والإعلام الغربي ما زال يتجاهلها. أضرم بائع العربة محمد البوعزيزي النار في نفسه؛ احتجاجا على الحكومة في مدينة سيدي بوزيد، ما أثار مظاهرات انتشرت في جميع أنحاء البلاد.

وقبل أسابيع من إطاحة الاحتجاجات برئيس تونس، كان بإمكانك أن ترى أن شيئا ما في هذه الانتفاضة كان مختلفا. كان هناك شيء ما حول الطريقة التي وجدت بها الاحتجاجات صدى في البيوت في جميع أنحاء العالم العربي، وشدة الغضب وقوة الزخم التي بدت جديدة ومثيرة.

لكن، حتى عندما كتبت حينها عن إمكانية تلك الاحتجاجات وقابليتها، لم أتخيل أبدا أنها ستصبح ما نسميه الآن الربيع العربي. في ذلك الوقت، لم يكن من المعقول ببساطة أن تسقط الاحتجاجات السلمية دكتاتورا عربيا. لم يحدث ذلك من قبل، ولم يكن أحد يعرف حتى كيف قد يبدو ذلك.

بعد عقد من الزمان، عندما أصبحت عبارة “الربيع العربي” مرادفة لأحلام التحرير المحطمة، من المؤلم إعادة التفكير في الأيام والأسابيع الأولى للاحتجاجات. إنه لأمر مؤلم الآن أن نتذكر أشهر الفرح والتفاؤل – الشعور بالقوة الذي كانت لدينا العرب لأول مرة في حياتنا.

يؤلم أن نتذكر إحساس الصداقة الحميمة والحماسة: عندما تبكي في الشوارع والمقاهي مع الغرباء، ويلتف الناس حول الراديو أو التلفزيون مع ظهور أخبار سقوط ديكتاتور آخر، عندما تبارك لهم على ثورة بلادهم، ويتمنون لك بأن تكون بلادك هي التالية.

ومن المؤلم أن نتذكر كل أعمال الشجاعة: اللحظة التي اتصل فيها صديق قبل النزول مباشرة للانضمام إلى احتجاج، وترك رقم هاتف والديه في حالة عدم عودته أبدا. عندما عزّيت عائلات الذين ماتوا، ووجدت أن والديهم لم يكونوا حزينين، ولا خائفين، كانوا مصممين على أن موت أولادهم لن يكون دون جدوى.

ومع ذلك، عندما ننظر عبر العالم العربي اليوم، من الصعب تصديق حدوث ذلك، فقط “الثورة التونسية” بقيت على حالها. أما الدول الأخرى، فبعضها دخل الفوضى والحرب الأهلية، كما هو الحال في ليبيا وسوريا، أو مثل مصر، دخلت حقبة جديدة من الديكتاتورية أكثر قتامة وقمعية من أي وقت مضى. ما حدث يبدو كأنه تنفيذ للتحذيرات التي صدرت ضد الاحتجاجات منذ البداية: لن يؤدي ذلك إلا إلى مزيد من عدم الاستقرار.

كثير ممن عاشوا أيام الوعد لا يحبون الحديث عنها الآن. عندما يفعلون ذلك، يكاد يكون ذلك محرجا؛ احتقار لذواتهم الشابة، لسذاجتهم وتهورهم. قال لي رجل مصري في وقت سابق من هذا العام وهو يتذكر الثورة الفاشلة: “لا يمكن أن تتمتع بالحرية والاستقرار.. هذا ما تعلمناه”.

وبالتالي، فإن إرث الربيع العربي لم يقتصر على الأعمال الوحشية والسلطوية التي أعقبت ذلك، بل حقيقة أنه يُنظر إليه الآن كحجة لرفض مفهوم الاحتجاج ذاته. وقالت لي حفصة حلاوة، وهي امرأة عراقية ناشطة في الحركة السياسية بعد التحرير، الأسبوع الماضي: “نحن نلوم أنفسنا.. لكن اللوم يوجه إلينا أيضا”، لدى الثوار ندمهم الخاص الذي عليهم التعامل معه، لكنهم الآن مدانون أيضا؛ لتقليلهم من حجم التحدي الذي كانوا يواجهون.

وقالت حلاوة إنه قيل لهم: “لم تكونوا تعرفون ما الذي كنتم تواجهونه، ولم تكونوا تعرفون ما الذي كنتم تتورطون فيه”، وتقول: “لكننا فشلنا؛ لأنه كان هناك الكثير من الضغط على حركة الاحتجاج”.

حتى في تونس ، فقد اسم البوعزيزي قدسيته، تعرضت عائلته للتشهير والمضايقة، واتُهمت بالتربح المادي من وفاة ابنهم، وانضموا إلى الملايين الآخرين الذين اضطروا لمغادرة بلادهم بعد الربيع العربي. وفي مسقط رأس البوعزيزي، التقى مراسل الغارديان امرأة تمشي بجوار الصورة العملاقة للبوعزيزي التي أقيمت في ذكراه، وقالت: “أنا ألعن تلك الصورة.. أريد أن أنزلها، إنه من تسبب بدمارنا”.

لكن كل هذا التلاوم وجلد الذات يحجب حقيقة مهمة عن الربيع العربي، وهي أنه فشل لأنه لم يكن لينجح، كان الانتقال السلمي مستحيلا، في ذلك الوقت وبتلك الطريقة. ما قللنا من شأنه -من سوريا إلى السودان- لم يكن قوة الجيش أو وحشية الأجهزة الأمنية، أو إصرار المصالح والنخب الراسخة التي من شأنها أن تفعل أي شيء للحفاظ على سلطتها. ما فاتنا هو في الواقع عدم وجود أي ثقل موازن حقيقي لكل هذه الأشياء.

كانت المشكلة هي عدم وجود ما يكفي من القوى اللازمة لنجاح الثورة بدلا من وجود العديد من التيارات المضادة لها؛ لأن الديكتاتورية لا تتعلق فقط بحكم رجل واحد، بل تتعلق بتعقيم الديمقراطية. وأصبح من الواضح، بعد سقوط الطغاة، أن عقودا من الاستبداد قد ملحت الأرض. لم تكن هناك أحزاب معارضة لتسخير وتوجيه الطاقة السياسية، ولا شخصيات كاريزمية عادت من المنفى أو هربت من السجن لتحفيز الحركات السياسية، ولا مجال للخطاب السياسي؛ لأنه لم يكن هناك نظام إعلامي أو مساحة فكرية صحية بما يكفي لمقاومة الاستيلاء على السلطة بالمؤامرات والطائفية.

الشيء ذاته الذي جعل الربيع العربي قوة تاريخية مروعة، أنه كان حركة مدعومة من الناس، وليس لها زعيم أو أيديولوجية يفككها في النهاية. لقد ابتلع الفراغ الثورة. في هذا التعثر، هناك أصداء ودروس في المقاومة التي تواجهها الحركات المناهضة للمؤسسة في الغرب، من حياة السود مهمة، إلى التحديات للوسط من اليسار. ما واجهه الربيع العربي كان لغزا عالميا؛ كيفية تحويل القوى التي تطالب بالمساواة إلى تلك التي تحققها.

اليوم، من الصعب رؤية ما هو أبعد من السردية الراسخة للفشل: الملايين من النازحين في سوريا وليبيا واليمن، الموتى والمفقودون، الجثث التي تملأ السجون السياسية في مصر. لكن نظرة فاحصة تكشف عن تأكيد طويل الأمد لما كان في يوم من الأيام مثيرا للغاية، ليس أقله هو حالة انعدام الأمن التي زرعها [الربيع العربي] بين الزعماء لاحقا. إن الدولة البوليسية التي لا هوادة فيها في مصر هي علامة على أن الجيش والأجهزة الأمنية قد علمت أن التهديد باندلاع ثورة أخرى قوي للغاية، لدرجة أنه لا يمكن السماح بأي تجاوز، مثل السجان الذي هرب منه السجين، ولكن تم اعتقاله ثانية، فإن الزعماء المصابين بالبارانويا سيبذلون جهودا غير معقولة للتأكد من عدم تكرارها مرة أخرى.

ولذا يُنظر إلى الجميع، من الشابات على “تيك توك” اللائي ينشرن مقاطع فيديو رقص، إلى الأطباء الذين يصارعون مرض كوفيد، على أنهم تهديد للثقافة الأحادية الخالية من الهواء، التي يجب الحفاظ عليها لخنق أي تحد. إنه جهد عقيم، فيستمر الاستياء في الازدياد، حيث يدفع الفساد والصراعات الاقتصادية الناس إلى التخلي عن الحسابات العقلانية، والاندفاع إلى الشوارع، والاعتقال الحتمي، والتعذيب وحتى الموت.

كان هذا هو ديدن الفترة منذ بدء الاحتجاجات قبل عقد من الزمان، في إحدى اللحظات الخوف على الحياة والمعيشة، وفي اللحظة التالية غضب يائس وجامح. يمكنك أن ترى هذا الوعي المزدوج في استطلاعات الرأي، التي تظهر أن الأغلبية في ثماني دول عربية تتفق على أن مجتمعاتهم أكثر تفاوتا بكثير الآن. لكن في خمس من تلك البلدان، تقول الأغلبية إنها لا تأسف على احتجاجات الربيع العربي. إنه هامش ربح متوتر وهش لقوى النظام القديم. قد تكون الأمور أسوأ مما كانت عليه قبل عقد من الزمن، لكن هناك حقيقة واحدة واضحة الآن للطغاة وللناس على حد سواء، وهي حقيقة تمنح الناس ميزة افتقدوها في المرة الأولى، وهي أن التغيير ممكن الحدوث، لقد حدث ذلك من قبل. الآن نحن نعرف كيف يبدو. وفي المرة القادمة، سنعرف ما هو المطلوب منا.

الغارديان

—————————

الرهاب الروسي من الربيع العربي/ بسام مقداد

تمر هذه الأيام السنوية العاشرة للربيع العربي ، المستوحاة تسميته من تعبير “ربيع الشعوب” ، الذي أُطلق على ثورات العامين 1848 ــــــ 1849، التي عمت معظم أنحاء أوروبا ، وبلغت الأطراف الغربية للإمبراطورية الروسية . وحقيقة ، أن إحدى شرارتها الأولى اندلعت في فرنسا ثورة 1789 العظمى ، تشير إلى أن الثورات ، وإن قُمعت بسرعة ، كما الثورات المذكورة ، إلا أنها تتواصل عبر تأثيرها العميق على العمليات السياسية اللاحقة في البلد المعني . فمن يقول الآن ، أن بلدان شمال إفريقيا وشرق المتوسط ، التي شملها الربيع العربي ، بقيت أوضاعها على ما كانت عليه قبل إنتفاضات وثورات هذا الربيع ، أو حتى تراجعت ، تتولى الرد عليه أحداث تونس هذه الأيام ، وإرهاصات السودان ولبنان الثورية ، واستمرار الثورة السورية بصعوباتها ومآسيها.

النظام الروسي الراهن توجس شراً من الربيع العربي ، منذ إندلاعه مع حدث الشاب التونسي بوعزيزي آخر العام 2010 ، وخشي من تردداته على الوضع في روسيا ، سيما وأنه كان قد اصطدم بما يسميه الثورات الملونة في محيطه الأقرب ، في جورجيا وقرغيزيا ، ثم الإنتفاضة الكبرى في أوكرانيا ضد الأنظمة السوفياتية المترسبة الموالية له . ولم يفارق ذكر الربيع العربي المواقع الإعلامية الروسية طيلة هذه الفترة تقريباً ، وبقي مقتل القذافي وما تلاه من حرب أهلية في ليبيا المثال الأبرز على هذا الربيع بالنسبة لها.

موقع “المجلة اليومية” الروسي المعارض قال في وقت سابق ، بأن الرهاب الرئيسي للكرملين  يتمثل في الخوف من ما يسمى “الثورات الملونة” . ويعتبر القادة الروس ، أن أي محاولة من قبل الشعب للتخلص من حكامه المتسلطين ، هي مؤامرة من الأجهزة الغربية . وينقل الموقع عن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو قوله في مؤتمر دولي سابق لوزارات الدفاع ، بأن “الثورات الملونة” تكتسب ، أكثر فأكثر، شكل الصراع المسلح ، ويتم التخطيط لها وفق قواعد الفن العسكري ، وتستخدم فيها جميع الأدوات المتوفرة.

ويؤكد الموقع ، أن إعتبار الإنتفاضات الشعبية شكلاً جديداً من الأعمال العسكرية ، تتضمنه النسخة الأخيرة من المذهب العسكري الروسي ، التي وقعها الرئيس الروسي في العام 2014 . وتذكر هذه النسخة في فصل ” المخاطر العسكرية الداخلية الأساسية” ، أن العمل على التأثير الإعلامي على سكان البلاد ، وعلى المواطنين الشباب بالدرجة الأولى ، يهدف إلى تقويض التقاليد الروحية والوطنية التاريخية في حقل الدفاع عن الوطن . أي أن الإنتفاضات الشعبية ترتقي ، في عرف المذهب العسكري الروسي ، إلى مصاف المخاطر العسكرية على أمن البلاد.

 موقع “راديو سبوتنيك” الرسمي الروسي تطرق إلى الحديث عن السنوية العاشرة للربيع العربي ، واستضاف خبير النادي الدولي “فالداي” التابع للكرملين البوليتولوغ فرحات إبراهيموف . وتحت عنوان “ثمار الربيع العربي : ما الذي تغير بعد مرور عشر سنوات” يقدم الموقع لحديث إبراهيموف بالقول ، أن الربيع العربي أصبح ، بالنسبة لبلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ، شبيهاً بالحرب العالمية الأولى ، دون أن يذكر وجه الشبه مع هذه الحرب بالذات ، وليس العالمية الثانية مثلاً . وبعد أن يسرد الموقع كيف بدأ الربيع العربي من تونس ، يقول ، بأن الخبير تحدث عن أهمية الربيع العربي ، وعن الوضع ، الذي تسبب بالحراك الثوري , وعن دور الغرب ونتائج هذا الدور ، وعما إذا كان الوضع في البلدان ، التي شملتها أحداث هذا الربيع ، قد أصبح أفضل مما كان عليه قبل ذلك.

لكن الخبير كان مقتضباً في حديثه ، الذي جاء على شكل رسائل نصية قصيرة . فقال ، بأن تونس كانت الحجر الأول في لعبة الدومينو ، التي شملت كل المنطقة ، وأن الحياة فيها لم تصبح أفضل مما كانت عليه ، وأن الشعب كان ينتظر شيئاً ما مختلفاً كلياً ، وأن الثورة لم تقدم شيئاً . وقال ، بأن القذافي لم يحالفه الحظ ، إذ إضافة إلى الربيع العربي ، اجتمعت عليه الدول الغربية ، وقررت الإطاحة به بأيدي الليبيين أنفسهم . كما قال ، بأن السيناريو عينه كان مهيئاً لسوريا ، ولو لم تتدخل روسيا “لكان السيد الأسد يبلغ الآن التحية للقذافي”.

موقع “Regnum” الإخباري الروسي ، وتحت عنوان “ما هي تركة الربيع العربي بعد مرور عشر سنوات” ، قال بأنه ، مع إطلالة العام 2021 سوف يستمر المشهد الجيوبوليتكي للعالم العربي بالتغير ، وتتوقف حصيلة هذه التغيرات على سلسلة من العوامل . يستعرض الموقع سردية هذا الربيع ، ويوجز قصة كل بلد من بلدانه ، ويقول ، بأن الرئيس بشار الأسد في سوريا تمكن من الحفاظ على السلطة ، لكن ثمن ذلك كان سقوط البلد في هاوية حرب أهلية دموية أسفرت عن نصف مليون قتيل وملايين المهجرين والنازحين الداخليين . وبسبب هذا الصراع ، لم تعد سوريا إلى حضن روسيا فحسب ، بل تحولت أيضاً إلى حقل صراع إيراني إسرائيلي.

ويقول الموقع ، بأن الربيع العربي قد عرى الهشاشة المتأصلة في العديد من البلدان ، التي شملها . وعلى الرغم من أن بعض الزعماء تمكن من البقاء في السلطة بفضل أجهزة القمع ، إلا أن الشرعية الضعيفة المستندة غالباً إلى تزوير الإنتخابات ، تجعلهم ضعفاء أمام التيارات الإسلامية والنزعات القبلية . وليس من قبيل الصدف ، أن تكون الأنظمة الملكية في المغرب والأردن والسعودية ، التي تستمد شرعيتها من المصادر الدينية ، قد بدت في وضع أفضل بكثير من الجمهوريات شبه الرئاسية.

أما الدول الإقليمية غير العربية  ـــــ إيران ، تركيا وإسرائيل ـــــــ فقد سارعت إلى إستغلال مصائب الدول العربية . فبينما كانت الولايات المتحدة منشغلة بمحاربة الدولة الإسلامية ، ساعدت إيران في إنقاذ النظام السوري ، الذي كان على حافة السقوط ، ونشرت قواتها على طول الحدود مع إسرائيل ، وأصبح نشاط طهران يمتد من سوريا والعراق إلى لبنان على ساحل المتوسط.

وكالة تاس الرسمية نشرت نصاً في يوم السنوية بالذات ــــــ 17 من الشهر الجاري ــــــــــ بعنوان “حقاً ، لم ينجح الأمر ؟ عشر سنوات على الربيع العربي في الشرق الأوسط”” ، قالت فيه ، بأن الحدث الرئيسي في العام 2010 خيب أمل الجميع ممن اشترك به : من الليبراليين ، إلى الإسلاميين والمحافظين العلمانيين.

وبعد أن يدخل كاتب مقالة تاس في تفاصيل إنعكاس الربيع العربي على كل من البلدان المنضوية تحت لوائه ، ويؤكد بأنه ، على العكس من الشائع ، لم يأت الربيع لصالح الغرب ، بل تسبب له بعدد من الإحراجات في كل من مصر وليبيا وسوريا , ويختتم الكاتب بالقول ، أنه على المستوى الأعمق ، تبقى بدون حل مسألة قابلية التوحد في ظروف الشرق الأوسط بين الإيديولوجية الإسلامية ، أي مشروع بناء المجتمع حول مبادئ الدين ، وبين بناء المجتمع على أسس ديموقراطية مستوحاة من الغرب . التوحيد التلقائي بين البدايتين قد فشل ، ولا تتوفر حتى الآن  للمشاركين في الأحداث التاريخية ظروف إنتصار أحدهما :  إما السلطة الشعبية الليبرالية ، وإما الإسلام السياسي.

المدن

———————–

شرارة الربيع العربي/ بكر صدقي

على رغم كثرة المواد الصحافية التي تناولت الموضوع، يبقى مفيداً قراءة حصيلة عشر سنوات من ثورات الشعوب من زوايا نظر مختلفة، فحدث بهذا الحجم يحتمل الكثير من القراءات الإضافية. ولا ينقص من أهمية ذلك انشغال العالم بجائحة فيروس كورونا وبدء استخدام اللقاحات المضادة مع بداية موجة ثانية من الجائحة، أو انتظاره لانتقال السلطة في واشنطن بعد أربع سنوات من «حال الطوارئ» الترامبية العالمية، أو فوضى النظام الدولي الذي يؤمل تخطيه نحو عالم أقل مخاطر.

إذا نظرنا اليوم إلى حال البلدان العربية التي شهدت ثورات شعبية، سنرى أنها ـ باستثناء تونس ـ في وضع مرعب، بمئات آلاف القتلى ودمار البنية العمرانية والاقتصادية، وانهيار الدولة وتفكك المجتمع وملايين المهجرين واللاجئين، وحروب لم تنطفئ، واحتلالات أجنبية، إضافة إلى فيضان جزئي لهذا الخراب باتجاه دول مجاورة وأخرى معنية بالصراعات المستمرة في «بلدان الربيع».

القوى الرجعية التي ارتعبت من يقظة الشعوب خشية انتقال شرارة الثورة إلى بلدانها دأبت على استخدام هذا الخراب كأمثولة للردع بدعوى أن ثورات الشعوب هي التي أدت إليه، في حين أن القوى الثورية حملت مسؤولية الحصائل المأساوية لأنظمة متوحشة مستعدة لتدمير البلدان التي تحكمها كي لا تتخلى عن السلطة، وللمجتمع الدولي الذي لم يتدخل، أو تدخل بما يعاكس تطلعاتها.

لا يتساوى الطرفان كما لو كانا مجرد تعبيرين عن رؤيتين مختلفتين، فالأوضاع العامة للمجتمعات المحكومة من قبل طغم سلطوية فاسدة وفاشلة وقاتلة، لم تكن بخير، وقد قدمت التقارير الدورية لمؤشرات التنمية البشرية في البلدان العربية، منذ أكثر من عقد قبل اندلاع الثورات، صورة قاتمة لمستقبل تلك البلدان، تجاهلتها الطغم الحاكمة بدلاً من التعامل معها كإنذار يستوجب منها البدء بإصلاحات عميقة وشاملة إذا أرادت الاستمرار في الحكم.

وقدم الروائي المصري الراحل صورة فانتازية مرعبة لأوضاع مصر في رواية «يوتوبيا» التي صدرت في العام 2008. صورت الرواية انقسام المجتمع المصري بصورة حادة بين الحكام والمحكومين، في مجاز حوّله إلى انفصال تام في المكان بين مدينة الحكام الغارقة في الترف والفجور، المحتمية بجيش من المرتزقة الأجانب، ومدينة للمحكومين الذين يعيشون حياة لا تليق حتى بالحيوانات. وإذ يعاني سكان المدينة الأولى من الضجر ينظمون رحلات صيد إلى المدينة الثانية يختطفون فيها أحد سكانها من تعيسي الحظ، ويقتادونه إلى مدينتهم للتنكيل به كنوع من أنواع اللهو الذي يكسر رتابة أيامهم المكرورة المملة.

لم يكن واقع البلدان العربية «السعيدة» باستقرارها الزائف بعيداً عن هذه الفانتازيا الأدبية، بل كان تكراراً لها بأشكال مختلفة باختلاف البلدان. وبغياب مخارج عقلانية تبادر إليها السلطات الحاكمة الممسكة بكل مفاصل الحياة، لم يبق غير التمرد الشعبي أو الحرب الأهلية بين عالمي الحكام والمحكومين، وهو ما حدث بعد سنتين فقط من نشر رواية توفيق، حين أحرق التونسي محمد بوعزيزي نفسه على الملأ احتجاجاً على انتهاك كرامته.

لم يتسن لبوعزيزي أن يرى أن ما قام به كان الشرارة التي أشعلت ناراً كبيرة في العفن المتراكم منذ عقود. عفوية عمل بوعزيزي ستطبع ثورات الشعوب التي ملأت الساحات والشوارع في المدن العربية، فتتحول سريعاً إلى حروب أهلية مدمرة بلا أفق. فلا سكان اليوتوبيا يتخلون عن الحكم لمصلحة البلد، ولا سكان الديستوبيا يقبلون بالعودة إلى بيت الطاعة بعدما تذوقوا طعم الحرية وشعروا بقوتهم.

لم تكن الحرب صافية، بالطبع، بين الحكام والمحكومين، بل تدخلت كل القوى الرجعية لوأد الثورات، ونجحت في ذلك إلى حد ما. فقد نجحت في تعميم الدمار أكثر مما نجحت في وأد الثورات. ذلك لأن الموجة الثانية من ثورات الشعوب لم تتأخر في الاندلاع في الجزائر ولبنان والعراق والسودان، وهو ما يعني فشل القوى الرجعية في وأد الثورات الشعبية. صحيح أنه لا ثورات الموجة الأولى، ولا الثانية، قد حققت أهدافها، لكن طريق الثورة على حكام استعماريين قد انفتح ولا يمكن إغلاقه إلا بتغيير عميق يلبي تطلعات الشعوب الثائرة. في حين أن الحكام الاستعماريين لم يفعلوا شيئاً، طوال السنوات العشر المنصرمة، بخصوص تغيير الأوضاع العامة التي أدت إلى الانفجار الاجتماعي الكبير.

وسيبقى احتمال اندلاع ثورات جديدة قائماً ما لم يتم التغيير المنشود. غير أن تغييرات كبيرة حدثت بالمقابل في التوازنات الإقليمية التي كانت قائمة قبل عشر سنوات، أبرزها تطبيع علاقات عدد من الدول العربية مع إسرائيل على طريق التحالف معها ضد الخطرين الإيراني والإسلامي، أو الإسلاموية الشيعية والسنية، بعد انسحاب الولايات المتحدة التدريجي من مشكلات المنطقة. وهذا ليس بالأمر المفاجئ، فالحكام الاستعماريون جاهزون دائماً لتقديم تنازلات لدول أقوى منها مقابل مبدئية صارمة في عدم تقديم أي تنازل لـ«السكان الأصليين».

القوى المتحكمة بالنظام الدولي لا يمكنها أن تبقى متفرجة على هذه الفوضى العارمة في إقليمنا، وفي العلاقات الدولية عموماً. سيكون هناك يالطا ما لتوزيع حصص النفوذ والسيطرة بين الأقوياء. وهو ما لا يمكن إرساؤه بالطريقة التي تفعل فيها روسيا في سوريا. سيحتاج الاستقرار العزيز على قلوب القوى الدولية المسيطرة إلى تغييرات داخلية في بلدان الإقليم لا يمكن التكهن بتفاصيلها، وربما لا نعرف تلك القوى نفسها كيف سيكون شكل الحكم في دول اقليمنا. فهذا مرتبط بنوع ومحتوى الصفقات متعددة الأطراف والموضوعات التي ستعيد تشكيل الإقليم.

كاتب سوري

القدس العربي

——————————-

هل نجحت الثورات المضادّة في إخماد الربيع العربي؟/ لؤي صافي

مضى عقد على الثورات الشعبية التي دشّنتها انتفاضة الشعب التونسي على حكم الفرد، والتي شملت عددا من الجمهوريات العربية، منها مصر وسورية وليبيا واليمن. ويبدو للمشاهد عن بعد وكأن واقع هذه الدول لم يتبدّل، وأن ثورة الشعوب العربية لم تغير شيئا على أرض الواقع. بعد مرور عقد على انطلاق تلك الثورات، لا زالت مصر ترزح تحت حكم مؤسّسة عسكرية تتحكّم بمفاصل الدولة جميعا، السياسية والاقتصاد والبيروقراطية والتجارة، ولا زالت سورية وليبيا واليمن في صراعِ مسلحٍ استدعى دخول قوى عسكرية ومليشيات طائفية تدعمها دول إقليمية وقوى دولية. بعض من شارك في هذه الصراعات التي نجمت عن إصرار النخب الحاكمة على استخدام أشد الأسلحة العسكرية فتكا في مواجهة التحرّكات الشعبية المطالبة بإصلاحات حقيقية لوقف الفساد واستنزاف الثروات الوطنية لملء جيوب شريحة صغيرة من المنتفعين على حساب الشعوب التي تعاني من ضيق العيش وتراجع المنظومة التعليمة، وتدهور فرص العمل ومستوى الحياة المعيشية لشعوب الربيع العربي.

توصيف المشهد على هذا النحو تؤكّده الصور التي نراها يوميا على النشرات الإخبارية عبر الفضائيات التي تساهم في نقل الأوضاع العربية، وتساهم، بقصد أو من دونه، في تطوير وعي عربي مشترك لطبيعة الأنظمة التي تتحرّك على الجغرافيا العربية، وإظهار حقيقة القوى التي تساهم في تشكيل هذا الواقع الأليم. يشاهد العرب بوضوح قدرة الأنظمة العربية على توليد ثورات مضادّة للتنكّر للمطالب الشعبية المحقّة، لكنهم يرون أيضا جانبا بقي خفيا عنهم، أو لنقل بقي موضع شك عقودا طويلة، وهو أن الأنظمة التي حملت شعارات الوحدة والحرية والاستقلال وتحرير الشعوب والدفاع عن الحق الفلسطيني، واستخدمتها لتبرير الاستبداد والإنفاق الكبير على المؤسسة العسكرية على حساب الإنفاق على التعليم والصحة والخدمات وتطوير الاقتصاد، تعتمد لبقائها على الدعم المالي والعسكري المباشر للدول الطامعة في المنطقة، وأنها مستعدّة للتفريط بمصالح الشعوب وسيادة الأوطان للبقاء في موقع السلطة والقرار. ثورات الربيع العربي أظهرت للعيان أن النخب السياسية الحاكمة في سورية ومصر وليبيا واليمن لا تمتلك حتى المرونة في الدخول في تفاوض وحوار مع أبناء الوطن، وأن عليها الاستمرار، من أجل الاحتفاظ بالدعم الخارجي، في قمع الشعوب وإسكات الأصوات المعترضة على السياسات التي تخدم مصالح قوى خارجية على حساب مصالح الشعوب العربية.

أظهرت ثورات الربيع العربي جانبا آخر لا يقل أهميةً عن مشهد التدخلات الخارجية والتعاون بين زعماء روسيا وفرنسا وأميركا، والذي لم يحدث بهذا التنسيق العالي في المنطقة العربية منذ الحرب العالمية الأولى، عندما تعاونت هذه الدول لإعادة ترتيب الإرث العثماني في المشرق إثر انهيار الدولة العثمانية مع نهاية تلك الحرب، فقد أظهرت الثورات نقاط الضعف في النخب السياسية المعارضة والقيادات الشعبية. وتجلّى هذا الضعف في عدم إدراك أهمية التعاون والتضامن والوقوف في صف واحد ضد المستبد الغاشم، والتقليل من شأن التعاون الواسع والتكامل الوطني، والميل إلى التنازع على التفاصيل المتعلقة بالخصوصيات الحزبية والعقدية والطموحات الشخصية خلال اللحظات الحاسمة التي تتطلّب التكاتف ورص الصفوف أمام التحدّي المشترك والعدو المتربص. وعلى أهمية العنصر الخارجي للصراع المتعلق بتعاون قوى دولية وإقليمية لترتيب الخريطة السياسية داخل دول الربيع العربي، وفق أولوياتها ومصالحها الجيوسياسية، فإن العامل الحاسم في السعي إلى التحرّر من الاستبداد، داخلي ووطني، يتعلّق بالثقافة والتقاليد السياسية التي تتحكم بالوعي الشعبي، وبقدرة القيادات السياسية الإصلاحية على تحديد الأولويات والانضباط في سياق العمل على تحقيقها. يجب التركيز على هذا الجانب الداخلي الذاتي من الثقافة السياسية في المرحلة الصعبة المقبلة، لأنه العنصر الأساسي والمحوري في مواجهة المشاريع الخارجية والطائفية في المنطقة العربية.

عودة إلى سؤال النجاح والفشل في الحكم على ثورات الربيع العربي، فإن التقييم الدقيق لما حصل أن هذه الثورات نجحت في التفكيك الكلي أو الجزئي لأنظمة الاستبداد، ولكنها لم تتمكّن بعد من تحقيق هدف تحرير المجتمعات العربية منها، لأسبابٍ لا تتعلق بنجاعة المستبد وقدرته على إدارة الخلافات المجتمعية بكفاءة وقدرة. ولكن بسبب خيارات النخب الحاكمة الاحتفاظ بالسلطة والتمسّك بمصدر شرعيتها الحقيقي، المتمثل بالقوى النافذة والطامعة، بدلا من الدخول في حوار وطني صادق مع الشعوب والقيادات الوطنية التي تدعو إلى الإصلاح الاجتماعي والسياسي. يمكننا القول، بعبارة أخرى، إن ثورات الربيع العربي نجحت في تفكيك منظومات الاستبداد، وكشفت تبعيتها الكاملة للمشاريع الخارجية والطائفية على حساب المشروع الوحيد الذي يمكن أن يخرج العرب من مأزقهم التاريخي، مشروع بناء دولة المواطنة والقانون الضرورية للتأسيس لمستقبل يليق بالإنسان العربي. نعم أثبتت التجربة السياسية خلال العقد الماضي أن الثورة باعتبارها عملا عفويا شعبيا لا يمكن تحقيق أهدافها في مرحلة واحدة، وأن التغيير الديمقراطي يتطلب مراحل متلاحقة. الثورة الفرنسية التي أنهت الحكم الملكي المطلق لم تتمكّن من بناء البديل الديمقراطي مباشرة، ولكنها أطلقت الروح التي ساهمت في تحويل القارّة الأوربية كاملة من حالة الاستبداد المطلق إلى التحرّر وبناء مجتمعات قادرة على مساءلة من هم في موقع السلطة والمساءلة، وإخضاعهم لحكم القانون الذي يتساوى أمامه جميع المواطنين.

أنهت ثورات الربيع العربي المرحلة الأولى من الجهد الضروري للتحرّر من الاستبداد، ووضعت التدافع في المنطقة العربية في شكله الصحيح، بين شعوب مصرّة على تقرير مصيرها ونخب حاكمة تتحرّك وفق مشروع دولة ما بعد الاستعمار التي أريد لها أن تكون نسخةً استعماريةً مطوّرة تعتمد الاستعمار الداخلي للتحكّم بالمنطقة من خلال مؤسساتٍ عسكريةٍ تتعامل مع المواطنين بمنهجيات الاستعلاء والقسوة التي مارسها المستعمر قبل إخراجه من البلاد بتضحيات أبناء الوطن. ويتطلب هذا الاستقطاب الجديد مقاربةً تعتمد على تضامنيات شعبية واسعة، تتجاوز الحالة الحزبية والعقدية والمناطقية إلى عمل سياسي ومجتمعي، يحرّر روح الإصلاح الثقافي والتعاون والوطني في المجتمعات العربية. ويهدف إلى خدمة المواطن، من دون التفات إلى خصوصياته العقدية والحزبية والحركية والدينية، والى العمل على مشاريع توحيدية وطنية، تعطي أولوية لتحويل القيم التي يشترك بها كل أبناء المنطقة، قيم التعدّدية والعدل والمساواة والمشاركة السياسية، ومساءلة من هو في موضع المسؤولية واحترام التعدّد الديني والإثني، وتعمل على ترجمتها إلى مبادئ سياسية وعلاقات مجتمعية ومؤسسات مدنية ونظم سياسية تحقق الكرامة المتساوية لجميع أبناء الوطن.

آن الأوان للعمل على بناء تيارات وطنية تمثل التقاطعات والمشتركات التي تجمع أبناء الوطن، بمختلف شرائحه وخصوصياته السياسية والدينية والعقدية. هذه التيارات ستتشكل في اللحظة التي يدرك المختلفون في المذاهب والتنظيمات السياسية والتنوع الثقافي والديني أن عليهم الوقوف سويّا ضد ممارسات الاستبداد والهيمنة، ولو اختلفت رؤاهم السياسية، بدلا من الاستقواء بالمستبد الذي يستغل الجميع للتحكّم بالمشهد السياسي وتقسيم الوظائف والثروات الوطنية على أساس الولاء، لا العدل والكفاءة والجدارة التي يحتاجها المواطنون لتطوير البلاد وتحقيق العيش الحر الكريم.

العربي الجديد

——————————–

عشر سنوات عجاف/ حلمي الأسمر

لا يمكن أن تمر ذكرى مرور عشر سنوات على انطلاق شرارة الربيع العربي من دون أن تحظى مناسبةٌ كهذه باهتمام المراقبين والباحثين والكتاب، فما بالك برجال المخابرات والمستشرفين للمستقبل المنشغلين بقراءة طالع المستقبل؟

رصد سريع لاهتمامات هؤلاء وأولئك يُظهر أن هناك شبه اتفاق على أن موجة الربيع العربي الثانية أو الثالثة قادمة لا محالة، على اعتبار أن ما شهدته السودان والجزائر ولبنان منذ زمن قريب كان بمثابة الموجة الثانية للربيع، لكن الخلاف هنا متى وما هو مآلها إن تمّت، خصوصا وأن الموجتين، الأولى والثانية، تمت عملية امتصاص متقنة لهما، وتحويل نتائجهما إلى الاتجاه المعاكس تماما، بل ربما أوصلت هذه العملية التي يروق لبعضهم تسميتها “الثورة المضادّة” إلى حالةٍ أقرب إلى اليأس لدى بعضهم من أي تغيير وشيك في المشهد العربي “الفوضوي”، ناهيك عن انضمام أصحاب نظرية المؤامرة إلى معسكر اليائسين الذين بلغوا حد التيقن من أن ما جرى كان محض مؤامرةٍ لتخريب الوطن العربي، وهؤلاء تحديدا هم جزءٌ من الثورة المضادّة، سواء انضموا لهذا المعسكر بوعي أو بغيره، فهم يُسهمون مع غيرهم من “المتآمرين” المنظمين على الربيع في إشاعة حالةٍ من اليأس من وقوع أي تغيير إيجابي في حال الأمة. .. بين يدي الذكرى العاشرة لاندلاع الربيع، ثمّة بعض الإضاءات والشذرات تنثال على الخاطر، يمكن عرضها في نقاط سريعة.

يقول ابن خلدون في مقدمته: “وإذا تبدّلت الأحوال جملةً، فكأنما تبدّلَ الخلقُ من أصله، وتحوّل العالم بأسره وكأنه خلقٌ جديد، ونشأةٌ مستأنفةٌ، وعالَمٌ مُحدَث”. ونحسب أن الأحوال، فعلاً، تبدّلت في مجملها إبّان ذروة الربيع العربي، وأفرزت ظاهرةً غير مسبوقة، حيث أصبح للجماهير كلمة، ولوقفتها معنى، وقد كانت مجرّد آحاد لها قيمة عددية بلا وزن نوعي. أما اليوم فشأنها مختلف، حيث غابت العبارات الانهزامية الشهيرة، مثل: “وأنا مالي”، أو: “ماذا أستطيع أن أعمل”، أو “حط راسك بين الروس وقل يا قطاع الروس”، وسوى ذلك من مفاهيم انهزامية، استوطنت العقل الجمعي، فشلّت قدرة الجماعة على العمل، وهذه بذرة “خطرة”، فليس في وسع أحد أن يطفئ الجمرة بمحاولة سحقها بقدميه.

وتلك أهم مستخلصات ثورات الربيع العربي وعبرها. ويبدو هذا في التفاعل الجماهيري غير المسبوق مع الحدث اليومي، عبر منصّات التواصل الاجتماعي التي نافست الخبر في حضورها اللحظي، فلا يكاد حدث صغير أو كبير يمرّ من دون أن يكون لجماهير فيسبوك أو تويتر أو حتى إنستغرام، وغيره، دور ما في تقليب الحدث والتفاعل معه، وتحليله. ولم يعد في وسع بلد ما أن يفعل ما يريد تحت ستار الكتمان والسرية، فقد مزّقت سهولة التواصل، وحرية التعبير الجبرية، كل الجدران والأستار، وفتحت المجال لحرية تداول المعلومة. وهذا يعني ببساطةٍ أن الجمهور الذي كان غافلا عما يجري حوله أصبح طرفا في معادلة الفعل، حتى أصبح هذ الأمر أحد المفاعيل الرئيسة في صناعة الحدث، صغر أم كبر.

يؤيد مقولة ابن خلدون ما قاله الخبير الصهيوني في شؤون الجماعات المسلحة، بوعاز غانور، الرئيس التنفيذي لمعهد مكافحة “الإرهاب” في مركز الدراسات متعدّدة الاختصاصات بهرتسليا، حين اعتبر ثورات الربيع العربي بمثابة “تغيرات كونية”، على الرغم من أنها وقعت في العالم العربي، ذلك أن تأثيرها امتدّ إلى معظم أجزاء الكرة الأرضية، ولسنا هنا في معرض رصد تلك التأثيرات في كل البلاد العربية والأجنبية، فهذا مقامه دراسةُ معمقةٌ وتوثيقيةُ مفصلةُ، ولكنها، حسب ما يقول غانور، شكّلت تحدّيا أمنيا رئيسيا لإسرائيل وغيرها من الدول الغربية الحليفة.

ويكفي هنا أن نتذكّر أن الشباب في الولايات المتحدة أقاموا “ميدان تحريرهم” على غرار ميدان التحرير في قلب القاهرة، واشتعلت شوارع تل أبيب بمظاهراتٍ مستلهمة ثورات الربيع، مطالبة بالعدالة الاجتماعية. وامتد تأثير الثورات إلى إسبانيا والصين وبعض البلاد الأوروبية، حتى أن دولا آسيوية وضعت عراقيل في عودة بعض رعاياها إلى أرض الوطن إبّان الثورات العربية، خوفا من نقل “فيروس” الثورة. وما زلنا نذكر مقولة الرئيس الأميركي السابق، أوباما، حين قال: “يجب أن نربّي أبناءنا ليصبحوا كشباب مصر”. .. ليس هذا فحسب، بل امتد تأثيرها لهدم بعض المفاهيم والنظريات المستقرة في الدراسات الجيوسياسية والاجتماعية، فقد بات الدارسون يبحثون في الظاهرة الثورية، باعتبارها إحدى الظواهر الأكثر تفرّدا في القرن الحادي والعشرين.

كل ما جرى بعد إخماد نار الثورات العربية، وبلا أي مبالغة، كان يستهدف وأدها، وسحقها، واجتثاثها من جذورها، وبالأساليب القديمة نفسها في التغييب والقمع، مع بقاء أسباب الربيع، بل تعمقها أكثر، فما حرّك الناس قبل عقد كامل من أزمات واختناقات وانقلابات وكوارث زاد أكثر، وتردّت أوضاع البلاد والعباد على نحو مضاعف، بل أكثر وساهمت الجائحة في مفاقمة الوضع. وهذا يعني أن سبب الربيع لم يزل قائما، إنما هو كالبذرة في الأرض، تتحيّن الفرصة والجو المناسب كي تنمو، وتشق التربة، باحثة برأسها عن الشمس، وتلك حقيقةٌ يدركها باحثون كثيرون، وصناع القرار. وبالفعل، بدأت بعض الأقطار تنتج ربيعها بنفسها، عبر اشتراطاتٍ ومواصفاتٍ معينة، كي يكون تحت السيطرة، وفي إطار الممكن، أملا في استبداله بالربيع الشعبي، المنفلت من عقال الضبط والربط، وهذا معنى آخر من معاني القول، أن الربيع لم ينته ولن ينتهي، بل سيظل مخيّما على ذهنية الجميع، وسيبقى جزءا من صناعة حياة هذه الأمة ومستقبلها، سواء اعتُرف به أو أنكر.

ثورات الربيع العربي لم تحقق هدفها المعلن في العدالة والكرامة والازدهار، بل ربما زادت الأمور سوءا بعد مضي عقد من السنوات العجاف، على الأغلب سيتلوهن عشرٌ سمان، وهذا سبب كاف لعودة الربيع، ربما بشكل إبداعي آخر ربما يفاجئ الجميع، حتى بيوتات الخبرة الاستخبارية الأشد مراقبةً واهتماما بما يجري داخل البيت العربي.

العربي الجديد

—————————–

نهايات الربيع العربي/ عباس بيضون

هل يبدو أن الحرب الأهلية هي الإرث الأبرز لـ الربيع العربي، أم أنّ هذا الربيع الذي أوهمنا بأننا صرنا هكذا في التاريخ، لم يلبث أن انقلب على نفسه، وعاد أحياناً الى تكريس وترسيخ ما سبقه، فكان أحياناً عودة إلى استبداد عسكري كامل، في حين أن العسكرة التي بنى عليها كانت أوجدت لها هوامش مدنية وما يشبه أن يكون أعرافاً سياسية، تمتص الحراك الداخلي وتحيله الى مؤسسات، السلطة شريكة فيها، وهي، على كل حال، تنتهي عندها؟

في مواضع أُخرى غرق الربيع في شقاق أهلي، أسفر شيئاً فشيئاً عن الوحشية التي تنتقل إليها النزاعات الأهلية، التي تبني غالباً على إرث من العقد والعنف البري. هكذا كان الأمر في مصر وليبيا وسورية واليمن، أما التجلّي الأخير لهذا الربيع في لبنان فيسفر، شيئاً فشيئاً، عن بوادر حرب أهلية، في ما يخمد الحراك الذي أطلقه ويغدو أقل وأضعف من أن يحتمل، شأنه شأن كل حركات الربيع العربي، ما يرزح عليه، بتزايد كبير، من أثقال الوباء والانهيار الاقتصادي والانسداد السياسي. إذ ذاك يمكن في غير مكانٍ الانقلابُ على الماضي القريب الذي كان الربيع العربي يحمل بذوره في الأساس. لكن ما يحدث الآن هو تراجع، وتراجع كبير، يحدث على نحو عشوائي بدون أن يبني على مراجعة فعلية، وبدون أن يبني على رؤية جديدة. إن هو إلّا الانسداد والتخلّي والقهقرة والخوف من المستقبل.

لم يكن الربيع العربي بالطبع يبني على رؤى مسبقة وقواعد متماثلة. مع ذلك بدا، وكأنه في انتقاله من بلد الى بلد، يبني على عوامل ودوافع متقاربة، بدا وكأن ما يعتمل في شتى البلدان هو الإرث نفسه، وما يندفع إلى التبلور والخروج في أكثر هذه البلدان، هو الغايات المتشابهة والمتقاربة. لقد كانت هذه الحراكات تنفجر في وجه الاستبداد الذي بدا، في حقبات كثيرة، مُرضياً وضرورياً وكافياً. الاستبداد العسكري غالباً كان في البلدان التي رزح عليها، وهي تقريباً بلدان الربيع العربي نفسها، يظهر في أغلب الأمر بديلاً مقبولاً لسلطات الإقطاع والزعامات القبلية والطوائفية التي سبقته. هذه السلطات هي التي تشكلت كمجالس فيدرالية أو هيمنات قبلية وطوائفية لم تكن قادرة على إنشاء دول، أو على إيجاد نظام اجتماعي. كانت في الواقع سلطات ما بعد استعمارية تأسّست في تكوينها على يد المستعمرين الأوائل، الذين تركوا وراءهم سلطات تخدم احتياجاتهم، وتخدم الانقسامات الاجتماعية التي أمعنوا في استغلالها وبنوا عليها.

كانت هذه السلطات كرتونية وعشوائية وضعيفة وانقلبت عليها حفنات من العسكر التي لم تكن غريبة عنها، كما لم تكن مختلفة ولا متفرّدة، كانت مثلها تقريباً تخرج من انقسامات المجتمع ومن فرقه وطوائفه وعشائره. لكن هؤلاء، العسكر، حملوا معهم إلى السلطة وعوداً بدولة حديثة في تركيبها ونظامها، وعوداً بانتصارات قومية وبجيوش قوية وبتحديث اقتصادي. لا ننسى أن هذه الانقلابات وقعت إثر نكبة فلسطين، وكانت، في ظاهرها، ردوداً عليها. كان سقوط فلسطين يجعل من القوة حلماً جامعاً، ولا شك أن العسكر مثّلوا حينها وعداً بهذه القوة.

ليس مهماً أن نروي ما حدث بعد ذلك. كانت السلطات، التي أقامها العسكر، تبني على الانقسامات التي بنت عليها السلطات السابقة. ثم إنَّ وعد الدولة الحديثة القوية بدا هراءً وتحطّم عند أول مجابهة. كما أن السلطات العسكرية بنت على الانقسامات نفسها، وتحوّلت، في أحيان كثيرة، إلى غلبة عشائرية أو طوائفية. بالطبع كان العار نفسه يتجدد، والاستبداد يحل محل المجالس القبلية والطوائفية التي سبقت. لذا طرح الربيع العربي أول الأمر غاية جديدة على المجتمعات العربية، هي الديمقراطية. تحولت الديمقراطية هكذا مطلبا شعبياً، وبدا أن هذا الشعار يستقطب قوى اجتماعية، الشباب والطلاب والمهمّشون أركانُه.

تجلّت الديمقراطية، للمرّة الأولى في تاريخنا الحديث، مطلباً جماهيرياً. لكن مطلباً كهذا يستنفر ضدّه كل القوى التي تُشكّل المجتمع السياسي والعسكري، كل الانقسامات التي توحدت، في هذا الحين، ضده. لقد طُرحت الديمقراطية كمطلب، لكن القوى التي قامت بعبئه كانت جميعها مهمّشة وضعيفة. لذلك، وبسببه، كانت الثورة ضعيفةً وتُجابِه القوى الفعلية التي اتّحدت ضدها. هذا ما دعا هذه المرّة الى انقلابات على الانقلاب نفسه، وإلى استبداد كامل محل الاستبداد المتنوع الذي سبق، ثم كان أن ثارت كلّ الانقسامات في وجه الثورة. لكن هذه المرّة استعارت هذه الانقسامات المطلب الديمقراطي وعملت على امتصاصه وتحويله لها. انتصر العنف الطوائفي العشائري على الهوامش الثورية. كانت هذه نهاية الربيع العربي، بل الانقلاب عليه وتحويله إلى نقيضه.

العربي الجديد

———————————–

ملاحظات على عقد عربي فريد/ راتب شعبو

وضعت الشعوب العربية على العقد الثاني من القرن الحالي، على خلاف العقود السابقة، بصمةً لا يمكن إغفالها. لأول مرة منذ عقود، تحضر الشعوب العربية بوصفها ذواتاً سياسية تبحث عن حياة أفضل، وتقتحم أخبارها شاشات العالم. لأول مرة تتحرّر النضالات الداخلية بين الحاكم والمحكوم من النضالات “القومية”، فلا تحضر إسرائيل والإمبريالية مصدّات تمنع الصراعات الداخلية من أن تتخذ بُعدها التحرّري. كان لافتاً كيف استحضر النظام السوري المصدَّ الإسرائيلي، حين صرح بأن ثورات الربيع العربي لن تستهدفه، لأنه لم يطبع مع إسرائيل، وأنه في “محور المقاومة”، ثم استغاث بهذا المصدّ، في بدايات الثورة عليه، فكتب على إحدى اللافتات: “إسرائيل هي العدو”، محاولاً ستر عداوته الشعب السوري بعداوةٍ أخرى.

في هذا العقد، لم تكن أخبار الشرق الأوسط هي أخبار الصراع مع إسرائيل، بل الصراع مع الاستبداد الداخلي الذي لطالما راكم الفشل في الميدان الوطني، كما في ميدان التنمية، فضلاً عن اعتدائه الثابت على حريات محكوميه الفردية والعامة. وفي نهاية هذا العقد العربي الفريد، يمكن تسجيل بضع ملاحظات:

أولاً، آخذين بالاعتبار المآلات المُحبطة التي وصلت إليها الثورات العربية، ولا سيما الموجة الأولى منها (ما عدا تونس، موطن الشرارة الأولى)، يبقى الربيع العربي ربيعاً، على الرغم من كل التعابير “الفصلية” الأخرى المقترحة: الخريف العربي أو الشتاء العربي. ربيعية الربيع العربي تكمن في أن الشعوب العربية أثبتت حيويةً أوشكنا أن نشكّ فيها، وخرجت في وجه أشد أنواع الأنظمة السياسية بطشاً وإزماناً. والحق أن هذا هو مصدر الذهول الذي أصاب معمر القذافي أمام خروج الليبيين عليه، حين عبّر عن استغرابه الشهير “من أنتم”؟ كان يعني أنه لم يألف هذا النوع من البشر. كان يستغرب أي بشرٍ هؤلاء الذين يخرجون على نظامٍ سدّ كل منافذ الخروج؟ وكيف يتمرّد هؤلاء الذين كان يراهم مطبوعين على التسليم والانقياد والتهليل والتصفيق؟ والحال نفسه ينطبق على بقية أقرانه من المستبدين. .. وتتفوق هذه الحقيقة على كل الحقائق الأخرى (وهي حقائق بلا شك) التي دفعت بعضهم إلى نقض تسمية “الربيع العربي”.

ثانياً، لم تكن في المجال الثقافي العربي حيوية فكرية تقابل الحيوية النضالية التي أظهرها الجمهور في الساحات. يمكن القول إن الثورات العربية كانت يتيمةً فكرياً، لا أبوة فكرية لها، سوى كلام عمومي، منقولٍ في الغالب، يلخصه المطلب الديمقراطي مفهوماً على النمط الغربي. اليتم الفكري للثورات العربية هو المسؤول الأول عن اليتم السياسي التالي لها، نقصد غياب تمثيل سياسي يستطيع ترجمة طاقة الثورة إلى قوة تغييرٍ سياسيٍّ تحرّري ومدرك لمقاصده. على هذا، كان لدينا في العقد المنصرم ربيع الشعوب وخريف النخب.

ثالثاً، أحد أسباب الفجوة الكبيرة التي ظهرت جلية في “الربيع العربي”، بين ما نريد وما نستطيع، هذه الفجوة التي ابتلعت الثورات، وجاهزة لابتلاع موجاتٍ أخرى منها ما لم تعالج، هو اختصار المهمات الشاقة، والتي تحتاج عملا معرفيا وميدانيا ومدنيا طويلا ودؤوبا وتراكميا، في حلولٍ سحريةٍ تتأرجح بين “الإسلام هو الحل” أو “الشيوعية هي الحل” أو “الوحدة العربية هي الحل”، وصولاً إلى “الديمقراطية هي الحل”، من دون أن يستطيع أصحاب هذه الحلول السحرية تفصيل القول في أيٍّ منها، سوى في تنظيراتٍ مقطوعةٍ عن واقعها. وكأننا نريد تدارك تخلفنا العام بوصفةٍ سحريةٍ لا تحتاج سوى إلى الاستيلاء على السلطة السياسية. يمكن لهذا “السحر” أن يحشد، وأن يحرّك، قطاعات واسعة من الناس، ولكنه لا يمكن أن يقود جمهوره إلا إلى مزيدٍ من الإحباط والتشتت.

رابعاً، في كل التنويعات التي انتهت إليها ثورات الربيع العربي، لم تحقّق الشعوب الثائرة ما خرجت لأجله. على أن البلدان التي توصلت فيها الثورة إلى تسوية مع قوى النظام (مصر، السودان)، ظلت، على كل حال، أفضل وضعاً، بمقياس الدمار والموت، من البلدان التي دخلت فيها الثورة في صراع حياةٍ أو موت مع النظام القائم (ليبيا، سورية). في حين لم تنفع التسوية في الحالة اليمنية، بسبب تراكب الصراع هناك على خطوط مذهبية وعشائرية، والسماح للرئيس السابق، علي عبد الله صالح، الذي قبل مكرهاً التخلي عن الرئاسة، أن يبقى في البلد، ويدخل في صراعٍ على السلطة، الأمر الذي ساهم في تأجيج الصراعات وتعقيدها.

خامساً، لم تمثل إطاحة رأس النظام نجاحاً للثورة (مصر)، ولم تجنّب البلاد الدخول في نفق الاقتتال والدمار والتمزّق الاجتماعي (ليبيا، اليمن). على أن النموذج السوري، حيث حافظ النظام على رأس الهرم فيه، شكّل الحالة الأشد تدميراً وتمزيقاً للبلاد وللمجتمع، إلى حد يثير الشكوك في إمكانية استعادة وحدتهما. النتيجة التي يمكن تلمّسها هي أن تجاوز الأنظمة الاستبدادية المزمنة يحتاج تفكيكها من القاعدة.

سادساً، تميّزت الموجة الثانية من الانتفاضات العربية (لبنان، العراق، السودان، الجزائر)، بأنها تجاوزت مطبّي العسكرة والتغذية الطائفية، مستفيدةً من تجربة الموجة الأولى. مع ملاحظة أن النظام “الديمقراطي” القائم على المحاصصة (العراق، لبنان)، أظهر قدرةً أكبر على مقاومة التغيير من دون الإفراط في العنف، يعود ذلك إلى مرونته العالية وتعدّد نقاط ارتكازه، قياساً على الأنظمة المستبدة ذات الرأس الواحد التي ترتد بوحشيةٍ أكبر على أي محاولة تغيير، لأنها ضعيفة المرونة. في الجزائر، أتقن الشعب درس “العشرية السوداء”، حين اكتوى بنار العنف الإجرامي المتبادل بين الجيش والجماعات الإسلامية في العقد الأخير من القرن الماضي، فحافظ على سلمية حراكه، على الرغم من عدم استجابة مؤسسات النظام لمطالبه، كما أن الجيش، في المقابل، لم يلجأ إلى العنف. هذا ينعش الأمل بأن يكون العنف الرهيب الذي شهده العقد المنصرم درساً مفيداً للجولات القادمة.

سابعاً، تبيّن أن غلاف الاستبداد السياسي، إذا ما ضعف أو تمزّق، فإنه يكشف في المجتمع عن قوى وميول استبدادية، سرعان ما تحتلّ المجال العام الذي يهجره الاستبداد الأم. وهكذا يبدو أن الاستبداد لا يكتفي بحرق حاضر المجتمعات التي يحكمها، بل يُضعف أيضاً إمكانات التحرّر المستقبلية فيه.

ما سبق يطرح على المشتغلين في الشأن الفكري والسياسي البحث الأصيل عن السبل التي يمكن من خلالها تفكيك الاستبداد، وجعل النضال التحرّري أكثر جدوى وأكثر قابلية للتراكم.

العربي الجديد

———————————

الربيع السوري من الولادة إلى الأسئلة/ حسين عبد العزيز

خلقت الثورة حقلا جديدا في ممارسة الوعي، ومن أهم معالمه البدء بتحطيم ثقافة الأجوبة التي فرضها نظام الأسد.

في كتابه “الربيع العربي: من الولادة إلى الأسئلة” ـ الصادر عن دار ميسلون للطباعة والنشر والتوزيع 2018 ـ يتناول أحمد برقاوي الربيع العربي بشكل عام والربيع السوري بشكل خاص، ليأتي الكتاب موزعا على فصول عديدة قد لا يبدو بينها ترابط في الشكل، لكن بينها سيرورة فكرية واحدة تنظر إلى الأحداث السورية في إطار فلسفة التاريخ.

يميز برقاوي بداية بين ثلاثة أنواع من الوعي: الوعي المطابق، الوعي الزائف، الوعي الخاطئ، فيعتبر أن الثورة هي تعبير عن تطابق الوعي والواقع، حيث ذهب الوعي مباشرة إلى فكرة الحرية والمجتمع الديمقراطي.

قوبل الوعي المطابق بوعي زائف من قبل النظام عندما ستر حقيقة وعمل على تزييف الواقع، وفي الوقت الذي تحرك فيه الوعي المطابق في حقل مفاهيم الديمقراطية والعدالة والمجتمع المدني، تحرك الوعي الزائف في حقل مصطلحات المؤامرة والممانعة وحماية الوطن.

في إطار هذين الوعيين برز الوعي الخاطئ لدى حدي الصراع، وهو وعي يظن صاحبه أنه على صواب، هكذا ظن النظام أن استخدام العنف هو الوسيلة المثلى لوأد التظاهرات، وهذا الوعي الخاطئ أدى إلى تحويل الثورة من السلمية إلى العسكرة.

بالمقابل، ساد وعي خاطئ لدى المعارضة أيضا، تمثل في أن تجربة التخلص من القذافي قابلة للتحقق في سوريا.

في إطار فلسفة التاريخ

ليست فلسفة التاريخ عودة إلى التاريخ، بل الكشف عن ملامح حركة التاريخ ومعنى التجربة التاريخية، فما هو مشترك بين بلدان الربيع العربي عام 2011، كان أن الدول الخمسة (تونس، مصر، ليبيا، اليمن، سوريا) هي دول مؤسسة على احتكار القوة العسكرية والأمنية، وهذه الدول جميعا أزالت الحد الفاصل بين السلطة والدولة، وتشكلت في هذه الدول عصبيات مناطقية وأسروية، مع تباين في الحالات بين هذه الدول.

إن السلطة في هذه الدول مارست احتقارا شديدا للتاريخ، ولم تكن مفهومات التاريخ والتطور والتغير وروح العالم جزءا من وعيها بالعالم، لقد كانت مكتفية بجمهور من الدهماء.

أسست القوة المحتكرة من قبل نظام الأسد على جملة أعمدة: الاستيلاء على القوة العسكرية والتحكم فيها، والاستيلاء على أجهزة الأمن، والتحكم في أجهزة الإعلام، وإفراغ المجتمع من أية قوة ممكنة، تحطيم القوة الأخلاقية القائمة، الاعتماد على عصبية طائفية أساسية.

بوجود هذه الأعمدة، تشكلت استراتيجية من شقين: الأول، الحيلولة دون ظهور أي إمكان تمرد بما يعني ذلك من تحطيم المجتمع المدني، والثاني متعلق بمواجهة التمرد.

الثورة والهوية

من مميزات المراحل الثورية أن جميع الهويات تنفجر، لكن برقاوي يركز هنا على هويتين فقط، الهوية النائمة والهوية المتخفية، الأولى ضعيفة وإلا لما غفت أصلا، وما كانت لتغفو إلا لأن هناك هوية أقوى قد احتلت المنزلة، وتنتمي الطائفة السنية إلى هذه الهوية بخلاف الأقليات التي تمتلك وعيا شديدا بهويتها، والثانية هي هوية المثقفين، وهي هوية حاضرة في الوعي ومتخفية بفعل إرادي وعبر قول غير طائفي، وهنا تكمن الخطورة، لقد كانت الهوية المتخفية تمارس التقية عن عمد، ولكنها في الوقت نفسه كانت سعيدة بانتمائها الطائفي.

ما إن قامت الثورة، صار لزاما على المثقفين أن يتخذوا موقفا علانية، وما عادت الهوية المتخفية قادرة على التخفي، فأعلنت حقيقتها بوصفها جزءا من النظام، بحجة مواجهة المد الإسلامي.

في المقابل، راحت الهوية السنية التي كانت نائمة، تعلن عن نفسها بنوع من الحقد القاتل، كي تنتقم من إخفائها، وهكذا أصبحت هناك هويتان، مستيقظة ومتخفية، وكلتاهما هويتان مقاتلتان، لا وجود لديهما لفكرة التسامح لزمن ليس بقصير.

لقد ولد السوري مع ولادة الدولة السورية، فالسوري بوصفه هوية، فإن هويته السورية لاحقة، تأتي بعد وجوده، كانت سوريا فكرة في وعي نخبة فكرية ـ سياسية في بلاد الشام أثناء طرح اللامركزية، بوصفها نظاما ملائما للإمبراطورية العثمانية.

لم تكن الهوية المرتبطة بالجنسية ثمرة المشيئة الحرة للسكان، بل فرضت عليها، وصارت مع الأيام هوية موعى بها، ولم تستطع الإيديولوجيا القومية العربية أو الإسلامية أن تأتيا على شعور السوري بهويته الوطنية، لأنها هوية ارتبطت بالحياة العملية.

مع انطلاق الثورة وسيرورتها انفجرت الهويات كلها، بما في ذلك الهويات الأخلاقية، وبدأت نقاط ضعف الهوية السورية تظهر للعيان أمام الهويات المذهبية الطائفية والهويات الإثنية والمناطقية، وهكذا انفجرت كل براكين الهمجية غير المتوقعة، من بركان همجية النظام.

ظلت الأكثرية السورية ذات هوية سورية خلاصية في حدود سوريا الراهنة ومع نظام سياسي يعبر عنها، إن ما جرى على الأرض هو محاولات من قبل النظام لتحطيم الوجود السوري ذي الهوية السورية، حتى يسهل عليها البقاء كهوية ضعيفة.

إذا، فالصراع يقول برقاوي هو بين الوجود السوري الأكثري الساعي للمحافظة على الهوية ذات السلطة الديمقراطية المعبر عنها من جهة، وهويات ما دون الهوية السورية، مثل الهويات السلطوية والطائفية والإثنية والدينية من جهة ثانية.

لقد خلقت الثورة نوعا جديدا من التناقض الهوياتي، فالهوية الطائفية هي هوية سياسية مؤسسة على هوية أنثروبولوجية نائمة، ومن ثم فالمصلحة السياسية هي التي صنعت الهوية الطائفية لدى السلطة، حتى صار توزيع المناصب يخضع لأساس طائفي.

في مستوى الوعي الشعبي والعلاقات المعشرية في سوريا، ليس هناك تناقض إثني أو طائفي بالأصل، لذا، فإن افتعال تناقض هوياتي شعبي هو فعل سياسي وليس واقعة مجتمعية ـ تاريخية.

مثقف الوسخ التاريخي

كتب كثير من الفلاسفة والمفكرون عن المثقف ودوره، بدءا من غرامشي الذي ميز بين المثقف التقليدي المنتمي إلى المعرفة المسبقة والعالم القديم، وبين المثقف العضوي المنتمي إلى الجماعات والطبقات والمدافع عن مصالحها.

وإلى هذا التمييز، يذهب أيضا جان بول سارتر وغيره، فثمة مثقف ملتزم بقضايا الناس، وآخر غير مكترث بهذه القضايا.

لكن، لم يتحدث أحد من هؤلاء الفلاسفة عن المثقف الوسخ التاريخي بسبب أن خيالهم لم يصل بهم لتصور وجود هذا النوع من المثقف الذي ظهر معاديا لتجربة الكفاح السورية من أجل الحرية ودولة المواطنة، يقول برقاوي.

مثقف الوسخ التاريخي، لا هو بالمثقف التقليدي ولا هو بالمثقف غير الملتزم، ولا هو بالمثقف اللاأخلاقي، بل هو نمط من المثقفين الذين لا مثيل لهم في تاريخ الثقافة، فهو المدافع عن أحط الممارسات المعادية للإنسان، وصار إلى أعلى درجات الانحطاط الأخلاقي.

إن المثقف الوسخ التاريخي السوري، ومن هو في حكمه من العرب، لم يخن ما يجب أن يكون عليه المثقف من حيث ماهيته مدافعا عن الحق والحقيقية وقيم الإنسان ووجوده الحر فحسب، بل خان صورة المثقف النقيض الذي لم يتصور أحد أن يصل به الأمر إلى هذا المستوى من الانحطاط الأخلاقي.

في الطائفة والطائفية

في هذا الفصل يناقش برقاوي عملية الانتقال من الطائفة إلى الطائفية إلى العصبية الحاكمة، وهي ظاهرة تعتبر حديثة في بلدان المشرق العربي.

ما يحتاج إلى نظر ليس الطائفة، لأنها معروفة تاريخيا من حيث أصولها ومعتقداتها وقيمها، بل ما يحتاج إلى نظر هو الطائفية، وهي بالتعريف نزعة تعصبية للطائفة، وكل نزعة تعصبية هي بالضرورة نزعة إقصائية للآخر سرا أو علنا.

في حال انتقال التعصب الطائفي إلى النظام السياسي الحاكم، فإن تحطيم العقل والمجتمع يحفر مجراه ببطء داخل جسد المجتمع، ليصل إلى مرحلة التدمير الشامل للحياة.

تشهد بلاد الشام والعراق ومصر حركة نكوصية غير معقولة، لأنها غير متوقعة في الإطار التاريخي كونها البلدان الأسبق في الحداثة في المنطقة العربية.

إن العصبية الطائفية ليست عصبية متدينة بالضرورة، فكثير من العلمانيين السنة تحولوا إلى طائفيين، وكثير من العلويين من غير المتدينيين هم طائفيون، إذ لا تعصب ديني عند العلويين.

الطائفية، هي نظام السلطة السياسي وهي أساس الهويات في مناطق منعزلة ومناطق جرى تجميعها عشوائيا من قبل الفرنسيين.

يخلق الانتماء إلى الطائفة موضوعيا، أنماطا من السلوك والنظرة إلى العالم بفعل عامل التربية والأسرة، حتى لو كان لا شعوريا، ووفق هذا المعنى، فالانتماء إلى الطائفة ذو بعد هوياتي.

من الثورة إلى المسألة

إن غباء نظام الأسد زين له سهولة الانتصار على الثورة الشعبية، كما كان الأمر مع تمرد جماعة “الإخوان المسلمين” في ثمانينيات القرن الماضي.

هكذا، ومن دون إحساس بالمسؤولية الوطنية، حولت الجماعة الحاكمة في سوريا من قضية سياسية داخلية مرتبطة بتغيير بنية السلطة، عبر حرية الاختيار والديمقراطية، إلى مسألة دولية عصية على الحل.

وهذا يقودنا بحسب برقاوي إلى ضرورة التمييز بين سوريا الثورة التي يجب التمسك بمطالبها، وسوريا المسألة التي أصبحت موضوعا خاضعا لمصالح واتفاقات دولية، ولهذا صارت الدول الفاعلة في العالم ترى المسألة السورية من زاوية لا علاقة لها بالحدث الأصلي، وهو الثورة.

وأمام هذا الواقع الذي وصلت إليه الأمور في سوريا، يؤكد أحمد برقاوي على دور الطبقة الوسطى المدنية والبرجوازية في خلق الحياة السياسية وقيام الدولة المعاصرة، بوصفها دولة عقد وطني واجتماعي، وهو أمر لا يتحقق من دون نخبة مهجوسة بالهم الوطني وزاهدة في الغنيمة ومتحررة من عقل الغنيمة، ومتجاوزة عصبية الوسخ التاريخي وانحطاطه الأخلاقي.

بسبب أن البديل الوطني الديمقراطي لم يتكون، بنية صاعدة في أحشاء البنية القديمة، وبسبب ظهور قوى ذات عقل يفكر في الغنيمة ولا ينطوي على أي إمكان للانتصار (داعش، النصرة)، فإن طبيعة هذا الصراع قد اتخذت صيغة صراع متعدد القيم.

ولما كانت بنية النظام الحاكم بنية دكتاتورية ذات طابع عصبي أقلوي مزين بطابع حزبي قومي وإشراك شكلي لفئات أخرى، وذهنية ريفية عسكرية أمنية فاسدة، فالبديل ليس بنية داعشية نصراوية سلفية عنيفة أو بنية دكتاتورية من أي نوع آخر، بل يجب أن يكون البديل متقدما، وهذا البديل يجب أن يتعين بالممارسة على الأرض.

تلفزيون سوريا

——————————-

القضية السورية وتحطيم المثال الديمقراطي/ ماهر مسعود

بعيدًا عن الكلام المعسول الذي يجب علينا رفضه، لا يبدو الحل الديمقراطي لأزمة الوطنية السورية، إلا كوعدٍ للمغدورين بجنّة غير موجودة، كي يرضوا بجهنم التي يعيشون فيها فوق كل بقعة أرض، وعلى كل ذرة تراب، في سورية.

لكن قبل الحديث عن الحال السورية والحل الديمقراطي، لا بد من توضيح مسائل متعلقة بالديمقراطية يفترض أنها أولية، إن لم تكن بديهية:

أولًا، ليست الديمقراطية هي حكم الشعب لنفسه بنفسه، كما جرت عادة تغليفها بتعريفها، فالشعب لا يحكم. إنما يختار حكّامه من النخبة التي ستحكمه في أحسن الأحوال، وحتى عندما يختار حكّامه، فإن نصف الشعب على الأقلّ سيبقى محكومًا، بأجندة النخبة التي اختارها النصف الآخر. لكن النظام الديمقراطي الذي هو حكم العديد (وليس الأكثرية بالمعنى السائد) يبقى يتميز، بالقياس إلى الحكم الموناركي (حكم الواحد) والأوليغاركي (حكم القلّة)، بأنه يسمح بمسألتين: تحديد الفترة الزمنية للحكم، وتوزيع السلطة على العديد من مراكز القوى، واستقلالها عن بعضها وعن يد الواحد أو القلّة.

ثانيًا، كل كلام عن تحقيق الديمقراطية في زمن الحرب هو كلام فارغ من المعنى، فالديمقراطية تحتاج إلى سلام واستقرار وسيادة، وأي خلل بتلك الشروط يقوّض الديمقراطية، مع أن تلك الشروط ذاتها لا تنتج ديمقراطية بالضرورة، فقد يكون السلام سلامَ العبيد، والاستقرار استقرارَ الدكتاتور في الحكم، والسيادة سيادةَ السلطة المطلقة على الشعب.

ثالثًا، الديمقراطية -جوهريًا- هي حالة صراع دائم بين الأفراد والجماعات والأحزاب والحركات، ضمن الكيان المسمّى دولة، وليس إلغاء الصراع سوى دكتاتورية عفنة، سواء كان الساعي لإلغاء الصراع ذا لحية ماركسية أو لحية جهادية أم علمانيًّا أجرد. ولكن فضيلة الصراع الديمقراطي تكمن في أنه صراع يقوم أولًا على الاعتراف بالمُنافس وبالمنافسة ذاتها، وثانيًا أنه صراع سلمي غير مسلح، وأي خلل بتلك اللعبة يحوّلها إلى لعبة دموية.

الآن نعود للحديث عن الحال السورية.

إن الغائب الأبرز سياسيًا في سورية هو الاعتراف، ليس الاعتراف بالتنافس والصراع والتعدد والاختلاف فحسب، بل الاعتراف أولًا بتحطّم الكيان السوري الجامع، وتخلّع الهيكل المسمى دولة، إن كان بالاحتلالات من الخارج أو بالانقسامات من الداخل. والاعتراف ثانيًا بأن صراعنا ذاته بات صراع المهزومين، والقوة الوحيدة التي يمتلكها مهزوم هي قوة الاعتراف بالهزيمة، فمشروع النظام الأبدي هُزم، والثورة الديمقراطية هُزمت، ومشروع الحكم الإسلامي، ثم الخلافة الإسلامية، الانفصال الكردي، تحالف الأقليات، الدولة العلوية، المشروع الشيعي.. كلّها هُزمت، أو هي في طريقها إلى الهزيمة، وإصرار أي من أصحاب تلك المشاريع على مشروعه، بدعم القوى الحامية، ليس سوى إيغال في الهزيمة، له وللآخرين وللشعب وللكيان السوري المطلوب بناؤه من جديد.

ثالثًا، الاعتراف بأن ما يجمع الشعب السوري، تحت سقف كيان اسمه سورية، ليس الأخوّة ولا المحبة ولا التعاضد والبنيان المرصوص ولا الأصل والعمق التاريخي والأصالة، ولا أي من تلك الفضائل الأخلاقية التي لم تنجب سوى القتل والشيطنة والتسلّط. بل إن ما يجمع السوريين هو المصلحة، مصلحتنا بالعيش المشترك والاعتراف المتبادل وتقاسم السلطة والثروة والنفوذ، وذلك حفاظًا على دمائنا ومستقبل أطفالنا، فليس للعلوي مثل حظ السُّنييّن، ولا للسنّيّ مثل حظ الكرديَّين ولا لغيرهم.. هذا من جهة، ومن جهة ثانية مصلحة النظام الدولي الذي لا غنى لنا عنه، والذي رسم حدودنا مع سايكس بيكو قبل مئة عام، فتلك الحدود باتت حدود كياننا السياسي الذي ليس لنا سوى البناء عليه والعيش تحت سقفه، فلا يمكن توسيعه، كما رغب الحالمون بالقومية والإسلامية والماركسية، ولا تضييقه كما يرغب الحالمون بالتقسيم أو الانفصال اليوم، فالشعب الذي دفع ثمن الأحلام القومية الأكبر من الكيان السوري سابقًا، ليس عليه أن يدفع ثمن الأحلام الطائفية والقومية الأصغر من ذلك الكيان اليوم، لنلتزم بحدودنا السياسية إذًا، ونصنع حياة مشتركة داخلها بناءً على الفائدة والمصلحة معًا، وإن كان الكلام السابق يخصّ الجميع، طبعًا، فإنه يخص الائتلاف التابع لتركيا من جهة، والقيادات الكردية الحالمة بقومية كردية عابرة للدول من جهة أخرى، تلك الثنائية التي لن تنجب سوى “غزة” في سورية، من جهة الائتلاف، ودكتاتورية قومية من جهة الأكراد، هي أشبه بنظيرتها القومية العربية، أو دولة علمانية عنصرية في أحسن الأحوال، مثل “إسرائيل”.

رابعًا، الاعتراف بأن المظلوميات هي العنصر الأساس لبناء الدكتاتوريات ورعاية المذابح، والتوافق على منع تحويل الظلم إلى مظلومية، وهذه مسألة في غاية الحساسية والدقة، فالأكراد ظُلموا كثيرًا قبل الثورة، والسنّة ظلموا كثيرًا بعد الثورة، وللعلويين قصصهم مع الظلم، ولكل طائفة وإثنية وفئة تاريخُها وقصّتها حول الظلم الذي تعرضت له، لكن الاعتراف بالظلم لا يجدر به التحول إلى مظلومية، فالمظلومية هي تسييس الظلم لتحصيل الامتيازات، تحويل الظلم إلى سياسة المظلومين وابتزاز الآخرين بها (إسرائيل هي المثال الأسطع في العالم المعاصر على استغلال الظلم الذي تعرض له اليهود وانتهى بالهولوكوست، لتحويله إلى سياسة دولة عنصرية، مقدسة، ضد الفلسطينيين)، وبينما يفتح الاعتراف بالظلم بابًا متواضعًا أمام العدالة، فإن المظلومية تعتاش على انعدام العدالة، تأجيلها إلى الأبد، جلد الآخرين بغيابها، استخدام ظلم الماضي لتبجيل الذات وبناء تسلطها على الآخرين في الحاضر والمستقبل، أسطرة التضحيات، ليس من أجل الضحايا، بل لبناء أوضاع امتيازية باسمهم وتحويل المضطَهدين القدامى إلى مُضطهِدين جدد. هذا انتقام لا يحول ولا يزول، وليس عدالة.

إن المثال الديمقراطي القائم على مجتمع مدني قوي ومتماسك ومفارق للعصبيات، وانتخابات فردية خالصة من الجماعات الأولية، وتوفير الاستقرار والسلام والأمن والسيادة، واستقلال المؤسسات والسلطات السيادية والسياسية.. ليس ممكنًا في الحال السورية بأي حال، ولذلك علينا صياغة نموذج ديمقراطي “على قدّنا”، يقوم على الاعتراف والتوازن، الاعتراف بالواقع كأرض للانطلاق لا محطة للوصول. الاعتراف بالطوائف والاثنيات والقبائل والجماعات والمناطق والجهات والإدارات، والتوقف عن أَمَثَلَة الوطنية السورية، بجعلها مثل امتحان “التوفل” للجامعات الغربية، لا ينجح فيه إلا كلّ طويل عمر. وصناعة وطنية سورية من أرضية المركب الاجتماعي والسياسي السوري، دون صياغة نظام سياسي طائفي يقوم على التمييز في المواطنة العامة والحقوق الفردية. ولأن تلك النقطة من أكثر النقاط حساسية وخلافية في السياسة السورية، سأشرح المقصود منها:

لا توجد قوة دولية صغيرة أو كبيرة، صديقة أو عدوة، إلا وهي تتعامل معنا، كطوائف وقبائل واثنيات وخلافه، ولا توجد قوة سياسية أو عسكرية فاعلة في الداخل، من النظام إلى الائتلاف إلى (قسد) والفصائل والميليشيات والزعماء والقادة والأمراء والمشايخ والأئمة.. إلى كلّ ما يُسمى قوى الأمر الواقع والمؤثرين بالواقع، إلا وهي ترى بالعين ذاتها التلاقي مع القوى الدولية، ثم تأتي “المعارضة الوطنية الديمقراطية”، لتكون كل شيء باستثناء جميع من سبق ذكرهم، فتكون بالمحصّلة “لا شيء”، ولذلك فإن الاعتراف المتوازن يقطع الطريق على كلا الحديّن المتطرفين (حد القوى الدولية والميليشيات المحلية، وحد التصوّر المثالي للديمقراطية الذي تطرحه النخبة العاجيّة)، لأنه يعترف بالواقع الطائفي المناطقي الاثني والقبائلي السوري، دون أن يحوله إلى تحاصص طائفي سياسي على المستوى الدستوري، وبالنتيجة لا مخرج من الطائفية إلا من قلب الطوائف، ولا من القبلية إلا من قلب القبائل.. ولكن للخروج من التمثيل الإجباري لبشار والجولاني ومشايخ العقل وPYD ونصر الحريري وغيرهم، لا بد من فسح المجال للمجتمع الأهلي والمدني، ليفرز ممثليه اختياريًا ويطوّر تمثيلاته وطنيًا، ولا بدّ من التوقف عن التعالي الزائف الموروث عن سياسة “الأب القائد”، في رفض الطائفية والمناطقية والاثنية في العلن، وتنفيذها كاملة تحت الطاولة، والتوقف عن إعطاء علامات الوطنية من نخبة لم تمارس السياسة يومًا إلا كثقافة.. ثقافة وأخلاق “الما يجب” بدلًا من سياسة “الما يكون”.

ليس تحطيمُ المثال الديمقراطي فتحًا لباب الشعبوية، على أي حال، فما يُنتج الشعبوية ليس تمثيل الناس بل تجاهلهم ثم “الطبطبة” على أوجاعهم، ولا تكريسًا للدكتاتورية بأي شكل؛ فالبديل الديمقراطي يُصنع صناعة ولا ينزل “بكيسه” جاهزًا من السماء، بل هو تحرير للخجولين بذواتهم، والخائفين من آبائهم خوفًا يمنعهم من العمل، تحريرهم من عقدة المتعالي وفكرة المثالي والـ perfectionism التي تحكم سلوكهم السياسي، وتطوّر نفورهم المتبادل من بعضهم الذي يغذّي استحالة العمل المشترك، ونفور المجتمع الدولي منهم الذي يغذّي استحالة بناء البديل السياسي، وهو ما يقودنا في المحصلة، ويعود بنا إلى تلك الدائرة الجهنمية التي تبدأ بغياب الحلّ الديمقراطي والبديل السياسي، وتنتهي ببقاء الدكتاتور.

مركز حرمون

————————–

العقد الأول من السيرورة الثورية العربية/ جلبير الأشقر

في السابع عشر من هذا الشهر قبل عشرة أعوام، انطلقت من مدينة سيدي بوزيد في الوسط الغربي التونسي شرارة أشعلت حريقاً سياسياً ما لبث أن شمل سائر جهات تونس، ثم امتدّ إلى كافة أرجاء المنطقة الناطقة بالعربية في ما درجت تسميته منذ عام 2011 «الربيع العربي». وقد سادت طوال أولى أشهر ذلك «الربيع» نشوة كانت بحجم الموجة العارمة التي تمثّلت في صعود شامل لحركات الاحتجاج في عموم المنطقة، بلغ ذروته في ست انتفاضات كبرى إذ تبعت تونس خمسة بلدان، هي مصر واليمن والبحرين وليبيا وسوريا. بيد أن الموجة الثورية، بعد المدّ الذي شهدته في سنتها الأولى، عرفت جزراً مهّد لهجوم مضاد للثورة: فبعد تطويق الثورة البحرينية وقمعها، جاء صمود النظام السوري في وجه الانتفاضة الشعبية وما عقبها من حرب أهلية حتى تدخّل إيران لإنقاذه في عام 2013 وجاء بعده الانقلاب العسكري الرجعي في مصر، ثم تلتهما جملة ارتدادات أخرى أدّت إلى نشوب حرب أهلية في بلدين آخرين، هما ليبيا واليمن. ومع هذه الانتكاسة الخطيرة، تبدّدت الأوهام والنشوة وحلّ محلّها تشاؤمٌ صاحبَه استعجال الكثيرين إلى إعلان نهاية أحلام «الربيع العربي».

لكن نشوة الموجة الثورية وكآبة الانتكاسة نشأتا سيان عن انطباعات سطحية تجاهلت سمتين رئيسيتين للانفجار الكبير الذي خضّ المنطقة. السمة الأولى هي أنه انفجار عميق الجذور يجد مصدره الأساسي في أزمة بنيوية مستعصية تتعلق بتحوّل النظام السياسي والاجتماعي السائد إلى عائق للتنمية، بما أدّى إلى معدّلات نمو اقتصادي شديدة الانخفاض وبالتالي معدّلات بطالة شديدة الارتفاع، لاسيما البطالة الشبابية والنسائية. فإن تحوّل المدّ الثوري إلى جزر رجعي لم يحلّ قط تلك الأزمة البنيوية، بل استمرت تتفاقم على خلفية انعدام الاستقرار السياسي الذي بات سائداً في المنطقة منذ انفجار الأزمة. وهذا يشير إلى أن ما جرى في عام 2011 لم يكن سوى بداية سيرورة ثورية طويلة الأمد لن تتوقف قبل أن يحدث التغيير الجذري الضروري في طبيعة النظام السياسي والاجتماعي السائد، أو تغرق المنطقة في ردّة خطيرة وتآكل مأساوي من شأنهما أن يؤدّيا إلى مرحلة تاريخية مديدة من الانحطاط.

أما السمة الثانية فهي أن النظام السياسي والاجتماعي السائد في المنطقة العربية متحكّم بقوة بمفاصل الدولة، ولاسيما بقواها المسلّحة، بحيث أن التصوّر الذي ساد خلال أولى أشهر «الربيع العربي» بأن المنطقة ستشهد «انتقالاً إلى الديمقراطية» بسلاسة ما شهدته مناطق أخرى من العالم، إنما كان تصوّراً ساذجاً مبنياً على سوء تقدير لصلابة جسم الدولة الرئيسي وعمودها الفقري القمعي، كما لاستعداد النخب الحاكمة إلى تدمير بلدانها وقتل وتشريد شعوبها حفاظاً على سلطتها وامتيازاتها، على غرار ما فعله النظام السوري. وقد عزّز ذاك التصوّر الساذج الخلط بين «إسقاط النظام» الذي يريده الشعب وفق الهتاف الشهير، وبين تضحية «الدولة العميقة» برأسها حفاظاً على ركائزها، مثلما جرى في تونس وبعدها مصر، تمهيداً لطفو قمة جديدة فوق سطح الماء على طريقة جبل الجليد.

أما السمتان مجتمعتان فمؤدّاهما أن إنجاز التغيير الذي تحتاج المنطقة إليه لتجاوز أزمتها المزمنة يتطلّب قيادة أو أطر قيادية للحراك الشعبي على درجة عليا من التصميم الثوري والوفاء للمصلحة الشعبية بحيث تتمكن من إدارة العملية الثورية واجتياز الامتحانات والمِحَن العسيرة التي يقتضيها التغلّب على الأنظمة القائمة باستمالة قواعدها المدنية والعسكرية، قيادة كفيلة بأن تُشرف على تحويل الدولة من أداة نهب للمجتمع لصالح أقلية إلى أداة خدمة للمجتمع بأغلبيته الكادحة. وما دامت مثل هذه الأطر القيادية لم تنبثق أو تفرض نفسها بعد، فإن السيرورة الثورية سوف تستمر لا مُحال في تعاقب بين المدّ والجزر وبين الهبّة الثورية والردّة المضادة للثورة.

وقد شكّل العقد الأول من السيرورة الثورية العربية تأكيداً لأطروحة السيرورة طويلة الأمد. فإن انتكاسة «الربيع العربي» وما رافقها من حروب أهلية في ثلاثة بلدان ومن عودة للنظام القديم بحلّة جديدة، حلّة كانت في مصر أقبح بعد من تلك التي ارتداها نظام ما قبل الثورة، تلك الانتكاسة لم تترافق قط باستتباب الاستقرار الاجتماعي في المنطقة، بل ما برحت تشهد انفجارات اجتماعية وحركات سياسية متتالية من بلد إلى آخر، بل ومن جهة إلى أخرى داخل البلد الواحد، مثلما حصل في المغرب وتونس ومصر والسودان والأردن وسوريا والعراق وهلمّ جرّا.

وما لبثت المنطقة أن شهدت موجة ثورية ثانية انطلقت بعد انطلاق الأولى بثماني سنوات، دشّنتها الانتفاضة السودانية التي بدأت في التاسع عشر من هذا الشهر قبل سنتين، وتلاها في عام 2019 الحراك الجزائري ومن بعده انتفاضتا العراق ولبنان. والحصيلة أن عشر دول عربية شهدت انتفاضات خلال العقد المنصرم، أي أن ما يناهز نصف بلدان المنطقة، وهي تشمل غالبيتها السكانية العظمى، قد عرفت هبّات ثورية عارمة، فضلاً عن أن البلدان الأخرى شهدت جميعاً تقريباً صعوداً ملحوظاً للحراك الاجتماعي والسياسي خلال العقد المنصرم. هذا وإذا صحّ أن جائحة كوفيد ـ 19 قد جمّدت النضالات الاجتماعية القائمة وردعت انطلاق غيرها الجديد، يبقى أن مفعولها آني لن يدوم إلى الأبد، خاصة وأن ما أحدثته من تفاقم للأزمة الاقتصادية في المنطقة من شأنه أن يسعّر نار الغضب الشعبي.

أما التحدّي الأكبر الذي يواجهه الجيل الثوري الراهن الذي تسيّس في خضمّ الانتفاضات، والشرط الرئيسي لتمكّنه من الانتقال من الانتفاضة إلى الثورة الناجزة، فيكمنان في مسألة القيادة سالفة الذكر ببُعديها التنظيمي والسياسي. فإن الجيل المتمرّد الجديد، ليس في المنطقة العربية وحسب بل وفي العالم أجمع، محقّ بلا شك في حذره من التشكيلات السياسية والأيديولوجية القديمة، وقد أدرك كيف أن تنظيماتها قد انتهى بها الأمر إلى طغيان التسلّط البيروقراطي أو الزعامات الفردية، وخانت القِيَم التي ادّعت تجسيدها لتتكيّف مع شتّى أنماط الاضطهاد السياسي والاجتماعي والثقافي. لذا نجد جيل التمرّد الجديد حريصاً على أفقية حركته، رافضاً التمركز العمودي ومفضّلاً التنسيق بصيغة الشبكة على نحوٍ تجسّده خير تجسيد ظاهرة «لجان المقاومة» في السودان.

أما في الجانب السياسي، فإن السيرورة الثورية الإقليمية سيرورة تراكمية مثل كافة السيرورات طويلة الأمد في التاريخ. فإن الجيل الواحد يستخلص دروس التجارب والأفشال التي يمرّ بها، كما أن العِبَر تنتقل من جيل إلى آخر ومن بلد إلى آخر في إطار السيرورة التاريخية المديدة. هكذا رأينا كيف أن الموجة الثورية الثانية، أو ما أسماه بعض المعلقين «الربيع العربي الثاني» تفادت الأوهام التي سادت في الموجة الأولى.

ويكمن خير مثال على ذلك في المقارنة بين بلدان المنطقة الثلاثة التي تتميّز بسيادة المؤسسة العسكرية فيها، ألا وهي مصر والسودان والجزائر. فحيث غلبت في مصر في عام 2011 ومن ثم في عام 2013 أوهام كبيرة حول تولّي المؤسسة العسكرية مهمة «الإنقاذ» رأينا كيف تفادى الحراك الشعبي في كل من السودان والجزائر الوقوع في ذلك الفخ، مستمراً في إصراره على تحقيق مدنية السلطة بوصفها شرط ديمقراطيتها. وقد رأينا أيضاً كيف تيقّظ الحراك في كل من العراق ولبنان لتفادي الوقوع في شرَك العصبية الطائفية التي طالما استخدمتها الجماعات الحاكمة لتفرقة صفوف الشعب من أجل تعزيز سيادتها عليه.

طبعاً، لا زالت المسافة بين الوضع الحالي للحركة الشعبية، والشبابية على الأخص، ومتطلّبات تحقيق تطلّعات الجيل الجديد التقدّمية الثورية مسافة هامة، بينما تتعاظم احتياطات النظام العربي الرجعي برمّته ويتزايد تكالب أركانه على التصدّي للسيرورة الثورية الإقليمية.

فإنه بلا شك لطريق شاق ذاك الذي يقود إلى الخلاص الثوري المنشود، لكن العزم على سلوكه يحفزّه إدراك أن لا بديل عن هذا الخلاص سوى الذلّ والهلاك.

كاتب وأكاديمي من لبنان

القدس العربي

——————————

المنشقّون والثورة السورية/ راتب شعبو

تستحقّ ظاهرة الانشقاقات عن نظام الأسد، في المراحل الأولى من الثورة السورية، اهتمامًا توثيقيًا وتحليليًا، بسبب غناها ومفارقاتها وأثر التعامل معها على مسار الثورة.

كثُرت في بداية الثورة حالات الانشقاق، ومع الوقت بدأ خطّ تمايز وحساسية يتضح أكثر فأكثر، يقوم على أساس العلاقة السابقة مع النظام، ويفرز المنشقين عن سواهم داخل جسد الثورة. وبين خفوت وبروز، ظلّ هذا التمايز موجودًا على طول الخط. ولا يخالف الصوابَ القول إن الثورة هي، بحد ذاتها، انشقاقٌ عن النظام. ومن المعلوم أن نسبة ضئيلة من السوريين كانت تعلن معارضتها للنظام، فيما كان المجتمع السوري يعلن موالاته. ومع اندلاع الثورة، أعلن جمهور متزايد من السوريين “انشقاقهم”، وأظهروا ما كانوا يضمرونه من رفض. غير أن الكلام عن الانشقاق هنا، يخصّ المسؤولين في النظام (عسكريين وأمنيين ومدنيين) الذين كانوا، قبل انشقاقهم، يتمتعون بمزايا “المسؤولية”، ويُسهمون بدورهم في سير آليات النظام وتجديد طاقته.

خدمَت حالات الانشقاق عن النظامِ الثورةَ، معنويًا وسياسيًا، بوصفها شهادةً وتأكيدًا على أحقية الثورة وتفوّقها الأخلاقي، كما خدمت ماديًا بوصفها قناة تزوّد الثورة بخبرات ومؤهلات مجربة. ولكن إلى جانب الترحيب بالمنشقين الذين يهجرون ضفة النظام وينضمون إلى الثورة، كان هؤلاء، في العموم ومع الوقت، يتعرضون لتمييز سلبي، محركه الأساسي هو تناول الأمور من منظور ضيّق، وحساسيات تقوم على مبدأ ذاتي ومصلحي.

على الجانب العسكري، هُمِّش العسكريون المنشقون بتأثير عاملين: الأول هو إشاعة الشك حولهم وعدم الاطمئنان إلى ولائهم للثورة، بوصفهم “أبناء النظام”؛ والثاني هو عدم ملاءمتهم للرداء الأيديولوجي الديني الذي راح يحتوي النشاط العسكري المتصاعد. ويمكن إضافة عامل ثالث، إلى العاملَين السابقين، هو خوف مدنيي الثورة المتعسكرين من أن التفوّق المراتبي والمهني للضباط المنشقين سوف يحدّ من طموحاتهم القيادية (وقد رأينا كيف ازدهرت هذه الطموحات وإلى أين أفضت)، فكان من الطبيعي أن يميل هؤلاء إلى استبعاد الضباط المنشقين، بشكل خاص. وقد لاقى هذا الميل قبولًا لدى المموّلين الذين يميلون إلى التعامل مع أفرادٍ يكونون أقلّ أهليّة وأكثر طواعية، كما يميلون إلى التعددية الفصائلية التي تسمح لكل ممول “باقتناء” فصيل، وهذا مما لا يتماشى مع البنية الذهنية والعسكرية التي نشأ عليها الضباط المنشقون. هذا فضلًا عن تقاطع مصلحة الحلفاء  مع هذا الميل، فقامول بتنفيذ المهمة على أكمل وجه.

النتيجة أن الضباط المنشقّين خرجوا من المعادلة إلى حد بعيد، وتحوّلوا إلى “سياسيين” أو محللين عسكريين، في أحسن حال، وسيطر على المشهد متعسكرون جاهزون للفساد المباح ولتبدية مصلحة المموّل على ما عداها.

على الجانب المدني، عرضت حالة الانشقاق مشكلةً من نوع آخر. حادثة الانشقاق بحد ذاتها مكسبٌ للثورة، والعناصر المنشقة هي في الغالب عناصر ذات كفاءة، ومن المرجح أن يكون إسهامهم مفيدًا لبلورة العمل المعارض لنظام الأسد. ولكن من جهة أخرى، يشكّل تبوّء المنشقين مواقع قيادية في المعارضة، ولا سيّما المواقع الأولى فيها، حرجًا للمعارضين المخضرمين. بعد سنوات نضال طويلة ضد نظام الأسد، لم يستطع هؤلاء المعارضون أن يمثلوا تطلعات شعبهم حين ثار، ويحتاجون إلى أحد “أبناء النظام”، كي يقوم بهذا الدور. وينتقص هذا الأمر ضمنًا من قدرات المعارضين التقليديين. الحق أن هؤلاء المعارضين الذين قضوا أعمارهم، في السجون والملاحقات الأمنية والاجتماعات السرية وقراءة الكتب، لا يمتلكون مهارة بناء العلاقات مع دول ومنظمات دولية، كما يمتلكها مسؤولون ممارسون في نظام. وفي الوقت نفسه، ليس لدى الدول، التي سعت لبناء علاقة “رسمية” مع المعارضة السورية، قابلية كبيرة للتعامل مع شخصيات لا تمتلك خبرة “رسمية”، ولا تتقن “فنون” الدبلوماسية.

أما من ناحية جمهور الثورة، فمن الطبيعي أن يكون في بال كل سوري أن المسؤول الذي انشقّ عن النظام، على أهمية انشقاقه وضرورة الترحيب به، ما كان ليصل إلى موقع مسؤول في النظام، لو لم يكن صاحب حظوة لدى أجهزة الأمن، وهذا يعني أنه على استعداد لتمسيح الجوخ وللإساءة وإيقاع الضرر بسوريين آخرين، حيث لا يستطيع السوري أن يتخيل مسؤولًا في النظام لم يكتب تقارير بزملائه، ولم يتسبب في نكبات لأشخاص ولعائلات، سواء أكان ذلك بدافع الوصولية، أم بدافع قناعة سياسية بالنظام والتزام بمكافحة معارضيه. قد يكون تعميم هذا الحكم ظالمًا لبعض المسؤولين، ولا سيّما لأصحاب الكفاءة البارزة التي يحتاج إليها النظام ويسعى للاستفادة منها، ويكفيه من صاحبها أن يقبل بالنظام كما هو. للمفارقة، ولأننا أمام نظام معمِّر، يخرج من دائرة الوصولية هذه “ورثة” المناصب الذين لا يحتاجون، بسبب انتمائهم إلى عوائل مسؤولين، إلى التسلّق على أكتاف زملائهم، بالوشايات والتقارير، ما داموا “واصلين” سلفًا.

إلى هذا، لا يستنظف الجمهور دوافع المنشقين، إذ يتساءلون: هل استيقظ ضميرهم فجأة على ظلم النظام، أم أنهم يريدون القفز من سفينة تغرق، كي يتابعوا امتيازاتهم في وضع جديد يرونه قادمًا؟

ولا شك في أن المنشقّ، من ناحيته، عانى حالة توتر داخلي، بين ماض حميم مع نظام الأسد، وحاضر مناقض لذاك الماضي. محرّك التوتر ليس فقط الانتقال الحدي بين موقعين متقابلين، بل أيضًا المحاكمة الضمنية التي يراها في عيون الآخرين، أو قد يسمعها على ألسنتهم. وقد عبّر أحد المنشقين عن هذا التوتر بنقد ذاتي قاس، إذ قال إنه كان كالببغاء تحت قبة مجلس الشعب. على أن المنشقين المدنيين كانوا، على كل حال، أكثر حظًا من العسكريين، ذلك لأن الدول “الصديقة” لم تتحفظ على المسؤولين المدنيين في النظام كما تحفظت على العسكريين.

قد يكون جزء كبير من الأحكام السابقة الذكر، حيال المنشقين، صحيحًا، لكن التعامل مع المنشقين من هذا المنظور ينمّ عن ضيق في الأفق، وتغليب لفكرة الانتقام على فكرة الثورة. في الأنظمة الشمولية، يصعب أن تتبلور معارضة ذات هيكلية وتجربة سياسية متصلة، هذا يعني أن عملية التغيير سوف تستند، بشكل لا محيد عنه، إلى الكوادر التي نشأت وتربّت في كنف النظام وكانت جزءًا منه. لا توجد حاضنة أخرى للكفاءات وتنمية الخبرات سوى النظام. وقد كانت تجربة التحولات الديمقراطية في بلدان المنظومة الاشتراكية مثالًا واضحًا على هذا القانون.

مركز حرمون

———————————-

الإسلاميون وحكاية فشل الربيع العربي/ رستم محمود

بعد مرور عقد كامل على انطلاقته الأولى، ومثل باقي القوى السياسية التي كانت تناهض أنظمة الحُكم الشمولية، يقر الإسلاميون بفشل الربيع العربي لما كان يصبو إليه. لكنهم، وعلى العكس من جميع هذه القوى والتيارات السياسيات، لا يملكون ولا يوافقون على كتلة التفسيرات التحليلية والمركبة المُعللة للأسباب والدوافع والمناخات التي أوصلت الربيع العربي إلى مائله الأخير هذا، حيث تمكنت بعض الأنظمة الحاكمة من إعادة تشييد بنيانها السلطوي، كما في مصر، وأغرقت أخرى مجتمعاتها الداخلية في حروب أهلية عدمية، مثل ليبيا واليمن وسوريا، بل يملك الإسلاميون حكايتهم الذاتية الخاصة والمُغلقة لفهم أسباب هذا الفشل.

اجترحت التفسيرات الموضوعية لفشل هذا الربيع العربي عدداً هائلاً من المقولات وأنماط التفكير. فقالت بعضها بأن حدوث ذلك يرجع لانعدام الطبقات السياسية المنظمة والقادرة على صوغ المشاريع السياسية وقيادة القواعد الاجتماعية في هذه البُلدان، وأخرى عللت ذلك بانهيار الطبقات الوسطى والتنظيمات المدنية الوسيطة بين المجتمعات والمؤسسات السياسية والسلطوية، وغيرها رأت في التوازنات الإقليمية والدولية دافعاً نحو ذلك، ورابعة تحدثت عن فيض ريفي محمل بهويات ثأرية تجاه البُنى المدينية، وخامسة مالت لقراءة نوعية الاقتصاد غير الإنتاجي الذي يُستحال أن يفرز حياة ديمقراطية… وهكذا تدفقت التفسيرات التعليلية طوال الأعوام الخمسة الأخيرة، بعدما توضحت ملامح الفشل تلك.

على عكس كل ذلك تماماً، تمركز الإسلاميون حول حكاية مُقتضبة لتفسير ذلك، تقول إن الربيع العربي فشل لأنه ثمة “مؤامرة” ما على القوى الإسلامية في المنطقة، تسعى لمنعهم من الوصول إلى سُدة الحُكم بأي شكل كان، بما في ذلك صناديق الاقتراع، التي يعتبرها الإسلامي أُس وكامل ما يتخيلونه “الديمقراطية”، التي ستوصلهم لسُدة حُكم البلدان، والتي هي كامل تطلعات هذا “الربيع العربي”.

المؤامرة المُتخيلة هذه من قِبل النُخب الإسلامية رباعية الأضلاع، مكونة من النُخب والقادة العسكريين في بلداننا، الذين يعتبرهم الإسلاميون مرهونين ومرتبطين بالقوى العالمية، يضاف إليهما المدنيون من أبناء الطبقات الاجتماعية المتمدنة، الغنية والحاصلة على مستوى تعليمي عال بالذات، التي تملك حساسية من سلوكيات وأنماط عيش وخطابات الإسلاميين، ومع هؤلاء الثلاثة ثمة الأقليات القومية والدينية والمذهبية في مختلف البلدان.

حسب تفسير الإسلاميين هذا، لا شيء يستدعي التفكير، الأمر سهل للغاية: كان ثمة ربيع عربي بدأ قبل عقد من الآن، كان يُبشر ببناء أنظمة ديمقراطية، تحمل الإسلاميين بسلاسة إلى سُدة الحُكم، لكن “تحالف الأشرار” الرباعي هذا، حال دون ذلك، وفقط كذلك!! .

يبدو الأمر وكأنه دعوة مفتوحة لحرب أهلية مفتوحة، أكثر مما هو محاولة لتفسير الوقائع والفظائع التي أطاحت بأشكل الحياة واستقرار المجتمعات في أكثر من بلد عربي، بسبب فشل هذه التجربة السياسية الاستثنائية في تاريخنا المعاصر. الوجه الآخر لذلك التفسير هو لهاث الإسلاميين لتبرأة الذات من المسؤولية التاريخية جراء ما حدث طوال هذا العقد، عبر تقديم وترويج مثل هذه الخرافة الساذجة حول مؤامرة متخيلة.

فالحسابات الموضوعية تقول إن الإسلاميين أولاً هُم من أطاحوا بالمجالات الوطنية لثورات الربيع العربي، هذه المجالات التي كانت انتصراً أولياً ومطلقاً لأبناء هذه الثورات، حينما رسموا في الشهور الأولى لثوراتهم الأفق الموضوعي لتطلعاتهم، كمواطنين في بُلدان مسيجة الحدود والسيادة، يملكون طيفاً من المطالب بحياة أكثر عدالة وحرية في بلدانهم، خارج فضاءات الشعارات الرنانة التي بقيت الأنظمة الشمولية ترددها لأكثر من نصف قرن.

من ليبيا وتونس إلى سوريا، مروراً بمصر واليمن، كان الإسلاميون أول من أطاح بتلك الديناميكيات الوطنية، حينما عملوا منذ البداية كسفارات محلية لتنظيماتهم العالمية العابرة للحدود والمتجاوزة لأية حساسيات واختلافات مطلقة بين بلد وآخر.

هذه الصلافة في السلوك السياسي للإسلاميين أنجبت توأماً من المصائب على الموجة الربيع العربي.

فمن جهة حولته من مسألة داخلية متمركزة حول الصراع بين الشمولية السياسية والقوى المطالبة بالحريات العامة والعدالة الاجتماعية، إلى تراكيب معقدة من الصراعات الإقليمية الصلبة، التي لا قيمة مضافة فيما بينها، سوى الصراع لأجل مناطق النفوذ فحسب.

إلى جانب ذلك، فإن الإسلاميين بخطابهم وسلوكهم الإقليمي العابر للحدود أسسوا لحالة الشك بمآل ومصير الربيع العربي من قِبل النُخب والقوى العالمية، التي صارت تخشى بأن الإسلاميين المتخمين بإرث مناهضة الغرب ثقافياً وسياسياً ورمزياً سيشكلون تحدياً أمنياً وسياسياً له في حال وصولهم للسلطة، الأمر الذي خفف من اندفاعة القوى الغربية لتأييد الثورات المندلعة. وفي وقت ما غير بعيد عن لحظة انطلاق الربيع العربي، صارت القوى العالمية تقارن وتعتقد أن بقاء الأنظمة الشمولية ربما يكون أكثر أماناً من وصول الإسلاميين إلى حُكم البلدان، وإن عبر انتخابات عامة “ديمقراطية”، لكن دون أي احترام أو اعتبار لمجموع القيم الديمقراطية الرئيسية.

على أن كل ذلك كان أمراً يسيراً أمام الخطيئتين الرئيسيتين للقوى الإسلامية خلال عقد الربيع العربي.

الأولى التي مارسها الإسلاميون الذين لم يصلوا لسُدة الحُكم، حينما اجتروا عُنفاً هوياتياً، غارقاً في رموز وخطابات ونزاعات الماضي البعيد، وضامراً لكل أشكال الحرب الأهلية المُقنعة، ضد الأقليات والطبقات المدنية ومؤيدي الأنظمة الشمولية.

عنف الإسلاميين هذا كان مختلفاً تماماً عن أية اشكال من الدفاع عن النفس، التي كان يمكن للمجتمعات المحلية أن تفرزها وتستحصل شرعية ما لها، في وجه الأنظمة الشمولية التي واجهت الثورات بالعنف المنظم، كما في ليبيا وسوريا واليمن. على العكس تماماً، عنف الإسلاميين كان عدمياً ومطلقاً ولا يبتغي حماية الذات فحسب، بل كان منازلة لفرض المُعتقد وتطبيق العقائد ومحق المخالفين، وإن كانوا يتفقون سياسياً مع الإسلاميين على مناهضة الأنظمة الشمولية، لكنهم يختلفون إيديولوجياً وعقائدياً عنهم.

أما الإسلاميون الذين وصلوا للحُكم، فقد لهثوا سريعاً للاستيلاء على كامل الدولة، بمؤسساتها وأجهزتها ومواثيقها، لا سلطتها الحاكمة المؤطرة باستقلال مختلف السلطات وتكاملها حسب الدستور. كانت مصر خلال عام حُكم الإخوان المسلمين شاهداً مباشراً على مساعي الإسلاميين تلك. هذه النوايا والمساعي من الإسلاميين هددت الحقوق الطبيعية للملايين من أبناء الطبقات والجماعات التي لا ترى حامياً لحقوقها وممتلكاتها ومواقعها إلا في الدولة، وتالياً كانوا يعتبرون الإسلاميين خطراً وجودياً على أنفسهم، وبذا إمكانية الولاء لأي شيء، بما في ذلك الأنظمة الشمولية، التي قد تحول دون وصول الإسلاميين للحُكم.

بهذه الأفعال، قدم الإسلاميون للشمولية السياسية في بلدان الربيع العربي أثمن الهدايا، حطموا الثنائية العادية والبسيطة التي بدأ بها الربيع ملحمته: أما الحرية والعدالة الاجتماعية أو الأنظمة الشمولية، حولوها إلى ثنائية أخرى شديدة الوقع على شباب وشابات الربيع العربي: أما الإسلاميون مع بعض الديمقراطية الشكلية أو الأنظمة الشمولية مع حفظ لأشكال من الحياة المدينة.

في الثنائية الأخيرة استعصاء تام، أياً كان الخيار، ولأجل ذلك الاستعصاء بالضبط فشل الربيع العربي، وساد الطوفان.   

قناة الحرة

———————

2010 ـ 2020 عقد اللانهايات الذي لا ينتهي/ سام منسى

يصعب عدم اعتبار سنة 2020 من أسوأ سنوات القرن الحادي والعشرين! صحيح أن البشرية عرفت خلال المائة سنة الماضية الكوارث على اختلافها من طبيعية إلى تلك التي صنعها الإنسان من حروب ونزاعات ومجازر، لا سيما إبان الحربين العالميتين وما تبعهما، إنما بالنسبة للأشخاص الذين لم يعايشوا تلك الكوارث، تعتبر سنة 2020 من أصعب السنوات التي شهدها العالم، وستحمل وصمة التعبير اللاتيني بأنها سنة مروعة Annus horribilis مع وطأة فيروس يتحور ولقاحات تسابقه. فالمشاكل العالقة عديدة ودرجات عنفها متفاوتة ويبدو من المعالجات المتداولة أنه لا ضوء في آخر نفقها يبشر بالحلول المنشودة.

وعلى غرار سنوات العقد الماضي التي يصح وصفها بسنوات اللانهايات، يبدو أيضاً أن سنة 2020 سترحّل مشاكلها المستعرة إلى السنة المقبلة. فعلى صعيد الصحة والبيئة، ما أن توصل العالم إلى اللقاح المنتظر ضد فيروس «كورونا» وبدأت عمليات التلقيح في أكثر من بلد، حتى سبقه الفيروس بتحور جديد شغل العالم وكاد ينسي اللقاح. أما أزمة المناخ فهي لم تصل بعد إلى خواتيمها السعيدة ولا تزال تشغل العالم رغم كل المؤتمرات التي عقدت ومحاولات معظم الدول الحثيثة لمعالجتها. وعلى الصعيد المالي الاقتصادي والاجتماعي، يعاني العالم أجمع من ضائقة خانقة فاقمتها أزمة اللاجئين قبل جائحة «كورونا».

على الصعيد السياسي، نبدأ بأميركا حيث احترام الدستور والقوانين هو قدس الأقداس. فنتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة لا تزال محط أخذ ورد في مناخ غير معهود ينذر بأفول مؤسف لديمقراطية رائدة، إضافة إلى ظهور مشكلة العنف العنصري المستجد تمثلت بأحداث مأساوية وعنف غير مسبوق لرجال الشرطة في بعض الولايات الأميركية ضد مواطنين من أصول أفريقية. أما النزاع الأميركي الإيراني الذي أخذ شكلاً مستجداً مع العقوبات القصوى بعد خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في العام 2018، فهو أيضاً سيرحّل إلى العام 2021 دون أفق واضح لحله.

وفي أوروبا، يطل الاتحاد السوفياتي برأسه مجدداً في نسخة محدثة اسمها روسيا – بوتين ليحتل القرم في محاولات لإعادة هيمنته على الدول التي كانت سابقاً جزءاً منه.

ومن أقصى الشرق وفي البحر الأصفر، ما أن تقترب الكوريتان الشمالية والجنوبية من تسوية مشرفة حتى يعود عداء الإخوة على أشده. وفي هونغ كونغ، تصارع الديمقراطية وهي على الرمق الأخير. وفي أفغانستان، في يوم يزف خبر الانسحاب الأميركي والمصالحة وفي اليوم التالي تسقط التفجيرات مئات المدنيين وأطفال المدارس. وبين باكستان والهند، عدا أهوال العنف الديني والطائفي والعرقي المستعرة، فالحدود بينهما مغلقة على ضيم وأحقاد بعد تعليق جهود التسويات.

أما في منطقتنا فالعقد الأخير كان العقد العربي المعقد، أودت أحداثه بكل تباشير الربيع العربي الموعودة. فسوريا التي تدهورت حالتها من الرقم الصعب إلى المأساة الصعبة، على أرضها خمسة جيوش وشعبها بات شعب شتات ودمر ماضيها وشل حاضرها، حتى أصبح من الصعب تصور مستقبلها. وما تبقى من لبنان الدولة والمؤسسات، تدوسه الأقدام الميليشياوية وغباء قادته وأحقادهم. ونرى العراق يجاهد ليدخل في مدارات الاستقرار وإنهاء المرحلة الانتقالية على خير وطي صفحة الإرهاب الداعشي وعنف الميليشيات المذهبية والولاءات للقوى الخارجية غير المبالية بالمصلحة الوطنية العليا. وفي اليمن الفاقد لسعادته، العمى الآيديولوجي والولاءات المذهبية المسخرة لمشروع التوسع الإيراني، تحول دون الحلول المرجوة.

وفي قضية القضايا أي فلسطين، ينوء السلام تحت وطأة قيادات رافضة لقدومه أو عاجزة عن تحقيقه. إسرائيل تنخرط في انتخابات رابعة علها تصل إلى تمثيل شعبي شرعي لفريقها الحكومي، فيما السلطة تتردد بتجديد شرعيتها في زمن تحديات حركة سلام إن لم تشارك فيها ستتجاوزها. أما تركيا، فالطموح التركي الجامح يفتعل إعادة فتح الجروح بدل بلسمتها مستخدماً مرتزقة وقتلة، من ليبيا إلى سوريا إلى قره باغ.

وكما النزاعات، طُبع العقد الأخير بظاهرة الإرهاب والتطرف الديني وعادت لتطل برأسها على غرار ظاهرة الفيروسات المستجدة بتشكيلات عدة وبعنف منقطع النظير، طال ظلالها دول العالم أجمع.

ليس المقصود من هذا السرد الذي قد يكون مملاً عرضاً لوقائع بقدر ما نقصد القول بأن ما يشهده العالم ليس مسؤولية قادة فاشلين فقط بقدر ما هو مسؤولية مجتمعات تعيش تحوّلات ومتغيّرات ثقافية اجتماعية واقتصادية سلبية أوصلت هذه القيادات إلى الحكم. فمعظم هؤلاء القادة لا سيما في المجتمعات الغربية هم انعكاس لمجتمعات مرفهة ترفض التنازل عما حققته من رفاه ومكتسبات رغم الأزمات والصعوبات الاقتصادية، وباتت من جهة ثانية تعيش في عالم افتراضي متخيل جراء توسع تأثير وسائل التواصل الاجتماعي. ويبدو أنهم يديرون العالم بأسلوب القيادة من الخلف «الأوبامي»، وبعضهم جنح إلى شعبويّات تحمل معها مخاطر جمّة على ما حققته البشرية في العقود السابقة من تطور وتقدم على مستوى الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية.

ورغم أن العالم يبدو منقسماً بين دول ذات نمط يسمى بالديمقراطيات الغربية الحديثة وبين دول تتميّز بأنظمة استبدادية أو شعبوية، ثمة شعور بأن الأولى تنزلق نحو الثانية في ظل أزمة تعيشها ديمقراطياتها، فضلاً عن أن الديمقراطيات ما زالت تقترف خطأ التعاطي مع الدول الشعبوية والمستبدة من خلال مفاهيمها هي وقيمها وعاداتها وثقافتها، وتنسى أن تلك الدول محكومة بآيديولوجيات أو ديكتاتوريين لا ينظرون إلى الأمور بالمنظار نفسه. فالدول المستبدة على غرار إيران لا تنفع معها التسويات الناعمة أو التسويات عبر الدبلوماسية المعتادة بالقفازات البيضاء كما هو جار، ما أدى في نهاية المطاف إلى استعصاء حل النزاعات معها. ويعيدنا ذلك إلى إشكالية الديمقراطية القديمة الجديدة في التعامل مع الديكتاتورية: كيف تستطيع الديمقراطية أن تقضي على الديكتاتورية من دون التخلي عن أسسها وهي حكم القانون وليس حكم الأفراد.

هذه الإشكالية وصعوبة تخطيها جعلت الدول الكبرى النافذة تمل الانخراط بمشاكل العالم وتسعى للخروج منها، كما حصل مع التجربة الأميركية في العراق وأفغانستان وسوريا ولبنان والقضية الفلسطينية التي وصلنا فيها إلى نتائج «ترمبية» فرضت تسويات على الفلسطينيين لا تنصف حقوقهم ولا ترضيهم.

ولعل استمرار النزاعات يكمن أيضاً في كون العالم بأسره منشغلاً بقضايا أكبر وأهم، على رأسها تحديات الاقتصاد المعولَم الذي يُرتب إشكاليات كثيرة على مستوى العلاقات الاقتصادية والدولية، كما مسار العلاقات المعقدة بين الصين وأميركا وروسيا وأميركا على ضوء تنامي الدور الصيني ومحاولات روسيا العودة إلى ما قبل سقوط الاتحاد السوفياتي.

خلاصة القول إنَّ عقد اللانهايات وسنة اللانهايات 2020 شهدا نهاية واحدة مزلزلة هي أفول العالم العربي الذي نعرفه، على أمل أن تمهد السنة المقبلة لعالم عربي جديد بمقدورنا التعرف عليه. ويبقى الأمل منعقداً على انتهاء الأزمات لتعزيز المواجهة ضد تغول إمبراطوري من دول الجوار، يصدر أزماته ويزعزع أمن جيرانه متلطياً وراء حجج مذهبية واهية، وعلى إدراك قيادي عربي جاد لمصالح شعوبه وانفتاح على سياسة واقعية.

الشرق الأوسط

—————————-

بعد عقد مضى .. هل ما زالت الثورات ممكنة؟/ غازي دحمان

مرّ عقد، على العالم العربي، طافحٌ بالأحلام والخيبات، كانت أفراحه قصيرة، لكنها مكثّفة، طوت عار عقود مديدة من الصمت، وحطّمت، إلى الأبد، الصورة النمطية التي اعتاد الآخرون رؤية الشعوب العربية من خلالها، على الرغم من أن الربيع لم يبلغ أوانه بعد، لكنه ظلّ معلقاً أيضاً، فلا الشعوب تريد تجاوزه، ولا الأنظمة أسقطته نهائياً.

حينما اندلع الربيع العربي، أواخر عام 2010، لم يكن لدى الشعوب العربية بدائل أخرى، بل كانت كل السياقات تؤدّي إلى هذا المسار الوحيد الذي شكّل، في نظر الشعوب العربية، وخصوصا فئات الشباب، العتبة الممكنة للعبور إلى الحداثة، والفرصة الوحيدة للخروج من تحت عباءة أنظمةٍ قروسطيةٍ ألهت الحاكم إلى درجةٍ أصبح معها هو الدولة والدولة هو، فيما كانت ماري أنطوانيت تسكن قصور الحكم العربية، وكان الساسة والمستشارون يهيئون النسخ الجديدة لإدامة صيرورة الاستبداد، فما دامت الظروف ملائمة فلم لا؟

في نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة، وقبل هجوم الربيع العربي، كانت النخب الحاكمة في العالم العربي قد تحوّلت إلى هيئاتٍ للنهب الخالص، وراحت تستعرض رفاهيتها على الملأ، وودّعت الحذر، وانفصلت تماماً عن الشعوب التي تحكمها، اتكأت على جبروت أجهزتها الأمنية، وباتت تأنف حتى من التفكير والتخطيط لحكم هذه الشعوب. زهد معمر القذافي بالحكم، وبنوا له خيمة على مشارف الصحراء ليستمتع بمنظر النوق، فيما انصرف بشار الأسد إلى شراء السيارات الرياضية ولبس أحدث ماركات البيجامات والأحذية الرياضية، وفي مصر لم يعد حسني مبارك يجد ما يفعله، بعد سيطرة نجليه، جمال وعلاء، على مؤسسات البلد.

تولّت الأجهزة السلطانية هندسة المجتمعات العربية على شكل أنساق مرتبطة، بطريقة أو أخرى، بمنظومة فساد واسعة، جرى تصميمها بعناية، فالحصة الأكبر للحاكم وأقربائه، ثم الدائرة التي تدير هذه الحصص، وهي في الغالب من المحظيين والمقرّبين، ثم أولئك الذين يشتغلون في مؤسسات تلك العصبة، وأولئك الذين يشتغلون بالوساطة بين هؤلاء ومن هم خارج هذا التصنيف، حتى باتت المجتمعات مجموعة من الطبقات، لها وظيفة محدّدة، تنمية ثروات الفئة الأولى على حساب كل ما عداهم، وخصوصا القاع الذي بات حفرة كبيرة يطحن ساكنيه بدون رحمة. وهكذا، كان الربيع العربي صرخة ألم مدويّة من أولئك المطحونين في القاع، وصرخة الواقفين على شفير الحفرة، وهم كتل كبيرة من الطبقات المتوسطة، وصرخة الشباب ضد مستقبلٍ بدا أنه بل أفق، عدا عن كونه بلا كرامة.

لم تنهزم ثورات الربيع العربي إلا نتيجة تدخّل خارجي حاسم، فقد انهارت الأنظمة في أغلب بلدان العربي، على الرغم من شيك القمع المفتوح على كل أنماط القتل والتعذيب والاستباحة، حتى التي لم تسقط مباشرة ظلت مترنّحة، ولم ينقذها سوى تدخل خارجي استئصالي، استهدف كتلا اجتماعية وسياسية بدون مراعاةٍ لا لقوانين دولية، ولا لأعراف وقيم إنسانية.

وبدرجة معينة، ساهمت حالة عدم الخبرة في إدارة الثورات وقياداتها، والافتقاد للرؤية والأفكار، في انتصار الثورات المضادّة. ويلخّص الدبلوماسي والسياسي المصري، محمد البرادعي، هذه الحالة بالقول، “لم تكن لدينا الأدوات ولا المؤسسات”، في حين لم يكن ممكناً “القفز من ستين عاماً من الاستبداد إلى ديمقراطية كاملة”. ويوضّح “كنا نعلم ماذا فعلنا، ما لا نريده، لم يكن لدينا متّسع من الوقت لمناقشة حتى ما يجب أن يبدو عليه اليوم التالي. كنا أشبه بمن هو في حضانة أطفالٍ عليه الانتقال منها مباشرة إلى الجامعة”.

على الرغم من ذلك، ظل الربيع العربي العنوان الذي تتلهف قلوب الشعوب العربية له، بدليل أنه على الرغم من كل الألم الذي أنزلته قوى الثورة المضادّة وعملاؤها الخارجيون بثورات الموجة الأولى، إلا أن الربيع عاد وازدهر في السودان والجزائر والعراق ولبنان، وأثبتت الأحداث في أكثر من مكان أن الربيع العربي مرشّح للظهور، حتى في بلدانٍ لم يكن قد ظهر فيها سابقاً.

وما حدث أن الثورة في العالم العربي ظلت المسار الوحيد الذي من الممكن السير فيه، للخلاص من الأوضاع الكارثية التي تعيشها الشعوب العربية، والفرصة الوحيدة الباقية لفتح آفاقٍ جديدة أمام الأجيال العربية، بمعنى أن الثورة ستظل بمثابة استثمار للمستقبل العربي، وبوليصة تأمين للأجيال في مواجهة نخبٍ هدرت الثروات العربية، ودمّرت أي إمكانية للنمو والتغيير. ويشهد على ذلك أن الأوضاع العربية باتت سيئةً إلى أبعد حد، وليس لدى الثورات المضادّة وداعميها أي بديلٍ عن الفساد والاستبداد، مهمتها الأساسية قمع أي تطلّع للحرية، لتضمن بقاء هذه المجتمعات تحت قبضتها الأمنية، والأهم جعلها تشعر بتأنيب الضمير على تفكيرها بالثورة في يوم مضى.

الثورة ما زالت ممكنة، بل هي الخيار القادم في عالمنا العربي، فقد استبطنها ملايين الشباب العربي، وهم الآن يعيدون إنتاجها في عقولهم وضمائرهم، لإدراكهم أن التغيير لن يحصل لا بضربة حظ ولا بضربة واحدة. والثورة لا زالت ممكنة، لأنها لم تغادرنا بعد، وإن تمهلت قليلاً. ولعل الوصف الأدقّ للحالة الراهنة ما قالته ليلى سويف أستاذة الرياضيات في جامعة القاهرة ووالدة الناشط المسجون في مصر، علاء عبد الفتاح: إذا كانت “الثورة في اللحظة الحالية مهزومة، فهذا لا يعني أنها ستظل مهزومة”.

العربي الجديد

—————————-

بعد 10 سنوات.. “الربيع العربي” الذي استحال خريفا عاتيا/ نضال منصور

بعد مرور 10 سنوات على ما سُميّ “الربيع العربي” تراودني تخيلات وسيناريوهات، وأتساءل كمنْ يُريد العودة بالزمن للوراء، أو استشراف مسار جديد له، ماذا لو لم يحرق محمد البوعزيزي نفسه في سيدي بوزيد احتجاجا على صفعة تلقاها من شرطية؟، ماذا لو لم يحدث ذلك، هل كان الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي على رأس السلطة في تونس حتى الآن؟

لو لم يفعل البوعزيزي ذلك، هل كانت صرخة المحامي ناصر العويني “بن علي هرب” التي أصبحت “برومو” المحطات الفضائية ليست سوى حلما؟

نفس الأسئلة تدق جدران ذاكرتي، ماذا لو تمسّك الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك بالسلطة ولم يُعلن تنحيه؟، ولم يخرج مدير المخابرات -آنذاك- عمر سليمان ليزف البُشرى للجماهير المحتشدة في ميدان التحرير، هل كنا سنرى مبارك قد ورّث الحكم لنجله جمال؟

وماذا لو كان العقيد مُعمر القذافي أكثر عقلانية ولم يتهم المُحتجين على حكمه بأنهم جرذان، ويُطالب بملاحقتهم في كل “زنقة ودار”، أكان حتى الأن مُعززا مُكرما في خيمته في طرابلس ولم يقتل، ولظل للقمم العربية نكهتها بسخريته والمناكفات التي كان يخترعها؟

ويستمر سيل الأسئلة المتخيلة عن الرئيس اليمني علي عبد الله صالح الذي أشعل النار في بلاده، فلم تنطفئ حتى بمقتله، وعن الرئيس السوري بشار الأسد الذي لو تصالح واعتذر عن مأساة درعا لطوى صفحة حرب أهلية لم تُبقِ ولم تذر؟

رُبما تكون أسئلة موهومة بعد أن تحول “الربيع العربي” إلى خريف عاتٍ، وما حدث كان محتوما، فالغضب الشعبي كان نارا مُضرمة تحت الرماد، هذا إذا ما وضعنا جانبا نظرية المؤامرة المرسومة مُسبقا، والأصابع الخارجية التي رسمت الأدوار وحددت المآلات.

لستُ مغروما بنظرية المؤامرة ولا تستهويني، ولا أدعمها، ولا زلت مُقتنعا أن “الربيع العربي” أجندة وطنية، وما كان ممكنا حدوثه لولا ثورة الغضب الشعبي احتجاجا على غياب العدالة والتهميش وسلطة الاستبداد، وقد تكون الأزمات الداخلية تقاطعت مع رغبات، أو ترقب وغض النظر من أجهزة الاستخبارات الغربية، التي لم تضع فيتو على التغيير، وسهّلت قرار الفرار أو الرحيل لمن كان يعتقد أنه سيبقى أبد الدهر على عرشه.

على كل حال بعد 10 سنوات لا تبدو الصورة مُبشرة، حتى أن مجلة الإيكونوميست البريطانية عنونت تقريرا لها “لا داعي للاحتفال بالذكرى العاشرة للربيع العربي”، الذي خلّف وراءه نصف مليون قتيل، و16 مليون لاجئ، عدا عن حروب أهلية وصراعات لم تضع أوزارها حتى الآن، كاليمن، وسوريا، وليبيا.

تونس قد تكون استثناءً عن المشهد؛ فهي في كل المؤشرات الدولية تحظى بمرتبة متقدمة، وخاصة في المسار الديمقراطي، ورغم ذلك قد يكون الواقع مخالفا ومخادعا، فحتى رمز الثورة البوعزيزي لم يعد يلقى رواجا في بلاده، وتُميط جريدة الغارديان اللثام عن أن عائلته هاجرت إلى كندا، ويذهب ابن عمه قيس البوعزيزي إلى القول “كان لقب عائلتنا رمزا للفخر، لكن الاسم يبدو وكأنه لعنة اليوم”.

مثيرة نتائج الاستطلاع الذي نشرته الغارديان مؤخرا، ففي ثماني دول عربية عاشت الاحتجاجات سواء عامي 2010-2011 أو حتى 2019-2020، ترى الغالبية أن الأوضاع أسوأ عمّا كان قبل الثورات، ففي سوريا يراها 75 بالمئة أسوأ، و13 بالمئة فقط يرونها أفضل، و12 بالمئة لا يعرفون، وفي اليمن الحال ليس أفضل كثيرا والمتشائمون متقاربون فـ 73 بالمئة يرون الحال أسوأ، و14 بالمئة يرونها أفضل، أما في ليبيا فيعتقد 59 بالمئة أن الوضع أسوأ، والسودان 51 بالمئة يجدونه أسوأ أيضا، وحتى تونس فإن النصف 50 بالمئة يُعلنون أن الوضع الحالي أسوأ، وفي العراق 47 بالمئة أسوأ، والجزائر 42 بالمئة، وفي مصر 38 بالمئة يعتقدون أنها أسوأ.

لا توجد كوة للأمل في عيون الناس، فحين سُئلوا بذات الاستطلاع إن كانوا يعتقدون أن مستقبل أبنائهم أفضل بعد “الربيع العربي” كانت الإجابات الساحقة بأن الوضع أسوأ، بدأت باليمن حيث اعتبرها 87 بالمئة أسوأ، والأقل كانت في مصر 41 بالمئة.

إذن الصورة سوداوية لا تؤشر على تحولات حقيقية غيرت في حياة الناس، فشعارات الميادين بالحرية والعدالة لم ينعموا بها، كل ما في الأمر تبدلت أحيانا وجوه الزعماء في السلطة، والأكثر وجعا ما نشره البنك الدولي عن تكلفة الحروب وفرص النمو الضائعة في بعض الدول العربية في السنوات الثمانية الماضية وبلغت 900 مليار دولار.

الثورات لا تُصنع بين ليلة وضحاها، وهذه الصورة غير منصفة لـ “الربيع العربي” بموجتيه الأولى والثانية، والتاريخ يُعلمنا أن الثورات تنهض ثم تنكسر ثم تُعاود التقدم، وهذا المسار ليس خطا بيانيا يتصاعد فقط، وإنما قد يتعثر ويسقط في الطريق.

لا تُقرأ سيرة “الربيع العربي” بعد عقد من الزمان في تجاهل للثورات المضادة التي تقاطعت مصالح أصحابها، واستطاعت أن تُحيل احتجاجات سلمية أذهلت العالم إلى صراعات مسلحة، وحرّفت مسارها حين “عسكرتها” أو “فرخت” داعش؛ لتُصبح “البُعبُع” الذي يُرهب الجميع، فيُصبح الديكتاتور أو الحاكم المُستبد أفضل وأكثر قبولا من تنظيمات إرهابية ظلامية تأكل الأخضر واليابس.

لم يكن “ربيع العرب” هوية واحدة، وإنما فُسيفساء تُعبّر عن تنوع في الرؤى، فالشارع المُنتفض ضد التسلط والفقر والجوع، لم يكن موسوما بلحية وعمامة مثلا، مثلما لم يُحتكر المشهد بصوت الليبراليين والعلمانيين واليساريين والقوميين، بل كان مزيجا ذابت خلاله الهويات الطائفية والجهوية، وتعالت شعارات التنوير في مواجهة الانغلاق، والاستقلالية لهزيمة التبعية.

أخفقت تجربة “الربيع العربي”، والسياقات التي قادت لهذه النتيجة متعددة، هناك من ينظر إلى أن ما حدث مؤامرة حاكتها أنظمة عربية وغربية، وآخرون يرون أن الإخفاق يعود إلى أن التجربة لم تنضج، والهبّات الشعبية لا تكفي وحدها للنصر إن لم تتكئ على قوى مجتمعية مُنظمة.

مقتل الانتفاضات العربية أنها لم تنجح في توظيف إسقاط السلطة الحاكمة لهزيمة الدولة العميقة الراسخة، وفي ربط مشروع الدمقرطة بالعدالة الاجتماعية، وتوفير رغيف الخبز للناس.

لم تُسدل الستارة، فالتغيير الذي حدث قبل عقد من الزمان تكرر حين انتفضت الناس مجددا في الجزائر، والسودان، والعراق، ولبنان؛ فأسقطت رئيسين، بوتفليقة والبشير، وحاصرت رئيسين أجبرتهما على الاستقالة والرحيل في بغداد وبيروت.

رغم المرارة التي تتجرعها الشعوب العربية في ذكرى 10 سنوات مرت على أحلام “الربيع العربي”، فإن الأمل لا يخبو أبدا؛ فالشعوب استدلت على الطريق وكسرت حاجز الخوف، وتملك قدرة على التحشيد لأن الرقابة التي كتمت أصوات الناس ما عادت ممكنة في ظل ثورة الاتصالات والسوشيال ميديا.

“الشعب يُريد إسقاط النظام” ليس شعارا يمكن أن يطويه النسيان ما دام الظلم ساكنا في الشوارع العربية، والسلطة المُتجبرة تدوس على رؤوس الغلابى، والأمل لن يستحيل سرابا حتى لو تهاوت الحواضر العربية، ففي مدينة مُهملة اسمها سيدي بوزيد لا تزال عربة البوعزيزي ماثلة تُذكرنا أن صرخة احتجاج واحدة غيرت الكثير في التاريخ العربي.

قناة الحرة

——————————-

عشر سنوات على الربيع العربي/ رضوان زيادة

مرور عشر سنوات على ثورات الربيع العربي تستحق منا وقفة تأمل، فتونس ربما تكون الاستثناء الوحيد التي نجح فيها التحول الديمقراطي، بينما تمر دول مثل سوريا واليمن وليبيا بمسار صراع مسلح لا تعرف نهايته قريبا، بينما ما زالت الجزائر والسودان تتراوحان في المكان بعد انتخابات رئاسية في الجزائر ومفاوضات للانتقال السياسي في السودان تبدو ناجحة إلى الآن، المحصلة في المجمل لا تدعو للتفاؤل.

بينما لم تقد المظاهرات في لبنان والعراق إلى نتيجة تذكر أو تفلح في تغيير بنية النظام الطائفي المركب هناك، لقد حافظت كل المظاهرات المطالبة بالتغيير في كل هذه الدول على سمة واحدة وهي غياب القيادة، ليس هناك تنسيق بين أطرافها وليس هناك برنامج عمل تعمل عليه، ولا يحق لأحد التكلم باسمها هي صفات مشتركة جمعت كل المظاهرات في دول الربيع العربي في نسخته الأولى أو الثانية، وكان هذا بالتأكيد مصدر قوة لها في الحشد والتعبير عن القوة من خلال الحشود التي لا يستطيع أحد إنكارها أو تخطيها، لكنها وبعد فترة وجيزة لم يستطع الشباب أن يولد من هذه المظاهرات قوة سياسية بديلة أو تقود إلى عمل سياسي منظم له مطالب إصلاحية تفرض على النخب الحاكمة التعامل معها، ولذلك وجدنا أن هذه المظاهرات وصلت إلى أشبه بطريق مسدود وفي وقت مبكر.

ما يمكن استخلاصه إذا، أن غياب القيادة يبدو ملمحا رئيسيا في ثورات الربيع العربي في نسختها الأولى والثانية، وهو بكل أسف حصاد سنوات الديكتاتورية العجاف التي حكمت منطقتنا العربية على مدى عقود طويلة، استطاعت الديكتاتورية إفساد الكرامة الشخصية والنزاهة لكل مواطنيها، لذلك لا يستطيع أي شخص أن يدعي النزاهة كي يستطيع التكلم باسم الجموع فالكل فاسدون والكل غير نزيهيين، وهو ما يطلق عليه انهيار القيم التي تؤسس للسلطة المعنوية والقيمية الرمزية في كل مجتمع، فهناك قناة عامة للشباب أن العمل العام هو طريقة غير مشروعة للإثراء وإلا لن يتقدم أي شخص للعمل العام بهدف المنفعة العامة، مثل هذه القناعة ترسخت على مدى عقود بسبب السياسي والاجتماعي والأخلاقي التي مرت به منطقتنا العربية واليوم نحصد النتيجة انهيار الرأسمال القيمي الرمزي الضروري لبناء الثقة التي هي المدخل الرئيسي للقيادة.

بعد عشر سنوات من بداية شرارة الربيع العربي فشلت معظم دول الربيع كمصر وسوريا وليبيا واليمن في إنجاز عملية التحول السياسي باتجاه بناء نظام ديمقراطي وليبرالي يحقق طلعات الشباب الذي كان في طليعة المظاهرات المليونية الحاشدة التي ملأت شوارع العواصم العربية لقد فشلت دول الربيع في التحول من أنظمة عسكرية أو تسلطية الى أنظمة ديمقراطية وبدلا من ذلك تكاد الدول جميعها تسقط إن لم تكن قد سقطت بالفعل في براثن حرب أهلية من الصعب التكهن بنهايتها أو مخرجاتها التي ستؤول إليها، لقد اصطدمت الثورات العربية بشكل قوي بهياكل مستبدة تعود إلى الأنظمة السابقة مع عدم رغبتها في التحول نحو دمقرطة المؤسسات وإدارة عملية التحول بذاتها كما جرى في مناطق أخرى من العالم كأوروبا الشرقية، بالعكس لعبت هذه الهياكل دورا تدميريا ليس في عرقلة عملية التحول فحسب وإنما في تدميرها، ولذلك انتقلت كل هذه البلدان إلى مرحلة من الفوضى العسكرية وليس السياسية فحسب وهذا ما يفتح الباب واسعا لدخول هذه البلدان إلى الحرب الأهلية لتفتيت بناها الاجتماعية الضعيفة أصلا والمكونة من انتماءات قبلية وطائفية ما قبل دولتية.

في الحقيقة هناك عدة أسباب تفسر هذا الفشل، وتدل عليه، وهذه الأسباب لا تنبع أبدا من خصوصية المنطقة العربية وعدم تشابهها مع مناطق أخرى من العالم وإنما تنبع تماماً من مقومات الدولة العربية الحديثة التي حكمت في تلك البلدان.

إن شكل الأنظمة التسلطية التي حكمت في كل من سوريا وليبيا تعد النموذج الأكثر انغلاقا وشمولية في المنطقة العربية وربما العالم باستثناء كوريا الشمالية، أما اليمن ومصر فشكل النظام التسلطي في عهدي صالح ومبارك كان تسلطيا وتنافسيا بكل تأكيد مقارنة مع سوريا وليبيا، لكنه في الوقت نفسه أخذ سماتٍ عائلية وكان خيار التوريث واردا لولا اندلاع الثورة، كما أنه امتد لعقود طويلة ولذا كان متجها باتجاه تحلل مؤسسات الدولة وأخذها طابعا زبائنيا وعائليا وهو بذلك يفتح الباب باتجاه إضعاف المؤسسات وتقوية الشبكات ذات المصالح الخاصة داخل الدولة وخارجها التي تجعل من وظيفتها استمرار النظام الحاكم بأي شكل من الأشكال ولو على حساب المصالح الوطنية العليا التي غالبا ما تختفي أو بالأصح تصبح محل وجهات نظر متباينة حولها، وتسود وجهة نظر العائلة الحاكمة في تحديدها لمعنى المصالح القومية العليا.

العامل الأخير الذي لعب دورا في فشل عملية التحول في دول الربيع العربي هو الافتقاد الى مؤسسات إقليمية تقود أو على الأقل ترعى عملية التحول كما جرى مع الاتحاد الأوروبي في أوروبا الشرقية، فجامعة الدول العربية مؤسسة تقليدية لا تحكمها مؤسسات ديمقراطية أو قانونية وهي أصلا ليس معنية بدفع هذه الأمور فضلا عن فرضها كوقائع سياسية على الأرض وبالتالي تركت كل بلد من بلدان الربيع العربي يأخذ مسارا خاصا وربما كانت تونس استثناء له مقوماته الخاصة، بينما تبقى دول الربيع العربي الأخرى كسوريا وليبيا واليمن ومصر كي تمر عملية التحول عبر التجريب بالنسبة لنخبها السياسية المعارضة وتكون أكثر صعوبة في تردد المجتمع الدولي في دعم عملية التحول السياسي حتى سمح لعملية التحول هذه أن تنزلق إلى صراع مسلح وربما حرب أهلية، وللأسف تبدو الحقيقة المرة اليوم أن الحرب الأهلية هي الخلف الطبيعي لطبيعة الأنظمة التسلطية التي حكمت بلداننا العربية لعقود طويلة من الزمن.

تلفزيون سوريا

—————————–

معضلة القائد ومؤسسة القيادة في ثورات الشعوب العربية/ أيمن أبو هاشم

يصعب الحديث في تجارب الثورات العربية عن نموذج القادة الكبار، من ذوي المكانة التاريخية والرمزية، الذين التصقت ثورات التحرر الوطني، وحركات التغيير الاجتماعية، في القرن العشرين بأسمائهم من أمثال “مهاتما غاندي – ماوتسي تونغ – هوشي منه – شي جيفارا – كاسترو – مارتن لوثر كينغ – عمر المختار – عبد الكريم الخطابي – سعد زغلول – سلطان الأطرش – جمال عبد الناصر – ياسر عرفات، وآخرون”.

إذ لم نقع -كما يبدو- على من حظيّ/ أو نالوا تلك المكانة، خلال تجارب الثورات والانتفاضات العربية، التي تقف على أعتاب عشريتها الثانية. فيما برز نموذج القائد الميداني ذات التأثير المحلي، وسقط أغلب من جسّدوا ذاك النموذج شهداء على جبهات القتال، أو بأشكال أخرى من عمليات الاغتيال والإزاحة، ومنهم أسماء خلّدت سيرتها البطولية والتضحوية في ضمائر الناس. إذاً في أحسن الأحوال يُمكن الإشارة، إلى واجهات سياسية مُعارضة تصدرت مشهد الثورات، ونادراً ما لقيت قبولاً وتقديراً في المجتمعات، التي دفعت أثماناً باهظة على طريق خلاصها، وهي ظاهرة لم تشغل بال الكثيرين من أبناء الثورات في بدايات حراكاتها، حين كان الرأي الغالب يرى في غياب مكان القائد العام، وشغور موقع هيئة القيادة العليا، نقطة قوة تمنع تمركز القرار الثوري بيد شخصٍ أو أشخاص قلائل، وتفوّت على أجهزة قمع الأنظمة، الفرصة لتصفية الثورة بمجرد الانقضاض على قائدها أو قياداتها الأبرز. عدا تبرم الشعوب العربية من “فكرة الرئيس الأبدي والزعيم الاستثنائي” التي احتكرها حكام أنظمة الاستبداد.

بيدَ أنَّ نقاشاً أعمق حول دور القائد والقيادة، في تدبير شؤون الانتفاضات والثورات العربية كان ينطلق من فكرة بناء المؤسسة القيادية، التي تعكس الجوهر الديمقراطي لثورات شعبية، يفترض أنها تجاوزت المفهوم الكلاسيكي للقائد الفرد، وعليها أن تقدم نموذجاً مؤسساتياً، تلتزم فيه الهيئات القيادية، بإدارة مراحل الصراع مع الاستبداد، ومُستحقات الانتقال السياسي، وفق محددات ومطالب قوى الثورة، لا وفق رؤى واجتهادات سياسية معيارية.

مع طول الدروب الوعرة التي خاضتها ثورات الشعوب، كشفت تحولات ومسارات التغيير في التجارب العربية، عن فشل متتالي ومزمن في إنتاج مؤسسات قيادية، تجسد مبادئ الاستقلالية الوطنية، ودمقرطة العمل الجماعي، وتُجسّر المسافة بين أهداف الثورات وأدائها الأقرب لتحقيقها. في مقابل ذلك نشأت نُخب سياسية استمدت أدوراها في قيادة الثورات، من توافقات داخلية بين تكتلات وقوى سياسية محدودة التأثير الشعبي، أقامت مؤسسات تمثيلية على نزعات المحاصصة فيما بينها. فيما استعاضت تلك النُخب كلما تآكل رصيدها من الشرعية الثورية، بإعادة نسج أدوارها على نول القوى الخارجية، والدخول في لعبة المحاور الإقليمية والدولية، حتى لو كان المردود اختطاف قرار الثورات، وانحراف سياقها التحرري.

مقاربات المعضلة في الممارسة

لم تكن نُخب المعارضة السورية، التي أحكمت قبضتها على مؤسسات الثورة، المثال الحصري على بؤس مؤسسات القيادة التمثيلية في الممارسة الواقعية، فقد شهدنا أمثلة أخرى على نظائرها في التجربتين اليمنية والليبية، ومستويات القصور الفادح في مؤسسات الحكم الانتقالي، التي فشلت في إنقاذ البلدين، من لهيب الصراعات الداخلية التي ألمّت بهما. فيما لاحظنا من مقلبٍ آخر، درجات الارتباك والتعثر في التجربتين اللبنانية والعراقية، اللتان لم تفلحا في استيلاد هيئات قيادية ذات طابع تنسيقي، تتولى إدارة وتوجيه الحراك الشعبي في تلك التجربتين. ليس بعيداً أيضاً عن المحصلات البائسة تلك، ما يتحمله الاخوان المسلمون في مصر، من أخطاء وقصور في الرؤية خلال قيادتهم إدارة المرحلة الانتقالية بعد الثورة، وما تتحمله القوى الديمقراطية التي انخرطت في الثورة بمختلف تياراتها، من مسؤولية كبيرة حين صمت بعضها عن الانقلاب العسكري، وأيده بعضها الآخر، مع أن الانقلاب لم يستهدف فحسب تصفية الإخوان المسلمين، بل ضرب الشرعية الدستورية عرض الحائط، وقطع مسار التحول الديمقراطي في مصر بصورة مأساوية.

أما التجربة السودانية، التي تشاركت فيها قوى التغيير المدنية مع طبقة العسكر وجنرالاتها النافذين، لإنجاز مهام الانتقال السياسي الآمن، فإن الحقائق الأولية تشير إلى استعادة هيمنة العسكر على مفاصل القرار السوداني بعد الثورة، وبروز نزعة للمساومة والمراوغة من قيادات التغيير المدنية، على حساب استقلالية السودان واستعادة قراره السيادي الحر. لعل الضغوطات التي مارسها عسكر السودان، لتمرير قرار التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، دليل يؤخذ بالحسبان على مأزق القيادات التي تُصعّدها الثورات، واتساع الفجوة بين علاقتها بمطالب الناس، وما يمليه عليها منطق الدولة المُقيدة بقفازات السلطة الفعلية.

تبقى المقاربة التونسية رغم الأزمات الحزبية الحادة، التي تهدد استقرار مؤسسات الدولة بعد الثورة، الأفضل نسبياً من غيرها، بحكم أن النخب التي تقود تلك المؤسسات، لازالت تدير خلافاتها السياسية، ضمن آليات ديمقراطية، تضبط إيقاع المشهد السياسي، بدواعي الخشية من تداعيات انفلاته، على بلد لا يحتمل ما حلّ بجيرانه. تختلف بهذا المعنى المقاربة الجزائرية من أوجه عديدة، لا سيما أن حركة الشارع المطلبية ونشطائها المؤثرين، لازالوا ينظرون بعين الريبة لتحالف الجيش مع مؤسسة الرئاسة، ولكنهم يراهنون من موقع الضاغط الحذر أكثر من ترجيح المواجهة المفتوحة، على تغييرات تدريجية في بنية السلطة، بدلاً من المخاسر الكبيرة في حال مواجهتها، والتي قد تؤدي إدخال الجزائر في نفقٍ مظلم لا تُحمد عقباه.

 في مأسسة مفهوم القيادة

تطرح تلك الأمثلة ومقارباتها المختلفة، معضلة القيادة في زمن التحولات العربية الكبرى، وفي ظل متغيرات مفهوم القيادة، ومواصفات القادة في الفكر السياسي الحديث. إذ لم يعد ممكناً تناول مسألة القيادة ببعديها الفردي والجماعي، دون إقرانها بمفهوم المؤسسة القائدة بمختلف مستوياتها، والتي لم يعد دورها الأساسي حكراً على الدول الديمقراطية المُستقرة، بل أصبحت ضرورة لتحقيق الحكم الرشيد على مستوى الدول عموماً. غير أن شرعية ومواصفات القيادة كمؤسسة في تجارب الثورات العربية، ما يثير مشكلات وتحديات من نوع آخر، تفرضها أزمة القيادات كمعضلة حادة، سواء على صعيد شرعيتها التمثيلية المهدورة، أو أدائها غير المطابق للمشاريع التحررية التي تدّعي مسؤولية الدفاع عنها. في خضم البحث عن معالجات عقلانية لتلك المعضلة، التي باتت تهدد فعلياً مصير الثورات ومشاريعها في غير مكان، تبرز وجهات نظر مختلفة، منها من ينتظر القائد المُنقذ الذي طال غيابه، والذي يتوفر بشخصه مواصفات استثنائية، تُمكّنه بزخم حضوره الكاريزمي من حل المعضلة. ومنها من يدعو إلى تصحيح مقولتي الشرعية والتمثيل، من خلال تبني شرعية الإنجاز معياراً حصرياً لمن سيحظى بموقع القيادة الموثوقة والمؤتمنة، وطروحات أخرى تنطلق من ضرورة بناء مؤسسة القيادة، بالتعويل على رسوخ ثقافة العمل الجماعي بين المنضوين فيها. يغيب عن أصحاب وجهات النظر تلك على اختلاف تنويعاتها الحقائق التالية:

الحقيقة الأولى:

الحفاظ على الطابع الشعبي للثورات والانتفاضات، وتثمير كفاحها على كافة الصعد، يقتضي وجود قوى وتيارات سياسية، متفارقة في بنيتها التنظيمية والحركية، عن الأحزاب والأطر التقليدية التي انخرطت في الركب الشعبي للثورات، وكانت عبئاً عليه بدلاً من التصدي لدورها في حشد طاقاته وتنظيم جهوده.  الرد على فوات وعطالة تلك الأحزاب، بنشر ثقافة التبرؤ من الصيغ التنظيمية للجماعات السياسية، أفضى إلى تجفيف أحد أهم المصادر الحيوية في تصعيد قيادات مؤهلة، لديها المواصفات والخبرة لتولي مهام قيادية. ذلك أن تشكيل جماعات سياسية ” أحزاب – تيارات – تحالفات جبهوية ” لديها بنى حيوية ومنظمة، وامتداد مجتمعي وبرنامج وطني فاعل، هو المختبر الحقيقي في صقل شخصيات قيادية مُجربة. فالقيادات لا تصنعها المصادفات التاريخية، ولا الرغبات المثالية، ولا منطق المحاصصة في مؤسسات فوقية لا صلة لها بالواقع.

الحقيقة الثانية:

دون تأطير النشاط المدني على اختلاف ميادينه: الحقوقية والإنسانية والإعلامية والنسوية والتنموية.. الخ، في سياق وطني حاضن، للمبادرات الفردية والجماعية، سيتواصل تجفيف المصدر الحيوي، الذي تمثله تلك القوى المدنية، وأهميتها في رفد التنظيمات السياسية بقيادات وكوادر، امتلكت كفاءات تخصصية، ومعارف حداثية، وخبرات تقنية، تعزز من فاعلية وتأثير أية مؤسسة حزبية أو سياسية، في زمن مُتغير بات يطبع عالم السياسة، كعلم قائم بذاته وبصلاته بالعلوم الأخرى. يمتحن قدرات الخائضين في حقوله، بما يمتازون به من فكر وثقافة وخبرة وتخصص في مجالات متنوعة، تُحاكي لغة العصر الحديث، بما يحقق استنهاض مجتمعاتنا، ووضعها على سكتي التحرر والتقدم، من خارج الإيديولوجيات الحزبية المغلقة، التي لم تنتج سوى قادة عالقون بين تجارب الماضي، وفشل التعامل مع تحديات الحاضر والمستقبل

الحقيقة الثالثة:

توفير ديناميات التوازان في مفهوم وممارسة المؤسسات القيادية، بين قدرات الشخصية القيادية، ومواصفاته المعرفية والتحليلية، ومرجعية المؤسسة ككيان جماعي يرسخ علاقات الثقة بين أعضائه، ويضع محددات العمل الجماعي من منظور تكاملي. يتوقف هذا التحدي على احترام التقاليد الديمقراطية، التي تمنع تغول الفرد على المؤسسة، وتحول دون اختزال شخصية الفرد في إهاب السطوة الكلية للجماعة.

الحقيقة الرابعة:

تحرير الحياة السياسية من طابعها النخبوي، وهي أولوية مهام الجماعات السياسية المهجوسة بمشاريع التغيير والنهوض، من خلال التصاق برامج التشكيلات السياسية بالبيئات المحلية، وفحص أدواتها التنظيمية، ومدى ملاءمتها في الممارسة العملية، على تنشيط دورة الحياة السياسية في أوساط تلك البيئات. ما يطرح على عاتقها التصدي لأسئلة مفصلية حول أسباب ابتعاد الشباب والمرأة عن الانخراط في العمل السياسي؟ وكيفية الانتقال من الفكرة المتوترة حول صراع الأجيال، إلى لوازم تكامل الأجيال في مسؤولياتهم وأدوارهم المجتمعية والسياسية؟ إلى الإجابة عن سؤال إعادة صوغ رؤية وطنية عامة، تقوم على إحياء أطروحة الثورة، بعد كل التشوهات والانحرافات التي أصابتها، باعتبارها خشبة الخلاص لكل أبناء الوطن ..؟.

الحقيقة الخامسة والأخيرة:

اندلعت الثورات والانتفاضات العربية في منطقة، كانت محكومة بأن تبقى أسيرة الاستبداد السلطوي، وتحت هيمنة القوى الخارجية الطامعة، ومن استخف بتلك الحقائق وتعقيداتها التاريخية، التي تفسر ضراوة الصراع بين قوى الحرية وأعدائها النافذين والكُثر، ومن توهمَ أن خلاصها سيتوقف، على من أغرقوها في دوامة الحروب والدمار والفساد. يستحيل باستخفافه وأوهامه أن يكون عنواناً لمشاريع تحررها الحقيقي، فكيف أن يكون في موقع قيادة ثوراتها !!. ليس بأمثال هؤلاء تسير الثورات، على خطى ثابتة نحو نيل حقوق الشعوب. ما يدعو بإلحاح إلى إحداث تغييرات عميقة، في ذهنية وموروث مجتمعاتنا، المُثخنة بتصورات غيبية عن القائد المُلِهم، وفي توليد جماعات سياسية ومدنية وثقافية، تسهم في تصعيد قيادات مخلصة وواعية، ولديها أفكار تجاوزية مُبتكرة، تضمها مؤسسات قيادية موحدة، تخضع للرقابة الشعبية والداخلية، وتجدد نفسها بآليات التداول الديمقراطي، وتتموقع تلك المفاهيم والقيم في مكنون أدائها. ويكون قائدها الأول، المايسترو الذي يستجمع طاقاتها الغنية، من مختلف الصفوف والهيئات والمستويات، ويضبط مواقفها وتوجهاتها على إيقاع المصلحة العامة، فترقى إلى مؤسسات جديرة بمن تمثلهم، وتدافع عن حقوقهم ومصالحهم، فتكون على قدر القضايا الكبرى التي تحملها.

سيريا برس – أنباء سوريا

————————–

قراءة الثورات والاحتجاجات العربية .. بعد عشرة أعوام/ عصام شعبان

بعد عشر سنوات من الثورات العربية، ومع اندلاع موجة جديدة من الحراك الشعبي، شملت السودان ولبنان والجزائر والعراق، يعاد طرح أسئلة عديدة، ارتبطت بالحراك، منها الموقف من الثورات، وتحاول كل جهةٍ تعميم وجهة نظرها، والحديث باسم الشعوب، وغالبا ما تحلّ محلها، من دون وجود قياسات رأي، أو استطلاعاتٍ تخرج بمؤشّرات دالة، يمكن الاستناد إليها. وفي هذا الإطار، تأتي أهمية مؤشّر قياس الرأي لعام 2019/2020 (صدر أول أكتوبر/ تشرين الأول عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، والذي يتناول بين مؤشّراته الموقف من الاحتجاجات الشعبية. وقد شمل المؤشّر عينةً ممثلة، قوامها 28 ألف مستجيب من 13 دولة، وقام عليه 900 باحث (نصفهم من النساء)، واستغرق 69 ألف ساعة عمل، واعتمد على المقابلات المباشرة، على خلاف استطلاعاتٍ سابقة، محدودة العدد، وتعتمد على الاتصالات الهاتفية، ما يجعل المؤشّر فرصةً لفهم اتجاهات الرأي العربي، وإنْ كان مفيدا لجمهور الباحثين متنوعي التخصصات، سيما العلوم السياسية والاجتماعية والأنثروبولوجيا، فإنه مفيدٌ، وربما بقدر أكبر، للمنخرطين في المجال العام، فضلا عن شاغلي مواقع اتخاذ القرار، لما يحمله من دلالاتٍ تشكل فرصا وإمكانيات، أو ما يؤشّر على أزمات ومخاطر.

وفي ما يلي قراءة لمواقف الشعوب من الثورات العربية في ضوء مخرجات المؤشّر، مع تحليل لعلاقات الجدل بين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وتأثيرها في القابلية للحراك، وكذلك مستوى متابعة الاحتجاجات الشعبية وتأييدها، وعلاقتها بالمشاركة السياسية.

تقييم الرأي العام للثورات العربية 2011

مثلت اتجاهات الرأي العام نحو الثورة سؤالا مهما للبحث، بل والصراع بين قوى الثورة والثورة المضادّة، والتي ما زالت تصوّر الانتفاضات الشعبية بأنها مؤامرة بين خونة في الداخل ومسيّرين لهم في الخارج، وهدف هذا التعميم إلى طمس الثورة من ذاكرة المنتفضين، وهزّ ثقة المنتفضين وقوى الثورة في أنفسهم وقدرتهم على الفعل والتأثير، وإنْ كان في وسع قوى “الثورة المضادّة” نفي الثورة التي تسميها أحداثا أو مؤامرة أو حروبا حديثة لنفتها، ولكن مجتمع المعرفة الذي أتاحته التكنولوجيا يصعّب مهمتها، وإعادة صياغة التاريخ بسهولة كما عصور سابقة.

أظهر المؤشر خلال تقريره 2019 /2020 أن هناك 58% يقيمون الثورات العربية بشكل إيجابي، مقابل 28% بشكل سلبي، بينما كان المعدل العام خلال 2011 يشير إلى قياس مقارب، قيم 59% الثورات العربية ما بين إيجابية جدا وإيجابية إلى حد ما. أما على مستوى تقييم المستجيبين من مواطني الأقاليم العربية، فكان إقليم وادي النيل الأعلى في تقييمه الإيجابي للثورة 75% (تراوح ما بين إيجابي جدا وإيجابي إلى حد ما) يليه إقليم المغرب العربي، والذي قيم 60% من مواطنيه الثورات بالإيجابية، وهو ما يشير إلى أن تقييمات الإقليمين يتخذ فيها ما يسمّى بالتيار العام المؤيد للثورات والاحتجاجات الشعبية مساحةً كبيرة، وجزء من هذا التأييد يرجع إلى ما شهدته دول الإقليمين من ثورات شعبية ذات مشاركة شعبية كثيفة في كل من مصر والسودان (إقليم وادي النيل) وتونس والجزائر، غير احتجاجات واسعة في المغرب (إقليم المغرب العربي)، ويأخذ في الاعتبار خصائص الإقليمين، من حيث مؤشّرات العدالة والمساواة والظروف الاقتصادية والاجتماعية.

أولوية الأسباب الاقتصادية للثورات والانتفاضات

في ما يخص أسباب انطلاق الثورات، سيطرت أسباب الفساد (31%) والأوضاع الاقتصادية السيئة (16%) على أعلى الدرجات دوافع للثورات، وبلغ مجموعها 47% من إجمالي أسباب الثورة. وإذا أضيفت إليها أهداف إنهاء الظلم وتحقيق العدل والمساواة والكرامة فستصل إلى 60%، ما يعني غلبة قضايا اقتصادية واجتماعية على أسباب الثورة ومطالبها، بجانب أسباب سياسية؛ إنهاء الديكتاتورية (16%)، وتحقيق الديمقراطية (3%) وانتزاع الحريات (6%)، أي أن المطالب السياسية تقارب 25% أسبابا للثورة، وإن كانت تشكل العوامل الاقتصادية والاجتماعية غلبة على أسباب الحراك، فإن الفصل بين المطالب السياسية والاقتصادية غير ممكن، إلا أنه يؤكّد على تراتب أولويات ومطالب تؤثر في الاختيارات والسلوك والوعي السياسي، وتفسّر، في جانب آخر، بعض الظواهر السياسية بعد الثورات، فضلا عن أنها تعطى وزنا نسبيا إلى العوامل الاقتصادية أسبابا مستقبلية للحراك الاحتجاجي، وتؤشّر على احتمالات اندلاع انتفاضات شعبية جديدة، أو تجدّد الحراك في بعض بلدانٍ شهدت حراكا احتجاجيا شعبيا، وهو الاحتمال الذي تكرّر على الأقل في السودان والجزائر والعراق ولبنان منذ 2011 وحتى 2020 بشكل واسع. وفي المغرب والأردن بدرجة أقل، وإن كانت تشير البيانات الاقتصادية بالدولتين إلى احتمالات تجدّد الحراك، وإن كان النظامان يحاولان استيعاب قوى الحراك من خلال آليات المشاركة السياسية، سواء عبر الانتخابات أو المشاركة في تشكيل الحكومات، وبالأخص تجربة المغرب، والتي خلخلت الحراك الذي تصاعد مع 2011 ثم تجدّد، في مراحل لاحقة، في مناطق تتسم بالتهميش وندرة فرص التشغيل.

واقع الثورات العربية ومستقبلها

أوضح المؤشّر أن هناك انقساما حول مآلات الثورة ومستقبلها، رأى نحو 48% أنّها تمر بمرحلة تعثر، إلّا أنّها ستحقق أهدافها في نهاية المطاف، بينما رأت نسبة 30% أن الثورات هزمت وانتهت، وأن الأنظمة السابقة عادت إلى الحكم في بعض بلدانها. ولا يعكس هذا الاتجاه تقييما لحال الثورة وحسب، ولكنه يؤشّر، في جانب منه، إلى قناعة لدى بعضهم أن أهداف الثورة تنتظر التحقق. ويؤشّر هذا، في جانب منه، إلى أن بعض المستطلعة مواقفهم يستشعرون أن هناك قوى اجتماعية وسياسية ستكمل تحقيق أهداف الثورة، متخذة ما يلزم ذلك، بينما من يرى أن الثورات هزمت ربما يكون أكثر إحباطا، وأقل تقديرا لاستعادة قوى اجتماعية وثورية دورها، بعد عشر سنوات بعد اندلاع الانتفاضات العربية، خصوصا في بعض الدول التي شهدت انقسامات وصراعات سياسية حادّة بعد الثورات، كما حدث في تونس ومصر، وإن كانت الصراعات في تونس ما زالت محكومةً بأطر ديمقراطية، بينما مصر فإن أغلب مكوّنات قوى الثورة فيها ما بين الحصار أو العقاب سجنا ونفيا، غير ما لحقها من مشهد تشظٍّ. وبالنظر إلى الأقاليم العربية، يظهر أن إقليم وادي النيل الأكثر تأييدا لمقولة أن الربيع العربي متعثر، إلا أنه سيحقق أهدافه بنسبة 59% بينما يرى 40% من مواطني المشرق العربي أن الثورات انتهت وعادت الأنظمة السابقة إلى الحكم.

الموجة الثانية من ثورات العرب

حظيت الثورتان، السودانية والجزائرية، بتأييد عربي واسع، كشف عنه المؤشّر، أيد ثورة الجزائر 71% من مواطنيها المستجيبين للاستطلاع، وتلا ذلك تأييد واسع لثورة الجزائر من محيطها بدول إقليم المغرب العربي، يؤيدها (62%) من مواطني تونس، (66%) في المغرب. وكانت فلسطين، وبحكم محطات وعلاقات تاريخية تجمعها مع الجزائر، ثالث أكبر شعب مؤيد للثورة (64%)، وجاء السودان الدولة الخامسة بين مواطني الدول الأكثر تأييدا لثورة الجزائر (58%).

بحكم عوامل، منها تزامن الحركة الاحتجاجية في الشوارع في الدولتين، كما كان ملفتا أن يتركز المعارضون لثورة الجزائر في منطقة الخليج بنسب تتراوح ما بين 20% و25% تشمل قطر والكويت والسعودية، وغريب أن يعارض 25% من مواطني الأردن ثورة الجزائر، على الرغم مما يعانيه مواطنوه من ظروف اقتصادية صعبة، غير حدوث احتجاجاتٍ شعبيةٍ متعلقةٍ بالسياسات العامة ومستوى المعيشة في الأردن ليس آخرها مظاهرات المعلمين، وكانت نسب معارضة المواطنين لثورة الجزائر هي الأقل في الجزائر بطبيعة الحال (6%) تليها مصر (8%) ثم لبنان (9%).

إضافة إلى ذلك ملفت أن تكون نسب من رفض الإجابة أو أجاب بخيار (لا أعرف) مرتفعة للغاية، وصلت في السعودية إلى 62% تليها قطر 49%، ثم مصر 47%، الأمر الذي قد يفسّر في إطار تخوّف من تحديد موقفٍ في ظل عدم متابعة جيدة للحراك، أو عدم القدرة على تحديد موقفٍ حاسمٍ نتاج تجارب سابقة من متابعة لثورات الموجة الأولى، وقد يكون تحفظ بعض مواطني الخليج نتاج استقرار أوضاعهم الاقتصادية، وعدم الميل إلى تأييد هذا النمط من الحراك، ويدلّ على ذلك مؤشّر انخفاض التأييد العام في إقليم الخليج لثورتي السودان والجزائر.

دول الحراك مؤشّرات ورؤية مقارنة

كان المعدل العام لتأييد ثورة الجزائر بين المستجيبين بالوطن العربي 49% مقابل 17% يعارضونها، و34% رفضوا الإجابة أو إجابتهم كانت بعبارة لا أعرف. وبالمقارنة بثورة السودان نجد أن نسبة التأييد لها متقاربة، حيث كان المعدل العام 47% مقابل 14% معارضين لها، و39% رفضوا الإجابة أو أجابوا بخيار لا أعرف. ما يعني أن مساحة عدم اليقين واتخاذ موقفٍ من الثورتين واسعة، وربما يرجع جزءٌ منها إلى ضعف متابعة الحراك، أو ضعف التغطية الإعلامية في بعض الدول، غير أن اهتمام المواطنين بالموجة الثانية من الاحتجاجات، قياسا بثورتي مصر وتونس أقلّ، حيث حظيت مصر وتونس، بمتابعة واسعة، فضلا على عقد آمال كبيرة عليهما من حيث تحقيق التغيير.

كان تأييد ثورة السودان بين مواطني الدول العربية مغايرا لترتيب المؤيدين لثورة الجزائر، فأكثر خمس دول يؤيد مواطنوها ثورة السودان هي السودان (81%) ثم الكويت (63%)، وهي الدولة الأكثر تأييدا في إقليم الخليج، وثالث كتلة مؤيدة في فلسطين بنسبة 61% تليها مصر بنسبة 60% ثم موريتانيا بنسبة 51%، وهي أيضا نسبة تأييد مواطني موريتانيا ثورة الجزائر.

وفي ما يخص موقف مواطني الدول التي شهدت انتفاضات وثورات خلال عامي 2019-2020، أوضح المؤشر العربي أن أغلبية السودانيين تؤيد الثورة بنسبة 85%، وهي النسبة الأكبر مقارنة بباقي دول الحراك (السودان، الجزائر، لبنان، العراق)، بينما أيد 82% من العراقيين الاحتجاجات الشعبية في بلدهم، بينما كانت نسبة الجزائريين المؤيدين للحراك في بلدهم 71%. وكان لبنان هو الأقل بين دول الاحتجاج، من حيث تأييد مواطنيه للحراك (67% مؤيدون). ويرجع ذلك، في الغالب، إلى أن الاحتجاجات التي اندلعت ضد الفساد والطائفية تشهد انقساما مرتبطا بالبنية الطائفية ذاتها، وأن الحراك لم يستطع تجاوز تحدّي الطائفية، ليخلق مشهد تأييد واسع، كما في حالة ثورتي السودان والجزائر، بالإضافة إلى أن مكوّنات الحكم في لبنان، والتي تربط مصالح فئات وتيارات سياسية معها مؤثرة في الرأي العام، بحيث يعارض 31% الحراك، وهي النسبة الأكبر لمواطني دول الثورات من معارضي الحراك في بلدانهم بالمقارنة بالنظام العراقي، والذي تأسّس على بنية أسست لطائفية سياسية، كان الدستور مصدرا لها، إلا أن نسبة المؤيدين للحراك أعلى من لبنان، والمعارضين للحراك العراقي أقل، حيث لم تتجاوز 16%، كما أن هناك ثمّة اختلافات بين حراك العراقيين واللبنانيين، منها أن الحراك العراقي جاء بعد موجات احتجاجٍ متكرّرة في عدة مناطق، منها مظاهرات واسعة النطاق منذ 2011 غير أن مستوى التقسيم والتباين السياسي في العراق كان أقل تأثيرا، من حيث تكوين كتلة معارضة للحراك، وكان الشعار الغالب “نريد وطناً”، بينما جزء من حراك لبنان الرافض للطائفية ارتبط أيضا بأسس طائفية. ويعد معارضو الحراك من مواطني السودان (5%) والجزائر (6%) هم الأقل نسبة قياسا بالمواطنين المعارضين للحراك في لبنان (31%) والعراق (16%).

تأييد الثورات ليس شرطا للمشاركة في فاعليتها

كما ليس بالضرورة أن يكون تأييد الحراك مشمولا بالمشاركة فيه، وهذا ما تشير إليه قراءة الفروق بين نسبة المؤيدين والداعمين للحراك ونسبة المشاركين في المشهد الاحتجاجي، أي أننا يمكن أن نستنتج أن المشاركة في الأعمال الاحتجاجية من تظاهراتٍ واعتصاماتٍ وإضراباتٍ ومواجهاتٍ محكومة بعوامل عدة، منها القدرة على المشاركة في أماكن الاحتجاج، وتناسب أشكال الاحتجاج مع جمهور الثورة وقواها الاجتماعية المؤيدة لها، غير نسب الانتماء سياسيا ومدى العلاقة والقرب من شبكات التعبئة للاحتجاج، غير طبيعة مناطق وبؤر الاحتجاج، وما يتعلق بإمكانات المشاركة النشطة جغرافيا وثقافيا وعمريا وديمغرافيا، أي أن تأييد الحراك ليس شرطا وحيدا للمشاركة في فاعلياته، فعلى الرغم من التأييد العام للثورة السودانية، إلا أن هناك 37% هم من شاركوا فعليا في الاحتجاج. وفي العراق شارك 15% من ضمن المستجيبين للاستطلاع، على الرغم من أن الحراك أيده 82% من المواطنين، وهذا لا يلغي بالتأكيد احتمالاتٍ أخرى ترتبط بطبيعة العينة من حيث العمر والانتماء والموقع الجغرافي ونسب الأخطاء المتعارف عليها في مقاييس الرأي العام.

على مستوى آخر، يمكن تفسير انخفاض مستوى المشاركة في الاحتجاج، بالتزامن مع قراءة مؤشرات المشاركة السياسية بالأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، فضلا عن فاعلية المنتسبين إلى الأحزاب والجمعيات، وهي أحد أطر المشاركة السياسية والاجتماعية، ويمكن تبيّن ذلك من مؤشّرات قياس الرأي العام حول موضوعين أساسين، هما مدى اهتمام المستجيبين بالشؤون السياسية في بلدانهم، ونسبة المنتمين للأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني. في ما يخص المهتمين بالشأن السياسي، أظهر المؤشر انخفاضا نسبيا كمعدل عام خلال الأعوام من 2011 إلى 2020 فكانت النسبة تتراوح ما بين 12% إلى 15% مهتمين جدا وتراوحت نسبة المهتمين 25% إلى 32%، أي أن مجموع المهتمين بالشأن السياسي أقل من النصف، مع الأخذ في الاعتبار التفاوت ما بين الأقاليم العربية، وكان المعدل العام للمهتمين بالشأن السياسي خلال عام 2020 ما يقارب 42%، مقسمين ما بين مهتم جدا (12%) ومهتم (30%).

المؤشّر الثاني المعبر عن محدودية المشاركة مرتبط بنسب المنتسبين والفاعلين في الأحزاب والجمعيات الأهلية، حيث دلّ المؤشّر على محدودية المنخرطين في منظّمات مدنيّة وأهلية (15%)، غير أن نسب الفاعلين منهم محدودة. وأكبر كتلة من المواطنين المنتسبين إلى مجموعات وهيئات، تنتمي إلى النقابات المهنية والعمالية والزراعية ( 22%)، وإذ ناقشنا علاقة النقابات بالحركات الاحتجاجية، فإن أدوارها متفاوتة في البلدان العربية التي اندلعت فيها الاحتجاجات، ولعبت بعض النقابات دورا محفزا للحراك وكأطر للتعبئة في بعض الدول، إلا أن أغلبها لعب دورا سلبيا بتأييد نظم الاستبداد والسلطوية، ففي مصر والسودان، حشدت نقابات عمالية ومهنية ومنظمات نوعية (شبابية ونسوية) رسمية قوتها لتأييد النظم وكانوا أدوات الثورة المضادة، سواء في فترة اندلاع الحراك أو المرحلة الانتقالية، وفي المغرب هناك انقسام نقابي يقابله انقسام سياسي، وباستثناء الاتحاد العام للشغل في تونس وتجمع المهنيين بالسودان (تنظيم غير رسمي) لم تلعب النقابات المهنية والعمالية دورا ملموسا في دعم الثورة.

وإذ أخذنا في الاعتبار مستوى المشاركة السياسية الضعيف، فإنه يمكن فهم الفارق بين تأييد الثورة والمشاركة فيها، ويعتبر الانتماء السياسي بالوطن العربي هو الاستثناء، على الرغم مما سمحت به الثورات من انفتاح المجال العام، إلا أن ضعف البنى السياسية والنقابية في توسيع أطر حركتها لم يسمح بتحقيق مشاركة تتصف بالحيوية والتوسع، بل انحسرت مع انحصار موجة الثورات، وعادت إلى مستوى أقل. يوضح مؤشر قياس المشاركة السياسية أن غير المنتسبين لتيارات سياسية وفكرية، ولا يرون أن هناك تيارات سياسية تمثلهم، يشكلون (61%). ويمكن هنا ربط المؤشر السابق بمؤشّر قياس نسبة المهتمين بالشأن السياسي، والذي أظهر أن 42% يهتمون بالشأن السياسي من بينهم (12% مهتمون جدا، و30% مهتمون).

وعلى الرغم مما يبدو أنه تناقض بين نسب مرتفعة من المؤيدين للنظام الديمقراطي، بما فيه المشاركة وضمان الحريات السياسية، والمنتمين إلى الأحزاب والتيارات الفكرية السياسية، إلا أن ذلك يرجع، في جانب منه، إلى عجز البنى السياسية عن توظيف إمكانات المواطنين وطاقاتهم في أطر سياسية فاعلة وقوية، واستثمار ميلهم إلى الديمقراطية، ويدل مؤشّر ثقة المواطنين بالأحزاب السياسية على ضعف الأحزاب والمنظومة السياسية عموما. أظهر إقليم المشرق العربي أن 55% من المواطنين لا يثقون بشكل مطلق بالأحزاب والتيارات السياسية، وهي النسبة الأعلى في أقاليم الوطن العربي، بينما كان المعدل العام يشير إلى أن 43% من المستجيبين للمؤشر بالوطن العربي لا يثقون بالأحزاب والتيارات السياسية في بلدانهم على الإطلاق، و24% لا يثقون إلى حدّ ما، بينما الذين يثقون بالأحزاب والتيارات السياسية فكانت نسبتهم 27%، منهم 5% فحسب، لديهم ثقة كبيرة بالتيارات السياسية و22% يثقون إلى حد ما.

الانتماء والمشاركة السياسية في عصر المعرفة

تتّسع محددات المشاركة السياسية عموما، ومن ضمنها طبيعة النظم الحاكمة نفسها، فسلطوية بعض النظم وتأميمها العمل السياسي، واستمرار أطر شكلية من المشاركة المحكومة بقواعد وشروط تعيد إنتاج مكونات العملية السياسية من أحزابٍ تقليدية وقوى حكم سابقة تشكل تحدّيا أمام توسيع المشاركة. وهنا يمكن القول إن هذا العجز والتشوه السياسي، بجانبيه المتعلق بقوى سياسية ونظم سلطوية استبدادية، فرض مساحاتٍ من المشاركة السياسية خارج الأطر الرسمية، أي السياسة من أسفل عبر الحركات الاجتماعية والتنظيمات النوعية، ووظّفت إمكانات التقنية لتلعب الشبكات دورا فاعلا في موضوعين أساسين، الأول متابعة الشأن السياسي، وهنا يظهر المؤشر أن شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية وسيلة المتابعة الرئيسية للأخبار والأحداث السياسية، وتشكل (80%)، كما أنها أداة للتعبير السياسي لدي نسبة بلغت نحو 61% من المستجيبين للاستطلاع. والموضوع الثاني الذي وظفت فيها الشبكات كان ذا طابع تنظيمي وتعبئة بجانب الجانب المعرفي، حيث استخدم هذه الوسائل المحتجون أدوات مساعدة في التنظيم والتعبئة في الاحتجاجات الشعبية من كتل سياسية واجتماعية قائمة فعليا، ولديها أدواتها التنظيمية التقليدية. واستخدمت الكتل السياسية تلك الوسائل خلال بداية الاحتجاجات (في أغلب الدول العربية)، وكانت ساحات الإنترنت أداة للتواصل والتعبئة والتنظيم والنشر والإعلام، خصوصا تطبيقي فيسبوك وواتساب، وهم الغالبان في الاستخدام لدى المستجيبين للمؤشر بنسب تراوحت بين 86% و84%، وهذا يعيدنا إلى فهم العلاقة الحالية بين المنتجين للرسائل السياسية والإعلامية والمستهلكين في مجتمع الوسائط والشبكات، والتي أصبحت فيها الرسائل متبادلةً وتفاعليةً، وتؤثر الشبكات في الإعلام التقليدي (الصحف والتلفزيون)، وتعبر، في الوقت نفسه، عن إمكانات مستقبلية لدمقرطة الواقع السياسي.

وتصدّرت خمس دول عربية في مدى استخدام مواطنيها وسائل التواصل الاجتماعي في التفاعل السياسي بشكل يومي أو شبه يومي، فكان العراق الأول بنسبة 62%، منهم 37% يستخدمونها يوميا، وجاء مواطنو السودان في المرتبة الثانية بنسبة 65%، وموريتانيا بنسبة 58%، وتونس بنسبة 42%. أما إقليميا فكان مواطنو المغرب العربي الأكثر استخدما لوسائل التواصل الاجتماعي من أجل التفاعل السياسي بنسبة وصلت إلى 64%، يليه إقليم وادي النيل بنسبة 47%، يستخدمون وسائل التواصل للتعبير السياسي يوميا أو بشكل شبه يومي، خصوصا في ظل ضعف البنى السياسية أو سلطوية بعض النظم أو غياب بعض الأحزاب والحياة الحزبية في بلاد أخرى، وهو ما يؤكّد إمكانات التعبير السياسي، على الرغم من سلطوية النظم أو ضعف وتشوه البناء السياسي.

وقد استطاع المؤشر العربي من خلال قياس اتجاهات الرأي، في ما يخص ثورات الربيع العربي 2011، أو احتجاجات وثورات كل من العراق والسودان والجزائر ولبنان، تقديم مادة علمية تحتاج قراءات أخرى، بالتزامن مع مؤشرات الانتماء والمشاركة السياسية، ووضع الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، فضلا عن مؤشّر الديمقراطية، وإذ أخذ في الاعتبار مؤشرات الوضع الاجتماعي والاقتصادي، فإن صورة اتجاهات الرأي العام العربي تجاه الأوضاع والمهدّدات الداخلية ستكون مهمة ومفيدة للقراءة والتحليل، ليس وحسب من المهتمين والباحثين المتخصصين، لكن أيضا من الفاعلين بالعملية السياسية، على اختلاف انتمائيتهم، بل ومواقعهم، سواء في دوائر السلطة أو قوى إصلاحية وقوى معارضة.

العربي الجديد

———————————

الربيع العربي أحلّ الصراخَ محلّ الهمس

ترجمة أحمد عيشة

“عندما بدأت التظاهرات كنتُ مراهقًا، ثم أصبحتُ معتقلًا، ثم أمسيتُ لاجئًا؛ ومع ذلك لن نعود إلى حالة الصمت”

كنتُ في الصف الخامس، عندما أمر إداريو المدرسة جميع المعلمين في مدرستي بإنهاء الدوام مبكرًا، لأخذ الطلاب إلى مسيرة في شوارع دمشق تمجّد الرئيس السوري بشار الأسد. وصلتُ إلى المنزل عائدًا من المسيرة التي استمرت طوال اليوم، متحمسًا لإخبار والدي -وهو ضابط ناجح في الجيش- بانطباعاتي: “رئيسُنا له آذان كبيرة مثل القرد”. لم يضحك معي. بل صفعني على وجهي، وعلّمني درسًا لا أنساه أبدًا. وقال: “الجدران والنوافذ والأبواب لها آذان. كل شيء حولك، أينما كنت، يمكنه سماع كلماتك، عندما تتحدث عن الرئيس أو أصدقائه أو في مواضيع السياسة. حتى همساتك تُسمع”. كنت في العاشرة من عمري، عندما عرفت الدكتاتورية لأول مرة.

بعد أعوام، عندما كان عمري 15 عامًا، في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010، بدأت العروش تهتز. استيقظ العالم العربي على أخبار تتحدث بأن شابًا تونسيًا يبلغ من العمر 26 عامًا أحرق نفسه حتى الموت، بعد أن منعته السلطات من بيع الخضار في المدينة، وهي مصدر دخله الوحيد. سيظل اسمه (محمد البوعزيزي) يُذكر، بكونه أحد الشهداء، في أثناء الحديث عن ثورات الشرق الأوسط الجديدة.

في الوقت الذي اعتقد فيه معظم الناس أن من المستحيلات أن يسقط الدكتاتوريون العرب، تجمّع باعة الشوارع التونسيون وأنصارهم في تظاهرات، وأجبروا الرئيس (زين العابدين بن علي) على الفرار من البلاد. بعد 28 يومًا من التظاهرات -بأدنى حد من إراقة الدماء- هزم الشعبُ التونسي الدكتاتور الذي حكم تونس أكثر من 23 عامًا. نتيجة وحشية الشرطة، كانت الخسائر في الأرواح كبيرة، إذ انتفض الشعب التونسي ودعا إلى الحرية، مطلقًا شرارة مرحلة جديدة في تاريخ العالم، ومؤذنًا بميلاد الربيع العربي. وبعد مدة وجيزة من بدء الحركة التونسية، انتفض الشعب في مصر وليبيا واليمن أيضًا.

راقبت عائلتي الثورةَ المصرية على شاشة التلفزيون، حيث خرج الملايين من أجل الحرية. أتذكّر والدي وهو يهمس لي: “هل يمكن أن نرى هذه التظاهرات العظيمة في سورية أيضًا؟”. كان متحمسًا للفكرة، لكنه ما يزال خائفًا من إعلان ذلك بصوت عالٍ؛ فالجدران كانت ما تزال تسمع الهمسات.

في النهاية، وصل الربيع العربي إلى سورية. بدأ الأمر بعد اعتقال خمسة عشر طفلًا كتبوا على أحد الجدران “إجاك الدور يا دكتور”، وقد فُسرت العبارة بأنها رسالة مناهضة للأسد. اعتقل رجال المخابرات الأطفال، وعذبوهم: تعرّضوا للضرب والتعذيب واقتُلعت أظفارهم. كان من بين أولئك الأطفال حمزة الخطيب، وهو صبي عمره 13 عامًا، مات تحت التعذيب، ذبحه حرّاس السجون السورية. في غضون أيام، تسبب ردة فعل عائلات الأطفال المعتقلين وأهالي مدينتهم في عاصفة، سرعان ما وصلت إلى مسقط رأسي: بانياس، واتّقدت جذوة ثورتنا.

أخذني والدي إلى التظاهرات بنفسه. لكنه لم يكن يهتف، كان يهمس وحسب، وكان يخبرني في الطريق إلى التظاهرات أن الوقت قد حان لاتخاذ خطوة إلى الأمام، وأن أي خطوة إلى الوراء تعني الموت. كنا خائفين، ولكن كان هناك فرح في نفوس كلّ من ينضمّ إلى التظاهرات. أتذكّر حماسي، إذ شعرتُ بأن بإمكاني القفز وملامسة السماء، عندما صرخنا “حرية”.

لم أكن أعلم أني بعد عامين فقط سأكون في السجن، بينما سيُقتل أبي وإخوتي في غرفة المعيشة التي كانت مليئة بالحماس، حين كنا نشاهد التظاهرات في جميع أنحاء سورية على شاشات التلفزيون. مثل أكثر من (500) ألف سوري، سيصبح أفراد عائلتي ضحايا لنظام الأسد والحروب اللاحقة. وقعت مجزرة في مسقط رأسي بانياس، وفي قريتي (البيضا)، حيث أراد النظام أن يرتكب عملًا من أعمال التطهير العرقي ضد السنّة، في المنطقة ذات الأغلبية العلوية.

في كل صراع، لا بدّ من أن يكون هناك رابحون وخاسرون وضحايا. الربيع العربي، سواء عددته ناجحًا أم لا، علّم شعوب الشرق الأوسط الفرقَ بين الدكتاتورية والقيادة. على الأقل، لقد حرّر عقول الناس حين أظهر جمال المطالبة بالحرية، بعد أعوام من الاستبداد. كما أظهر للغرب أن منطقة الشرق الأوسط منطقة منفتحة على الديمقراطية والتغيير، وأثبت للأنظمة العربية أن القمع العنيف ليس حلًا، إنما هو عمل إعاقة يائس.

نجحت الشعوب في تونس وليبيا ومصر واليمن في التخلّص من رؤسائهم، لكنهم لم ينجحوا في إسقاط أنظمتهم. الآن، بعد 10 أعوام من المعاناة والخسارة، يواجه الناس الصراعاتِ التي واجهوها من قبلُ. في تونس، موطن الربيع العربي، كانت الانتخابات الرئاسية الديمقراطية لعام 2014 مصدر أمل، ولكن سرعان ما أصبح واضحًا أن كثيرًا من الفساد المنهجي ظلّ حاضرًا. ومصر، التي أطاحت رئيسين منذ بدء الثورة، انتهى بها الحال مع دكتاتور جديد: عبد الفتاح السيسي.

اليوم في سورية، (11,5) في المئة من السكان هم إما قتلى وإما جرحى، منذ آذار/ مارس 2011، وأكثر من (12) مليون -أكثر من نصف السكان- باتوا مهجّرين داخليًا أو خارجيًا. واختفى قرابة (100) ألف سوري في تلك الفترة، معظمهم على يد النظام السوري، بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان.

تمكّن نظام الأسد، بمساعدة حلفائه الروس والإيرانيين، من استعادة معظم مناطق سورية التي حررتها قوات المعارضة، مخلفًا أكثر من 4 ملايين شخص -معظمهم من الأطفال- متجمعين في مدينة إدلب الصغيرة، آخر معقل للمعارضة، يكافحون من أجل البقاء أحياء.

اضطّرت جماعات المعارضة، لكي تنجو وتبقى على قيد الحياة، إلى الاعتماد على الرعاية من دول أخرى لديها تصوراتها الخاصة حول الشكل الذي يجب أن تبدو عليه سورية، ورسمت الطريقة التي تعمل بها هذه الجماعات، ودفعها ذلك إلى الانقلاب على بعضها البعض، بدلًا من التركيز على العدو الحقيقي. في عام 2014، أعلن تنظيم “الدولة الإسلامية” مشروعه في سورية، وسرعان ما أصبح التنظيم المتشدد الخطرَ الأكبر الذي واجهته الثورة السورية، إذ لم يتردد في إنفاق موارده على قتال قوات المعارضة. لقد حوّل هذا التنظيم تركيز الدول الغربية، من وحشية نظام الأسد، إلى وحشية الجماعات الإرهابية. وقد أدى ذلك إلى انعدام الأمل والثقة في جماعات المعارضة السورية، وكل ما تبقى اليوم هو الأمل الذي كان لدى الناس، عندما خرجوا إلى التظاهرات الأولى في أوائل عام 2011.

ولأن ملايين الشباب العرب ترعرعوا خلال الربيع العربي، وهم يعرفون مدى فساد حكوماتهم، ومدى خطورة الأجهزة الأمنية التي تحميها، فقد أتيحت لهم الفرصة للتواصل مع أشخاص يختلفون معهم، لإيجاد أرضية مشتركة. لقد شكلوا فكرة جديدة لما يجب أن يكون عليه المستقبل. سيستمرون في النضال حتى ينالوا الحرية، من أجل الذين ماتوا أو فرّوا أو تعرضوا للتعذيب تحت سيطرة النظام.

لقد فرَّ ملايين اللاجئين من بلدانهم بحثًا عن الأمان في أوروبا. اليوم، يدرس عشرات الآلاف منهم في الجامعات، وآلاف منهم يدافعون عن الحرية والديمقراطية، ويتحدثون عن المساواة والكرامة وحقوق الإنسان. لقد تمكنوا من تحقيق نجاحات جديدة، في أثناء حياتهم في أوروبا، تُسهم في رسم مستقبل المنطقة.

كنت أرغبُ في حضور أول تظاهرة، لأثبت نفسي لوالدي. كان تغيير نظرة والدي لي هو ثورتي الأولى، لكن بعد عشرة أعوام انتهى بي المطاف في مكان أكبر. مثل ما يقدر بنحو (215) ألف سوري اعتُقلوا، عرفتُ حقيقة النظام في أحلك الأماكن. عندما وصلتُ إلى أوروبا، شعرت لأول مرة بالديمقراطية. وعشتُ الحرية، حيث يمكنني التحدث من دون الحاجة إلى الهمس. لو أن الثورة السورية انتهت في أقلّ من شهر، كما حصل في مصر؛ لما تعلمنا الكثير عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. إن الأعوام العشرة من الاضطرابات ستجعل السوريين أكثر الناس قدرةً في الشرق الأوسط على إعادة بناء بلادهم في المستقبل. لن نرتكب أخطاء البلدان الأخرى التي تخلصت من دكتاتوريها، وظلّت محاصرة في أنظمة فاسدة.

نعم، لقد تعرّضنا للتعذيب والقتل، وأُجبرنا على الفرار من بيوتنا، لكننا لم ننكسر، ولم نفقد أملنا وإرادتنا بالتغيير. ولو أتيحت لنا فرصة عودة الزمن إلى الوراء، إلى الوقت الذي سبق ثورتنا، إلى الوقت الذي سبق قتل وتعذيب عائلاتنا وأحبائنا ومئات الآلاف من المدنيين الأبرياء؛ فإننا سنختار ذلك الخيار: أن نكسر قفص الخوف الذي حُبسنا فيه أكثر من أربعين عامًا، سنختار الغِناء تحت سمائنا من أجل الحرية. كانت الثورة التي بدأناها الخطوةَ الأولى في مسيرتنا الطويلة نحو الديمقراطية.

اسم المقالة الأصلي        The Arab Spring Let the People Shout, Not Whisper

الكاتب   عمر الشغري،OMAR ALSHOGRE

مكان النشر وتاريخه         الشؤون الخارجية،FP، 17 كانون الأول/ ديسمبر 2020

رابط المقالة        http://bit.ly/34y3iTk

عدد الكلمات       1208

ترجمة   قسم الترجمة/ أحمد عيشة

مركز حرمون

——————————–

الانتفاضات العربية لم تكن مؤامرة/ لميس أندوني

عشر سنوات بعد انطلاق شرارة التغيير من تونس أولاً، امتدادا إلى مصر، وصولا إلى البحرين، مرورا بالأردن ولبنان وسورية، ما تزال نظرية أنها مؤامرة وليست انتفاضات عضوية تسيطر على أذهان مثقفين وسياسيين ومواطنين عرب كثيرين، فجعوا من تداعيات تدخّل خارجي، ومن حروب دامية وانقسامات طائفية.

كانت المؤامرة، إذا صح التعبير، في اختطاف الثورات ومصادرة طموحات الجماهير المنتفضة، وفي ثورات مضادة جاءت عبر عدة جبهات من “الدولة العميقة”، وقوى التدخل الخارجي، ومجموعات رفعت شعار الإسلام غطاءً لتطرّفها وإجرامها، فما دخول تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وتنظيمات مماثلة على خط الانتفاضة السورية إلا مصادرة لمطالب جماهيرية محقّة، وما دخول واشنطن على موجة الانتفاضات إلا لتطويعها واستغلالها، للسيطرة على مستقبل المنطقة، حتى لا تخرج الأنظمة، قديمة وجديدة، عن طوعها.

صحيح أن غياب وعي القيادات الشابة، أو ضعفه، وعدم قدرتها على ربط الحريات المدنية والعدالة الاجتماعية بمفهوم التحرّر والاستقلال، أوقعها تحت تأثير قوى داخلية وخارجية متعدّدة الأجندات، لكن ذلك لا يلغي المظلومية الحقيقية التي دفعت محمد البوعزيزي في تونس إلى حرق نفسه، والجماهير في الخروج إلى الشوارع والساحات، متحدّية رصاص الأنظمة القمعية، ولا يلغي مشروعية الاحتجاجات ضد عقودٍ من الكبت والاستبداد، فضعف الأحزاب العربية التقدّمية، من يسارية وغيرها، نتيجة سنواتٍ من المنع والبطش الرسمي، أو التهميش والتجريم، إضافة إلى ضعف تركيبتها التي فشلت في التجديد واستقطاب الجماهير التي ترتعب من تهمة “العمل الحزبي”، أو التي أصابتها خيبة أمل في أداء الأحزاب، كان عاملا مهما في افتقاد قيادةٍ موحدةٍ، ورؤية واضحة للقيادة الشبابية في الميدان.

كانت جماعة الإخوان المسلمين أكثر تنظيما والمهيأة لاستلام دفّة القيادة، لكن الصبغة الدينية لرؤيتها جعلها عاجزة عن فهم طبيعة الصراع الطبقي ومركزية الحريات والحقوق الاجتماعية التي ترى في بعضها تهديداً لتعاليم الدين كما تفهمها، إضافة إلى قصورها في فهم أسس العدالة الاجتماعية، فلا يوجد في أدبياتها عن دور الدولة في الرعاية الاجتماعية، أو فهم لعمل المؤسسات العالمية، مثل صندوق النقد الدولي، سوى من منظور الحلال والحرام، وفقاً لبراغماتية قصيرة النظر، فالدستور الذي تقدم به الرئيس المنتخب محمد مرسي في مصر كان أوضح دليل على قصور الرؤية، فجرى التركيز على تحدّي الحريات الاجتماعية في تنازل مهم للحركة السلفية، واحتوى على لغةٍ قد تؤسّس لدولة دينية، وفشل الدستور في إرساء أسس قانونية للعدالة الاجتماعية، أدى إلى توسيع الاحتجاجات الشعبية ضد الرئيس مرسي، وخروج الناس مجدّداً إلى ميدان التحرير. ولكن لا يمكن هنا الفصل بين “أخطاء الإخوان”، بسبب طبيعة الجماعة غير الثورية، وحملات التحريض المنظم من الإعلام المصري، ودول خليجية في مقدمتها الإمارات. وهذا لا يبرر الخلل الفكري والسياسي عند الإخوان المسلمين، فوصولهم إلى الحكم في مصر أخاف قطاعا واسعا من الشعوب العربية لأسباب موضوعية، وأخرى غير موضوعية، أي أنها استجابت للتحشيد الذي شنته الدولة العميقة في مصر ودول أخرى ضد الرئيس مرسي.

لم يأت الانقلاب العسكري حركة تصحيحية، وإن دافع كثيرون عنه في حينه، لكنه كان، من أول لحظة، انقلاباً على الثورة المصرية بكل مكوناتها، مستغلاً أخطاء الرئيس مرسي، وخوف الناس من حكم “الإخوان”، لينقضّ على كل مكونات الانتفاضة المصرية كما ثبت بعد فترة، وشن حملات الاعتقالات والزج في السجون، بدأت بالإسلاميين، وامتدت إلى كتّاب وأكاديميين وشباب ممن قادوا احتجاجات “30 يونيو” في عام 2013 ضد حكم مرسي. ولم يع كثيرون أن صعود عبد الفتاح السيسي جزء من الثورة المضادّة إلا بعد فترة، فالانتفاضات أيقظت الأمل بنشوء دولة مدنية علمانية، فكان صعود الإخوان المسلمين مصدر خوف وغضب. ولكن شتان بين مفهوم الدولة المدنية التي تؤسس لدولة المواطنة والعدالة الاجتماعية وانقلاب عسكري أدخل مصر في حقبة قتل وتعذيب غير مسبوقة، إلى حد التسبب في وفاة الرئيس المنتخب والسجين محمد مرسي.

وأيضا، ساهم دخول قيادات الإخوان المسلمين على خط الانتفاضة السورية، وللجماعة وجود قوي بين فئات شعبية، في انقسام حاد بين المثقفين والأحزاب بين تأييد الثورة واعتبارها مؤامرة، لم يكن تاريخ النظام السوري القمعي والدموي خافيا على أحد، ولا يستطيع أحدٌ إنكاره، لكن تبنّي الولايات المتحدة فئات من المعارضة السورية أضعف تأثير الانتفاضة السياسية، وانتقص من حريتها، فواشنطن لم ولن تدعم حريات الشعب السوري، بل تعمل على السيطرة على مستقبل سورية التي تتصارع أطراف إقليمية ودولية لإضعافها والتحكم بها، فحماية روسيا وإيران النظام لا يمكن تغليفها بدعم محور المقاومة؛ إذ أن النشاط الإيراني أسهم ويسهم في تعميق انقسام طائفي غير مسبوق في سورية، فيما تقوم موسكو بتسيير دوريات قرب هضبة الجولان المحتلة، لإبقاء حزب الله بعيدا بهدف طمأنة إسرائيل.

لا يمكن فهم كيف تحوّلت الثورات العربية إلى خيبات أمل، من دون محاولة فهم ما حدث في مصر وسورية من تجليات للثورة المضادّة، فلم ترد القوى الإقليمية أو الدولية تقبّل تغييرات ثورية في أي من الدولتين المحوريتين، فعلى الرغم من عداء واشنطن لنظام الأسد، فإن نجاح ثورة حقيقية تهدّد مصالحها. ولهذا دخلت على خط الانتفاضة، مستغلةً ضيق الشعب السوري بقمع النظام وغياب الوعي التحرّري، إضافة إلى العقلية الانتهازية التي تصل إلى حد الارتزاق في بعض صفوف المعارضة السورية. كما أن غياب الوعي أو قصوره عامل بالغ الأهمية، كما الذي شوهد ويُشاهد في صفوف حركات معارضة في الوطن العربي وفي تجمعات ومنظمات أهلية من قبول مستهجن بالأجندة الأميركية وفصل مخيف بين الحقوق المدنية ومفهوم التحرر الوطني، الأمر الذي يجعل فئات شبابية وفاعلة أكثر عرضة للاستغلال، فتقع بين قمع الدول المضادّة للثورات والتغيير وخطر تأثير الدوائر الغربية، وتجعل تهمة العمالة ذريعةً سهلة للقمع، كما نرى في مصر، حيث يجسّد النظام القائم التبعية الذيلية، لكنه يُحاكم أعضاء منظماتٍ أهلية بتهمة العمالة للغرب.

وتحولت بعض الانتفاضات من شرارة أمل إلى شبح عنف وقتل طائفي وعدم استقرار، وكأن على الشعوب أن تختار بين الاستقرار والفوضى، وبين الاستبداد وحكم الإرهاب الداعشي، وبين الحكومات الوطنية على سوئها والاستعمار، لكن ذلك لم يطفئ أمل الأجيال الجديدة التي تجدّد الثورة على الرغم من كل الانتكاسات. وفشلت قيادة هذه الانتفاضات في صيانتها، نتيجة القمع الدموي ونقص الوعي التحرّري والتنظيمي، ونتيجة التدخل الإقليمي والدولي، والخوف من مد الإسلام السياسي، ونتيجة إفلاس بعض فئات المعارضة نفسها وفسادها. ولكن لا مكان للاستسلام، فالمظلومية التي ألهبت الانتفاضات تعمقت واتسعت، وأصبحت الأنظمة أكثر وقاحة، إلى درجة التضحية بالحقوق والسيادة الوطنية لإرضاء إسرائيل. لكن لا مجال للشلل؛ المقاومة تتطلب وعيا متقدّما وحركة تضامن حقيقية، فلا يمكن السكوت عن اعتقالات وتعذيب أو ضرب للحريات، وعن تقويض سيادة في أي بلد عربي. .. الثورة المضادة منتشية بانتصاراتها، ولكن لا بد أن تترنح وتنهار.

العربي الجديد

—————————–

ربيع شائك ومتجدّد/ فاطمة العيساوي

لم يكن ببال بائع الفاكهة المتجوّل، محمد البوعزيزي، أن مشهد انتحاره المريع سيطلق غضبا يتجاوز بكثير صفعة شرطية البلدية التي حاولت مصادرة عربته، بحجة أنها مركونة في مكان غير مسموح به. ولم يكن في بالنا، ونحن نراقب فصول الربيع أن شرارته الأولى ستنطلق من تونس، أحد أكثر الأنظمة انغلاقا، والبلد المنسي في قائمة الأحداث الكبرى في المنطقة. لم يكن بالإمكان أيضا أن يخيل لنا أن أنظمة دموية، كنظامي الأسد والقذافي، ستواجه تمرّدا، وأن مواطنين مسالمين سينزلون إلى الشارع للمطالبة بالتغيير في ما كان يعتبر رأيا عاما نائما ومستسلما لقدره. تعب العالم من مراقبة تداعيات ثورات الربيع، بعدما تحوّلت معظم فصوله إلى عنف أو قمع غير مسبوق. عاد الخطاب المقولب عن العالم العربي ليركز على مكافحة الإرهاب، لتأكيد “استثنائية” منطقة عاجزة عن التغيير. وكما فاجأ الربيع في موجته الأولى المراقبين، لا يزال يقدّم فصولا متجدّدة وغير متوقعة من الغضب، من دون أن ينجح الغاضبون في الانتقال من حيز الغضب ورومانسية شعارات الثورة إلى التخطيط لتأثير فاعل من أجل تغيير حقيقي في الهياكل. لا تزال ثقافة قبول الرأي المختلف بعيدة المنال، في ظل تجدّد القمع وشيطنة الآخر، وعودة القيود باسم التابوهات السياسية أو الدينية.

يبدو العالم العربي اليوم أكثر تعبا وتفكّكا وانهيارا مما كان عليه قبل عشر سنوات، عندما انطلقت موجات التغيير، إلا أن العالم بأجمعه اليوم تعب، وزادت جائحة كورونا من غوغائية السياسات الشعبوية، من الولايات المتحدة إلى البرازيل، في ظل نزعة متصاعدة من الثيوقراطية يغذّيها التضليل الإعلامي في وسائط التواصل الاجتماعي، كما في الإعلام التقليدي. باختصار، بات بالإمكان القول إن العالم لم يعد مختلفا كثيرا عن مشكلات المنطقة، وإن رقعة التباعد بين العالمين انكمشت، ليس بنشوء أنظمة ديموقراطية جديدة في عالمنا، بل بتراجع الديمقراطية في الغرب، والتشكيك بجدواها. ليس من المبالغة أيضا القول إن حراك الشارع العربي ألهم حركاتٍ مماثلة حديثا، من الحركة المؤيدة للديمقراطية في هونغ كونغ إلى الحراك المناهض للعنصرية ضد السود في الولايات المتحدة وتظاهرات الفيليبين ضد قانون مكافحة الإرهاب الجديد، وتقييده حرية التعبير. تنافست حركات الاحتجاج في العالم العربي في أشكال الابتكار ضد القمع، للسخرية منه، أو محاولة اختراق حواجزه في فضاء الإنترنت وخارجه، في تظاهرات متنوّعة يصعب إحصاؤها على كثرتها وفرادتها. تخطر في بالي أولا مبادرة مجموعة من نساء دمشق لاستخدام أكياس النفايات في رسم شعارات ضد الأسد في أولى أشهر ثورة سلمية نجح الأسد في تحويلها إلى حرب أهلية.

لم تسقط الأنظمة لكن جدار الخوف سقط، والأهم منه سقوط الهيبة التي استخدمها الطغاة لكسب مشروعية ما لحماية آلية القمع من أي محاولة مساءلة أو تهديد. ليس مفاجئا أن تكون كنية “بلحة” لا تزال تؤرّق عبد الفتاح السيسي في مصر، على الرغم من السجون الواسعة التي حشر فيها معارضيه. توفي الشاب شادي حبش، مخرج أغنية “بلحة”، في سجن طرة، إلا أن مسلسل السخرية من السيسي ونظامه لا يزال متواصلا في أغنياتٍ يتداولها الناشطون، على الرغم من عنف غير مسبوق. في السجون السعودية، تواجه الناشطات النسويات السعوديات، منهن لجين الهذلول، عقوبات السجن بتهمة الإرهاب، لمطالبتهن بحقوق أساسية للنساء في المملكة. شهد العام الماضي تصاعدا كبيرا في حجم تقييد التعبير وأشكاله، إلا أنه جاء مصحوبا بقدرة متزايدة على الصمود للأصوات المعارضة التي يبدو أنها لن تصمت. لم تسقط الأنظمة، إلا أن التغيير انطلق ولم تتوقف عجلته، ولعل أبرز إنجازاته ما يمكن وصفه بمواطنة جديدة بين الفرد والنظام. مواطنة أكثر إيجابية وتشاركية لا تكتفي بالإنصات والخنوع. لم يسجل تغيير كبير في بنى السياسة التقليدية، إلا أن الربيع فتح الباب أمام نزعة تحرّرية تجاوزت السياسة التقليدية إلى تحدّي أكثر التابوهات حدّة. النساء تقدّمن حراك الشارع في معظم الدول التي شهدت تظاهرات احتجاج. الحركات النسوية استغلت الحراك، ليصبح مناسبة للمطالبة بحقوق أساسية، من الحق في منح الجنسية إلى الحق بالحياة في وجه عنفٍ غير مسبوق باسم “الشرف”. أفراد تجرأوا على الحديث علنا عن تجاربهم، كمثليي الجنس، بعدما كان الأمر يمثل عارا اجتماعيا. تجاوز الأفراد، بتجاربهم الخاصة، ذواتهم.

لن تتوقف موجات الربيع في مد وجزر عن مفاجأتنا. حقّق حراك الشارع، في الموجات المتجدّدة للربيع في الجزائر والسودان والعراق ولبنان، قدرة أكبر على الاستمرارية، وباتت شعاراته أكثر راديكالية، بالدعوة إلى تغيير شامل، وليس مجرد إصلاحات. هل ينجح في الانتقال من تعبير غاضب وخلاق إلى عمل منسق استراتيجي، قادر على إحداث تغيير جـذري في البنى، بما في ذلك القدرة على التفاوض والضغط والمناورة؟ يقول الباحث آصف بيات، في كتابه “ثورة من دون ثوار”، إن الثورات العربية عجزت عن تحقيق تغيير جذري، لضعف ركيزتها الفكرية وراديكالية مطالبها، واصفا المنضوين فيها بأنصاف ثوار وإصلاحيين مقارنة بثورات مماثلة في العالم، كإيران وكوبا. ولعل فشل التغيير السياسي حيث حصل، تونس مثالا، في تقديم حلول فعلية للمشكلات الاقتصادية التي دفعت الناس للنزول إلى الشارع يمثل قنبلة موقوتة لعودة الأنظمة الآفلة، ومعها القمع والتقييد.

لن يتوقّف الحراك الشعبي في العالم العربي عن تقديم الجديد، على الرغم من العثرات، مقارعا من يقول إن التغيير مسار متصاعد، وسوي بالضرورة، لا تشوبه انتكاسات. للمشكّكين، تقول موجات الحراك المتواصل: ربيعنا لم ينته بعد.

العربي الجديد

———————————–

مراجعات العام العاشر للثورات العربية/ عمار ديوب

مراجعاتٌ كثيرةٌ يدوّنها مثقفون منشغلون بمصائر الثورات، عن السنوات العشر الماضية، وبذكراها. أثرت الثورات العربية وتحولاتها على أشكال الحياة كافة، وتُختصر، العشر هذه، بين ثوراتٍ شعبيّة وأنظمة داعمة للثورات المضادّة. هناك حديث دائم الحضور عن سبب الثورات، يُخفِض قصديّاً من العامل الاقتصادي، ويُعلي من شأن العامل الأخلاقي، مسألة الكرامة، أكثر حتى من العامل السياسي (الاستبداد)؛ وهذا مبدأه ونهايته التفكير الأيديولوجي الذي يحكم الرؤى الليبرالية، والتي تريد إعادة التاريخ “مثالياً” إلى الوراء، إلى ما قبل استلام العسكر السلطة، وكأنّ الأمر بهذا اليُسر، وكأنّ التاريخ، وكي يكون كذلك، يجب أن يعود ليبراليّاً، وبالنسبة إلى آخرين إسلامياً.

ثورات تخص العالم العربي

بين نهايتي العامين 2010 و2020، اندلعت الثورات، واستلم بعض من ادّعى تمثيلها الحكم، وفشل بعضها، وتجدّدت أخريات في أكثر من بلد. في 2019 وبعده، تركزت الثورات في الجزائر ولبنان والسودان والعراق. لقد حدثت ضد أنظمةٍ مختلفة في شكل النظام السياسي، ولكن هذه الأنظمة متفقةٌ في تحولاتٍ ليبرالية كانت تُجريها في الاقتصاد، ليصبح حرّاً “ليبرالياً”، وكانت نتائجها، إضافة إلى الفساد والنهب، كارثية، أي تراجعاً في الصناعة والزراعة، وانهارت أحوال الأغلبية. ولو أضفنا الاستبداد، والطائفية، شكلين للحكم، فإن الوضع دخل بطور الانهيار بدرجاتٍ كبيرة، وبالتالي كانت الثورات، بموجاتها، استجابة لشرطٍ محليٍّ، وعربيٍّ بامتياز، أي للسياسات الليبرالية الجديدة أولاً، ولم تكن بأي حالٍ مؤامرات خارجية.

الأخيرة، والأدق التدخلات الخارجية، ولاحقاً الاحتلالات لهذه الدولة أو تلك، كانت تالية لحدوث الثورات، إذا استثنينا العراق، وهذا لا يلغي أنها كانت تتأهب لإعادة إغلاق التاريخ العربي، ووضعه تحت السيطرة المباشرة، وهذا يعود إلى زمن انهيار الاتحاد السوفييتي، وبالتالي إعادة إنتاج منطقتنا إلى أسسٍ، كانت، الدول الاستعمارية، قد حاولت ذلك من قبل: العشائرية، والطائفية، والمناطقية، والعرقية، أليست هذه السياسات ما حاولت زرعه الاتفاقيات الاستعمارية في بداية القرن العشرين؟ أليست هذه ذاتها ما تُرسَم عليها خريطتنا العربية حالياً، وهناك من يرى مصير تركيا وإيران بهذا المنحى. القضية ليست مؤامرة خارجية، وليست صناعة محلية، أو مستمدّة من تاريخ قديم، لا. القضية تتعلق بمن يحكم منطقتنا والعالم، وبمن تدخلاته واضحة ومنذ 2011، وضمن ذلك تتحرّك كل من إيران وتركيا وإسرائيل، بل وكل النظام العربي الذي حدثت الثورات ضدّ أغلبيته. رفض حجّة الصناعة المحلية للأزمات سببا وحيدا للثورات سيقودنا إلى البحث في علاقة التبعية بين الأنظمة العربية والدول المسيطرة على العالم، وتطوّرات هذه العلاقة، ومنذ قرنٍ على أقل تقدير.

التبعية هي ما يجب التفكر والتعقل فيه لفهم طبيعة الأزمات العربية، وما قبل الثورات، وفي أثنائها، والأدق منذ كان الاستعمار مباشراً. لو تجاهلنا ذلك، سيواجهنا السؤال البسيط: ماذا تفعل أميركا في منطقتنا؟ وكذلك روسيا؟ ألا تتدخل الدولتان حالياً في كل شؤون المنطقة، وتبسطان سيطرةً أو احتلالاً هنا وهناك! ولا يخفى على القارئ أنهما الأقوى عسكرياً، وأميركا اقتصادياً وعسكرياً وعلمياً. الخفّة في قراءة طبيعة الأوضاع العربية أصبحت كارثيّة بامتياز، ليس على راهننا، والذي حدثت فيه ثوراتٌ عظيمة، وتبتغي النهوض بكل أوجه مجتمعاتنا، بل هي تشوّه ماضينا وعقودنا الأخيرة كذلك؛ وأقصد الإساءة في قراءة ذلك التاريخ، وتصويره وكأنّه كان شرّاً كاملاً، وتخلّفاً لا مثيل له، وطائفيّة مقيتة، وسواه كثير.

أن تحدث الثورات في أكثر من دولة عربية، وأن تتجدّد لاحقاً، وبتزامنٍ، وفي أكثر من دولة، وأن تستفيد الموجة الثانية من خبرات الأولى، رافضةً أيّ مظهرٍ للتسلح أو الأسلمة، بل وتتجذّر الوطنية فيها، هي قضايا تتطلب التدقيق. والسؤال، لماذا حدثت في المنطقة العربية في الوقت ذاته، على الرغم من أن الوضع الاقتصادي المتردّي قضية عالمية؟ أليس في الأمر بعدٌ إضافيٌ للاقتصادي. نعم هناك بعدٌ قوميٌّ للثورات العربية، واستنتاجي بعكس الرواية الليبرالية التي تستنتج أن الثورات الشعبية انشغلت بقضاياها المحليّة، وتخلصت من إرث الوطنية والقومية وفلسطين. صحيح أنه لم توضع ضرورة الترابط بين الدول العربية وتحرّر فلسطين على طاولة الثورات، ولكن تزامنها، والخليجُ مشمولٌ فيها، ولاحقاً تَدخُلات الدول العربية، سيما الخليجية، في مصيرها، يؤكد ذلك الترابط. التفكر بالأخير أصبح قضية تتعلق بنهوض العرب أو تخلفهم، سيما أنهم يواجهون، سيما في الإطار الإقليمي، تركيا وإيران وإسرائيل، وعالمياً كل الدول العظمى، ومنها الصين. إذاً كلُّ نقدٍ ضد ضرورة الترابط العربي يَسقط كليّة، فهو حدث من قبل، بالمرحلة القومية، وقبلها، وحدث في أثناء الثورات، وبالتالي يحقّ للثورات وللشعوب تبنّي ذلك الترابط، فهو أحد أسس النهوض بواقع الأمة العربية.

الإسلاميون

لا يمكن الصمت إزاء مسألة الإسلاميين، فقد طُرحت من تونس إلى سورية. لاحقاً، وبالضد منها في كل من الجزائر والسودان ولبنان والعراق، وغلب على طرحها عدم إقصائها من الشعوب أو المعارضات، مع تفضيل أن تتحوّل إلى أحزابٍ سياسيّةٍ محضة، وتُنهي كل رؤيةٍ تأسلميةٍ أو تطييفيةٍ للمجتمع، وهذا لا يتحقق من دون رؤية مواطنيّة للمجتمع بكليته، وتخلٍّ كلّيٍّ عن أيّة أوهام في المزاوجة بين الديمقراطية والدين، أو الدولة والدين، وكذلك ليس من عداءٍ بينهما، وهذا يقتضي فصلاً كلياً لشؤون الأرض وشؤون السماء.

لم تكن تجارب الإسلام السياسي، المنخرطة في الثورات ديمقراطية، ولم تعترف بالمواطنة مرجعية للديمقراطية. وعلى الرغم من الإقرار بحدوث انقلابٍ عسكريٍّ في مصر ضد نظام محمد مرسي، فإن تخبط التجربة التونسية، عشر سنواتٍ متتالية، يؤكد ذلك الاعتراف. كانت التجارب الإسلامية السورية كارثةً على تطوّر مؤسسات المعارضة أو الثورة، والمسألة لا تقتصر على دور الإخوان المسلمين المركزي فيها، بل تشمل كل القوى السلفية، حيث شيّدت إمارات وأنظمة حكم وقوى. وفي مجملها، نافست النظام في ممارساته “فئوية، وفساداً، واستبداداً، وتطييفاً”، والأنكى تدخّلها بما هو شخصي، وتهجير من ليس سنيّاً، ولو أتيحت لها الفرص لما تهاونت إزاء الموالين، أو النظام، وهو ما فعلته بالشعب “السني” الذي وجد نفسه في ظلِّها. إذاً فرضية مظلومية الإخوان، وأنهم المُخولون للحكم، وأن الثورات إسلامية، سقطت بمقياس ممارساتهم، وصار لا بد من تنظيماتٍ سياسيّة، وليكن الدين مرجعيتها الأخلاقية، وتقطع الصلة بين الدين والدنيا، والخلافة والديمقراطية، وتتبنّى الحداثة كاملةً وليس فقط المواطنة؛ فإمّا كذلك أو تدوير وتدمير للتاريخ من جديد، وربما بما هو أسوأ، ومثالنا أشكال السلطات التي بنتها الفصائل السلفية، والكلام لا يتناول تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أو جبهة النصرة أو الجهاديين.

الخيار السلمي

مَثّلَ النقاش حول شكل الثورات ساحة للصراع الفكري والسياسي، وربما لم يُحسم بعد، بل ولن يُحسم قبل انقضاء أجل الأنظمة في المستقبل. يأخذ الواقع النقاش نحو تفضيل الشكل السلمي، حيث أوضحت الأنظمة أن لا رادع لديها في استخدام كل أنواع ترسانتها العسكرية، بما فيها السلاح الكيميائي. وحتى من سقط سريعاً كزين العابدين في تونس، وحسني مبارك في مصر، ولاحقاً معمر القذافي في ليبيا، وغيرهم. عدم وجود توازنات بين قوى الثورات والأنظمة، وتوظيف السلاح من الخارج لتدمير البلدان، كلّها مسائل تؤكد ضرورة ألّا تصبح الثورات عسكريّة، وأن تظلّ سلميّة، ومهما طال أمدها، أو اشتدّت أشكال قمعها. تعثّرها في تونس والانقلاب في مصر يؤكدان ضرورة ذلك، وليس العكس، حيث الكلف البشرية والمادية والاحتلالية مأساوية، ومهما أجرينا من مقارناتٍ بين تلك الدول وسورية وليبيا واليمن، فالكفّة راجحة للدول التي لم تدخل ميدان الحروب الأهلية والطائفية. ونضيف إن غياب رؤية ثوريّة لضبط السلاح، وعدم خضوع حَمَلَتِه للمعارضات سمح باستقلاليته، شكّل المناخ المناسب للأنظمة وللحركات المعارضة بالتحوّل، وقد أصبحت البلاد، في مرحلة العسكرة، ساحة لأدواتٍ تعمل لصالح الخارج، ودخلت سورية مرحلة التدمير الممنهج والعشوائي للبلاد. إذن الشكل السلمي للثورات هو الصحيح، والاستنتاج هنا يتعلق بغياب التوازن بين طرفي الصراع، وغياب الرؤية الثورية للثورات، وإمكانية ضبط العمل العسكري.

تخريب التمويل

قضية التمويل والمنظمات المدنية أمران لم يَسلم منهما بلد عربي، ولكن دورهما في سورية كان مُشوِّهاً للثوار وللثورة في آن، ودفعهم إلى الابتعاد عن البحث عن مصادر محلية تغيب عنها ثقافة التبرع، إلّا ما رحم ربي ولبعض الجمعيات الخيرية الدينية، وهذا أوقع معظم الثوار والباحثين عن المال، في تلك المصايد، وأفرغ قدرتهم على البحث عن مالٍ محليٍّ، وعن أفكارٍ لتطوير المنظمات المدنية، وبما يتوافق مع حاجات الواقع المحلي، وليس وفق الرؤية العالمية للشركات والجهات الداعمة للمنظمات. وعدا ذلك، فإن التمويل عبر مؤسسات المعارضة والفصائل العسكرية أخرجها كليّة من المصداقية أو التفكر بتطوير الثورات، لصالح المشاريع الخاصة، ويمكن متابعة من “كَفَتت” عليهم الأموال، حيث فَسدَوا كما رجالات النظام، وفي هذا لا يخطئ من يؤكّد تلك المساواة في الممارسات.

إذا التمويل الخارجي يهدف إلى تفريغ الساحة الثورية من اندفاعتها، ويشوّهها، ويمسخها، ويقطع صلة المنظمات المدنية بالواقع المحلي. وفي النهاية، يتم إخراج هؤلاء الأفراد إلى بلدانٍ أخرى، لمتابعة شؤونهم ومشاريع حياتهم، وبذلك ينقطع التمويل ويُترك أهل الداخل، الثورة، للهواء. التمويل الصحيح يُفترض أن يكون من الداخل، وألا يكون لصالح التفرغ، وقائم على استبدال الأشخاص، قابضي الأموال، والتشهير بالفاسدين، ولغاياتٍ محدّدةٍ ومدروسةٍ، وهذا يؤسس لرؤيةٍ وطنية، ويمنع حالات التبعية، ويحاصر المجموعات الانتهازية والبراغماتية التي دخلت إلى الثورات من أجل المال، أو وجدت نفسها في هذا المصير. الحفاظ على سلميّة الثورة يخفف من الاعتماد على التمويل إلى الحدود الدنيا، وحيث لا تُدمر البلاد كما حصل في أكثر من بلد عربي، ويضع المنظمات المدنية والسياسية وسواها أمام حاجات الواقع الفعلية.

الثورات الشبابيّة

برزت أطروحة غير سليمة، أن الثورات العربية شبابيّة، وكأنّ بقية الأجيال ليست محسوبة، أو غير موجودة في ساحاتها أو أطرها. لا شك في أن الكتلة الأكثر تضرّراً من السياسات الليبرالية، ومن فساد السلطات، هي الشباب، وهم الأكثر جرأة على مواجهة النظام، ولكن تم تجاوز ذلك واعتبارهم هم الثورة، كما جرى في ثورات 2011 خصوصا، حيث اختلف الأمر نسبياً في الموجة الثانية من الثورات، على الرغم من تميّز الشباب فيها. الكتلة الشعبية الأصلب في مواجهة أدوات النظام هي الشباب، ولكن هل هذا كل شيء؟ لا طبعاً، وبالتالي تقييم الوضع العام وتوفر الخبرات الثورية والسياسية يكون لدى الفئات الأكثر عمرية، والأكثر “خضرمة”، وهذا يعني، وكما جرى في الثورة السودانية، حيث اندمجت الفئات العمرية والسياسية كلها في معمعة الثورة، وكان لهذا دورٌ كبيرٌ في حمايتها من التسلح، وربما شكّلت قوّة الأحزاب التاريخية، ووجود تنظيماتٍ سابقةٍ للثورات، سدّاً مانعاً في التخفيف من حدّة المواجهة، على الرغم من توفر السلاح، خارج الدولة. وهنا نسجل أن الجيش أدار اللعبة بشكل سليم، وتمّ الاستغناء عن عمر البشير، ومع أن الأمر جرى كما تونس ومصر، وهناك تفاوت بالطبع بين هذه الدولة وتلك، أي من أجل أن يكون التغيير سطحيا، فإن قوّة الثورات هي ما أسّس للتغيير، لكنها لم تدفع به نحو تغييرٍ جذريٍّ، وهذا ساعد بدوره الدولة العميقة للعودة مجدّداً في مصر وتونس والسودان.

إذاً، لم يعد ممكناً الكلام عن ثوراتٍ شبابيّة، ويجب رفض مقولاتٍ كهذه، فالثورات إمّا أن تكون شعبيّة وتمتد إلى فئاتٍ اجتماعية متنوعة وعاملة، وحينها تتجذّر الثورة شعبياً وبرنامجياً ووطنياً، أو أنّها ستكرّر أخطاء السابقات. في كل الأحوال، ثورات الموجة الثانية قدّمت خبراتها، والأولى والثانية هي الأساس الصلب لأيّة برامج ثورية جديدة. إذن هي ثورات شعبية وليست فئوية، والثورات القادمة ستنتصر بالضرورة.

قضية الأقليات

هناك مسألة الأقليات، وهي وإن تفاوتت مشاركاتها من دولةٍ إلى أخرى، فإنها في العموم لم تجد مكاناً لها في الثورات. لهوَ أمرٌ يثير العجب للوهلة الأولى. ولكن لو قرأنا سياسات الأنظمة في مواجهة الثورات، وتغيّرات الثورات ذاتها، نجد أن الأنظمة طيّفتها، والمعارضة الإسلامية كذلك، وكان محصلة ذلك ابتعاد كتلة الأقليات عن الثورة أو وقوفها على الحياد، أو توظيف الأنظمة لها، وهناك كتلة كبيرة من اليساريين والعلمانيين، اصطفوا إلى جانب الأنظمة. ولا يُقرأ موقفهم المدان هذا أخلاقياً فقط، بل سياسيّاً، وطبعاً لا تُناقش القضية من زاوية غياب النظرية السياسية العلمانية اليسارية المسبقة في برامج الثورات. لا، القضية تُقرأ من زاوية تطورات الوضع العام، وإضفاء التطييف على الثورات، وهذا عَزَلَها، ودعم النظم بكتلٍ بشريّة، لا مصلحة حقيقية لها معه.

حساسية موضوع الأقليات، وانخفاض مستوى التطور العام، الاقتصادي خصوصاً، يدفعان إلى التدقيق في كيفية جذب الأغلبية الشعبية للثورات. الفكرة هنا تقوم على أساس التفقير العام، وغياب أي أفق لتحسين الأوضاع العامة، وبالتالي ستزداد الكتلة المفقرة والمهمشة، وستكون وقوداً جديداً حينما تتجدّد الثورات. غياب وعيٍ نقابيٍ لدى الفئات المفقرة يفترض تعويضه بالوعي السياسي، وهذا غير ممكن تحصيله إلا عبر الفئات المسيّسة، أحزاباً، مثقفين، اتحادات. وبالتالي، هناك ضرورة كبيرة لأن يكون البرنامج السياسي للثورات دقيقاً وحساساً لمجمل الوضع العام. وبخلاف ما أوضحتُ، هناك التطييف والحروب الأهلية والتداخلات الخارجية، والاحتلالات. وبالطبع، يرافق ذلك تدمير المدن والتغيير الديموغرافي، ومأسسة الطائفية؛ وهذا، وإنْ لا يستدعيه التاريخ، وتستدعيه الأنظمة، فهو يشكّل إعاقات قوية أمام أية ثورات جديدة، وسيساعد الأنظمة في إدامة نفسها. هذه الديمومة “مؤقتة”، حيث ليس من الممكن استعادة ما قبل 2011، أي أن الأنظمة تزداد ضعفاً، وليس من أملٍ باستمراريتها، والثورات قادمة.

للإيضاح أكثر، لم تعد الشعوب قادرة على الصمت والانزواء وتحمّل غياب العدالة الاجتماعية. وبالتالي، بغياب هذه القضايا ستتجدّد الثورات، حتى تصل إلى أهدافها في المشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية والتحرّر من كل أشكال الاستبداد أو الاحتلالات. القوى الثورية معنيةٌ بتوسيع قاعدة الحلفاء، وضم أغلبية الفئات الاجتماعية، وصياغة رؤى ونظرياتٍ أكثر حساسية لتعقيدات الواقع.

مشاريع الهيمنة

يكثر الحديث المتشائم بين العرب عن أن خرائطهم السياسية، أصبحت محكومة بالكامل للخارج، وبعيداً عن عقلية المؤامرات، وأن هناك مخططاتٍ مُسبقة وسواه، فقد أصبح الوضع العربي إمّا لصالح الدول الإقليمية أو للدول العظمى. يستند هذا الحديث إلى حجم الدمار الاقتصادي والتخريب المجتمعي والتسييس الشديد للبنى ما قبل الوطنية. ليس هذا القول خاطئا، ولكن تضخيم آثاره هو الخاطئ. نوضح: قبل 2011، لم يكن أحدٌ يتوقع حدوث الثورات، وكان القول السائد، يصف العرب بـ: مجتمعات متخلفة، ميتة، مصحرة، فقاعات صوتية، وسواه كثير. بعد السنوات العشر، هناك حديثٌ يكرّر ما ذكرت. مشكلة الوعي والعقل السائد أنّه غير واقعي، ولا يغرف مما حدث أمام ناظريه، أو يقوم بمراجعات نقدية، حيث ستنحاز أية رؤية، للثقة بالشعب، وبقدرته على تجديد الاحتجاجات والثورات كذلك. بين 2011 و2019، حدثت احتجاجات في هذه الدولة أو تلك، وتوسعت خصوصا في دول الموجة الثانية، وأحدثت تغيّرات معينة، وها هي تشتدّ في العراق، وفي لبنان، يتقدّم الشباب الثوري “العلماني” في الجامعات. وفي السودان، هناك بدايات نهوضٍ شعبيٍّ جديد، ضد حكومة التكنوقراط والعسكر.

أصبحت مصائر سورية وليبيا واليمن متعلقة بتسوياتٍ إقليمية ودولية، وحينما يتمُّ التوافق عليها ستستعيد الشعوب تدفقها، وهذا سيعني تجدّداً في المشاركة السياسية. عدا ذلك كله، الثورات وتجدّدها مرتبطان بالنتائج الكارثية للسياسات الاقتصادية الليبرالية، وبأنظمةٍ قمعيةٍ حامية لها. الدول الداعمة للثورات المضادة، والأنظمة بأغلبيتها، ما تتعلم شيئاً مما جرى، وتحاول إعادة التاريخ إلى الوراء. ذكرت أن هناك أسباباً للثورات، وبالتالي هي حادثة لا محالة.

ملامح البديل

الأزمة العميقة للوضع العربي، والتدخلات الخارجية، وجديدها فرض التطبيع على بعض الدول العربية، واندماج أنظمة التطبيع مع إسرائيل، سيزيد من تعقيدات هذا الوضع، وسيضع إعاقاتٍ جديدة أمام القوى الثورية العربية مستقبلاً. هذا التعدّد لأنظمة الأمر الواقع، داخلياً وإقليمياً وعالمياً، لم يخمد حركة الشعب الفلسطيني، ولا العراقي، ولا اللبناني. وبالتالي لن يخمد كذلك الحراك الثوري العربي. الإشكالية الحقيقية تكمن في التباس البرامج الثورية والرؤى والفرضيات والنظريات، التي تَقرأ واقعنا، وكذلك في شكل الوعي والتعقل. هنا إشكالٌ عميقٌ، وهو ما زال لا يلامس خبرات السنوات العشر، وضرورة الخروج بنظرياتٍ دقيقةٍ عما جرى، واستشراف المستقبل أيضاً.

ليست السنوات العشر محوريّة، كما يُقرأ هنا وهناك. لا، لكنها تثير أسئلة كثيرة أيضاً. الآن، ليس من وصفةٍ صالحة لكل هذا التعقيد، ولكن العودة إلى الواقع، وبياناته، قد تكون المدخل المناسب للتفكر والعمل واستعادة الأحلام والنشاط الثوري. وفي هذا نرى ضرورة إبعاد المنظور الأخلاقي أو السياسوي أو الاقتصادي أو الديني عن مجال الرؤية، ومنهجية التحليل. الواقع معقد، ويستدعي رؤية معقدة ومترابطة. وعدا ذلك كله، يحاول التدخل الخارجي ضبط كل ما يخص حاضر العرب ومستقبلهم ضمن آلياته في السيطرة والهيمنة والنهب والاحتلالات كذلك؛ إذاً لا خيارات لدى العرب في التحليق الخيالي أو غير الواقعي. وبالتالي أصبحت أمامهم إشكالية جديدة، وهي إمّا إنتاج تاريخ جديد ومختلف أو الخضوع للخارج، وهذا زمنٌ مرحليٌّ، حيث أنه غير ممكن الاستدامة.

فكرتنا من ذلك كله أن هناك واقعاً متفجراً، موضوعياً، ويتطلب شغلاً نظرياً كبيراً، وعملاً سياسياً جماعياً بالضرورة، ومن أجل ذلك يجب الانتهاء من التفكير الأحادي والسائد والمحدود والرغبوي أيضاً. يقول باحثون إن العقل العربي أيديولوجي، خيالي، ديني بامتياز، أي لا ينشغل بمستويات الواقع وتخصصات العلم والاعتراف بالآخر والتعدّدية، لفهم الواقع وإشراك الجميع في تغييره، وهذا صحيح. الإشكالية هنا في أن هذا التفكير ذاته يأخذ الصفة ذاتها، أي “الأدلجة” بينما الواقع يتطلب من جهة تلك التخصصات، ومن جهة أخرى، التفلسف والتكامل والربط بين التخصصات، ومن أجل صياغة الفرضيات والنظريات، وبعد ذلك الأدلجة بالتأكيد.

نجمل القول: الواقع العربي متأزمٌ بدرجاتٍ كبيرة، وغير ممكنة إعادته إلى ما قبل 2011، والسنوات العشر تنتظر استجلاءها، والتنظير عنها وللمستقبل، وهناك مطامع إقليمية ودولية للسيطرة على العالم العربي، وهناك تكاملٌ بين أنظمة عربية كثيرة والكيان الصهيوني. الواقع السابق يدفع نحو ثورات عربية جديدة، وبالتالي، هناك ضرورة للتنظير للثورات والانحياز لها، وتهيئة الوعي والعقل العربي من أجل إنجاحها وإدخال الشعوب في حقل المشاركة السياسية، وتغيير الواقع بما يحقّق أهداف تلك المشاركة في العدالة الاجتماعية والتصنيع والتحرّر الوطني والقومي، وصولاً إلى نظامٍ ديمقراطيٍّ على أسس المواطنة وحقوق الإنسان، والفصل بين شؤون السماء وشؤون الأرض.

العربي الجديد

———————————

ثلاثة دروس في عشرية ثورات لم تنته/ مروان المعشّر

كُتِبت تحليلات عدة لمناسبة مرور عشر سنوات على الثورات العربية التي بدأت في تونس في شهر كانون الأول (ديسمبر) عام ٢٠١٠ وامتدت لأن تشمل إما احتجاجات واسعة أو تغييراً في أنظمة الحكم لأكثر من 12 بلداً عربياً. اعتمدت معظم هذه التحليلات على التغيرات الآنية التي حدثت في هذه البلدان، كما جاءت باستنتاجات تغلب فيها رؤية الأمور بالأبيض والأسود فقط، وتخلص إلى أن الاضطرابات التي شهدها العالم العربي ما هي إلا دليل على أن ما مرت به المنطقة هو خريف ودمار عربي، وليترحم الكثيرون على ما كانت عليه المنطقة قبل بدء هذه الثورات.

أزعم أن مثل هذه القراءة تكاد تكون سطحية، وتتجاهل الدروس التاريخية العديدة التي تعلمنا بأن أياً من موجات التغيير في التاريخ لم تنته باستقرار او ازدهار في فترة قصيرة مدتها عشر سنوات. كما ليس بالضرورة أن تنتهي كل موجة احتجاجية باستقرار أو ازدهار. وكما كتبت قبل سنوات في كتابي الثاني “اليقظة العربية الثانية والمعركة من أجل التعددية”، “قد يكون من المبالغ به الى حد كبير ان نتوقع من الناس ان يكون لديهم منظور تاريخي لما حدث منذ العام ٢٠١١. إن فترة انتباه الناس قصيرة، وصبرهم حتى أقصر … قلة من الناس لديها الوقت للنقاشات التاريخية أو للتفسيرات التحليلية”.

ومع ذلك، فقد علمتنا الثورات العربية الكثير خلال عشر سنوات، على الأقل لمن يريد أن يتعلم، وقدمت دروساً من الضروري الاستفادة منها حتى تكون العقود القادمة أكثر سلمية وازدهاراً.

الدرس الأول أن الوضع القائم لم يكن قابلاً للاستمرار لأن جُلّ الانظمة العربية يغلب عليها الطابع السلطوي، ولم تتمكن من محاكاة الهموم اليومية للناس وتوفير العيش الكريم لها ومحاربة الفساد المتفشي بطريقة منهجية. تُشكل هذه الحقيقة نقطة الانطلاق، وذلك رداً على من يتمنى ارجاع عقارب الساعة للوراء وتجاهل الأسباب الرئيسية، أي ضعف المأسسة والحاكمية الرشيدة، التي أدت الى اندلاع الثورات بالدرجة الأولى. أما وقد طالت هذه الاحتجاجات أكثر من 12 دولة، فقد تراجعت الحجة القائلة أن الموضوع ليس الا مؤامرة خارجية، بمعنى أن الشعوب العربية تساق هكذا دون أن يكون لها قرارها الذاتي. هذا لا ينفي بالطبع بروز تدخلات خارجية في العديد من الدول كليبيا وسوريا واليمن، ولكنها أتت استغلالاً لهذه الثورات، وليست مسببة لها. وقد أدت القراءة الخاطئة لقوى الوضع القائم إلى عودة الناس لبيوتها في العديد من الدول خوفاً أن تلقى دولها مصير سوريا أو اليمن أو ليبيا، الى رجوع هذه الانظمة لأساليبها السلطوية، دون معالجة الأسباب التي أدت أصلاً للثورات العربية. فكانت النتيجة ظهور موجة جديدة من الثورات عام ٢٠١٩، وذلك في السودان والجزائر والعراق ولبنان.

الدرس الثاني أن قوى الوضع القائم متجذرة في العالم العربي إلى حد كبير، وأنها قادرة في معظم الاحيان، حتى عندما تتعرض لهزات كبيرة كما في مصر أو الجزائر أو سوريا مثلاً، الى استعادة قواها واساليبها، مستفيدة من قلة خبرة وتنظيم الاحتجاجات الشعبية ضدها. كما من الواضح أن هذه القوى لا تملك رغبة او ارادة اصلاحية، وأنها تعتقد بأن بإمكانها استخدام الاساليب الامنية والسلطوية لإدامة الاستقرار ولو بالقوة، وأن بناء المؤسسات الحقيقية وانظمة الفصل والتوازن وسيادة القانون على الجميع ليس من أدبياتها ولن يكون.

أما الدرس الثالث والأساسي فهو أن الاحتجاجات والثورات بحد ذاتها لا تؤدي الى بناء دول حداثية قوامها مؤسسات راسخة وسيادة القانون واحترام التعددية، وان ذلك يحتاج الى أطر فكرية وتنظيمية، وإلى الوقت الكافي لنضوجها. لم يهتم الجيل الجديد بهذا في الغالب. ولم يُساعد الغياب الفاعل للحياة الحزبية ومؤسسات المجتمع المدني، في تحويل هذه الاحتجاجات الى بدائل مقنعة لعامة الناس، وبذلك فقد خبا نجم الاحتجاجات في كافة هذه الدول. وبعدما خرج الجزائريون للشارع بمسيرات مليونيه كل يوم جمعة على مدى أكثر من عام، لم ينجحوا في تحقيق التغيير الذين كانوا يطالبون به. وفي لبنان، فان ثورة تشرين الاول عام ٢٠١٩ خبت هي الاخرى. في معظم هذه الدول باستثناء تونس، كان المحتجون أقدر على تعريف ما هم ضده من تقديم ما هم معه من برامج وحلول. لا يعني ذلك أن الثورات العربية انتهت، و طالما لم تعالج المسببات التي أدت لهذه الثورات، فسيشهد العالم العربي موجات ثالثة و رابعة وخامسة.

كيف يكون الحل إذا وما هي أدواته؟ فان سلمنا أن عقارب الساعة لا تعود للوراء، وإن الاحتجاجات الشعبية دون تأطير فكري وسياسي وتنظيمي لا تؤدي الى تغيير ايجابي في معظم الاحيان، وأن الانظمة السلطوية قادرة على وأد أي محاولة لإنشاء أطر تنظيمية تقليدية كالأحزاب مثلا، فكيف السبيل لطرق سلمية فاعلة تعترف بصعوبة الواقع ولكنها لا تقف عنده؟

أعتقد أن امام الجيل الجديد مهمة شاقة تبدأ بالاعتراف بانه ما من طرق مختصرة للديمقراطية والازدهار، وان الطريق يبدأ من تثقيف نفسه فكرياً واستيعاب المبادئ الحقيقية للديمقراطية والايمان بها فعلاً لا قولاً، ثم بناء أطر تنظيمية غير تقليدية لا تستطيع الانظمة السلطوية التقليدية السيطرة عليها، أطر تمكنه من الحوار والمناقشة وتطوير نفسه فكرياً وتنظيمياً، وصولاً الى تقديم بدائل مقنعة لعامة الناس، فلا يمكن للأطر الفكرية أن تبقى أسيرة العقول النخبوية، بل يجب العمل الدؤوب لتوعية الناس كيف تؤدي التعددية والمدنية الديمقراطية لتحسين حياتهم اليومية.

هذه المهمة ليست أهلاً لأصحاب القلوب الضعيفة، أو لمن أعتبرهم الرومانسيين الحقيقيين، أولئك الذين يستسلمون أمام الصعاب الجمة التي تعترض طريق الديمقراطية، وبخاصة بالتزامن مع الأحوال الاقتصادية الصعبة. حان الوقت كي يدرك الجيل الجديد في العالم العربي أن الطريق طويل وشاق، وأن الوصول لعالم عربي مستقر ومزدهر يتطلب عقوداً من الزمن، ولن يتحقق في حياة الكثيرين، بمن فيهم ابناء وبنات جيلي.

التوعية والاستعداد والتثقيف وبناء البرامج المقنعة واستخدام وسائل الاتصال الحديثة كلها عوامل ستساهم في خلق جيل جديد مختلف ينشد الحوكمة الرشيدة والسلمية والتعددية والتشاركية والانتاجية في الوقت ذاته، فهي الاسس التي سيقوم عليها أي ازدهار مستقبلي.

مركز كارينغي للشرق الأوسط

————————————–

امتحان الثورة السورية الكبير/ حسام الحميد

عشر سنواتٍ عجافٍ مرّت أو كادت تنصرم، ونزيف الدم السوري لم يتوقف يوما، ومعاناة أهلنا تزداد يوما بعد يوم، والنظام يزداد شراسةً وتنمّراً وفتكاً، والاستحقاق الانتخابي على الأبواب، والمعارضة الهزيلة تكشف عن زيفها، والفساد المستشري في مؤسساتها بات يزكم الأنوف، وعصابة محمد الجولاني تقوم بدور شرطي النظام، و”قسد” (قوات سورية الديمقراطية) تستفرد بالمنطقة الشرقية، وتنهب خيراتها وتستعبد أهلها، والأمور تزداد سوءاً، ولا حل يلوح في الأفق، فما العمل؟ لا بدّ أولاً من تشخيص هذا الواقع المرير، ومن ثم اقتراح الحلول المناسبة.

‏ليس لدى أي سوري ثائر حر شريف، خرج في هذه الثورة العظيمة، أي شك اليوم في فساد مؤسسة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، والمؤسسات المنبثقة عنه، والتي تمثل المعارضة السورية كافة، سواء السياسية منها، أو العسكرية شاملة منظمات الإغاثة، وأصبحت قناعته في ذلك، كما هي قناعته التامة في فساد النظام وزمرته العميلة المجرمة. ويذهب السوري الثائر أكثر من ذلك في ربط بعض شخوص هذه المعارضة بالنظام نفسه، ويصل الشك عنده إلى حدّ القناعة، شبه التامة، بوجود عناصر مهمة فاعلة من رموز هذه المعارضة، من صناعة النظام، وهي تتبع له، واستطاع زرعها في جسد المعارضة الهشّ، وسيطرت بعوامل كثيرة على قرار تلك المؤسسات، حتى باتت تلك المؤسسات رهينةً لها، وتتحكّم بها كيفما تشاء، وثمة أحداث جارية تؤكد هذه الشكوك، ولا سيما أن الاستحقاق الانتخابي لرئيس العصابة قاب قوسين أو أدنى، وهي مرحلةٌ مفصليةٌ في عمر النظام، يعمل جاهداً على استثمارها لصالحه، وإشراك هذه المعارضة الهزيلة بشكل رسمي فيها، وهي ما تحاول فعله من خلال أداء الهيئة الدستورية، والإعلان عن تشكيل هيئة انتخابية، واستعداد بعض الأشخاص للترشح لخوضها، يعني إعطاء الشرعية للنظام المجرم، وإعادة إنتاجه وتعويمه لمرحلة جديدة، قد تطول سبع سنوات عجاف أخرى.

الأخطر من ذلك والأدهى والأمرّ أنها ستخرجه من دائرة الإجرام والإبادة الجماعية، والديكتاتورية والاستبداد، إلى دائرة الديمقراطية والحرية، ومن ثم البطولة والوطنية والثورية وحامي الحمى، ومحارب الإرهاب. وقد تستثمر هذه السنوات المريرة من فترته الرئاسية المقبلة، لتهيئة ابنه خليفة له، ويقضي فيها على آخر جيوب المقاومة، وآخر نفس ثوري في الشعب السوري كله، ومن هنا تأتي خطورة الانتخابات، وجريمة من يترشّح ويشترك ويشارك فيها.

الشعب السوري اليوم أمام مهمة كبيرة، وهي ضرورة إزالة رموز فاسدة تربعت على قمة هذه المؤسسات رغماً عن الشعب الثائر، مدفوعة بأجندات غربية، ومن دون إرادته، وحولتها إلى باب للاسترزاق والكسب غير المشروع والثراء الفاحش على حساب دماء الشعب السوري ومعاناته. والدفع بالشخصيات الوطنية النظيفة من أصحاب الخبرة الكبيرة، والكفاءة العالية، والسمعة الحسنة، إلى تصدر المشهد بدلاً عنهم، ووضع الأمور في نصابها الصحيح. ومن ثم محاسبة الجميع، بمن فيهم الذين يدّعون النزاهة والحرص على الثورة، ويعملون على انتقاد هذه المؤسسات الفاسدة في مجالسهم الخاصة؛ من شخصياتٍ كانت وما زالت ضمن هذه الجوقة الفاسدة سنوات طويلة، وساهمت مساهمة كبيرة في التغطية عليهم، ومشاركتهم الجريمة على استحياء، وعملت معهم على إبعاد الشخصيات الوطنية، ذات التاريخ النضالي المشرّف، والخبرات المتراكمة في العمل السياسي، المشهود لهم بالنزاهة ونظافة اليد، وسلامة القلب، وصدق النيات، والإخلاص في العمل.

السؤال الملح: كيف يمكن أن يتم ذلك؟ لقد أصبح من العسير جداً فك العقدة السورية؛ لأنها باتت اكثر تعقيداً من أي وقت مضى، في ظل سيطرة حفنة من المنتفعين على “الائتلاف” وباقي مؤسسات المعارضة السورية وهيمنتهم. وكان من المأمول من الدول الراعية للشعب السوري التي تسلمت الملف، وأصبحت مسؤولة عنه، أن تنتبه إلى ما يفعل هؤلاء، وتضع رقابة عليهم، وطريقة لمحاسبتهم، ومنعهم من التصرّف بأموال الشعب، وقرار الثورة. لم تفعل ذلك، بل أعطتهم الشرعية، وأمدّتهم بأسباب القوة، ومنحتهم الغطاء، ووهبتهم الحصانة، وأطلقت يدهم، ومنعت معارضيهم من النيل منهم.

مهمة الشارع اليوم أن يدفع المعارضين لهم لفضحهم، وكشف فسادهم، وبيان أساليبهم في تدمير الثورة، وإنهاء الثوار. وعلى الرغم من صعوبة الأمر، وقد يكون أحد أهم الأسباب للقضاء على هؤلاء، وفي هذا الوقت، أن يتداعى عدد من الشخصيات الوطنية إلى عقد مؤتمر وطني في الداخل المحرّر، لانتخاب قيادات جديدة بديلة عنهم، وإعداد العدة لامتلاك قرار الثورة من جديد. ولا يُنسى هنا دور الفصائل العسكرية التي كانت لحمة الثورة وسداها، وانخرط فيها خيرة الثوار، وقدّموا أرواحهم فداء لوطنهم وشعبهم وثورتهم، تحوّلت في معظمها إلى عصابات قتل، وجريمة منظمة، وتخلت عن دورها الوطني، وشكلت الغطاء له، وتقاسم قادتها الغنائم معهم، وصارت أداة لقمع الشعب، بعد أن كانت سيفاً مدافعاً عنه، ومن خرج عليهم حاسبوه وعاقبوه وحرموه وجردوه وأودعوه السجن أحياناً.

‏‎وثمة فساد معظم كوادر منظمات الإغاثة يزكم الأنوف، وتحكّمها بالمساعدات، واستغلاها لإذلال الشعب وتجويعه وتمزيق لحمته الوطنية، وتحويله إلى متسوّل مرتزق عاطل من العمل، عاجز عن فعل شيء.

يقول أحدهم رداً على سؤالنا له: كيف يمكن الخلاص من هذا الواقع المرير وتغييره؟ قال بيأس: إذا كنت لا تستطيع إقالة مدير مخيم فاسد، أو رئيس جمعية إغاثية، فكيف تستطيع إزاحة عصابة أبو عمشة، أو جماعة الجولاني، أو إقالة فلان، أو إنهاء دور علان، وتسلط هذا على اللجنة الدستورية، وتنازلات ذاك أمام عصابة النظام.

‏‎يثمل الجولاني اليوم الخنجر المسموم في خاصرة الشعب الثائر، وضابط المخابرات الذي يستحلّ كل الحرمات، ويستبيح الأموال والأرواح، ويفتك بالشعب فتكا لم يستطعه النظام نفسه، ويعربد هو وعصاباته المجرمة، ويحوّل الشمال المحرّر، وتحديداً مناطق نفوذه، إلى غابةٍ ومزرعةٍ وإمارة، وينصّب نفسه أميراً على ركام وطن هده القصف، وشعب هده الجوع والظلم والحرمان. ولا سبيل للخلاص إلا بقوة أكبر، والقوة له وليست عليه، ومن يرتجى منهم الخلاص يؤمنون له الغطاء، ويطلقون يده يفعل ما يشاء من دون رقيب ولا حسيب.. إنه الوجه الآخر لبشار وعصابته، يفعل ما يعجز عنه صنوه وخليله وربيبه ومعلمه وسيده.

تستبيح “قسد” المنطقة الشرقية والشمالية الشرقية من سورية، وتنهب قادتها عصابات معروفة ثرواتها التي تقدر بملايين الدولارات يومياً، وتعربد في المنطقة متسلحةً بطيران التحالف وجيوشه وعساكره، وشعبه الرازح تحت الاحتلال “القسدي”، لا حول له ولا قوة، ويعمل المستحيل لإقناع التحالف الدولي باستحالة التعايش مع “قسد”، وردم الهوة الكبيرة التي تتسع يوماً بعد يوم .. وتثبت “قسد” كل يوم فشل مشروعها في المنطقة، وهي في الأصل لا تحمل مشروعاً، ولا تتعدى كونها عصابات، وأداة من أدوات النظام.

ما هو الحل؟ الحل في أن يخرج الأشخاص الملوثون من مؤسسات المعارضة السياسية والعسكرية، وأن تحل بديلاً عنهم الشخصيات الوطنية النظيفة، والخلاص من الجولاني وعصابته، وأن تنسحب “قسد” من منطقة شرق الفرات، وتسلم المنطقة لأبنائها، وهم من يستثمر ثرواتها لإعمار المنطقة وازدهارها، وعودة أهلها، وسعادة أبنائها.. وأن تستعيد الثورة ألقها، ويعيدها الثوار سيرتها الأولى.. ولكن كيف؟ هذا هو السؤال المحير.. الذي يبحث عن جواب، وهذا هو امتحان الثورة الكبير.

العربي الجديد

—————————–

الربيع العربي وسلطويةُ المجتمعات/ محمد أحمد بنّيس

انصرم عقدٌ على اندلاع ثورات الربيع العربي التي غيرت وجه المنطقة إلى الأبد. وبانصرامه تتشكّل فجوة زمنية تسمح، إلى حد ما، بمساءلة هذا الحدث المفصلي، والوقوف على مساراته التي كان معظمها دراميـا. وعلى الرغم من أن العوامل التي تقف خلف انتكاسة هذه الثورات كثيرة ومتداخلة، إلا أن تأثير بعضها كان حاسما.

في مقدمة هذه العوامل غياب الكفاءة لدى النخب السياسية في إدارة الفترة التي أعقبت سقوط بعض الأنظمة، والعجزُ عن اجتراح توافقاتٍ بشأن توزيع تكاليف التحوّل نحو الديمقراطية. فقد رأت في هذا التحول فرصةً تاريخية لتوسيع نفوذها السياسي، وتصفية حسابات إيديولوجية وحزبية قديمة. ولم تكن مستعدةً لدفع أي كلفةٍ من شأنها أن تُسهم في تخطّي العقبات الكبرى التي عادة ما تشهدها عملية التحول الديمقراطي، سيما في أطوارها الأولى. أكثر من ذلك، سعت بعض هذه النخب إلى الاستئثار بمختلف موارد السلطة، والتحكّم في مفاصل الدولة، في جهلٍ تام بموازين القوى الداخلية والإقليمية والدولية وحساسية المرحلة الانتقالية. وقد أفضى هذا الوضع إلى زيادة التقاطب الحزبي والمجتمعي، سيما في مصر التي شكلت مختبرا حقيقيـا لمدى إمكانية إحداث تغيير ديمقراطي بأقل كلفة ممكنة.

يعود الإخفاق في هذا المنحى إلى السلطوية المترسبة في بنية المجتمعات العربية، والتي تغذّي الانقسام في غير قضية وشأن. يتعلق الأمر بثقافةٍ سياسيةٍ سلطويةٍ تخترق الاجتماع السياسي العربي، وتعيد إنتاجه بشكلٍ يُصبح معه إحداث تغييرٍ سياسيٍّ حقيقيٍّ أمرا في غاية الصعوبة. ولا فرق في ذلك بين الدولة الوطنية التي وصلت إلى الإفلاس التام والمعارضة بكل أطيافها اليسارية والعلمانية والإسلامية. هذه السلطوية هي التي منحت حركة الإخوان المسلمين في مصر شعورا زائفا بالغلبة في مواجهة القوى المدنية والثورية التي كانت عصب ثورة 25 يناير. وقد ساعد النزوع المتواتر للحركة نحو الاستئثار بالسلطة على إيجاد حالة تشنج مجتمعية، سرعان ما استثمرتها قوى النظام القديم، لتعيد بناء حساباتها في ضوء هذا الانقسام غير المسبوق الذي عرفه المجتمع المصري خلال سنتي 2012 و2013. وفي غضون ذلك، كانت المؤسسة العسكرية، بكل أذرعها الاجتماعية والأمنية والإعلامية، ترصد اتساع هذه الفجوة بين مكونات ثورة يناير في انتظار اللحظة الموعودة لسحب البساط من تحت أقدام الجميع، وكذلك كان.

لم تفرز الثورات العربية قياداتٍ قادرةً على جدولة الأولويات وتوجيهها بناء على أجندات مجتمعية واضحة، فالدينامية الاحتجاجية التي أسقطت بعض الأنظمة لم يواكبها نقاشٌ عموميٌّ مفتوح بشأن قضايا كثيرة حول الدولة والمجتمع والهوية. وتمّت الاستعاضة عن ذلك بفتح مواجهاتٍ فكرية وإيديولوجية غير مجدية، عكست عجز مجتمعاتنا عن تجاوز بنيتها السلطوية في لحظةٍ تاريخية فارقة، وذلك بسبب غياب قيم الحرية والمساواة والتسامح واحترام حق الاختلاف عن انشغالات المؤسسات الاجتماعية الرئيسة.

أظهرت خبرة الربيع العربي دور الانقسام المجتمعي في إجهاض التحوّل نحو الديمقراطية. ولم يكن هذا الانقسام، فقط، على المستوى الأفقي من خلال التقاطب الفكري والحزبي الذي طبع التدافع الذي واكب الاحتجاجات، بل كان، أيضا، على المستوى العمودي، إذ وظفت الثورة المضادّة والقوى الإقليمية والدولية المعادية للتغيير في المنطقة الانقسامات القبلية والطائفية لإجهاض المسارات الانتقالية في سورية واليمن وليبيـا. وحتى التجربة التونسية التي نجحت، نسبيا، في تجنّب هذا الانقسام طوال السنوات المنصرمة باتت مهدّدة أكثر من أي وقت مضى، خصوصا بعد أن أعادت القوى المحسوبة على نظام زين العابدين بن علي رصّ صفوفها، في مسعى لخلط الأوراق باختلاق صراعات جانبية منهكة لخصومها.

إذا كانت الموجة الثانية من الربيع العربي (2019) أكثر نضجا، على ما يبدو، في تجاوز الانقسامات العرقية والقبلية والطائفية والمذهبية، فإن الأهم من ذلك يبقى مرتبطا بمدى قابلية النخب التي يُتوقع أن تفرزها موجاتٌ قادمةٌ محتملةٌ للربيع العربي، لأن تصوغ خطابا سياسيا واقعيا لا يكتفي، فقط، بتجنب استدعاء هذه الانقسامات وتوظيفها، بل يسهم، أيضا، في بناء ثقافةٍ سياسيةٍ جديدةٍ تسعف هذه النخب في تدبير عملية التحوّل الديمقراطي العسيرة.

العربي الجديد

——————————–

عقد طويل من الانتفاضات والآمال والخيبات/ هشام ملحم

أطاحت الانتفاضة الشعبية المصرية في مثل هذا اليوم قبل 10 سنوات بالرئيس حسني مبارك الذي حكم مصر لثلاثين عاما اتسمت بالعسف والفساد والركود. المصريون الذين شاهدوا واستمعوا الى صرخة الشعب التونسي “الشعب يريد اسقاط النظام”، انتفضوا مطالبين بإسقاط نظام جردهم من كرامتهم وحقوقهم الأساسية وعاملهم كأتباع وليس كمواطنين أحرار. وخلال 18 يوما من التظاهرات العفوية والحماسية تجمع ألاف الشابات والشباب ولحقتهم مختلف مكونات الشعب المصري في ميدان التحرير في القاهرة وفي الساحات والشوارع الرئيسية في مختلف المدن المصرية، وحولوا هذه الأماكن العامة إلى جلسات مفتوحة ومتلفزة ليناقشوا فيها حاضرهم القاسي، ورغبتهم بتخطيه إلى مستقبل أفضل وبطرق سلمية. كانت لحظة تمكين واعدة ومتفائلة، اختلط فيها الإيقاع الاخاذّ لصرخة: الشعب يريد إسقاط النظام، مع هتاف “سليمة” الموجه للمتظاهرين وللعالم، وهتاف “ارحل” الموجه للفرعون المسّن ولنظامه الآسن.

الانتفاضة أرغمت المؤسسة العسكرية المهيمنة بثقلها الخانق على مصر منذ الانقلاب العسكري ضد النظام الملكي في 1952، على التخلص من مبارك وسجنه مع نجليه، وبعض مساعديه. ما حدث بعد ذلك، كان سلسلة من النكسات والضربات المتتالية لأمال ملايين المصريين بالتغيير والتمكين، من قبل العسكر والإسلاميين، الثنائي المسؤول بالدرجة الأولى عن تحويل مصر إلى مجتمع عسكري، أكثر تسلطا ومحافظة ورجعية، وأقل انفتاحا وتسامحا. هذا ما جلبه العسكر والإسلام السياسي إلى مصر، وكأن إرث القاهرة والاسكندرية الكوزموبوليتاني الغني الذي جعل القاهرة عاصمة العرب الثقافية والفنية منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، لم يستمر لأكثر من لحظة.

العسكر في مصر شكّلوا المجلس الأعلى للقوات المسلحة “لإنقاذ” البلاد باسم الشعب ومصالحه، بعد التخلص من مبارك وواصلوا تقاليد الجيش المصري منذ 1952 باحتكار السلطة. حكمهم كان أسوأ من حكم مبارك. انتخاب الرئيس محمد مرسي، كان أول استثناء لحكم العسكر في مصر وأول انتخاب لممثل عن حركة الإخوان المسلمين كرئيس لمصر. حكم مرسي لم يكن ديموقراطيا أو خاليا من الفساد أو الفوضى. عودة العسكر إلى السلطة في مصر كانت مسألة وقت. وفي يوليو 2013 قام قائد الجيش عبد الفتاح السيسي بانقلاب وأطاح بحكم مرسي، وهو ما رفضه الإسلاميون الذين واصلوا تظاهراتهم واعتصموا في ساحة رابعة العدوية. في الرابع عشر من أغسطس شنت قوات الأمن المصرية هجوما ضد المعتصمين الذين كان بينهم نساء واطفال ما أدى الى قتل 900 شخص، في أبشع مجزرة في تاريخ مصر الحديث. نظام السيسي، هو الأكثر تسلطا منذ سقوط الملكية. في ظل السيسي خسرت مصر الكثير من مكانتها الإقليمية. ولا يزال نظام السيسي يواجه تمردا مسلحا من الجماعات الإسلامية المتطرفة والإرهابية في سيناء، لم ينجح بإنهائه حتى الان، على الرغم من لجوئه لدعم سلاح الجو الإسرائيلي الذي يقوم بالإغارة على مواقع المتطرفين بين وقت وآخر. قمع الحريات المدنية في مصر وصل الى مستويات غير معهودة في ظل نظام السيسي.

 جميع الدول التي واجهت الانتفاضات السلمية، ردت عليها بالعنف. وحدها تونس تفادت الانزلاق إلى العنف الجماعي بعد الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي، وخرجت من الانتفاضة أفضل سياسيا مما كانت عليه قبل نزول المواطنين الى الشوارع، ولكن الأمل بإنعاش الاقتصاد وتوسيعه، لم يتحقق حتى الان. في ليبيا، حوّل معمر القذافي الانتفاضة السلمية إلى معارضة مسلحة، سرعان ما تحولت الى حرب أهلية، ومسرحا لحروب بالوكالة لصالح دول مثل تركيا وروسيا لا تزال مستمرة حتى الان.

الانتفاضة السورية بدأت سلمية، ولكن نظام بشار الاسد الذي قمع المتظاهرين بوحشية، ساهم في تحويلها إلى انتفاضة مسلحة حين أطلق سراح مئات الاسلاميين من سجونه آملا بأن ينضموا إلى الانتفاضة لعسكرتها ومحاولة خطفها. في السنوات التالية شهدت سوريا عنفا لم تشهده في تاريخها الحديث وقتل جماعي على يد نظام لم يتردد في استخدام الأسلحة الكيماوية ضد شعبه. بعد عشرة سنوات من الانتفاضة، سوريا اليوم هي أرض يباب، يسيطر على أجوائها سلاح الجو الاسرائيلي، بينما تتنافس فوق أراضيها قوات إيرانية وتركية وروسية، بعد أن حوّل نظام الأسد ثلث سكانها الى لاجئين ومقتلعين.

في اليمن، أدت الانتفاضة إلى الإطاحة بالرئيس علي عبدالله صالح، ولكن البلاد سرعان ما انزلقت الى الاقتتال الداخلي ما أدى لاحقا إلى سيطرة حركة الحوثيين التي تمولها وتسلحها إيران على العاصمة صنعاء. الحرب التي قام ائتلاف عسكري عربي للتصدي للحوثيين، بقيادة السعودية التي شنت حملة جوية مدمرة قتلت الاف المدنيين، ولحقتها دولة الامارات التي أرسلت قواتها البرية للسيطرة على أماكن استراتيجية في البلاد. لا تزال مستمرة حتى الان، وتحولت الى أسوأ كارثة انسانية في القرن الحادي والعشرين.

الانتفاضة في البحرين، بدأت سلمية مثلها مثل الانتفاضات الاخرى، وطالب المتظاهرون بإصلاحات جدية وبحقوقهم السياسية والمدنية وتمكين الأكثرية الشيعية في البلاد. ولكن عائلة آل خليفة الحاكمة ردت بالنار والحديد ضد المتظاهرين وقمعت تجمعهم في دوار اللؤلؤة. وعندما لم ينجح قمعها في القضاء على الانتفاضة، قامت دول الخليج بقيادة السعودية بإرسال قوات عسكرية لإنهاء الانتفاضة.

بعد مرور عقد من الزمن على الانتفاضات العربية، من الواضح أن أي منها لم يتحول الى حركة سياسية منظمة وقادرة على مواجهة الأنظمة الحاكمة أو تحييد قواتها العسكرية. الأنظمة الحاكمة أثبتت أنها قادرة عبر استخدامها السافر للقوة العسكرية على الحفاظ على سيطرتها.

وباستثناء تونس فان جميع الدول التي انتفضت قبل 10 سنوات، هي الان في وضع أسوأ مما كانت فيه قبل موسم الانتفاضات. ولكن الأسباب التي أدت الى انتفاضات 2010 و2011 مثل الكساد الاقتصادي، وغياب الحريات السياسية والمدنية، وهدر الثروات العامة والفساد، لا تزال موجودة، لا بل تفاقمت أكثر بعد الانتفاضات. وفي السنوات الماضية انتفض السودانيون وتخلصوا من قمع وفساد رئيسهم عمر البشير، كما انتفض الجزائريون وأطاحوا بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي أوصل الجزائر الى طريق مسدود. التغيير في البلدين بقي محصورا برأس السلطة ولم يؤد ألى تغييرات جذرية في المجالين السياسي والاقتصادي.

وفي السنتين الماضيتين نظّم العراقيون واللبنانيون تظاهرات شعبية عارمة ضد الفساد والتسلط وحكم أمراء الحرب والميليشيات الطائفية. التظاهرات أسقطت رئيس الحكومة، في كلا البلدين، ولكن التظاهرات الاحتجاجية لم تؤد الى أي تغيير إيجابي وثابت. وفي العراق كما في لبنان تدخلت الميليشيات التابعة لإيران لوقف وقمع الارادة الشعبية. ما حدث في السنوات الأخيرة يبين أن الوضع الراهن غير قابل للاستمرار دون تغييرات جذرية سياسية واقتصادية. وإذا لم تحدث هذه التغييرات، فان معظم الأنظمة السياسية في الدول العربية سوف تبقى معرضة لهزات وانتفاضات دورية، لن يستطيع الحكام كبتها وقهرها ألى ما لا نهاية.

قناة الحرة

—————————————–

==========================

=======================

——————————-

“الربيع العربي” .. عشر سنوات وماذا بعد؟/ علي أنوزلا

كيف نتذكّر “الربيع العربي” بعد مرور عشر سنوات على اندلاع ثوراته؟ الأكيد أن الصورة اليوم سوداوية، لأن أول ما نستحضره هو بشاعة الحروب الأهلية المروّعة في سورية وليبيا واليمن التي خلفت مئات آلاف من الأرواح، ودمرت مدنًا بكاملها، ودفعت ملايين اللاجئين إلى التشرّد والغربة. وما نشاهده على أرض الواقع هو نجاح الانقلاب العسكري في مصر، واستمرار الحروب الإقليمية بالوكالة، وتحوّل المنطقة إلى رقعة شطرنج لتسوية الحسابات الجيوسياسية للقوى العظمى، وتفوّق الثورات المضادّة، وعودة موجة القمع الذي فرضته الأنظمة الناجية لإسكات الأصوات المعارضة لاستبدادها وفسادها.

لكن، هذا لا يمنع من أن ننظر إلى تلك الانتفاضات الشعبية التي عرفتها أكثر من 20 دولة عربية أنها حدث تاريخي شكّل، بإبداعه وزخمه، قيمة مضافة في مسار الثورات الشعبية للبشرية، حرّكَتها مطالب الناس من أجل الكرامة والحرية، وسخطهم ضد أنظمةٍ فاسدةٍ تستشري فيها المحسوبية، وتنعدم فيها ثقافة المساءلة، بالإضافة إلى ظروفٍ اجتماعيةٍ قاسيةٍ وحقوق أساسية مقيدة أو غائبة. وعلى الرغم من أنها لم تغير الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي دفع الناس إلى النزول إلى الشوارع، إلا أن هذا ليس دليلا ضدها بقدر ما هو حجّة على استمرارها في الزمن، طالما ظل الواقع نفسه على ما هو عليه.

لقد تحوّل الربيع العربي إلى شتاء طويل وقاس، تاركًا وراءه إرثًا معقدًا وحروبًا أهلية وأحلامًا محطّمة، لكن هزات تلك الثورات ما زال لها تأثير عميق في حياتنا اليوم ومستقبلا. يكفي أن نتذكّر أن آخر موجاته هي التي أطاحت، قبل سنة فقط، عمر البشير بعد 29 عامًا من الحكم الديكتاتوري في السودان، وعبد العزيز بوتفليقة بعد 20 عامًا من الحكم “المافيوزي” في الجزائر، وأخرجت الآلاف للاحتجاج في شوارع بيروت والعراق، عام 2019، وقبل ذلك في منطقة الريف في شمال المغرب عام 2016.

وعلى مدى عشر سنوات الماضية، تعمقت كل أسباب الانفجار الاجتماعي في أغلب الدول العربية، بما في ذلك تونس، البلد الوحيد الذي نجح في بناء مؤسساتٍ سياسيةٍ ديمقراطية، وليس غريبا أن يشهد هذا البلد عودة الاحتجاجات بقوة إلى شوارع مدنه، لأنه الوحيد في المنطقة العربية الذي يمكن أن يتظاهر فيه الناس بدون خوف من بطش السلطة الحاكمة. وإذا لم تخرج المظاهرات في دول أخرى، فليس لأن وضع شعوبها أحسن من وضع الشعب التونسي، فقط لأن أنظمتها لا تسمح لها بالتعبير عن مطالبها بأمان. لقد نجح النظام العربي القديم في إعادة بناء كل آليات تحكمه القديمة وتقويتها، وهي المتمثلة في الاستبداد والفساد والقمع وبولسة المجتمع، فعادت مصر إلى ديكتاتورية العسكر، وستلتحق بها قريبا كل من الجزائر والسودان، فيما يستمر نظام بشار الأسد المجرم جاثما على خراب ما تبقى من سورية وكاتما على أنفاس من بقي فيها. أما الدول العربية البوليسية فقد شدّدت قبضتها أكثر على مواطنيها، فيما تتفاقم في كل مكان المشكلات الهيكلية التي أدّت إلى انتفاضة الشعوب قبل عشر سنوات من بطالة وفقر وتهميش وعدم مساواة وظلم وسوء خدمات، فالأسباب التي دفعت الناس إلى النزول الشوارع عام 2011 ما زالت قائمة، بل أكثر من ذلك لم يعد الناس يثقون في وجود إرادةٍ لدى أنظمتهم للإصلاح الذي ظل متعثرا، على الرغم من مرور عشر سنوات من الوعود الكاذبة.

في أوروبا، استمرت الفوضى وعدم الاستقرار بعد الثورة الفرنسية عام 1789 عشر سنوات دامية، انتهت بانقلاب نابليون بونابرت عام 1799. وبعد مرور نصف قرن من الحروب والغزوات، عرفت أوروبا موجة جديدة من الثورات الديمقراطية، عمّت معظم دولها ما بين 1848 و1849. ومع ذلك، استغرق الوقت مائة سنة أخرى، شهدت فترات الاستعمار بكل مآسيها وحربين عالميتين تسببتا في وفاة أكثر من مائة مليون شخص، قبل أن تصل هذه الدول إلى شكل الديمقراطيات القائمة فيها اليوم.

يُقال إن التاريخ لا يعيد نفسه، وأكثر من ذلك أحداثه ليست خطّية. ومع ذلك، لا تخلو المنطقة العربية من الأمل، على الرغم من كل الفوضى والمآسي التي تعرفها أكثر من دولة عربية اليوم. وخيط الأمل هو الدروس التي علّمتها لنا السنوات العشر الماضية، فبقدر ما أثبتت التجربة أن التغيير الثوري لا يؤدّي حتما إلى التقدّم والتحرّر والعدالة الاجتماعية، أكد الواقع أن الأنظمة الفاسدة غير قادرةٍ على إصلاح ذاتها بذاتها، وأسطورة الإصلاح المتدرّج والإصلاح من الداخل ما هي سوى وسائل لتسويغ استمرار الفساد وتجذره داخل بنيات مجتمعية متهالكة. أما الدرس الثاني الذي تعلمته الشعوب العربية هو اكتشافها أن التعويل على الغرب الديمقراطي لتحقيق التغيير كان وهما كبيرا أسقطته تجارب الانتفاضات العربية. والمثل الأخير كان تعامله مع انتفاضة الشعب الجزائري، فالغرب يدرك أن استمراره في دعم أنظمة استبدادية أقلّ كلفة بالنسبة إليه من التعامل مع تغييراتٍ لا يعرف ما قد تحمله من مفاجآت غير سارة.

أسقطت موجات الربيع العربي الأولى جيلا من الطغاة العرب، ولحظة ما أسقطت معهم كذلك جدار الخوف. واليوم عاد الخوف، لكنه هذه المرة أصبح معمّما يسكن المواطن والحاكم على حد سواء، لأن الأخير يدرك أن ما يمنع الناس من الخروج للتظاهر هو الخوف من بطش أجهزته، وهذا الخوفُ المتبادل لا يمكن أن يبني استقرار دولةٍ أو يضمن استمرار تنمية. وهذا درسٌ آخر من تجربة السنوات العشر الماضية.

وأخيرا، الربيع العربي لم يفشل، بل تكالبت عليه عدة عوامل داخلية وخارجية لإفشاله، وحتى في الدول التي دفعت شعوبها الثمن غاليا مثل سورية واليمن وليبيا، فهي تعتبر الأكثر إصرارا على مواصلة الطريق، لأنها فقدت الكثير إلى درجة أنه لم يعد لديها من خيار سوى الاستمرار. أما في باقي الدول العربية، ما زال احتياطي الغضب في مكانه يتفاعل في جوف المجتمع، إن لم يتعاظم فهو حتما لم ينقص، وساعة انفجاره ستفاجئنا ذات يوم، كما حدث قبل عشر سنوات. وكلفة الاستمرار في لجم هذا الغضب سترتفع فاتورتها مستقبلا، لأن حجم الانفجار سيكون عظيما، والجيل القادم الذي سيقوده يتمتع بذكاء حاد وعقلية حرّة وإرادة قوية يصعب قمعه أو إعادة بيعه الوهم نفسه من جديد.

العربي الجديد

—————————-

ربيع السنوات العشر: ماذا تعلّمنا؟/ رشا الأطرش

عشر سنوات على “ثورة يناير” المصرية. في مثل هذه الأيام، قبل عقد، كنا صاعدين في النشوة. الثورة، حالة تتبلور، حلم يمسي صوراً مباشرة في التلفزيونات وهتافات ابنة ساعتها وزحمة خلقت معنى عربياً جديداً لمواقع التواصل الاجتماعي. ما كان خيالاً يوصم بالشطط، صار له، في مثل هذه الأيام، إسم: الربيع العربي. كان زين العابدين بن علي قد هرب، ورَجعُ صدى الرجل الصارخ بالخبر لا يزال يتردد في آذاننا، لتتوالى مفاعيل الدومينو، في اليمن وليبيا وسوريا، الأردن والبحرين والجزائر وجيبوتي، السودان والعراق وفلسطين ولبنان.. بعض تلك الثورات استمر وحقق إنجازات و/أو استجرّ ويلات وما زال يغلي بتناقضاته. البعض الآخر فشل واندثر. والبعض الأكثر إيلاماً تحوّل حروباً لا تني سوريا تحتل صدارتها، ولبنان قعرها.

منذ سبع سنوات، على الأقل، نتخبط في مشاعرنا إزاء استعادة التواريخ بالأيام والساعات. هل هي ذكرى، نحييها كشكل من أشكال المكابرة على إعلان موتها؟ أم نبكيها، كأنها قدَرنا المحتوم والمختوم باليأس من أي تغيير إلى الأفضل؟ هل هي تاريخ ما زال يُصنع؟ أم مشاريع تأسيسية بأثمان باهظة، وإن تفاوتت، ولنا أن نربّت بيدنا على كتفنا تقديراً لما أُنجز، قبل أن نصفع خدّنا بكفّنا علّنا نتذكّر ما تساقط منا في الطريق فنعود لنلمّه أو نهمّ بتركيب البدائل المؤاتية لمرحلتها؟

“الشعب يريد إسقاط النظام”، قالها التونسيون، وردّدناها. “عيش، حرية، عدالة اجتماعية”، مصرية. “ثورة الكرامة” سورية، و”إرحل” للجميع… في ميادينها، ولدت تلك الشعارات لتمسي كائنات حيّة، بل واتخذت مساراتها وتحولاتها، وعبرت حدوداً وطوائف وإثنيات. وكل حيّ يموت، لكن أحداً لا يسعه الجزم بالموت فناءً أخيراً. مثل هذه الصرخات يعيش، إذا تحوّل إلى رزمة قِيم، عقلانية عملانية، لا إنشائية مِرآتية للأنظمة المستهدفة بها. مثل هذه الصرخات، قد يكتسب حياة ثانية، أو حتى حيوات، كما في ألعاب الفيديو القتالية، إذا قُدّر له تفنيد في برامج سياسية، وإن وُجدت تلك البرامج، تحوّّل البحث في اتجاه قوى تكون حواملها. هذه محاولات خيضت فعلاً، لكنها أُحبطت أو اختُرقت أو سقط أصحابها في التعب أو الاعتقال أو الموت. وبعد؟ السيسي المصري، والأسد السوري، وأشباههما في أراضي برزخ الربيع..

ومع ذلك، يضبط واحدنا نفسه متلبّساً بالتفكير، ولو بشكل مناسباتي قهري: حينما ملأت الجماهير الشوارع والساحات، من القاهرة إلى بيروت، ومن حمص وحلب ودرعا وإدلب إلى الخرطوم والجزائر العاصمة وصنعاء.. قلنا، وشَعرنا، بأننا شعب واحد، شعب لبناني واحد، وسوري واحد، ومصري واحد،.. بطوائفنا وإثنياتنا وطبقاتنا الاجتماعية. وطوال السنوات العشر الماضية، واظبنا على إنعاش متقطّع للحكاية الراقدة، وأصرّ بعضنا على تسمية سرير احتضارها “مؤامرة”، فيما بعضنا الآخر رأى “المؤامرة” في يقظاتها الموسمية نفسها، مهما كانت مفرحة وآنيّة. منذ سنة وبضعة أشهر، ضخّ اللبنانيون في أسطورتهم أوكسيجيناً طازجاً وتعانقوا في الطرق، كنسوا الأرض وزينوا الجدران ورقصوا وغنوا واحتفلوا بأنفسهم، شأنهم شأن المصريين من قبلهم، والسوريين حتى خريف العام 2011. واليوم، ثمة من يعضّ لسانه قبل نطقها: شعب واحد؟ حقاً؟

الوحيدة التي تحتفل الآن بثورتها على أنها واقع، لها أمس وحاضر وغد، هي تونس. هل صدفة أن التونسيين ليسوا متعددي الطوائف؟ أن النزاع الداخلي، إن اتخذ سمة إسلاميين سلفيين أو جهاديين أو أخوان من جهة، وعلمانية ويسار يتأرجحان بين الاعتدال والشراسة من جهة ثانية، حُلّ بسلاسة وسِلمية نسبية؟ أن الوعي المدني، الديموقراطي (بتصرّف)، المساواتي (لا سيما جندرياً) أرساه مستبدّ مستنير اسمه الحبيب بو رقيبة؟ وهذه كلها، معطوفة على أوضاع اقتصادية وأمنية ضاغطة، شكلت نواة وعي “ثورة الياسمين”؟ هل كان ديكتاتورهم أصلاً “لايت” بالمقارنة مع جهتنا من المشرق؟ وجيشهم؟ هل لأنهم كانوا الحبة الأولى في العنقود، ولو صمَد بن علي، ليرى بشار الأسد صامداً حتى الآن وأكثر، لقوّى قلبه في القمع واستمال الجيش بصفقة ما، وما هرب؟

وعضّة اللسان تصحّ أيضاً في منطوق الجيوش: “الجيش والشعب إيد واحدة” باللهجة المصرية، أو “الجيش والشعب خاوة” بالجزائرية، أو “الجيش خط أحمر” باللبنانية، بعدما قُدّمت الورود الثورية لجنود وضباط. يصح التفكير في كلمات من قبيل: انقلاب، سلطة، طموح، البيادة/الجزمة/الرانجر، قوانين الطوارئ، محكمة عسكرية، إضعاف عزيمة الأمة، فحوص العذرية، فحوص المثلية الجنسية، واحترام المقامات الرسمية العليا، ثقافة أكل رأس الحيّة، عدو أو صديق بلا ثالث لهما، وتمويل من الخارج لضبط الداخل،…

أما في الإعلام، فحين يبدأ المتن بتبنّي خطاب الهامش، ولو تكاثر الهامش في تيار عريض، فربما هنا يجب أن نقلق قليلاً. لا سيما حين لا نرى إلا رأس السلطة متدحرجاً على الأرض، وحين نفهم قطعة “البازل” الممنوع المسّ بها، حاكم مصرف مركزي هنا، أو رجل دين/زعيم هناك. وربما من المفيد أن نتذكر أن أسلحة “الثورة” ليست متاحة للثورة وحدها. الشبكات الاجتماعية والمنصات “المستقلة” وحتى هيئات المجتمع المدني، متاع الثوار والمضادّين على حد سواء، والمعارك تزداد ضراوة وتعقيداً. أين تنتهي حرية التعبير ويبدأ لعب الأجهزة بمفردات الحريات نفسها؟ أي الجيوش الإلكترونية أقوى؟ من المُخترِق، ومن المُختَرَق؟

اليوم، ذَكَّر الفايسبوك معظمَنا باليوفوريا المصرية الجَماعية التي عشناها خلف شاشاتنا، وعبر حساباتنا الاجتماعية التي تحولت قنوات مشاركة لا تنام، فضحكنا وبكينا وقتلنا إتيكيت اللغة: “مصر يمّة يا بهية”…”أنا لو عشقك متغيَّر، كان قلبي زمانو تغيَّر، وحياتك لأفضَل أغيَّر فيكي لحد ما ترضي عليه”.. “في كل شارع في بلادي، صوت الحرية بينادي”… “إثبت مكانك، هنا عنوانك، الخوف بيخاف منك، يا تموت وانت واقف، يا تعيش وانت راكع.. إبعد عنهم وسيب الحيطة عليهم تميل”. كانت حقيقة، لحظات أكثر من حقيقية، لكن الأمل نُكِب بالزّيف.

المدن

——————————-

ذكرى يناير: لا نهاية أكيدة/ شادي لويس

الذكرى وثيقة للحقيقة، لتشييدها، بمعنى أدق، من لملمة أجزاء الماضي المتفرقة. نظريات السياسة ترسمها ساحة للصراع على أرشيفات التاريخ الحي، من دم ولحم، بين المنتصرين والمهزومين. لكن هذا ليس كل شيء. ما بقى من مصافي الذاكرة البطيئة، عبر تمارين التأمل واستخلاص المعنى الجبري، هي محاولة لاستحضار الماضي، لمدّه حاضراً مشحوناً بوهج المرة الأولى، يُعاش مرات ومرات. لكن الذكرى أيضاً اعتراف نهائي بالخسارة، لا رجعة فيه، خسارة وجودية، لا هزيمة بمعنى السياسة، أي صك للفقد المزدوج، تدفق الزمن نفسه من بين أيدينا، وتبدد ما حدث بين علاماته المتتالية، إدراك بسيط لوضعنا البشري ومحدوديته. هكذا الذكرى، هي العلاقة الملتبسة والمراوغة، بين امتدادات الزمن تلك وقطيعته مع نفسه، عن بقاء آثار فعلنا الجمعي وفنائنا كآحاد.

عشرة أعوام مرت على يناير، والعقد زمن طويل، في عمر الفرد، وفي عمر الجماعة، أطفال كانوا في العاشرة أضحوا اليوم في عشرينياتهم، وأبناء جيلي، مَن كانوا بين صفوف ثورته في زهو الشباب الثلاثيني، يتقدمون الآن بوقار ومرارة التجربة إلى عتبة كهولتهم وما بعدها. معايير الوقت أداة البشر لفرض المعنى على حركة الزمن. الأسبوع أساسه إلهي، من وصية السبت التي ورثتها الأديان الإبراهيمية، الأيام والشهور والسنين تستمد قوتها من عوالم فيزياء الطبيعة، حركة الأفلاك ونجومها. وحده النظام العشري، أساس قياس العقود والقرون، يتمركز حول البشر أنفسهم، العد على أصابع اليدين. العشرية علامة أنسنة القياس والحساب والزمن، أن يكون جسد البشر الهش والمؤقت، معيار تدفق الوجود ووحدة متابعة حركته. الأصابع العشرة ونظامها العددي علامة وصول الفردي إلى منتهاه، تجاوز نفسه إلى أفق الجماعي، إلى الأيادي الكثيرة بمضاعفات عشراتها.

في ذكرى يناير هذه المرة، القليل من اجترار الذكرى وتكرار الأفكار القديمة، بل استعادة للثورة كـ”حدث” بالمعنى الفلسفي للكلمة، المعنى المابعد حداثي كي نكون أدق. يحتفل التلفزيون الرسمي بعيد الشرطة، لكن من اختبروا الثورة، يكتبون عنها كنقطة تحول، ومضة كشف صوفي، استنارة معجزية للوعي، يؤرخون لأعمارهم قبلها وبعدها. الحدث مفاجئ وجياش، هو لب الحقيقة البشرية كما يراها آلان باديو، في الحب كما في الثورة، تنسجه المفاجآت والمجازفة، لتفتح أفقاً لأكثر الاحتمالات التي يقدمها التاريخ جذرية ودماراً. الحديث عن الثورة بصيغة المفرد، كما تقودنا اللغة عادة، يجب ألا يدعنا نتصور “يناير” واحدة، الثورة تعددية، بعدد الأفراد الذين شاركوا فيها وأثّرت فيهم، في الحاضر والمستقبل أيضاً.

في جانب منه، الحدث هو مواجهة تفاهة الأمر الواقع وخوائه، قفزة في الفراغ ضد قوانين الطبيعة لكنها تسلمنا لها في الوقت ذاته. تورُّطنا فيه هو المغامرة الإنسانية مع الوجود، والشجاعة الاستثنائية التي يتطلبها ذلك. ومع عفويته، لا يخرج الحدث من العدم بل تكمن مصادره في بنية الواقع. أما الذاتية المنسوبة إليه، فليست فردية كما تبدو، بل على العكس، هي التحرر من ذواتنا الصغيرة، بتجاوزها، والاندماج في جسد سياسي واحد، مكون من آلاف وملايين الذوات الأخرى، التي خاضت الحدث الثوري وتوحدت فيه وبه.

يمكننا أن ننكر يناير، أن نخطئ في فهم معناها أو أن نجزم بهزيمتها، البُعد الإنساني للحدث يضيع لو تصورنا أن له حقيقة نهائية ومحدودة وواضحة بحسابات الربح والخسارة السياسية. لا نهاية أكيدة للحدث، هو الإمكانية المتاحة للكشف عن أفضل ما في داخلنا وأكثره سمواً، والعكس، الإمكانية التي انفتحت وتظل مفتوحة دائماً. الذكرى هنا، إخلاص لتلك لحقيقة، الإخلاص كما تصفه فلسلفة باديو، أي أن نلزم أنفسنا بالعواقب الممزقة للحدث، الاستمرار والمتابعة على الطريق الذي يفتحه أمام وعينا، أي الإيمان العملي والمعاش والبسيط بأننا قادرون على المجازفة دائماً بمحاولة تغيير العالم.

المدن

—————————–

لا شيء انتهى.. التغيير آتٍ/ محمد صبحي

في هذه الأيام الثقيلة، يتذكّر الجميع ويقيّم “الربيع العربي”، ذلك المندلع نهاية العام 2010 بإحراق البائع المتجول التونسي محمد بوعزيزي نفسه، مروراً بموجة من الاحتجاجات الجماهيرية الواسعة في المنطقة العربية. الصورة المرسومة قاتمة، حين النظر إلى اليمن وليبيا وسوريا، حيث استبدلت الاحتجاجات منذ فترة طويلة بنزاعات مُدوَّلة مدمّرة ومفتوحة، وفي مصر، التي أضحت اليوم ديكتاتورية عسكرية قمعية غير مسموح فيها إلا الحمد والثناء. وحتى في حالة تونس، الناجحة والمُشاد بها كثيراً، تبدو الأمور غير مستقرة مع تكرار الاحتجاجات الجماهيرية والمشهد السياسي المجزَّأ. لكن حصر منظور الفهم لما جرى في “مجرد” فشل النجاح الفوري لإرساء الديموقراطية في بلادٍ أدمنت غيابها، يحجب رؤية عمليات تحوّل هائلة حدثت في المنطقة منذ عشر سنوات وغيّرت المشهد السياسي بشكل دائم. ينطبق هذا بشكل خاص على الموجة الثانية من الانتفاضات العربية، في العام 2019، والتي أطاحت المزيد من الديكتاتوريين (في الجزائر والسودان) والحكومات (في لبنان والعراق).

مرة أخرى، كانت هذه احتجاجات جماهيرية لامركزية، مطالبة بالحريات والحقوق السياسية فضلاً عن العدالة الاجتماعية، وغاب عنها العنف إلى حدّ كبير، على الأقل في بداياتها. مع ذلك، اجتذبت اهتماماً دولياً أقل بكثير مما كان في 2011. وحتى حين نجاحها في لفت الانتباه، كان القلق والخوف من النهايات هو السائد: هل سينتهون أيضاً إلى حرب أهلية؟ هل سيؤدي الاضطراب إلى مزيد من حركات الهجرة نحو أوروبا؟ يحجب هذا المنظور حقيقة أن المتظاهرين أنفسهم تعلموا دروساً من الثورات السابقة. لم ينظر السودانيون والجزائريون إلى تونس، بل إلى تجاربهم التاريخية الخاصة، وإلى فشل الثورة المصرية بالانقلاب العسكري العام 2013. عدم الثقة في الجيش، وعدم الاكتفاء بتغييرات تجميلية في رأس السلطة، كان الدرس المركزي في الحالتين الجزائرية والسودانية. هذا التأسيس القائم على وعي ناشئ بفعل الملاحظة والتجربة، سيمنع في المستقبل قيام تحالفات مثل تلك الموجودة في مصر، حيث سمح الفاعلون “العلمانيون” باستخدامهم وتحشيدهم من قِبل الجيش ضد الإسلاميين.

خطوة أخرى إلى الأمام، ظهرت في احتجاجات لبنان والعراق، حيث طالب المتظاهرون بإلغاء نظام التمثيل النسبي الطائفي، بعدما ثبت للجميع فساد هذا النظام القائم على تقويض هياكل الدولة بخلق بدائل وشبكات محسوبية “ترعى” أناساً دون غيرهم، في مقابل ولاء غير مشروط مدى الحياة. يتضح مدى ثورية هذا المطلب عند الأخذ في الاعتبار ذاكرة الحروب الأهلية في البلدين، ومفاعيلها المستمرة بسبب عدم الاستقرار والعنف السائد في المنطقة، والصراع السعودي-الإيراني على الهيمنة الإقليمية وما يؤججه من انقسامات طائفية بين السُنَّة والشيعة.

ما الاستنتاجات التي نستخلصها من هذه التطورات؟ أولاً: لا شيء انتهى، بل على العكس، ما زالت المشاكل الاجتماعية والاقتصادية مُحرّكاً مركزياً للاحتجاجات الصغيرة كما الكبيرة في المنطقة العربية، وتتفاقم بسبب أزمة كورونا. ثانياً، في حين تتمسَّك النخب السياسية وأجسام الحكم المستقرة بالاستراتيجيات القديمة لتأمين سلطتها، ولا يخجل أكثرهم من استخدام القمع العنيف، لا يبدو أن ذلك سيوقف الاحتجاجات والدعوة إلى التغيير في المدى الطويل، طالما بقيت المظالم على حالها، وطالما بقي مَن يؤمن بضرورة التحرّك لتغيير الأمور.

ثالثاً، أن المطالبين بالتغيير يتعلّمون عدم التعويل الزائد على قادة “العالم الحرّ” في الجانب الآخر من المتوسط، فالمصالح الاقتصادية والأمنية لها الأولوية عند ألمانيا وفرنسا وبقية الصقور والحمائم الأوروبية. وقف تدفق الهجرة والنزوح، أهم من تسهيل الهجرة القانونية. بدلاً من ممارسة الضغط الدبلوماسي على النخب الاستبدادية، تستمر الدول الصناعية في إمداد مصر والسعودية والإمارات، أكبر معارضي التحول الديموقراطي في المنطقة، بالسلاح.

***

الفقر، اللامساواة، العجز، ثالوث عربي مؤسف يحوّل الناس إلى مقهورين صامتين أو إرهابيين متوحشين أو لاجئين يائسين، أو يذهب بهم بشجاعة يائسة إلى متاريس مليئة بالغضب والانفعال، كما فعلوا العام 2019 في لبنان والعراق والجزائر والسودان. باستثناء دول الخليج الغنية بالنفط، يعيش ربع سكان الدول العربية المكتظة، تحت خطّ الفقر، حسب تقارير  أممية. التقارير نفسها تذهب أبعد من ذلك، وتصنّف 41% آخرين “معرّضين لخطر الفقر”. بعبارة أخرى، هذا يعني أن الشرق الأوسط هو المنطقة التي تضم أكبر قدر من اللامساواة في العالم، وهو ما يؤكده “مختبر اللامساواة العالمي” في دراسة قام بها العام 2018 -وللمرة الأولى- بجمع وتحليل بيانات الدخل والثروة للسكان للأعوام من 1990 إلى 2016. دراسة مفزعة كفيلة بزيادة سواد مستقبل المنطقة، وإعادة جورج أورويل النظر في مقولته الشهيرة حول أن “المساواة بين البشر لم تعد غاية سامية تستحق النضال من أجلها، وإنما خطراً يجب تفاديه”. فاللامساواة تجتاح العالم، لكن البعض يعاني منها أكثر من الآخر، أما الشرق الأوسط فيتفوّق على الأرقام القياسية كافة.

هذا الاستبعاد الجماعي هو أحد أهم عوامل عدم الاستقرار في المنطقة. جَنّدت المليشيات والمنظمات الإرهابية أنصارها، خلال العقود الأخيرة، بمساعدة الفتنة الاجتماعية. فيما سدّ الحكّام المستبدون منافذ السياسة، وتفرّغوا لبناء سجون جديدة تفرّخ أفواجاً جديدة من المتشددين والإرهابيين. الحسبة بسيطة: كلما زاد عدد الأشخاص المشاركين في النمو الاقتصادي، كان المجتمع أكثر استقراراً وسلاماً. منطقتنا، الشرق الأوسط، تعاكس هذه الأطروحة تماماً. فالتقدُّم إن قِسناه -مجازاً- بعدد مَن يمكنك اصطحابهم إلى داخل خيمتك، تصبح المعادلة خطرة إذا تركت عدداً كبيراً في الخارج، لأنهم سيدمّرون الخيمة أو على الأقل سيحاولون تدميرها. لا عجب إذن أن الموجة الأولى من الاحتجاجات العربية أعقبتها موجة أخرى العام الماضي.

الاستبداد موقفه دفاعي في المدى الطويل. فكلما زاد قمعه، زاد نفور الناس من النظام والبحث عن مساحة للتنفيس عن غضبهم. بالطبع، القمع يؤتي ثماره أحياناً، كما أثبتت السنوات التالية لموجة الربيع الأولى، لكنه محكوم بتاريخ انتهاء صلاحية أيضاً، إذا لم تُحلّ المشاكل الأكثر إلحاحاً، خصوصاً لجيل الشباب الذي يشكل 60% من السكان العرب. افتقارهم التام إلى الآفاق يعني أن كثيراً منهم بالكاد يستطيع كسب لقمة العيش، ناهيك عن السعي وراء أحلامه. السؤال الحاسم هو: من يتعلّم أسرع: القمع أم التمرد؟ في خضم هذا السباق، ينتشر الوباء الآن، وتتفاقم الأسباب التي دفعت الناس إلى الشوارع من قبل.

***

صرخة جورج فلويد اليائسة “لا أستطيع التنفس”، هي تجربة عربية يومية للقمع، مثلما للعجز الاجتماعي. كان انفجار ميناء بيروت تتويجاً لانخساف قيمة الإنسان/الفرد/المواطن في بلاد تلك المنطقة المنكوبة والمتعوسة. إهمال الدولة وانعدام الكفاءة يتركان الناس وظهرهم إلى الحائط، مذهولين من غور الدناءة والخِسّة المتعمّق مداه كل يوم. الكارثة هي رمز للأزمة في المنطقة بأسرها. الشرق الأوسط عبارة عن مجموعة دول فاشلة وأزمات غير محلولة. مع أزمة كورونا، زادت قوة الأنظمة السياسية أكثر من ذي قبل. إنه وقت يثير العديد من الأسئلة. لكن هناك شيئاً واحداً مؤكداً: إذا سُجّلت السنوات العشر التي تلت الانتفاضة العربية الأولى كفترة سادتها الاضطرابات، فالسنوات المقبلة في المنطقة ستكون عاصفة. جيل الشباب، بالأخص، لن يقبل بالوضع الراهن من دون مقاومته. لكنها، على اللأغلب، ستكون مقاومة بلا آمال أو أحلام كبيرة. سيستمر السباق بين القمع والتوق للحرية، وحشياً وعاطفياً، شرساً وعنيداً. البعض يملك القوة والبطش، والبعض الآخر لم يبق لديه ما يخسره.

المدن

—————————–

=====================

تحديث 29 كانون الثاني 2021

———————————

هل تلاشت أحلام العرب بالحرية والديمقراطية؟/ أسامة أبو ارشيد

إذا كان المطلوب تصدير حكم قيميٍّ، فلا شك أن حصيلة عشر سنوات بعد الثورات العربية، التي اصطلح على تسميتها “الربيع العربي”، تعد مخيبة للآمال، بل وكارثية، إذ انتهينا إلى قاع أكثر سوداوية من الذي كنَّا فيه من قبل. ولا يبدو أن ثمَّة حافزاً لدى الشعوب العربية اليوم لتقدم على محاولة تكرار تجربة عام 2011، يوم كان هدير الملايين من أبنائها يعزف لحن “الشعب يريد إسقاط النظام”. كانت تلك لحظة فارقة في تاريخنا، لحظة “هرمنا من أجلها” فعلاً، ولكننا أضعناها بأخطاء ارتكبتها نخب الثورة والتغيير، ولا شك بمؤامرات محور الثورات المضادّة ومكائده، وبدعم أجنبي خارجي، غربي وشرقي. قد يكون ذلك من التاريخ الآن، ولكن الحقيقة أنه تاريخ مستمر ضمن نسق الصيرورة، وبالتالي فلا ماضيَ هنا، إذ إننا أمام حالةٍ من “مستقبل الماضي وماضي المستقبل”، إذا ما استعرنا تعبير المفكر المغربي الراحل المهدي المنجرة، رحمه الله.

لا أريد أن أستغرق في تفاصيل مؤامرات ومكائد محور الثورات المضادة الذي تنتمي إليه “الدولة العميقة”. باختصار، نجح ذلك المحور، بدعم أجنبي، إقليمي ودوليٍّ، في جعل غالبية شعوب الدول العربية التي حدثت فيها ثورات يعضّون أصابع الندم على تفريطهم في أوهام “منجزاتٍ” و”أمنٍ” و”استقرارٍ” وفرتها أنظمة زالت مثل نظام زين العابدين بن علي في تونس، ونظام حسني مبارك في مصر، ونظام معمر القذافي في ليبيا، ونظام علي عبد الله صالح في اليمن، بل وحتى تحت نظام بشار الأسد في سورية، يوم كان الآمر الناهي، والحاكم المطلق في البلاد والعباد. لقد أوصل إجرام محور الثورات المضادّة شعوبا كثيرة إلى قناعة مفادها بأن التغيير لا يأتي إلا بالأسوأ وعدم الاستقرار ومزيد من العنف والقمع والفساد والانهيار الاقتصادي. تلك هَنْدَسَةٌ مدروسة لردع أي تفكيرٍ جديدٍ في الخروج من النفق المظلم الذي نعيش فيه، إذ إن العيش تحت حذاء حاكم واحد مطلق خير من تعدّد وطأة أحذية المتنافسين على السلطة!

أما في الضفة المقابلة، فإن نخب التغيير والثورة لم تكن أقلّ مساهمةً في خنق فرص “الربيع العربي” وإعدام أزهاره قبل إيناعها. اختلفت على تقاسم “كعكة” السلطة حتى وهي لم تحظ بها بعد. وافتعلت معارك إيديولوجية وسياسية وحزبية بين صفوفها، ونسيت خصمها الأساس الذي ثارت عليه. وأصبحت المسألة محاصصاتٍ انتخابية، ودعاوى امتلاك تفويضٍ شعبي، ونقضها، في مسعى إلى إحداث تغييرات ثقافية واجتماعية وسياسية واقتصادية عميقة، من دون وجود توافقات، ولا حتى رؤية متماسكة، أو دراسة واعية شاملة للضرورات والإمكانات. وانتهى الحال ببعضها إلى التحالف مع “الدولة العميقة” والمؤسسة العسكرية، كما جرى في مصر، بل وعمل بعض رموزها وكوادرها وكلاء لمحور الثورات المضادّة.

أمَّا ثالثة الأثافي فهي أن كثيراً من رموز نخب التغيير والثورة، وبعد مضي عقد على انطلاق الثورات العربية، تحاول أن تغسل أيديها من دورها في التسبّب بنكستها، وتسعى جاهدة إلى إعادة كتابة التاريخ، وكأنه غير موثق بالصوت والصورة والكتابة. تلك النوعية من الشخصيات معروفة، وشاشات التلفزة وصفحات الجرائد، حتى تلك المؤيدة للحرية والديمقراطية في الفضاء العربي، مفتوحة لهم اليوم، والتي من خلالها، وبوقاحةٍ لا يحسدون عليها، ما زالوا يمارسون دور الأستاذية على الشعوب وتيارات معينة ضمن تلك النخب، محمّلين إياها كل الرزايا والأخطاء، في حين يُبَرِّئون أنفسهم من أي مسؤولية. إنهم الشخصيات نفسها التي تتبنّى الاستعلاء والنزق والإلغاء والتسفيه والتحقير والحط من شأن الآخرين نهجاً لها، على الرغم من أنهم كانوا أول الساقطين في شباك خداع محور الثورات المضادّة و”الدولة العميقة” ومؤسسة العسكر.

إذن، من الزاوية المعيارية القيميةِ البحتة، المشهد قاتم، ولكنه ليس بالضرورة راكد، دع عنك أن يكون ميؤوساً منه. كيف؟

صحيح أن “الدولة العميقة” استعادت زمام الأمور في بعض الدول، كما في مصر، في حين تصارع أخرى، كما تونس، للحفاظ على تجربتها الديمقراطية الهشّة، وتغرق ليبيا واليمن في فوضى وصراعات يؤجّجها محور الثورات المضادّة. أما سورية، فقد تحوّلت إلى ساحة صراع دولي وإقليمي، بشكل سمح للنظام بالبقاء، ولكن رهينة لروسيا وإيران والمليشيات المسلحة، الأجنبية الطائفية، والمحلية. لكن لا ينبغي لذلك أن يحجب عنا رؤية الواقع الآسن كما هو. إن جُلَّ الدول العربية ليست بأحسن حال اليوم ممَّا كانت عليه قبل عقد. القمع زاد وتضاعف مرّات ومرّات، والفساد أصبح يمارس جهاراً نهاراً من دون خشية أو رادع، والمديونية في تصاعد، والفقر يتسع ويتعمق، والناس عاجزةٌ عن توفير احتياجاتها، والمستقبل أمام الشباب يتلاشى، والدولة العربية القُطرية لا تملك رؤيةً ولا مشروعاً لتحيا به الحاضر، ولتعبر من خلاله إلى المستقبل. انظر إلى نماذج كما في مصر والأردن ولبنان والجزائر والسودان.. إلخ، أين لا تملك الأنظمة غير الحلول الأمنية لمشكلاتها التي هي من صنع أيديها. وإذا كانت جائحة كورونا قد زلزلت أركان اقتصادات كبرى كما في الولايات المتحدة وأوروبا وبقية العالم، فلك أن تتخيّل حجم الأضرار التي سببتها لدول فقيرة، كغالب الدول العربية. إن طوابير العاطلين من العمل التي تضاعفت بالملايين، في غياب بصيص أمل وأفق مستقبلي وعلو القبضة الأمنية الخشنة، لن تبقى هامدة إلى الأبد. الانفجار مسألة وقت، ولكن بأي اتجاه وبأي كيفية؟ هذا ما لا يمكن الجزم به بعد.

من ثمَّ، فإن الثورة قادمة لا محالة، ولكن ليس بالضرورة من أجل تحقيق الحرية والديمقراطية، وإنما بسبب رباعية القمع والفساد والجوع وعجز الشعوب عن تصوّر مستقبل أفضل تحت الأنظمة القائمة. إذا حدث ذلك، فسنكون أمام إعصار مدمر، وليس أمام ربيع مزهر، اللهم إلا أن تتدارك نخب التغيير الأمر، وتبدأ حالاً وفوراً في التأسيس لمشروع يرنو نحو بناء المستقبل، وقبل ذلك إجراء مراجعاتٍ لأخطائها في العقد الماضي، مع تجنّب الاستغراق في توجيه أصابع اللوم، أو ممارسة الأستاذية الزائفة. النظام القمعي الرسمي العربي هو الوقود الأساس للثورة، حتى في الدول التي تعتبر نفسها محصّنة ضدها، بسبب غناها وتساوقها مع المشاريع الإمبريالية الغربية والصهيونية. كما أن المبالغة في الفعل تنقلب إلى عبء على صاحبها، أو كما يقول المثل الشعبي: “ما زاد عن حدّه انقلب إلى ضدّه”. والنظام القمعي الرسمي العربي الفاشل يبالغ اليوم في فساده وطغيانه وجبروته على شعوبه، ولكل شيءٍ قدرة معينة على الاحتمال، وبعدها يكون الانفجار المدمر وغير الواعي.

هل تنجح نخب التغيير العربي في التأسيس لمشروع مستقبلي، وتأطير الانفجار القادم المتوقع؟ ربما، ولكن لا توجد دلائل على ذلك بعد. لهذا، من المبكر نعيُ الحلم العربي، غير أن الأحلام لا تتحقق من تلقاء نفسها، وإنما لا بد لها من رؤية ومشروع وقوى تعمل على تجسيدها واقعاً.

العربي الجديد

————————————

بعد عشر سنوات على الربيع العربي… إعلام المنطقة يواجه تهديدات خطيرة

CPJ

منذ انطلاق ثورات الربيع العربي، أدت النزاعات في مختلف أنحاء المنطقة إلى زيادة خطورة التغطية الإعلامية ومن ثم زيادة حادّة في أعداد الصحفيين الذين قتلوا أثناء أدائهم لعملهم….

من إعداد جاستن شيلاد، باحث متقدّم في لجنة حماية الصحفيين معني بشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ وإغناثيو ميغيل ديلغادو، ممثل لجنة حماية الصحفيين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ وم. الحايس، مراسلة لجنة حماية الصحفيين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ وشريف منصور منسق برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في لجنة حماية الصحفيين

في أوائل شباط/ فبراير 2011، كان علاء عبد الفتاح يقف في ميدان التحرير في العاصمة المصرية يوثّق أحداث الثورة الوليدة المؤيدة للديمقراطية ويشارك فيها، وقد أطاحت الثورة بالحكومة وأحدثت تحولاً في مصر والمنطقة برمتها. واليوم، يقبع علاء خلف القضبان بسبب اتهامه بمناهضة الدولة ونشر أخبار كاذبة. وتعتقد أسرة علاء أن هذه الاتهامات نجمت جزئياً عن رغبة السلطات في الانتقام منه بسبب عمله. وفي أواخر سنة 2020 كان علاء واحداً من بين 27 صحفياً محتجزاً في السجون المصرية، وبهذا العدد من الصحفيين المحتجزين باتت مصر إحدى البلدان التي تسجن أكبر عدد من الصحفيين في العالم، حسب آخر إحصاء للصحفيين السجناء أجرته لجنة حماية الصحفيين.

وقد اتّبعت بلدان عديدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المسار الذي اتّبعته مصر. فبعد عشر سنوات من انطلاق ثورات الربيع العربي، لم تثمر الثورات التي طالبت بإصلاحات ديمقراطية إلا عن مزيد من القمع الحكومي في البحرين والجزائر والمغرب وبلدان أخرى. وفي غضون ذلك، احتدمت نيران الحروب الأهلية في سوريا واليمن، ولغاية سنة 2017، في العراق. وكان لهذا التفجر التاريخي للثورات نتائج عميقة ومتنوعة ما زالت تتطور، وقد تركت أثرها على حرية الصحافة وجعلت مهنة الصحافة المهنة الأكثر فتكاً وخطورة على مزاوليها المحليين وعلى المراسلين الأجانب في المنطقة على حدٍ سواء.

وعلى امتداد العقد المنصرم استخدمت السلطات في مختلف بلدان المنطقة وسائل جديدة وأخرى تقليدية لإسكات التغطية المستقلة واستهداف الصحفيين بصفة فردية. وفيما يلي عرض لسبعة اتجاهات وثقتها لجنة حماية الصحفيين على صعيد حرية الصحافة خلال السنوات العشر الماضية التي تلت انطلاقة الربيع العربي:

سجن الصحفيين

لغاية شهر كانون الأول/ ديسمبر 2020، كان هناك 89 صحفياً سجيناً في 10 بلدان في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهو أعلى رقم تسجله المنطقة منذ أن بدأت لجنة حماية الصحفيين بإحصاء أعداد الصحفيين السجناء سنة 1992. ومعظم هؤلاء الصحفيين محتجزون على خلفية اتهامات تتعلق بمناهضة الدولة ونشر أخبار كاذبة؛ فيما يُحتجز كثيرون آخرون دون توجيه أية اتهامات ضدهم. ففي مصر، تُوجَّه لمعظم الصحفيين المحتجزين اتهامات، ولكن لا تصدر بحقهم أحكام بل تستمر السلطات في اعتقالهم لشهور أو سنوات بانتظار محاكمتهم.

وتستخدم السلطات احتجاز الصحفيين كأسلوب لمنع تغطية القضايا السياسية وانتهاكات حقوق الإنسان ولإسكات صوت تلك التغطية وتكميم الأفواه المعارضة. وتلجأ هذه السلطات إلى السجن أيضاً لقمع تغطية أية اضطرابات: إذ جرى اعتقال صحفيين في مصر والبحرين وسوريا أثناء توثيقهم لأحداث الثورات.

وتميزت مصر والسعودية بحدوث طفرات كبيرة في أعداد الصحفيين السجناء. ففي عام 2012، أي العام الذي تلا الثورة المصرية الأولى، لم تُحصِ لجنة حماية الصحفيين أي صحفي في السجون المصرية، ولكن في عهد حكومة عبد الفتاح السيسي – الذي تولى حكم مصر إثر انقلاب سنة 2013 ومن ثم انتُخب رئيساً في السنة التي تليها – زجّت السلطات المصرية بأعداد هائلة من الصحفيين خلف القضبان. وفي السعودية، لم يكن هناك أي صحفي في السجن سنة 2011، ولكن السلطات اعتقلت صحفيين سنة 2012 في أعقاب احتجاجات تطالب بإصلاحات، وفي أواخر عام 2020 كان هناك ما لا يقل عن 24 صحفياً في السجون السعودية.

حالات ينبغي متابعتها

محمد إبراهيم، هو مدون مصري معروف أيضاً باسم محمد أكسجين، وقد اعتُقل في أيلول/ سبتمبر 2019 في مركز للشرطة حيث كان يسجل تواجده وفقاً لشروط وضعهِ تحت المراقبة التي خضع لها بعد اعتقاله سابقاً. ويواجه محمد اتهامات بمناهضة الدولة ونشر أخبار كاذبة.

عبد الجليل السنغاسي، هو مدون بحريني انتقد في كتاباته انتهاكات حقوق الإنسان والتمييز الطائفي وقمع المعارضة السياسية. اعتُقل عبد الجليل في آذار/ مارس 2011 وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة بتهمة “التآمر لقلب نظام الحكم الملكي”. وفي الآونة الأخيرة، حرمت السلطات البحرينية السنغاسي من العلاج الطبي من مرضه في السجن.

طل الملوحي، مدونة سورية اعتُقلت قبل الربيع العربي، أي في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2009 وأمضت حكماً بالسجن مدته خمس سنوات بتهمة إفشاء أسرار الدولة وحكماً آخر لثلاث سنوات على خلفية تهمة ملفقة بحيازة مخدرات. ويُنظر إلى طل الملوحي التي لا تزال معتقلة دون تهمة في الوقت الراهن على أنها رمز للنضال من أجل حرية التعبير في سوريا.

الرقابة على الإعلام الإلكتروني

استخدمت السلطات في عدة بلدان قوانين جديدة ومبهمة للرقابة بهدف فرض قيود على الإعلام الإلكتروني، الأمر الذي وثّقته لجنة حماية الصحفيين. ويُعد حجب المواقع الإلكترونية أمراً شائعا في المنطقة؛ ففي الأردن، حجبت السلطات مواقع إلكترونية بزعم افتقارها للتسجيل المناسب؛ وفي مصر والجزائر، حُجبت مواقع إلكترونية بزعم نشرها “أخباراً كاذبة”، كما حجبت السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين مواقع إلكترونية تمولها قطر. ولا تقدم السلطات دائماً تفسيراً أو تعطي تنبيها قبل حظر المواقع؛ وفي عام 2017 حجبت السلطات المصرية مواقع إخبارية دون إشعار مسبق؛ وفي الجزائر لم تعلن أية هيئة حكومية سنة 2020 عن مسؤوليتها عن حجب المواقع.

وقد صنّفت لجنة حماية الصحفيين السعودية وإيران في تقاريرها الصادرة حول الرقابة على الإعلام للسنوات 2012 و2015 و2019، بوصفهما من بين أكثر بلدان العالم فرضاً للرقابة المشددة (يُذكر أن تقرير عام 2019 هو أحدث تقارير لجنة حماية الصحفيين الصادرة بهذا الخصوص). فبموجب نظام جديد صدر عام 2011 في السعودية، يتوجب على المواقع والمدونات الجديدة الحصول على ترخيص من وزارة الثقافة والإعلام، حسبما وثقت لجنة حماية الصحفيين. وتطبِّق السلطات الإيرانية واحداً من أشد نظم الرقابة على الإنترنت في العالم مع حظر مواقع إخبارية ومواقع للشبكات الاجتماعية، حسب تقرير أصدرته لجنة حماية الصحفيين عام 2018.

حالات ينبغي متابعتها

حجبت السلطات المصرية في نيسان/ أبريل 2020 الموقع الإلكتروني ’درب‘، وهو موقع إخباري مستقل يملكه حزب معارض، وذلك بعد شهر واحد من إطلاقه. ولم تذكر السلطات السبب وراء حظر الموقع فيما لم تعلن أية هيئة حكومية عن مسؤوليتها عن الحظر. وقد تأكدت لجنة حماية الصحفيين في بداية عام 2021 أن الوصول إلى الموقع لا يزال غير ممكن من داخل مصر.

      حجبت السلطات الجزائرية في تموز/ يوليو 2019 الموقع الإخباري المستقل (Interlignes) لمدة أربعة أشهر، ومن ثم حجبته مرة ثانية في نيسان/ أبريل 2020. ولم تقم السلطات قبل حجب الموقع بإشعار القائمين عليه بهذه الشأن، وقد تأكدت لجنة حماية الصحفيين في بداية عام 2021 أن الوصول إلى الموقع لا يزال غير ممكن.

تجريم العمل الصحفي

خلال السنوات العشر الأخيرة، لجأت حكومات المنطقة وعلى نحو متزايد إلى توجيه اتهامات بنشر “أخبار كاذبة” واستخدام القوانين المتعلقة بمناهضة الدولة وممارسة الإرهاب، بدلاً من قوانين النشر والإعلام.

وتتصدر مصر قائمة دول العالم في سجن الصحفيين بتهمة نشر أخبار كاذبة. ويفرض قانون مصري سُنَّ عام 2018 عقوبات على المطبوعات التي تنشر “أخباراً كاذبة” بتغريمها أو تعليق صدورها. وفي الآونة الأخيرة، حظرت الحكومة المصرية على القنوات الإخبارية نشر معلومات مستمدة من مصادر غير رسمية بشأن جائحة كوفيد-19، إضافة إلى قضايا “حساسة” أخرى، وذلك كوسيلة لكبت التغطية المستقلة حول الأزمة.

وفي المغرب، كثيراً ما يُعاقَب الصحفيون على خلفية اتهامات مرتبطة بقانون مكافحة الإرهاب أو غيرها من التهم الجنائية انتقاماً منهم بسبب عملهم. وقد اعتقلت السلطات المغربية منذ عام 2016 صحفيين محليين على خلفية اتهامات بمناهضة الدولة بسبب تغطيتهم للاحتجاجات المناوئة للحكومة في منطقة الريف في شمال البلد، حسبما وثّقت لجنة حماية الصحفيين. (ورحّلت المغرب صحفيين أجانب كانوا يعملون على هذا الموضوع). وفي عامي 2019 و2020، اعتقلت السلطات ما لا يقل عن ثلاثة صحفيين يعملون في وسائل إعلامية مستقلة بتهم إضعاف أمن الدولة والاغتصاب والإجهاض غير المشروع، فيما تحقق السلطات مع صحفي معتقل آخر إذ تتهمه بممارسة غسيل الأموال، ودون أن تقدم دليلاً مناسباً، حسبما وثّقت لجنة حماية الصحفيين.

وفي أواخر عام 2019، أدت التظاهرات المناوئة للحكومة في الجزائر إلى الإطاحة بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي مارس رقابة شديدة على الصحافة. بيد أن خليفته، عبد المجيد تبون، عمَد هو الآخر على ملاحقة الصحفيين، إذ سجنت السلطات صحفييّن اثنين بموجب قوانين مناهضة الدولة، بحسب الإحصاء الذي أجرته لجنة حماية الصحفيين سنة 2020 لعدد الصحفيين السجناء. كما قامت الحكومة في عام 2020 بتجريم نشر “الأخبار الكاذبة”.

حالات ينبغي متابعتها:

بالإضافة إلى الاتهامات بنشر “أخبار كاذبة”، غالباً ما تتهم الحكومة المصرية الصحفيين “بالانضمام إلى جماعة إرهابية”. وقد وجهت إلى مراسل قناة الجزيرة، محمود حسين جمعة، كلتا التهمتين وهي تحتجزه منذ كانون الأول/ ديسمبر 2016.

وفي الجزائر، حُكم عام 2020 على خالد دراريني، مراسل منظمة مراسلون بلا حدود وقناة ’تي-في5 موند‘، بالسجن سنتين بتهمتين تتعلقان بمناهضة الدولة، بما في ذلك “تحريض تجمع غير مسلح” و “الإضرار بالوحدة الوطنية”.

بيئة فتاكة للعمل الصحفي

منذ انطلاق ثورات الربيع العربي، أدت النزاعات في مختلف أنحاء المنطقة إلى زيادة خطورة التغطية الإعلامية ومن ثم زيادة حادّة في أعداد الصحفيين الذين قتلوا أثناء أدائهم لعملهم. وحسب تقصيات لجنة حماية الصحفيين، قُتل 154 صحفياً منذ عام 2011 من جراء نيران متقاطعة أو خلال تغطيتهم للأحداث في مهمات خطرة في اليمن وسوريا والعراق. ويمثل هذا الرقم أكثر من نصف العدد الإجمالي للصحفيين الذين قُتلوا في العالم كله (258) وسط مثل هذه الظروف وخلال الفترة نفسها.

وكانت سوريا البلد الأشد فتكاً بالصحفيين من بين هذه البلدان الثلاثة، وبفارق كبير، وهذا التصنيف جديد نسبياً على سوريا إذ لم تسجّل مقتل أي صحفي في الفترة ما بين عامي 1992 و2010، لكن شهد هذا البلد خلال العقد الماضي مقتل 110 صحفياً جراء تقاطع النيران أو أثناء أداء مهمات خطرة. ويعود سبب مقتل معظم هؤلاء إلى عمليات القصف والغارات الجوية التي تشنها القوات العسكرية، بما في ذلك الجيش السوري وحلفاؤه، والقوات التركية.

أما في اليمن والعراق فقد كانت الاشتباكات بين الجماعات السياسية، بما فيها تنظيم الدولة الإسلامية والمليشيات وجماعة أنصار الله (الحوثيين)، هي المسؤولة عن معظم حالات مقتل الصحفيين جراء تقاطع النيران أو التغطية الإعلامية في مهامات خطرة.

حالات بارزة

محمد أبازيد (المعروف أيضاً باسم جورج سمارة)، وهو مراسل لعدة وسائل إعلامية مؤيدة للمعارضة السورية، منها إذاعة ’نبض سوريا‘ والهيئة السورية للإعلام. قُتل أبازيد بصاروخ في مدينة درعا جنوب غرب سوريا أثناء تغطيته لغارات الطيران السوري والروسي في آذار/ مارس 2017.

شفاء زكري إبراهيم (المعروفة أيضاً باسم شفا غاردي)، مراسلة محطة ’رداو‘ الكردية. قُتلت شفاء في شباط/ فبراير 2017 بانفجار قنبلة مزروعة على جانب الطريق غرب مدينة الموصل أثناء تغطيتها للعملية العسكرية التي نفذها الجيش العراقي ضد تنظيم الدولة الإسلامية.

أديب الجناني، مراسل لمحطة ’تلفزيون بلقيس‘ اليمنية، الذي قُتل في هجوم تعرض له مطار عدن الدولي في كانون الأول/ ديسمبر 2020 أثناء تغطيته لوصول الحكومة اليمنية حديثة التشكيل إلى عدن قادمة من السعودية.

جرائم القتل المستهدفة والإفلات من العقاب

شهدت المنطقة خلال العقد الماضي مقتل 50 صحفياً، بما في ذلك جريمتا قتل دُبرتا على مستوى رسمي رفيع لم تتم مساءلة مرتكبيهما. وتعرِّف لجنة حماية الصحفيين حالات قتل الصحفيين بأنها تلك التي يُستهدفون فيها كانتقام مباشر منهم بسبب عملهم.

وفي أسوأ جرائم القتل صيتاً وسمعة، قام مسؤولون رسميون بقتل صحفيين بطريقة بدت وكأنها صُممت لتهزأ من فكرة العدالة. ففي تشرين الأول/ أكتوبر 2018، قام مسؤولون في أجهزة الجيش والاستخبارات السعودية بقتل جمال خاشقجي وتقطيع أوصاله داخل القنصلية السعودية في إسطنبول، وكان هذا الصحفي يكتب في صحيفة ’واشنطن بوست‘. وفي كانون الأول/ ديسمبر 2020، أعدمت الحكومة الإيرانية الصحفي روح الله زم، محرر قناة ’آماد نيوز‘ على منصة ’تليغرام‘، بعد قيام عناصر استخباراتية باعتقاله في العراق. وكان كلا الصحفييِّن قد انتقد حكومته من خارج البلاد وغطى أخبار الاحتجاجات الداخلية وحركات الإصلاح المحلية.

وتسلط جريمتا قتل الصحفيين خاشقجي وزم بهذه الوحشية الضوء على اتجاه أوسع من الإفلات من العقاب في جرائم قتل الصحفيين. ويتراوح مرتكبو هذه الجرائم ما بين جهات رسمية فاعلة باتت ضعيفة ولكنها لا تزال خطيرة، كالحكومة السورية، وجهات فاعلة من غير الدول مثل تنظيم الدولة الإسلامية الذي قام بتصوير جرائم القتل التي نفذها بحق صحفيين مرموقين، بمن فيهم الصحفيان الأمريكيان جيمس فولي وستيفن سوتلوف، وعرضها أمام العالم بأسلوب سينمائي بشع. ولا يزال كثير من الجناة مجهولاً. وقد احتلت سوريا والعراق المرتبتين الثانية والثالثة، على الترتيب، على المؤشر العالمي للإفلات من العقاب لعام 2020، وهو مؤشر تصدره لجنة حماية الصحفيين سنوياً، ويسلط الضوء على البلدان التي يُقتل فيها صحفيون فيما يظل القتلة أحراراً طلقاء.

حالات ينبغي متابعتها

قُتل رائد فارس، مؤسس إذاعة ’راديو فريش‘ ومديرها، إضافة إلى حمود الجنيد، وهو مصور فوتوغرافي ومراسل للمحطة، وذلك على يد مسلحين في تشرين الثاني/ نوفمبر 2018 أثناء توجههما لتغطية تظاهرة خرجت في كفرنبل بسوريا. وقال زميل لهما إنهما كانا قد تلقيا تهديدات من جماعات مسلحة بسبب قيام المحطة ببث الموسيقى واستخدام نساء كمذيعات.

قتلَ مسلحون بالرصاص كاوه كارمياني، محرر الموقع الإخباري ’رايل‘ أمام منزله مدينة السليمانية بكردستان العراق في كانون الأول/ ديسمبر 2013. وحكمت محكمة جنائية على قاتله توانا خليفة بالإعدام، غير أن نشطاء محليين قالوا إن الحكم لم يأخذ في اعتباره الطرف الذي استفاد من هذه الجريمة.

ممارسات الاحتجاز والقتل من قبل جهات فاعلة من غير الدول

أصبحت الجهات الفاعلة من غير الدول، كالميليشيات، لاعباً بارزاً في الميدان السياسي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وقد أدى نشوءها إلى مزيد من التهديد لحرية الصحافة.

وفي عام 2014، استولت جماعتان مسلحتان، هما تنظيم الدولة الإسلامية والحوثيون، على مساحات واسعة في العراق وسوريا واليمن وأصبحتا سلطتين بحكم الأمر الواقع، مستفيدتين من الضعف الذي أصاب سلطة الدولة وحالة الفراغ في السلطة الذي انبثق عن النزاع المسلح. وقامت الجماعتان أيضاً بإحكام قبضتيهما بشدة على وسائل الإعلام؛ فعلى سبيل المثال، سيطر تنظيم الدولة الإسلامية على القنوات الإعلامية في الموصل، بما فيها قناتا ’الموصلية‘ و ’سما الموصل‘، واعتقل الكثير من الصحفيين فيما أجبر كثيرين آخرين على العمل السري، وذلك لفرض تعتيم إعلامي بحكم الأمر الواقع.

وقد انتهى المطاف بكثير من الصحفيين الذين تجرأوا على تقديم تغطية ناقدة لأي من الجماعتين بالسجن أو القتل. وحسبما وثّقت لجنة حماية الصحفيين، اعتقل الحوثيون عشرات الصحفيين اليمنيين، فيما حُكم على أربعة صحفيين بالإعدام وما زالوا في السجن.

وقتلَ تنظيم الدولة الإسلامية وغيره من الجماعات 65 صحفياً في العراق وسوريا واختطفت كثيرين غيرهم، ولا يزال 19 منهم مفقودين. ولكن لم يشعر الصحفيون المحليون بقدر أكبر من الأمان بعد طرد تنظيم الدولة من العراق وسوريا سنتي 2017 و2018، حسبما وثّقت لجنة حماية الصحفيين.

لقد أدى النزاع في سوريا إلى نشوء عدد هائل من جماعات المعارضة المسلحة التي لا تكن الاحترام لحرية الصحافة؛ إذ اعتقلت هيئة تحرير الشام، المنبثقة عن تنظيم القاعدة والتي تسيطر على مناطق واسعة من شمال غرب سوريا، بعض الصحفيين ولا يزال واحد منهم على الأقل محتجزاً لديها، كما يُشتبه في أنها تقف وراء مقتل صحفيين اثنين على الأقل.

ولإلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية، اعتمد العراق إلى حد كبير على الميليشيات الشيعية المنضوية تحت قوات الحشد الشعبي التي باتت تمثل الآن التهديد الرئيسي للصحفيين العراقيين. وشهدت ليبيا أيضاً مقتل صحفيين على يد فاعلين من غير الدول؛ إذ قُتل ما لا يقل عن خمسة صحفيين على يد ميليشيات وجماعات مسلحة، بما في ذلك على يد تنظيم الدولة الإسلامية، منذ عام 2011.

حالات ينبغي متابعتها

اعتقل تنظيم الدولة الإسلامية في شهر حزيران/ يونيو 2014 كامران نجم في شمال شرق العراق، وهو مصور صحفي من كردستان العراق ومؤسس وكالة ’ميتروغرافي‘ للصور، ولا يزال مفقوداً.

لا يزال الصحفيون اليمنيون عبد الخالق عمران وأكرم الوليدي وحارث حميد وتوفيق المنصوري محتجزين لدى الحوثيين منذ أكثر من خمس سنوات حيث صدر بحقهم حكم بالإعدام في نيسان/ أبريل 2020 بتهمة نشر أخبار كاذبة دعماً للسعودية. ولا يزال الصحفيون الخمسة قيد الاحتجاز.

مراقبة الصحفيين والقنوات الإعلامية

في أعقاب تظاهرات عام 2011 التي هزّت المنطقة، ضاعفت السلطات من جهودها لمراقبة أنشطة الصحفيين وغيرهم ممن ترى أنهم يشكلون تهديداً محتملاً لسلطتها. وقد استقدمت الحكومات خبراء في المراقبة من الولايات المتحدة من أجل تطوير بناها التحتية للمراقبة وتعاونت مع الحلفاء ومع أعداء الأمس، كإسرائيل، من أجل بيع وشراء تقنيات المراقبة، حسبما وثّقت لجنة حماية الصحفيين.

وأصبحت الإمارات العربية المتحدة المركز الإقليمي للمراقبة؛ حيث يُزعم أن مسؤولين حكوميين استخدموا تقنيات من مجموعة ’إن إس أو‘ (NSO Group)، وهي شركة تتخذ من إسرائيل مقراً لها، ضد صحفيين لهم صلات بقطر، فيما أنشأت الإمارات العربية المتحدة أداة مراقبة بمساعدة من موظفين حكوميين سابقين في الولايات المتحدة، حسبما وثّقت لجنة حماية الصحفيين في كانون الأول/ ديسمبر 2020 وكانون الثاني/ يناير 2019، على الترتيب. (وقد طلبت اللجنة من مجموعة ’إن إس أو‘ عبر البريد الإلكتروني في كانون الأول/ ديسمبر التعليق على ذلك، لكن المجموعة امتنعت عن إعطاء تعليق يمكن نسبته إلى متحدث رسمي مع ذكر الاسم).

ويُشتبه كذلك في قيام حكومات أخرى في المنطقة باستخدام برمجيات خبيثة في استهداف الصحفيين: إذ يُزعم أن السعودية راقبت هواتف أشخاص عددين ممن وردت أسماؤهم في قائمة الأسماء الموجودة في هاتف خاشقجي قبل أن يقوم عملاؤها بقتله.

حالات ينبغي متابعتها

اعُتقل مراسل موقع ’لو ديسك‘ (Le Desk) عمر راضي بتهمة مناهضة الدولة في عام 2020. وذكرت منظمة العفو الدولية أن السلطات المغربية استخدمت تقنيات إسرائيلية لاختراق هاتفه في السنة التي سبقت اعتقاله، الأمر الذي أنكرته السلطات المغربية.

اعتُقل في عام 2020 الصحفي المغربي والمناصر لحرية الصحافة معاطي منجب، وكانت لجنة حماية الصحفيين قد أجرت لقاء معه عام 2019 بعد أن أفادت العفو الدولية أنه استُهدف بمحاولة لتثبيت برمجيات خبيثة على هاتفه.

——————————–

العشرية الأولى لثورة يناير.. المآلات والأسئلة الحرجة/ جمال نصار

مرّت السنوات تلو السنوات على الثورة المصرية التي أحدثت نقطة فارقة في تاريخ مصر الحديث، وكانت حلماً لملايين المصريين للانعتاق من الظلم والفساد والاستبداد، ولكن جرت في النهر مياه كثيرة غيّرت الأحداث، وبدّلت الأوضاع، وجعلت صاحب الحق مسلوب الإرادة، والظالم المستبد، يعلو وينتفش، ليس هذا فحسب، بل انتقم من صاحب الحق بكل الوسائل المتاحة مدعوماً بأنظمة إقليمية ودولية لإجهاض هذا الحلم الجميل.

لقد عاش الشعب المصري معاناة لفترات طويلة، ولا يزال، بسبب تحكّم الآلة العسكرية في مصيره ومستقبله ومقدراته، حتى أضحى، في مجمله، لا يجد من يحنو عليه، كما وعده العسكر بذلك، بل أصبح بعد هيمنة وسيطرة العسكر على مقاليد الأمور مدعوماً بداعمي الثورة المضادة، لا يستطيع أن ينطق ببنت شفه بما يخالف السيسي ومن معه، وتحولت مصر إلى سجن كبير للجميع، بمن فيهم من أيّد الجنرال السيسي في انقلابه على المسار الديمقراطي.

الموقف الإقليمي والدولي من ثورة يناير

كان للمملكة العربية السعودية، بقيادة الملك عبدالله أثناء اندلاع ثورة يناير، ودولة الإمارات بقيادة محمد بن زايد الدور الأكبر في إجهاض الثورة المصرية، ودعم الثورة المضادة بكل السبل، وأرادوا من ذلك عدة أمور: الأول إجهاض أحلام العقول المتحررة من الاستبداد والاستعباد في المنطقة العربية بشكل عام، والثاني وأهمها يتمثل في خطاب خفي من أمراء الحرب إلى شعوبهم: انظروا إلى تلك الشعوب التي خرجت على حكامها مطالبة بالتغيير كيف حالها؟ وأين أصبحت وكيف دمّرت وجاعت، ولم تحقق شيئاً غير المأساة والقهر والمجاعة؟ والثالث: خوفهم على عروشهم لأن الشعوب تغار من بعضها، ويخشون أن تنتقل عدوى الثورة إلى شعوبهم فينقلبوا عليهم، ويخسروا مكتسباتهم التي سلبوها من شعوبهم.

أما الدول الغربية فقد اتخذت موقفاً فضفاضاً تجاه عبدالفتاح السيسي، ودوره في عزل الرئيس محمد مرسي، حين كان وزيراً للدفاع. فمواقف القوى الكبرى تباينت، لكن أغلبها ركّز على رفض النظام العسكري، مطالباً بضرورة العودة إلى الشكل المدني للسلطة، وجاء فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة وما خلّفه من مئات الضحايا، ثم المحاكمات الواسعة لأعضاء جماعة الإخوان المسلمين، ليزيد من درجة الانتقادات الموّجهة إلى السيسي.

وقد عبّر السيسي بداية عن عدم نيته الترّشح للانتخابات الرئاسية، لكنه قدم ترشيحه لاحقاً مُعلّلاً ذلك بأنها مطالب من الشعب. وبقيت العلاقة بينه وبين الغرب حذرة، إلى أن بدأت الزيارات تجمعه بعدد من القادة الغربيين، وتحوّل السيسي إلى شريك في عمليات السلام المتعلّقة بالنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، كما استغل ورقة مكافحة الإرهاب لتعزيز علاقاته مع الغرب، خاصة مع معاناة مصر من هجمات إرهابية متعددة، فضلاً عن توقيعه لصفقات تجارية واستيراد أسلحة من دول غربية متعددة. كل ذلك جعل الانتقادات الغربية للسيسي لا تتجاوز بعض التعبير عن القلق إزاء انتهاكات حقوق الإنسان.

وفي المجمل العسكر لا يروقهم انتخاب رئيس مدني من خارج المؤسسة العسكرية، فأخذوا على عاتقهم الاستمرار في خطة إفشال الثورة بمساعدة حلفاء لهم في الخليج، التي رأت في خلع مبارك خطراً وجودياً يهدد نظامهم.

نماذج لثورات حققت أهدافها وأخرى فشلت

الثورة تغيير أساسي في السلطة أو الهياكل التنظيمية في فترة زمنية قصيرة نسبياً، والثورة الناجحة هي التي تسفر عن تغيير طويل الأمد لم يكن ليحدث لولاها.

والثورات التي حدثت في أماكن عديدة من العالم كانت لها مراحل، وجولات، وموجات عديدة، فالثورة الفرنسية (1799 – 1789) أخذت عشر سنوات حتى حققت أهدافها، وكذلك الثورة البلشفية (1917 – 1923) في روسيا.

ومعيار النجاح الكلي لتلك الثورات يكمن في تحقيق أهدافها التي قامت من أجلها، والتطلعات والغايات التي يسعى الشعب لإكمالها، كما أن فشلها هو نتيجة لإخفاقها في إنجاز أي من تلك الغايات والأهداف.

وحدوث بعض الإخفاقات، أو ردة في مسار الثورة لا يعني القضاء عليها أو انتهاءها، ولكن يعني أن هناك استكمالاً لمراحل الثورة الموجودة، بعودة الروح والوعي للشباب، والاستفادة من الدروس والانكسارات التي مرّت بها الثورة ومؤيدوها.

والثورات يتكون مخاضها في سنوات عديدة، وربما تأخذ جيلاً على الأقل، وليس صحيحاً أنه يمكن أن تحدث ثورتان في توقيت متقارب أبداً، كما يدّعي أنصار الثورة المضادة، ويروّج له السيسي ومن يدعمه؛ لأن الشعوب لا تنتفض بسهولة. كما أن الثورة تأخذ وقتاً حتى تُنهي عملية التطهير ويبدأ البناء.. ولا يمكن أن تستمر ثورة لساعات لكي تُسقط النظام.

وفي بعض الأحيان، تجعل الثورة الأمور أكثر  سوءاً، فعلى سبيل المثال، اندلعت ثورة في الصين حاولت تحرير الفلاحين من اضطهاد أصحاب الأملاك. فقد كان هؤلاء الفلاحون ضحايا الاستغلال لقرون، وكانوا فقراء جداً بسبب هذا الاستغلال. ولكن بعد الثورة مات الكثيرون منهم بسبب الجوع والأمراض.

لكن الثورة لم تحقق أهدافها، فقد أصبح الفلاحون الذين بقوا على قيد الحياة متساوين مع أولئك الذين كانوا أغنياء قبل الثورة، وكان عليهم العمل في أراضيهم بدلاً من أن يستغلهم الآخرون. لقد عملوا بجد لسنوات دون أي أجر من أجل البقاء على قيد الحياة، لكن في نهاية المطاف، بدأوا يتضورون جوعًا مرة أخرى.

أقول: قد تُزيد الثورات حيز الحرية أحياناً، إلا أنها قد تفشل في تحقيق هذا الهدف أيضاً لأنه إذا ما افتقر الثوار للقوة الكافية، أو إذا اختلفوا فيما بينهم وحاربوا بعضهم البعض بدلاً من أعدائهم، فإن المضطهدين قبل اندلاعها سيبقون كذلك بعدها.

لماذا لم تنتصر ثورة يناير بعد انقضاء 10 سنوات على قيامها؟!

المتأمل لحال مصر بعد عشر سنوات من الثورة، قد يرى أن الوضع أصبح أسوأ مما كان عليه قبل الثورة عندما خرج المتظاهرون إلى ميدان التحرير، وانتشروا في ميادين أخرى بمصر في أثناء ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، رافعين شعار: “عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية”، ومطالبين بتحقيقه.

وبعد نحو سبع سنوات من حكم السيسي سجلت مصر أعلى معدل عالمي في حالات الإعدام التي تنفذ ضد معارضي النظام، وأصبحت سياسة الإعدام هي الحاكمة لكل شيء في مصر بداية من الإنسان وحقوقه، وصولاً إلى إعدام السياسة نفسها، فيما زج بالآلاف في السجون فأصبحت الصورة كالتالي: “ثورة فانقلاب فوضع أسوأ مما كان قبل الثورة”.

ومن ثمّ يمكن الذهاب إلى فرضية أن الثورة المصرية لم تنتصر حتى الآن، وذلك لعدة أسباب، منها:

أولاً: عدم استمرار التلاحم الداخلي بين الذين شاركوا في الثورة، حيث كانت الأوضاع منذ انطلاقة الثورة حتى إزاحة مبارك مُبشرة، ولكن فيما بعد وصل الأمر إلى التفرّق والتشرذم، والخلاف حول إدارة المرحلة، مما أتاح الفرصة للعسكر للانقضاض على المكتسبات التي تحققت في فترة وجيزة.

ثانياً: استعجال اقتطاف الثمرة دون الاستعداد لذلك، وعدم الوعي بطبيعة المرحلة، وأن الفترات التي تأتي بعد الثورات مباشرة، لابد أن يشارك فيها الجميع، كمرحلة انتقالية، إلى أن يتشكل الوعي، ويتم التعرف على مداخل ومفاصل الدولة التي لا يعرفها الكثير ممن شاركوا في الثورة.

ثالثاً: التآمر الإقليمي والدولي ضد مكتسبات الثورة، واتجاه الفاعلين في الخارج، لتقديم مصالحهم على أي شيء آخر، فحملوا لواء الثورة المضادة، واستخدموا العسكر كوسيلة لكبح جماح الثورة، التي من الممكن أن ينتقل صداها إلى باقي المنطقة، وخصوصًا أن مصر لها تأثير تاريخي فيما حولها من دول.

رابعًا: رغبة العسكر في الانتقام من الشعب المصري، ومن الذين أرادوا تغيير منظومة الحكم التي أَسّس لها العسكر منذ عقود، من أمثال: (البلتاجي، وصفوت حجازي، وعلاء عبد الفتاح، وشباب ٦ أبريل)، وبالتالي عدم السماح لأي قوى مدنية فيما بعد لكي يكون لها أي دور في المجال السياسي، بل وصل الأمر إلى تأميم كل الأحزاب والنقابات المهنية، والمنظمات الأهلية.

خامسًا: غياب الرؤية لدى الفاعلين الذين قاموا بالثورة المصرية (الجميع بمن فيهم الإخوان المسلمين)، وعدم استعدادهم بالشكل المطلوب للتعاطي مع التحولات الإقليمية في المنطقة، والتأثير الدولي على مجريات الأمور، مما ساعد بشكل أو بآخر على إفشال التجربة التي انتظرها الشعب المصري لعقود.

سادسًا:  انصراف الكثير من المؤمنين بثورة يناير عن السعي لإعادة اللحمة مرة أخرى؛ إما للتضييق الأمني في الداخل، أو للخلافات البنيوية في التشكيلات السياسية في مجموعات الخارج، وعزوف البعض عن المشاركة في أي شيء يمكن أن يحرك الأمور؛ لعدم إيمانهم بالفاعلين الحاليين، ناهيكم عن تشرذم الشباب في الداخل والخارج.

أسئلة تحتاج إلى إجابات شافية

على الرغم من صعوبة المرحلة، والتحديات التي تواجه كل من يقف في وجه السيسي، والمؤامرات التي تحاك ضد شعب مصر، إلا أن هناك بعض الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات شافية وعملية:

لماذا لا يثور المصريون برغم أن السيسي مارس كل أنواع الظلم على المصريين بكل فئاتهم، وسارع في إهدار العدالة، والقتل خارج نطاق القانون، وتدمير مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، إلى جانب بيعه أراضي الوطن في تيران وصنافير، وتفريطه في حقوق مصر التاريخية بماء النيل، وإهداره ثرواته في البحر المتوسط، وتصفية الشركات العريقة، مثل شركة الحديد والصلب، وغير ذلك مما قلّص وقزّم دور مصر على المستويين الإقليمي والدولي؟!

وهل يمكن أن تعود روح يناير مرة أخرى، وينتبه الجميع لخطورة الموقف الحالي، وما آلت إليه الأوضاع في مصر على جميع المستويات، ويعرف الجميع أن الدرس كان قاسيًا، ويجب التحرك والتقارب بالشكل المطلوب، وترك الخلافات البينية، والتوافق على المشتركات، بما يساعد على حلحلة الأمور وتغيير الأوضاع؟

وهل هناك بديل للنظام الحالي الذي يقوده السيسي، يمكن أن يوجد الحلول للمصريين، ويرجع لهم كرامتهم المسلوبة، ومقدراتهم المسروقة، وما هي قدراته على إقناع الشعب المصري ليتحرك معه، وماهي آلياته للتعامل مع الوضع الإقليمي والدولي المتشابك؟

——————————-

أيد الربيع العربي في البداية ثم انضم للثورة المضادة.. قراءة في موقف الغرب من الثورات/ ياسين أقطاي

تقام العديد من الفعاليات والأنشطة بمناسبة الذكرى العاشرة لما بات يعرف بالربيع العربي. وتتناول هذه الفعاليات التي أقيم معظمها عبر الإنترنت بسبب ظروف الوباء المنتشر، موضوعات شتّى، بدءاً من تسمية هذه المرحلة ذاتها وصولاً إلى ماهية ما حملته من أحداث. ولا شك أن محاولة استقراء كلّ شيء بين ثنايا هذه السنوات العشر والتوقف عندها والتأمل بها، يعتبر لوحده بمثابة تراكم معرفيّ من التجربة المعاشة. ولكن في الوقت ذاته تبقى هذه المرحلة الزمنية جزءاً صغيراً للغاية من تاريخ البشرية الطويل.

معنى الثورة

هناك موقف لا يزال مطبوعاً في ذاكرتي غير قابل للنسيان، حينما كان الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي وهو أحد القادة البارزين في الثورة التونسية، في زيارة للعاصمة أنقرة بصفته رئيساً، حينما كانت أيام “الربيع” لا تزال في أنضر أوقاتها، خلال خطاب له آنذاك سُئل عن جوانب الإخفاق في الثورة، فرد بجواب لا يمكن أن أنساه، حيث سلط من خلاله الضوء على حقيقة مهمة للغاية في علم الاجتماع التاريخي:

“ماذا تظنون الثورة؟ هل تعتقدون أنها شيء يحدث وينتهي بين عشية وضحاها؟ هل هي مرحلة أحادية الاتجاه تحدث في بيئة خالية من الاصطدام ومنعدمة من المقاومة؟ هل تعرفون كم عقداً من الزمن احتاجت الثورة الفرنسية التي استحوذت على مفهوم الثورة؛ حتى تأخذ عافيتها وتستقيم لها الأمور؟ ربما تظنون أنها حدثت عام 1789 وانتهت عند ذلك، ورسمت معالم طريقها بوضوح بين مرحلتين من الزمن. لكنها في الواقع كانت مرحلة طويلة كما سالت فيها الدماء، فقد سالت في الوقت نفسه محاولات لا تنتهي من الخيانة والتآمر والثورات المضادة”.

إنّ الثورة في الحقيقة هي تلك العملية المعقدة التي جعلت كارل ماركس يضحك بمرارة على ما حدث حتى بعد مضي 60 عاماً، وينشر مقالته “لويس بونابرت: الثامن عشر من برومير”.

يعتبر مفهوم الثورة من أهمّ المفاهيم الأيديولوجية للقرن العشرين. لطالما كان مفهوماً غاية في التعقيد وأحيط بطلاسم. بمجرد أن تحدث تلك الثورة، تخلق لحظة سحرية تنتهي معها فوراً جميع مشاكلنا وأزماتنا في هذا العالم، ويصبح فيها الذئب صديقاً للغنم، وتنقضي الخلافات ما بين الناس، وينتهي الفقر، وتتجسد العدالة.

إنّ الثورة هي اسم لذاك الأمل الذي يطمح لتحويل المدينة الفاضلة بجميع استحالاتها إلى حقيقة وواقع. كما أنها المخلّص الذي تنتظره جميع الجماهير الناقمة من الواقع المعاش. ذلك المخلص الذي تتحد فيه جميع عوالم الاعتقاد والإلحاد والعلمانية تنتظر مهديّها أو مسيحها على أحرّ من الجمر.

إنه شيءٌ مُنتظَر يُتطلع إليه، إلا أنّ ما يتمّ انتظاره لا يأتي على الإطلاق وفق توقعات منتظريه، أو وفق تطلعاتهم. نحن كبشر غالباً ما تكون توقعاتنا حول المستقبل هي المشكلة.

الربيع العربي والغرب

كان الربيع العربي شيئاً يُتطلّع إليه، لكنه لم يأتِ على حسب هذا التطلع، ولم يحدث وفق هذا التطلع أيضاً. كان اختباراً مثله مثل شتى التطلعات التي يرنو لها العالم العربي، وشتى تطلعات العالم الإسلامي، وبأحد جوانبه كباقي تطلعات العالم برمته. ربما كان للبعض بمثابة فرصة لعقد تقييم بين ما تطلعوا إليه وما حصلوا عليه. ألا تشكّل التطلعات أحياناً مشاكلنا وحدودنا الخاصة؟ أليس من المحتمل أن تكون الثورة الحقيقة هي أن نغيّر توقعاتنا؟

إنّ فشل جميع ثورات الربيع العربي من خلال الانقلابات والثورات المضادة، والوضع الذي جاء ما بعد الثورة والذي بدا أسوأ بكثير مما قبلها؛ لا يعني بالضرورة أنّ الثورة أو الأحداث التي جرت أو المآل التي آلت إليها؛ لا تحظى بأي فائدة أو وظيفة. بل إنّ أعظم فائدة ووظيفة تمخضت عن تلك الأحداث، أنها هزّت النظام الذي تحول لروتين يجثو فوق أنفاس الناس، لقد هزّت ذلك النظام الذي كان يُتخيّل أنه أبديّ ووضع راهن لا يمكن تغييره أو مقارعته.

لا شك أنّ ما يحدث اليوم سواء في مصر أو اليمن وسوريا، هو نموذج لعقلية الجاهلية التي تعتقد أنها بحاجة لمزيد من الاستبداد والقمع لتكميم أفواه الشعوب التي تنشد التغيير وتسعى للحفاظ على إرادتها. ولسوء الحظ فإنّ أكثر الدول تحضّراً وديمقراطية اليوم قد دخلت في تحالف غير مسمّى مع أعتى الأنظمة ديكتاتورية واستبداداً.

على صعيد آخر، هناك رواية تقول إنّ الربيع العربي ربما لم يكن أمراً توقعه العالم الغربيّ، ومع أنه رحب به في البداية بشكل جيد، لكنه سرعان ما بدا متردّداً ليغيّر موقفه فيما بعد. وأعتقد أنه من الضروري جدّاً فهم هذه النقطة. ما الذي كان يتوقعه الغرب من الربيع العربي، وما الذي وجده بعد ذلك؟ حينما جاءت الثورة التي لم تكن من جملة توقعاته، قيّمها في البداية على أنها امتداد لمفاهيمه وقيمه الخاصة. كان الشباب من خلال استخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، ينشدون الحرية والكرامة والخبز، وهذه بمجملها تعتبر مطالب مألوفة تتسق مع النموذج الغربي، أو جزءاً منه بالأحرى. ولذا فقد نظر لتلك التحركات بمشاعر قومية ترى فيما يحدث امتداداً وتوسعاً للعالم الغربي.

إلا أنّ العبرة فيما حدث لاحقاً، حيث بدأ الغرب يدرك أنّ الثورة التي تغزل بها في البداية، شيء غريب لا يشبه ملامح التغيير الذي يعرفه ويحفظه، كما أنّ نتائجها مجهولة، وقد بدأت تمشي نحو مسار مجهول أيضاً بالنسبة له. ومع مرور الوقت، لم تعُد الأسماء البارزة في الثورة مألوفة بالنسبة له، حيث إنها لم تكُن تشبه ما كان يسميهم الغرب بـ”أولادنا”. منذ تلك اللحظة بالتحديد قرر الغرب أن يحكم سيطرته على التيار، مهما كلف الأمر وأيّاً كانت الوسائل.

ولذلك السبب نجد أنّ هذه الثورات كلما فتحت طريقاً ما أمام الشعوب العربية، كانت بمثابة ثورة مضادة داخل مراكز القوة الغربية. ليكشفوا أخيراً عن سوءاتهم ويتضح أن الديمقراطية التي أرادوها في بلدانهم لا يريدونها على الإطلاق في بلاد العالم الإسلامي. وأنهم العقبة الأكبر على طريق الديمقراطية في هذه البلاد.

وسنواصل من هذه النقطة عرض أفكارنا وملاحظاتنا، تزامناً مع الذكرى العاشرة لثورة 25 يناير/كانون الثاني في مصر.

——————————-

=======================

تحديث 04 شباط 2021

—————————

تراث ثوري عربي؟/ ياسين الحاج صالح

في الذكرى العاشرة لثورات 2011 العربية، لا نملك رفاهية تجاوز فعل التذكر. ولكن، بدلًا من إقامة نصب تذكارية توقعنا ضحية الحنين إلى الماضي أو الرغبة في رثائه، نختار أن نتذكر دلالة الحاضر والمستقبل. نطرح أسئلة عن تأثير مرور الزمن في تغيير فهمنا للحدث الثوري الماضي، وعما يقوله لنا هذا الحدث، وما راكمه من أفكار وممارسات، عن إمكانية تشكل تقليد ثوري عربي. ونسبر أيضًا مساحات جديدة للسياسة اليومية و«السياسة الصغرى» تثوِّر فهمنا للسياسة وفحواها في عالم ما بعد 2011 العربي. في هذا الاستدعاء المزدوج للموتى كما للأحياء، نهدف إلى مواجهة أسئلة سياسية قديمة وأخرى جديدة حول التاريخ والتعامل مع الماضي، وحول الأيديولوجيا والتنظيم والهوية الوطنية، وحول مواقع الممارسة السياسية التي تشكل واقعنا المُعاش الآن، وقد تلهمنا لإعادة تخيل المستقبل. 

لقد كان الزمن الثوري العربي أجمل الأزمان وأقساها: شكّلنا كذوات سياسية بما حمله من شجاعة وأمل وفعل مولد، وعاد وحطمّنا بما رافقه وتلاه من وحشية لا حدود لها، وأدخلنا في خضم كل هذا في لولبة خطابية لا تنتهي عن النجاح في مقابل الفشل.

في هذه السلسلة من النصوص القصيرة التي أعدها موقعا «الجمهورية» و«مدى مصر»، والتي تلت نقاشات بين كتّابهما، محاولة أولى لكسر هذه اللولبة. هي دعوة لتأمل العقد الماضي بوصفه تاريخ، بعيدًا عن السرديات الخشبية الجاهزة، ثورية كانت أم ما بعد ثورية، وعن غرف الصدى الفئوية أو الوطنية الضيقة، بما قد يكشف عن ديناميكيات وموضوعات وأصوات لم تحظ بالاهتمام من قبل. كمنصتين صحفيتين أسهمت لحظة 2011 في إنتاجهما، ندرك بشكل خاص كم الإنهاك والتكرار الذي تثيره النقاشات عن الربيع العربي لدى كُتابنا وقرائنا على حد سواء. وبالنسبة لنا، هذا أيضًا جزء من واقعنا المعاش وقسوته التي نختبرها في لحظات التأمل مع «ملاك التاريخ».

*****

التقليد قواعد قارّة ينضبط بها الفعل البشري، الثورة حدث تغييري لا يسير على نسق مقرّر. وبقدر ما أن «التقليد الثوري» مفهوم متناقض، فهو يجنح أيضاً إلى تصفية الحدث الذي هو الثورة وتأكيد نفسه هو، على ما نعلم من النموذج الشيوعي الذي يمثل تقليداً ثورياً صلباً، من شأن التفكير فيه أن يساعد في إلقاء الضوء على ثورات اليوم.

يشرط التقليد الشيوعي الثورة بشرط نظري (الماركسية) وعملي (الحرب الطبقية) وتنظيمي (حزب الطبقة العاملة)، إلى درجة سلب الثورة ذاتيتها وجعلها «عِلماً» أو برنامجاً مسبقاً، وليس علاقة متغيرة بين فاعلين وأوضاع معينة. القضاء على السوفييتات التي تمثلت فيها ذاتية الثورة الروسية وإبداعيتها جرى لمصلحة دكتاتورية البروليتاريا، والعلم الثوري انتهى إلى التشكيك في أية ثورات لا تشبه ثورته، ثم اعتبار الحكم الشيوعي «نهاية التاريخ». تُرجم هذا واقعياً في سحق الدبّابات لثورات قامت في بلدان تحكمها أحزاب شيوعية تابعة لموسكو، كما في المجر (1956) وتشكيوسلوفاكيا (1968)، الأمر الذي خلّف مفهوم «التانكيز» أو «الدبّابيّين» المعادين للثورات. تحول التقليد الشيوعي إلى تقليد مضادّ للثورة بعد أن تشكّلت الثورة في تقليد صلب: مذهب وقواعد عمل بعينها لا تتغير، مستغنية عن الحاجة لمعرفة أي شيء مهم عن البلدان المعنية.

الثورات العربية هي ثورات ما بعد شيوعية، جاءت بعد فقد الثقة في التقليد الشيوعي، دون أن تندرج في تقليد ثوري غيره. ليس لدينا والحق يقال تراكم ثوري حديث يُذكر، وما في ذاكرتنا من نزعات تمرُّدية يُحيل إلى الصراع ضد الاستعمار، وإلى سجلّ من النضال ضد الاستبداد لم يحقق اختراقاً فلم يشكل تقليداً. ومجمل ذلك يلقي ضوءاً كاشفاً على تعثّر ثوراتنا، وفي الوقت نفسه يُسبغ على الثورات صفة البدء والتجربة.

لكن هل دخلنا الثورة بلا تنظيم من أي نوع، بلا أفكار أولى، في حدث انفجاري فوضوي كلياً؟ ليس تماماً، إلا إذا كان المقصود بالتنظيم حزباً من الطراز اللينيني، وبالفكرة مذهباً مثل الماركسية اللينينية.

كانت هناك حركات احتجاج حتى في بلد مثل سوريا، وكان التغيير الديمقراطي الفكرة الموجِّهة لقطاع نشط من أوائل الثائرين، هم الذي سُحقوا قتلاً أو تغييباً أو نفياً. لقد بدت الثورة السورية في بداياتها تلاقحاً بين تجارب احتجاجية أعقبت ربيع دمشق، والذي جرى في حيزات خاصة منضبطة؛ وبين منهج الاحتجاج الذي أبدعه الربيع العربي، أي الاجتماع السلمي في فضاءات عامة متمرّدة. لكن كلاً من الأفكار السابقة للثورة والمنهج الاحتجاجي المستعار تبخّر على حرارة الحرب المفروضة، فكأن كل شيء بدأ عند حدث الثورة، الذي أخذ يبدو بِدءاً مُطلَقاً بلا قَبل.

بالتفاعل مع كتاب صدر مؤخراً لآصف بيات، أميّز بين ثوّار من أجل، لديهم تقليد صلب، ويقلّدون ثورات نجحت بما يُحتمل أن يُلغي ذاتية ثورتهم؛ وبين ثائرين ضد، لا يستندون إلى أمثلة ناجحة سابقة، ويعرّفون أنفسهم بعدوّهم، فلا يكاد يبقى لهم أثر إن هُزمت الثورة. في سوريا لدينا ثائرون كثيرون وثوّار قلة.

لهذا كان الإسلاميون، والسلفيون أكثر من غيرهم، أكثر تأهيلاً للفوز في صراع من أجل البقاء في شروط حرب معمَّمة. كانت الثورة السورية مجرد بيئة انتشار للبنية السلفية الجهادية، التي تعيد نسخ نفسها حيثما استطاعت. يبدو التقليد السلفي الجهادي مثل ماركسية لينينية إسلامية، تشرط ثورتها بشرط نظري (السلفية) وعملي (الحرب الدينية) وتنظيمي (مجموعات المجاهدين المنضوين في حرب عصابات). هنا أيضاً تتكثف المعركة في تقليد حديث صلب ورموز حية، تسلب الحدث ذاتيته تماماً لمصلحة «العلم» السابق عليه، أي منهج السلف. هناك اختلاف معياري بين التقليد الشيوعي والتقليد الجهادي، وقد لعبت أجهزة المخابرات والاختناق الديني في أفغانستان دوراً تكوينياً في هذا الأخير، لكن الكلام على بنيات تنظيم واعتقاد وعنف متشابهة، «مناهج» و«تقاليد»، وهويات متصلبة محروسة بالولاء والبراء.

هناك تقليد ثوري عربي تشكَّل في العِقد المنقضي، وصدورنا عنه هو ما يشدُّنا إلى موجة الثورات الجديدة في لبنان والعراق والسودان والجزائر، فضلاً عن احتجاجات هونغ كونغ وفرنسا وغيرها. لكن الأصح الكلام على «تقليد ليّن» أو «تراث» ثوري نستأنس به. ويبدو أن الثورات الناجحة تُخلّف تقاليد صلبة يُقتدى بها ويُنسَج على منوالها، فيما تُخلّف الثورات الفاشلة تجارب وقصصاً وأمثلة تُستحضر في النقاش؛ دروساً يُنتفع بها وضروباً من الحذر.

لذلك ينبغي التدقيق في ما نعنيه بنجاح الثورات وفشلها، أو التفكير في أن الثورة ثورات كثيرة، بعضها ينجح وبعضها يفشل. ما فشل بخاصة هو التغيُّر السياسي الذي كان من شأنه أن يغيّر البيئة السياسية والنفسية في البلد، ويطلق ديناميكيات اجتماعية وسياسية مختلفة. بل إن في تعدد الثورة ما يدعو إلى التدقيق كذلك في نهاية الثورات.

الثورات سيرورات تعلم، وهي سلفاً حلقات في العملية المكوِّنة للتراث الثوري أو التقليد الثوري الليّن. لدينا منذ الآن ذاكرة ثورية، ولدينا دروس وعِبَر، ستكون زاداً مهماً في مقبلات الأيام. لكن لدينا أيضاً مما تحقق فعلاً ويُبنى عليه ما يتجاوز القصص والحكايات:

قبل كل شيء امتلاك الكلام، كسر واسع لاحتكار الكلام من قبل النظام وشركائه.

ومنه ثورة في الذاتيات، ظهور أفراد بعدد كبير، متحررات ومتحررين، يقرّرْن ويقرّرون مصائرهم.

ومنه انتهاك تابوهات متّسِع ومعبَّر عنه فيما يتّصل بشؤون الدين والجنس والأدوار الاجتماعية، فضلاً عن تطبيع انتهاك تابو السلطة السياسية، وكان أقوى التابوهات ومصدر تغذية التابوهات الأخرى.

ومنه تجربة المنفى ذاتها، التي يمكن أن تكون منطلقاً لأفكار وحساسيات مغايرة.

هناك ما انتهى في الثورة السورية قبل سنوات، ربما بعد نحو عامين من الثورة أو حتى أبكر، وهناك ما يستمر إلى اليوم. تُستأنف الثورة اليوم وفي الغد بقدر ما تتحقق ثورات أو نقلات مستمرة في مجالات فعل سوريين كثيرين.

موقع الجمهورية

—————————-

ثورات بلا وعد ثوري/ موريس عايق

في الذكرى العاشرة لثورات 2011 العربية، لا نملك رفاهية تجاوز فعل التذكر. ولكن، بدلًا من إقامة نصب تذكارية توقعنا ضحية الحنين إلى الماضي أو الرغبة في رثائه، نختار أن نتذكر دلالة الحاضر والمستقبل. نطرح أسئلة عن تأثير مرور الزمن في تغيير فهمنا للحدث الثوري الماضي، وعما يقوله لنا هذا الحدث، وما راكمه من أفكار وممارسات، عن إمكانية تشكل تقليد ثوري عربي. ونسبر أيضًا مساحات جديدة للسياسة اليومية و«السياسة الصغرى» تثوِّر فهمنا للسياسة وفحواها في عالم ما بعد 2011 العربي. في هذا الاستدعاء المزدوج للموتى كما للأحياء، نهدف إلى مواجهة أسئلة سياسية قديمة وأخرى جديدة حول التاريخ والتعامل مع الماضي، وحول الأيديولوجيا والتنظيم والهوية الوطنية، وحول مواقع الممارسة السياسية التي تشكل واقعنا المُعاش الآن، وقد تلهمنا لإعادة تخيل المستقبل. 

لقد كان الزمن الثوري العربي أجمل الأزمان وأقساها: شكّلنا كذوات سياسية بما حمله من شجاعة وأمل وفعل مولد، وعاد وحطمّنا بما رافقه وتلاه من وحشية لا حدود لها، وأدخلنا في خضم كل هذا في لولبة خطابية لا تنتهي عن النجاح في مقابل الفشل.

في هذه السلسلة من النصوص القصيرة التي أعدها موقعا «الجمهورية» و«مدى مصر»، والتي تلت نقاشات بين كتّابهما، محاولة أولى لكسر هذه اللولبة. هي دعوة لتأمل العقد الماضي بوصفه تاريخ، بعيدًا عن السرديات الخشبية الجاهزة، ثورية كانت أم ما بعد ثورية، وعن غرف الصدى الفئوية أو الوطنية الضيقة، بما قد يكشف عن ديناميكيات وموضوعات وأصوات لم تحظ بالاهتمام من قبل. كمنصتين صحفيتين أسهمت لحظة 2011 في إنتاجهما، ندرك بشكل خاص كم الإنهاك والتكرار الذي تثيره النقاشات عن الربيع العربي لدى كُتابنا وقرائنا على حد سواء. وبالنسبة لنا، هذا أيضًا جزء من واقعنا المعاش وقسوته التي نختبرها في لحظات التأمل مع «ملاك التاريخ».

*****

بين الأطروحات الثلاث التي ناقشها المؤرخ الفرنسي، فرانسوا فوريه، لتفسير الثورة الفرنسية كلحظة تأسيسية للتقليد الثوري، تحظى أطروحة أوغست كوشان، المُنظِّر الكاثوليكي المحافظ والمعادي للثورة، بأهمية خاصة. فهو يعتبر أن ما يميز الثورة الفرنسية أنها لحظة قطيعة مع اللغة والمخيلة التي يُنظَر من خلالها إلى العالم. قامت الثورة الفرنسية على مخيلة سياسية مختلفة بشكل جذري عما سبق؛ رؤية يعقوبية للعالم مستمدة من فلسفة التنوير، انتشرت بفضل جمعيات تبنّتها وعملت على تعميمها ونشْرها في المجتمع. تُحيل هذه الرؤية إلى التساوي التام بين الأفراد، الأحرار من التقاليد والمرتبة الاجتماعية، والذين يتولون إدارة شؤونهم بأنفسهم. هنا نجد التصورات السياسية الحديثة جميعها: المساواة والسيادة الشعبية والديمقراطية والحرية والجمهورية، جميعها قائمة على تخيُّل جديد وجذري للعالم.

ما يجعل التمرد أو الانتفاضة ثورة هو هذه المخيلة الجذرية الجديدة.

كذلك تعرّف حنه آرنت الثورة بوصفها بداية جديدة وتأسيساً جديداً يُحيل إلى الحرية، وهذه مقولة تجريدية تُحيل إلى المفهوم التجريدي نفسه وهو الفرد. تتعين الحرية هنا بالإحالة إلى المشاركة في الحياة السياسية، فالفرد مواطن، والمشاركة تُحيل إلى «المجال العام» كظاهرة حديثة ومكان لمناقشة الأمور السياسية والاجتماعية والتداول بصددها. التاريخ مليء بالتمردات والعصيانات، لكن الثورة ظاهرة حديثة، تعود إلى الثورة الفرنسية أو الأمريكية أو ربما الهولندية بوصفها بداية التقليد الثوري. ما يجمع هذه الثورات الأولى – على تباينها – أنها أسست لبداية جديدة انطلاقاً من هذا التصور التأسيسي لأفراد متساوين وأحرار يحوزون السيادة فيما يتعلق بإدارة حياتهم.

يمكن تعريف التقليد الثوري أنه يقوم على هذا التصور الذي تأسَّس مع الثورات، والذي حرص الثوريون دوماً على الإحالة إليه وتقديم معنى لأفعالهم بواسطته. إنه تقليد من القيم والمعاني والرموز التي فكر الثوريون من خلالها وفهموا ما يقومون به بالإحالة إليها. إحالات البلاشفة إلى الثورة الفرنسية لا تنتهي، وقد سبقهم ماركس وإنجلز وثوار 1848.

هل يمكننا الحديث عن تقليد ثوري عربي بعد مُضيّ عقد على الانتفاضات العربية؟ يمكن تفكيك هذا التساؤل إلى سؤالين: الأول هو، هل تندرج الانتفاضات العربية في هذا التقليد الثوري الكوني؟ والثاني، هل أسست الانتفاضات العربية لتقليد ثوري خاص بها؟ لعل عشر سنوات ليست فترة كافية للإجابة، لكن يمكننا تقديم ملاحظات أولية.

بالطبع، كانت هناك إحالات دائمة ومستمرة إلى التقليد الثوري، كالحرية و«الشعب يريد إسقاط النظام» وتأكيد الشرعية الشعبية والمواطنة وغيرها، وجميعها تنتظم في لغة هذا التقليد. لكن هذه اللحظات بقيت محدودة في مسيرة الانتفاضات العربية، واقتصرت على البدايات (ميدان التحرير والتجمهرات الأولى)، قبل أن تتضاءل هذه اللحظات وتضمحل. الجمهور العريض الذي دخل إلى الساحة العامة، التي فُتحت عنوة وبأثر الانتفاضة، كان ذا مزاج محافِظ ورجعي بشكل كبير، ودور الإسلاميين في الانتفاضات ونجاحاتها واستمرارها، كما في هزائمها اللاحقة، كان حاسماً، ولا يمكن التقليل منه. المزاج العام للمنتفِضين – ولو عمّمنا قليلاً – كان يعادي فكرة الحرية، التأسيسية للمجال العام نفسه، بل وكان أكثر تشدداً في التأكيد على المكانة والانتماءات والتراتبيات بشتى أنواعها، والانغراس في التقاليد والعادات. لقد فتحت الانتفاضات العربية مجالاً عاماً بالقوة، ليدخله جمهور يُحيل إلى مخيلة سياسية معادية – أو لنقل متوجسة – من المجال العام نفسه؛ من الحرية التي يشترطها المجال العام.

هذا هو لب مفارقة الانتفاضات العربية، فقد انتفض المقهورون، لكن دون وعد بالحرية يلازم انتفاضتهم. لماذا؟ هنا أيضاً يمكننا تقديم تفسيرات أولية.

أولاً أن التنوير والتحديث والتقدم – قيم التقليد الثوري – كانت في السياق العربي أيديولوجيا الأنظمة المستبدة، والتي استخدمتها لتبرير سيطرتها وسطوتها؛ أيديولوجيا الدولة في مواجهة مجتمعاتها وشعوبها. فالدولة العربية قدمت نفسها كرافعة للتحديث والتقدم في فترة السلطويات الشعبوية، وصارت اليوم – كما في مصر – هي الناطق باسم الإصلاح الديني.

ثانياً أن الثورات الأوربية أتت بعد حقبة من تراكم الإنتاج والمعرفة، فيما أتت الانتفاضات العربية تتويجاً لمسيرة نكوص وانحدار في المجالات كافة، وهنا يمكن النظر إلى مؤسسات مثل التعليم، أو حتى بيروقراطية الدولة نفسها، ومقارنة أدائها بما كان عليه قبل عقود.

ربما علينا أيضاً التوقف عند ثنائية الريف والمدينة. يمكن التفكير فيما إذا كانت هناك حقاً مدينة عربية (بما يحمله مفهوم «المدينة» من معيارية، مع تذكر أن كلمة «السياسة» في اللغات الأوروبية مشتقة من المدينة).

أخيراً، لدينا الانقسامات الطائفية والإثنية في المشرق من جهة، ومسألة إسلامية-سنّيّة حادة منذ القرن التاسع عشر، وزوال العالم الذي كان يعطي معنى للّغة الدينية والشريعة. فالعالم الذي قدم المحتوى الخاص بالشريعة وتصوراتها (بما فيها مسائل السياسة الشرعية) زال من الوجود، فيما انغرست لغته في تصور قائم على التقاليد والتراتبية الصلبة بين أفراد مقيدين في حدود جماعاتهم الدينية.

المفارقة التي طرحتها الثورات العربية هي أنها، ورغم كونها تمرد مقهورين ضد دول مستبدة ومتوحشة، لم تظهر بمثابة بداية تقليد ثوري مؤسَّس على الحرية يُمكِّنه من تأسيس أو توسيع المجال العام. على العكس، استعانت الانتفاضات بمنظومة مختلفة من القيم والمعاني المتوجِّسة من الحرية في أفضل الأحوال، ما يجعلها أقرب إلى التمردات الساخطة منها إلى الانضواء تحت تقليد ثوري.

تم تنظيم نقاشات عشرية الثورة بدعم من موقع أوريان 21

موقع الجمهورية

———————————-

الثورة السورية في عشريتها .. حكام هزيلون لشعوب منكوبة/ دلال البزري

تسمّرنا أمام التلفزيون أياماً وليالي وقت الثورة المصرية. وعندما سقطَ حسني مبارك، اتجهت أنظارنا نحو سورية. هل ممكن؟ هل تحصل الثورة هناك؟ هل يسقط بشار الأسد؟ كنا نتطلّع إلى هذا الشطر العربي الآخر بعين المتلهّف والجاهل، معتقدين، في مكان ما من إدراكنا، بأن سورية “تختلف”. ليس فقط عن بقية العرب، إنما تختلف عنا، نحن اللبنانيين، باعتبار نظامنا الفريد من نوعه، فيما نظامها الاستبدادي يحكمنا بـ”الوصاية”. ولكننا أيضاً، استناداً إلى سقوط مبارك السريع، استسهَلنا سقوط الأسد. نبكي حظنا اللبناني الذي أوقعنا بين رؤوس ديكتاتورية عديدة، بعدد طوائفنا: ويا ليته ديكتاتور واحد! فنلحّ على أصدقائنا السوريين: “هيا ماذا تنتظرون؟ متى تثورون؟”. حتى انفجر ذاك البركان السوري، ومعه أول شعاراته: “الشعب السوري ما بينْذَلْ” (لا يُذَلّ). وعندما رفعت الثورة لاءاتها الثلاث “لا للطائفية والعسْكرة والتدخل الخارجي”.. تعجّبنا بعض الشيء.

“لا للطائفية” أولاً: كيف تكون سورية طائفية؟ هي التي حكَمها بعثيون علمانيون؟ ولو من باب مماشاة الشعارات العلمانية بأدنى ما تتطلّبه الصورة الخارجية، وبأقصى ما يمكنه أن يغطي على الطغيان، وعلى وصايتها على لبنان، حيث أمعن حكّامها في توثيق الأطر الطائفية، أكثر مما هي موثّقة، فنحن اللبنانيين أوْلى بمحاربة الطائفية، نظامنا العريق. طبعاً فهمنا، لاحقاً، أن الطلاء العلماني كان هزيلاً ضئيلاً. تلمّسه السوريون بمجرّد العيش في سورية. وما إن انطلقت الألسن السورية إثر الثورة، حتى فاضت النصوص والشهادات الجديدة، وخرجت القديمة منها من أسوار المكتبات المغلقة.

الثانية، “لا للعسْكرة”، لا حاجة للمقارنة. تعسْكرنا من عقودٍ سبقت الثورة السورية. بحرب أهلية، بمليشيات طائفية تقرَّر إبقاء وجودها بعد نهاية هذه الحرب. واحدة بسلاحها الشرعي، والأخريات من دون سلاح. لكن بـ”روح” مليشياوية عالية. ثم سلاح “فردي”، غير منظّم، غير “الشرعي”. لكن العسْكرة التي تجنّبتها الثورة السورية أتت بالجديد منها. بعد إسرائيل وقوات الأسد الرسمية، تعسكرت سورية بجيوش روسية وتركية وأميركية، وبمليشيات إيرانية، أبرعها حزب الله اللبناني. والأخيرة، أي المليشيات، جديدة على لغة الاحتلالات. نشأت على محاربة الاحتلال. وهي اليوم تتدثّر ببدْلات المحتلين. وهنا تنقلب الآية ظاهرياً: إذ تبدو العسْكرة في سورية أكثر وضوحاً وتعقيداً في آن من العسْكرة اللبنانية. يخال إليكَ أن جيوشاً ومصالح غائبة عن الصراع الدائر في لبنان. ومع قليلٍ من التمعّن، سوف تلاحظ أن أساطيل وصواريخ وربما أيضاً قنابل نووية.. تدير مفاصل هذا الصراع. كما في سورية. وغالباً بالتناغم مع ما يحصل في لبنان وسورية من تبدّلات، ولو طفيفة، لموازين القوى.

اللاء الثالثة، “لا للتدخل الأجنبي”، هي أيضاً من ملعب الأقنعة: في لبنان اللعبة الخارجية مكشوفة، والتدخل الأجنبي لا ينْفيه أحدٌ من المتعاملين معه. فيما سورية الأسد استطاعت أن تقنعنا جميعاً، سوريين ولبنانيين، بأن الأسد هو حامي حمى قلعتَيه، السورية واللبنانية. مع اعتقاد لبناني بأن انسحاب الجيش السوري، قبل ست سنوات من اندلاع الثورة، سوف يحرّر لبنان من تبعية، ويقلّل من عدد المتدخلين في شؤوننا، أو يكشفنا على تدخلاتٍ أخرى. وهذا شعار رفعه حزب الله لمرحلة ما بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان، معدّاً نفسه لوراثة الهيمنة الأسدية، وبـ”كفاءة” عالية، حتى هذه اللحظة.

وكان من سذاجة بعضنا، ربما مللاً من الطوائف “التوافقية، الديموقراطية”، أو كفراً بها: من أن تفخيخ السياسة بالمراوغة وانتحال الشخصية والكذب والتضليل، لا تصدر عن ديكتاتور وارث، تسلّطه على المكشوف، وأن هذه صفات الساسة اللبنانيين، أو “النخبة” اللبنانية. لكن بشار الأسد نجح في إسقاط اللاءات الثلاث بأشدّ ما يمكن للبشر اختراعه من سُبل. وهنا لا أتكلم عن إجرامه البواح. وهذه صفة كان السبّاق إليها، بل نموذجاً يُحتذى. كان يختلف عنه زعماء الطوائف اللبنانيون، ولكنهم تمكنوا، في الآونة الأخيرة، من اللحاق به. أولئك الزعماء لم يعودوا يتوانون عن أخذ اللبنانيين إلى الموت، بصفته “قدراً” عند وزير، أو حادثة عابرة لا معنى لها عند آخر (“قتلتُ رجلين…” قال الوزير للمذيع على الشاشة). هذا إذا تكلموا. وإذا صمتوا، مارسوا القتل عمداً، أو جالسين في الزاوية، يسبحون في بحر صراعاتهم الخاصة لنيل غنيمةٍ مما تبقى من موارد لبنان. وعند الاثنين، السوري واللبناني، لصوص المساعدات الإنسانية، يعيثون فساداً في الأرض.

على صعيد الأشخاص والأمكنة الآن. كشفت الثورة عن الشعب السوري بأكمله، بقراه ومدنه وجباله ووديانه. وكشفت عن مجموعاتٍ، أشهرها التنسيقيات، هي ابنة لحظة ثورية بامتياز. لم تعش، ولكنها صارت إرثاً لا يُبدّد. كشفت عن المثقفين وعن الشخصيات. بعضها بلغ صفة العالمية. بعضها الآخر سطع نجمه ثم خبا. ومصائرهم تُروى. سيَر حياة صاخبة. وأفراد وأيقونات، غاب بعضها، وبعض آخر ينتظر الموت ليكرَّس. في المقابل، تعرّض اللبنانيون لأقدار مختلفة. تأخروا مع ثورة 17 تشرين. ولكن لم تبرز من بينهم مجموعات بعينها. ولا لعب المثقفون من بينهم الدور المطلوب منهم تقليدياً. الطاعنون في السن، كما الشباب، وعددهم أقل، تساوت درجة أدوارهم.. بعضهم عوّض عن ضآلة الدور في ميدان الشاشة الصغيرة. وهذه من عيوب الإعلام اللبناني المرئي، “الحرّ، المتعدّد”، جاذِب الوجوه، من دون عقولها، أو حتى عقولها الخلفية.

والأهم من ذلك أن الردّ على الثورة بالمجازر أخرج السوريين عُنْوة من بلادهم، ووزّعهم على نواحي المعمورة، فكانت الفرصة لعديدين منهم أن ينطلقوا، ويضخّوا على الثورة تأريخاً ودروساً، ويستمدوا من ثقافة البلد المضيف ما في وسعهم أن يتعلموه. في الضفة اللبنانية، يصعب أن تجد مثقفاً خرج من بلاده بعد ثورة 17 تشرين. وإذا قابلتَ رغبته للهروب من بلده، فليس أمامه سبل هينة، أو جماعية، في هذه الأوقات بالذات. وعلى كل حال، أي مواطن لبناني طافش من بلاده سوف يسمى “مهاجراً”، فيما السوري لن يكون سوى “منْفي”. وكأن التسميتين تشيران إلى مستقبل العلاقة مع الوطن الأم. المنفي لن يعود إليها، فيما المهاجر قد يعود.

مشتركات أيضاً: الصراع المذهبي بعد ذبح الثورة السورية. الأكثر توافقاً مع الواقع أصوليتَان، الشيعية والسنّية. ولكلتيهما داعمون خارجيون، إقليميون. مع فرق بين الإيراني والتركي، بتفوق الأول على الثاني في مناح كثيرة. مع سؤال: هل كان يمكن توقع أن يكون الردّ على تدخل مليشيات مذهبية رداً “علمانياً”؟ وليس “فزعة” لنصرة “أهل السنة” بوجه المليشيات الشيعية؟ تؤجّج المشاعر السنّية اللبنانية ما يغري جماعاتها للانضمام إلى المجموعات السنّية المختلفة، أو على الأقل استبطان طرقها وفكرها.

آخر المشتركات هم الفلسطينيون. السوريون من بينهم وجدوا فجأة أنفسهم في مخيمات الفلسطينيين اللبنانية. البلدة الفلسطينية الرمز، اليرموك، ولطالما أحبّت سورية، حوصرت وجوّعت وفُرغت من أهلها، وخرج جلّهم إلى لبنان، حيث لم يجدوا لاستقبالهم غير أندادهم، من لاجئي 1948 الفلسطينيين. وأملهم بالعودة إلى الديار التي عاملتهم معاملة العروبة في بداية عهدها يقلّ عن أمل السوريين أنفسهم.

وبنتيجة ذلك كله، عُجِنَ السوريون واللبنانيون، ومعهم الفلسطينيون، في عجينة واحدة، عنوانها الخراب والفقر والتشرّد والغربة والوباء والموت… لن تنتهي سورية عند هذا الحدّ من التشابك مع لبنان. ثورتها مهزومة الآن. مثلها مثل اللبنانية. لكن أعداءها لم ينتصروا، على الرغم من قرارات الموت التي في حوزتهم. يتفنّنون بها ويبالغون بما يكفي لإهلاكهم. ليصبحوا حكاماً هزيلين لشعوب منكوبة.

العربي الجديد

—————————-

عقد مضى على الثورة.. سوريا إلى أين؟/ فراس علاوي

كثيرة هي التأويلات والأكثر هي التحليلات حول مآلات الحل السوري وما هي النتائج المترتبة على هذا الحل؟ في ظل الاستعصاء الحاصل في المسألة السورية منذ العام 2015 عام التدخل الروسي وانقلاب الموازين لمصلحة نظام الأسد.

ما يسيطر على المشهد السوري حالياً ثلاث صراعات أساسية لن يتم التوصل للحل في سوريا ما لم يتم إنهاء هذه الصراعات، بالرغم من تداخلاتها وتشابكاتها الدولية والإقليمية إلا أن جميع القوى المتداخلة تتفق على رؤيتين أساسيتين.

الأولى تقول إنه لا حل للصراع في سوريا سوى سياسياً وعلى الرغم من ذلك تمضي جميع الأطراف بفرض واقع عسكري يعزز أوراقها التفاوضية لاحقاً جميع القوى المتداخلة لها وجود عسكري على الأرض، إذ يتم رسم خطوط هذه التوافقات بالتصعيد العسكري تارة وبالاتفاق السياسي تارة أخرى، حيث ترسم خطوط السيطرة وتثبيت قواعد الاشتباك بين القوى الأربع الرئيسة على الجغرافيا السورية/ الولايات المتحدة وتركيا وروسيا وإيران/ والتي تتوزع على جانبي الصراع وعلى امتداد الجغرافيا، إلا أن هذه الخطوط تشهد تداخلات وتشابكات تجعل من تعقيدها أمراً صعباً من ناحية إيجاد فض كامل لهذا الاشتباك وعلى الرغم من ذلك تقتنع تلك القوى وتتفق بالرؤية الثانية.

والتي تقول أن لا تصعيد ولا حدة في الصراعات على الأرض السورية، الأمر الذي يحول دون الوصول لحرب مفتوحة بين أي من الأطراف المتداخلة، فبالرغم من هذا التداخل الفريد من نوعه في خطوط الاشتباك ومناطق السيطرة بين قوى مختلفة كالتداخل الروسي التركي في الشمال والذي يتراوح بين التصعيد العسكري عبر أطراف محلية إلى توافق سياسي يرسم خرائط السيطرة ويحدد شكلها من خلال الدوريات المشتركة بين الطرفين، والأميركي الروسي والذي يتمثل بالتنافس السياسي سواء عبر مجلس الأمن أو من خلال محاولة كل طرف فرض رؤيته السياسية للحل عبر العديد من الأدوات، والأميركي الإيراني في شرق وشمال شرقي سوريا والمتمثل بالتصعيد الأميركي والداعم للتدخل الإسرائيلي على الأرض السورية باستهداف المواقع الإيرانية، والتداخل الإيراني الروسي في الشرق والشمال والجنوب عبر التنافس على مناطق السيطرة ومناطق الموارد الاقتصادية، وكذلك التداخل الإسرائيلي على عموم الجغرافيا السورية، إلا أن جميع هذه التداخلات لم تفض حتى اللحظة لتطوير الصراع على الأرض السورية، الأمر الذي قد يجعل من التوصل لحل ما سريعاً، فمن المعروف بأنه كلما ازدادت حدة التوتر بين الأطراف المتنازعة ازدادت فرصة الوصول لحل يرضي تلك الأطراف وبالتالي نهاية النزاع الحاصل بينها.

فما هي تلك النزاعات التي تتحكم بالحل في سوريا وبانتهائها أو الوصول إلى حل لها سنشهد حلاً للمعضلة السورية.

الصراع التركي الكردي

لعل أحد أبرز أسباب التدخل التركي في سوريا هو محاولة الأتراك الاستفادة مما يجري في سوريا من أجل حل معضلة حزب العمال الكردستاني ومحاولة القضاء على مشروعه الانفصالي، كذلك العمل على عدم قيام كانتون كردي على الحدود التركية، انطلاقاَ من خوف القيادة التركية على الأمن القومي التركي وهو ما يفسر زخم التدخل التركي شمالاً وتطوير عمليات التدخل العسكري تباعاً في محاولة لرسم خرائط سيطرة تنهي الخطر الكردي، المتمثل بوجود مشروع قسد المتماهي والمدعوم مع حزب العمال الكردستاني، وبالتالي يمكن رسم حدود هذا الصراع على طول الحدود السورية التركية والذي تسعي تركيا من خلاله لتطوير اتفاق أضنة الذي وقعته الحكومة التركية مع حافظ الأسد عام 1998 عقب أزمة اعتقال عبدالله أوجلان والتي اضطر حافظ الأسد في نهايتها لتسليمه لتركيا، انتهاء هذا الصراع سينعكس بشكل إيجابي على منطقة السيطرة التركية، وهو أحد أهداف إدارة بايدن القادمة، أيضا انتهاء هذا الصراع سيعزز الدور التركي في إعادة الإعمار خاصة في مناطق الشمال السَوري ومدينة حلب والتي تعتبر مناطق نفوذ تركية وبالتالي فإن التوصل لأي اتفاق يعني بالضرورة تقاربا أميركيا تركيا مما قد يهدد بتفكيك تحالف أستانا الثلاثي وتهديد مخرجاته.

الصراع أو التنافس الثاني

هو التنافس الروسي الأميركي والذي يأخذ حتى اللحظة شكل صراع سياسي مسرحه مجلس الأمن وسلاحه الفيتو الذي يستخدمه كلا الطرفين، فعلى الرغم من وجود قوات لكلا البلدين على الأرض مع ملاحظة حجم التدخل وشكله وطريقته وحتى أهدافه، إلا ان وجود هذه القوى لم تتسبب بأي صراع حقيقي ولم تتحول الاحتكاكات بين الطرفين إلى اشتباك مفتوح، إذ يحافظ الأميركان والروس على قواعد الاشتباك وعدم تجاوزها، إذ لم يسمح الأميركان بتغيير تلك القواعد عندما استهدفوا مجموعة لقوات ميليشيا فاغنر المدعومة محلياً من ميليشيات محلية في شباط 2020 عندما حاولت تخطي حدود سيطرتها باتجاه مناطق سيطرة التحالف شرق دير الزور، بقاء الحال على ماهو عليه من تنافس سياسي يبقي الحل السوري في ثلاجة وأدراج مجلس الأمن ويحوله إلى مجموعة حلول جزئية ومرحلية قد تؤسس لمرحلة طويلة الأمد من اللاحل الكامل والشامل، إلا أنه وبالوقت ذاته فإن التَوصل لاتفاق بين الطرفين يعني الوصول بنسبة كبيرة لحل مستدام في سوريا، يعتمد ذلك على المقاربة التي سيعتمدها الأميركيون للحل في ظل التعنت الروسي بما يخص بقاء النظام بشكله الحالي إذ يدرك الأميركان بأن البقاء الروسي في سوريا هو بقاء طويل الأمد، كما يدرك الروس بأنهم لن يستطيعوا فرض حلولهم دون الموافقة الأميركية وبالتالي فإن تطوير الصراع بين الطرفين سيطيل الحل في سوريا، بينما التوصل لمقاربة ما عبر تدوير الزوايا يعني الذهاب لحل قد لا يكون مستداماً ولكنه ينهي حالة الجمود الحاصلة ويغير من قواعد الصراع في سوريا.

الصراع الآخر هو صراع مركب طرفه الأول إيران والذي يشكل وجودها عبئاً سياسياً وعسكرياً على معظم الأطراف المتداخلة في سوريا.

ففي حين يوجد نوع من التحالف الهش مع الروس فإن التنافس الإيراني الروسي يبدو واضحاً للعيان في مناطق النفوذ خاصة الغنية بالموارد الاقتصادية،. كذلك يتهم الإيرانيون الروس بغض البصر عن استهداف إسرائيل لمواقعهم في سوريا، بل وذهب البعض لاعتبار ذلك تنسيقاً مع الإسرائيليين، هذا التنافس قد يؤدي إلى فشل التحالف في حال حصول أي توافق روسي أميركي أو اتفاق أميركي إيراني.

الطرف الآخر في هذا الصراع

هو الصراع الأميركي الإيراني والذي يعتبر سَوريا أحد ساحاته الرئيسة إضافة للعراق الساحة الأهم لكلا الطرفين، الصراع الإيراني الأميركي شهد حالة من الصعود والهبوط حسب توجه الإدارة الأميركية والتي شهدت نوعا من التقارب في ظل إدارة أوباما الذي سمح بالتمدد الإيراني في محيطها الجغرافي مقابل التوقيع على الاتفاق النووي.

هذا التمدد قابله عدم رضى إسرائيلي تمثل بالاعتراضات الإسرائيلية على المواقف الأميركية حينها والتهديد بعمل منفرد ضد إيران، هذا الصراع شهد نوعا من التطوير في ظل إدارة ترمب حيث أطلقت يد إسرائيل بشكل أكبر من خلال ازدياد عدد الاستهدافات للمواقع الإيرانية في سوريا ونوعية تلك الاستهدافات، كذلك من خلال التصعيد الأميركي الواضح بعد اغتيال قاسم سليماني أحد أبرز القادة العسكريين الإيرانيين ومهندس التدخل الإيراني في دول الجوار، الخشية من عودة السياسة الأميركية إلى سابق عهدها في إدارة أوباما له ما يدعمه من خلال تعيينات إدارة بايدن لشخصيات كانت مهندسة الاتفاق النووي الايراني في إدارة أوباما من أمثال روبرت مالي الذي سيكون مسؤولاً عن ملف إيران في الخارجية الأميركية.

طبيعة وتطورات الصراع الأميركي الإيراني ستعطي شكلاً ما للحل في سوريا والذي يبدو حتى اللحظة بعيد المنال.

يبدو الحل في سوريا حلاً مركباً يقوم على عملية تفكيك الصراعات الدولية والإقليمية ومن ثم إعادة تقييم شكل هذه الصراعات، وتقاسم مناطق النفوذ الجديدة وفق توافقات تضمن مصالح الجميع سواء في مرحلة الحل السياسي أو مرحلة إعادة الإعمار، وهذا ما يجعل من فكرة الوصول لحل على المدى القصير والمتوسط فكرة غير واقعية في ظل الاستعصاء الحاصل في هذه الصراعات.

والتي بدورها تتفتت إلى صراعات أخرى أقل أهمية لكنها موجودة على كل حال، كالصراع مع تنظيم داعش ووجود ميليشيات غير منضبطة في طرفي الصراع، وملف هيئة تحرير الشام، ومصير بشار الأسد والأجهزة الأمنية، وغيرها من الملفات التي وإن بدت أقل أهمية إلا أن حلها ضرورة للمحافظة على حل مستدام في سوريا.

تلفزيون سوريا

——————————-

عقد مضى على الثورة.. سوريا إلى أين؟/ فراس علاوي

كثيرة هي التأويلات والأكثر هي التحليلات حول مآلات الحل السوري وما هي النتائج المترتبة على هذا الحل؟ في ظل الاستعصاء الحاصل في المسألة السورية منذ العام 2015 عام التدخل الروسي وانقلاب الموازين لمصلحة نظام الأسد.

ما يسيطر على المشهد السوري حالياً ثلاث صراعات أساسية لن يتم التوصل للحل في سوريا ما لم يتم إنهاء هذه الصراعات، بالرغم من تداخلاتها وتشابكاتها الدولية والإقليمية إلا أن جميع القوى المتداخلة تتفق على رؤيتين أساسيتين.

الأولى تقول إنه لا حل للصراع في سوريا سوى سياسياً وعلى الرغم من ذلك تمضي جميع الأطراف بفرض واقع عسكري يعزز أوراقها التفاوضية لاحقاً جميع القوى المتداخلة لها وجود عسكري على الأرض، إذ يتم رسم خطوط هذه التوافقات بالتصعيد العسكري تارة وبالاتفاق السياسي تارة أخرى، حيث ترسم خطوط السيطرة وتثبيت قواعد الاشتباك بين القوى الأربع الرئيسة على الجغرافيا السورية/ الولايات المتحدة وتركيا وروسيا وإيران/ والتي تتوزع على جانبي الصراع وعلى امتداد الجغرافيا، إلا أن هذه الخطوط تشهد تداخلات وتشابكات تجعل من تعقيدها أمراً صعباً من ناحية إيجاد فض كامل لهذا الاشتباك وعلى الرغم من ذلك تقتنع تلك القوى وتتفق بالرؤية الثانية.

والتي تقول أن لا تصعيد ولا حدة في الصراعات على الأرض السورية، الأمر الذي يحول دون الوصول لحرب مفتوحة بين أي من الأطراف المتداخلة، فبالرغم من هذا التداخل الفريد من نوعه في خطوط الاشتباك ومناطق السيطرة بين قوى مختلفة كالتداخل الروسي التركي في الشمال والذي يتراوح بين التصعيد العسكري عبر أطراف محلية إلى توافق سياسي يرسم خرائط السيطرة ويحدد شكلها من خلال الدوريات المشتركة بين الطرفين، والأميركي الروسي والذي يتمثل بالتنافس السياسي سواء عبر مجلس الأمن أو من خلال محاولة كل طرف فرض رؤيته السياسية للحل عبر العديد من الأدوات، والأميركي الإيراني في شرق وشمال شرقي سوريا والمتمثل بالتصعيد الأميركي والداعم للتدخل الإسرائيلي على الأرض السورية باستهداف المواقع الإيرانية، والتداخل الإيراني الروسي في الشرق والشمال والجنوب عبر التنافس على مناطق السيطرة ومناطق الموارد الاقتصادية، وكذلك التداخل الإسرائيلي على عموم الجغرافيا السورية، إلا أن جميع هذه التداخلات لم تفض حتى اللحظة لتطوير الصراع على الأرض السورية، الأمر الذي قد يجعل من التوصل لحل ما سريعاً، فمن المعروف بأنه كلما ازدادت حدة التوتر بين الأطراف المتنازعة ازدادت فرصة الوصول لحل يرضي تلك الأطراف وبالتالي نهاية النزاع الحاصل بينها.

فما هي تلك النزاعات التي تتحكم بالحل في سوريا وبانتهائها أو الوصول إلى حل لها سنشهد حلاً للمعضلة السورية.

الصراع التركي الكردي

لعل أحد أبرز أسباب التدخل التركي في سوريا هو محاولة الأتراك الاستفادة مما يجري في سوريا من أجل حل معضلة حزب العمال الكردستاني ومحاولة القضاء على مشروعه الانفصالي، كذلك العمل على عدم قيام كانتون كردي على الحدود التركية، انطلاقاَ من خوف القيادة التركية على الأمن القومي التركي وهو ما يفسر زخم التدخل التركي شمالاً وتطوير عمليات التدخل العسكري تباعاً في محاولة لرسم خرائط سيطرة تنهي الخطر الكردي، المتمثل بوجود مشروع قسد المتماهي والمدعوم مع حزب العمال الكردستاني، وبالتالي يمكن رسم حدود هذا الصراع على طول الحدود السورية التركية والذي تسعي تركيا من خلاله لتطوير اتفاق أضنة الذي وقعته الحكومة التركية مع حافظ الأسد عام 1998 عقب أزمة اعتقال عبدالله أوجلان والتي اضطر حافظ الأسد في نهايتها لتسليمه لتركيا، انتهاء هذا الصراع سينعكس بشكل إيجابي على منطقة السيطرة التركية، وهو أحد أهداف إدارة بايدن القادمة، أيضا انتهاء هذا الصراع سيعزز الدور التركي في إعادة الإعمار خاصة في مناطق الشمال السَوري ومدينة حلب والتي تعتبر مناطق نفوذ تركية وبالتالي فإن التوصل لأي اتفاق يعني بالضرورة تقاربا أميركيا تركيا مما قد يهدد بتفكيك تحالف أستانا الثلاثي وتهديد مخرجاته.

الصراع أو التنافس الثاني

هو التنافس الروسي الأميركي والذي يأخذ حتى اللحظة شكل صراع سياسي مسرحه مجلس الأمن وسلاحه الفيتو الذي يستخدمه كلا الطرفين، فعلى الرغم من وجود قوات لكلا البلدين على الأرض مع ملاحظة حجم التدخل وشكله وطريقته وحتى أهدافه، إلا ان وجود هذه القوى لم تتسبب بأي صراع حقيقي ولم تتحول الاحتكاكات بين الطرفين إلى اشتباك مفتوح، إذ يحافظ الأميركان والروس على قواعد الاشتباك وعدم تجاوزها، إذ لم يسمح الأميركان بتغيير تلك القواعد عندما استهدفوا مجموعة لقوات ميليشيا فاغنر المدعومة محلياً من ميليشيات محلية في شباط 2020 عندما حاولت تخطي حدود سيطرتها باتجاه مناطق سيطرة التحالف شرق دير الزور، بقاء الحال على ماهو عليه من تنافس سياسي يبقي الحل السوري في ثلاجة وأدراج مجلس الأمن ويحوله إلى مجموعة حلول جزئية ومرحلية قد تؤسس لمرحلة طويلة الأمد من اللاحل الكامل والشامل، إلا أنه وبالوقت ذاته فإن التَوصل لاتفاق بين الطرفين يعني الوصول بنسبة كبيرة لحل مستدام في سوريا، يعتمد ذلك على المقاربة التي سيعتمدها الأميركيون للحل في ظل التعنت الروسي بما يخص بقاء النظام بشكله الحالي إذ يدرك الأميركان بأن البقاء الروسي في سوريا هو بقاء طويل الأمد، كما يدرك الروس بأنهم لن يستطيعوا فرض حلولهم دون الموافقة الأميركية وبالتالي فإن تطوير الصراع بين الطرفين سيطيل الحل في سوريا، بينما التوصل لمقاربة ما عبر تدوير الزوايا يعني الذهاب لحل قد لا يكون مستداماً ولكنه ينهي حالة الجمود الحاصلة ويغير من قواعد الصراع في سوريا.

الصراع الآخر هو صراع مركب طرفه الأول إيران والذي يشكل وجودها عبئاً سياسياً وعسكرياً على معظم الأطراف المتداخلة في سوريا.

ففي حين يوجد نوع من التحالف الهش مع الروس فإن التنافس الإيراني الروسي يبدو واضحاً للعيان في مناطق النفوذ خاصة الغنية بالموارد الاقتصادية،. كذلك يتهم الإيرانيون الروس بغض البصر عن استهداف إسرائيل لمواقعهم في سوريا، بل وذهب البعض لاعتبار ذلك تنسيقاً مع الإسرائيليين، هذا التنافس قد يؤدي إلى فشل التحالف في حال حصول أي توافق روسي أميركي أو اتفاق أميركي إيراني.

الطرف الآخر في هذا الصراع

هو الصراع الأميركي الإيراني والذي يعتبر سَوريا أحد ساحاته الرئيسة إضافة للعراق الساحة الأهم لكلا الطرفين، الصراع الإيراني الأميركي شهد حالة من الصعود والهبوط حسب توجه الإدارة الأميركية والتي شهدت نوعا من التقارب في ظل إدارة أوباما الذي سمح بالتمدد الإيراني في محيطها الجغرافي مقابل التوقيع على الاتفاق النووي.

هذا التمدد قابله عدم رضى إسرائيلي تمثل بالاعتراضات الإسرائيلية على المواقف الأميركية حينها والتهديد بعمل منفرد ضد إيران، هذا الصراع شهد نوعا من التطوير في ظل إدارة ترمب حيث أطلقت يد إسرائيل بشكل أكبر من خلال ازدياد عدد الاستهدافات للمواقع الإيرانية في سوريا ونوعية تلك الاستهدافات، كذلك من خلال التصعيد الأميركي الواضح بعد اغتيال قاسم سليماني أحد أبرز القادة العسكريين الإيرانيين ومهندس التدخل الإيراني في دول الجوار، الخشية من عودة السياسة الأميركية إلى سابق عهدها في إدارة أوباما له ما يدعمه من خلال تعيينات إدارة بايدن لشخصيات كانت مهندسة الاتفاق النووي الايراني في إدارة أوباما من أمثال روبرت مالي الذي سيكون مسؤولاً عن ملف إيران في الخارجية الأميركية.

طبيعة وتطورات الصراع الأميركي الإيراني ستعطي شكلاً ما للحل في سوريا والذي يبدو حتى اللحظة بعيد المنال.

يبدو الحل في سوريا حلاً مركباً يقوم على عملية تفكيك الصراعات الدولية والإقليمية ومن ثم إعادة تقييم شكل هذه الصراعات، وتقاسم مناطق النفوذ الجديدة وفق توافقات تضمن مصالح الجميع سواء في مرحلة الحل السياسي أو مرحلة إعادة الإعمار، وهذا ما يجعل من فكرة الوصول لحل على المدى القصير والمتوسط فكرة غير واقعية في ظل الاستعصاء الحاصل في هذه الصراعات.

والتي بدورها تتفتت إلى صراعات أخرى أقل أهمية لكنها موجودة على كل حال، كالصراع مع تنظيم داعش ووجود ميليشيات غير منضبطة في طرفي الصراع، وملف هيئة تحرير الشام، ومصير بشار الأسد والأجهزة الأمنية، وغيرها من الملفات التي وإن بدت أقل أهمية إلا أن حلها ضرورة للمحافظة على حل مستدام في سوريا.

تلفزيون سوريا

————————–

لنواصل تفاؤلنا بالثورات العربية/ كمال عبد اللطيف

لا تخضع الثورات في التاريخ لحسابات المُبادرين بحصولها، ولا تخضع لحسابات القِوى السياسية التي تنتظر حصولها، وهي لا تُرَتَّب دائماً وِفْق خُطط القِوى الإقليمية والدولية. الثورات في التاريخ فعل مُرَكَّب ومُعَقَّد قبل حصوله وبعد حصوله. إنها فعل تحكمه حسابات مختلطة، حيث يُشبه دور الفاعل المُبَادِر، في بعض أوجُهه، فِعْل الفاعل المُلتَحِق بِحَدَثِها، أو فِعْل المُنتظِر جَنْيَ بعض ثمارها، وهذه المعطيات العامة تنطبق في مستويات منها مع ما حصل أمامنا في ثورات الربيع العربي التي نُواصِل إبراز أهميتها، وإبراز أهمية إكمالها روح ما انطلقت من أجله، نقل المجتمعات العربية من دولة الاستبداد إلى دولة القانون والمؤسسات.

كانت الأوضاع العربية في نهاية سنة 2010، أي قبل عقد كامل، قد دخلت نفقاً مظلماً، أطبق الاستبداد آليات ضَبطِه ومُراقبته لمختلف مَسَام الجسم السياسي العربي، وعَمَّ الفساد بجميع أشكاله وألوانه.. شاخت أنظمة عربية كثيرة، من دون أن تتمكّن من بناء تفاعل إيجابي مع التحولات التي ساهمت في صنعها، وأصبحت عاجزةً عن تطوير أدائها السياسي. استنفد الفكر السياسي الإصلاحي مفرداته، ولم تعد شعاراته تحمل الرَّنِين نفسه الذي ظلت تحمله طوال النصف الثاني من القرن الماضي. توقفت النخب عن بناء التصوُّرات والمواقف القادرة على تجاوز الأبواب الصدئة والمغلقة. أما الأحزاب السياسية فقد تحوَّل أغلبها إلى أحزابٍ لا تتجاوز شعاراتها الحدود التي رتَّبتها الدولة المستبدة القائمة، عملاً بمبدأ أنه لا بديل في زمن بناء مجتمعات الاستقلال عن نظام سياسي مُمَاثِل لما هو سائد.

تفاقم الاستبداد والفساد، ولم تستطع الدولة الجديدة في أغلب البلدان العربية لا تحديث المجتمع ولا تحقيق التنمية، ولا بناء مشروع سياسي ديمقراطي يسمح بالتداول على السلطة. استمر الحال على ما هو عليه طوال سنوات النصف الثاني من القرن العشرين. ظلت أغلب المجتمعات العربية تَكْتَوِي بنيران الاستبداد والفساد، إضافة إلى تبعيتها وعدم قدرتها على التخلص من الأساليب التي ظل يمارسها الغرب الاستعماري، على تضاريس السياسة والاقتصاد والثقافة واللغة في مستعمراته القديمة، من دون أن تتمكَّن هذه الأخيرة من إعادة بناء ذاتها، في ضوء تطلُّعات وشعارات الحرية والتحرّر والتقدم.

نظرنا إلى الثورات العربية في تونس ومصر باعتبارها نتيجة طبيعية لمظاهر الضغط والتسلط السائدين.. واعتبرنا أن كل ما حصل يستجيب للطموحات المرتبطة بالشروط السياسية العامة في البلدين، النظام البوليسي المستبد في تونس، وحكم العسكر في مصر الذي تخلَّى عن شعارات الثورة الناصرية، وبدأ يفكر في التوريث من دون خجل، مثلما حصل في سورية وكان من المنتظر حصوله أيضاً، في ليبيا واليمن وباقي الجمهوريات العربية.. تلاحقت معالم انتفاضات وانفجارات أقطار عربية أخرى، فشملت رياح الثورات والانتفاضات، طوال سنوات العقد الثاني من الألفية الجديدة في خطوة ثانية، المغرب والبحرين والأردن، ثم اليمن وليبيا وسورية. وهكذا تحول العالم العربي، خلال سنوات قليلة، إلى بؤرة مشتعلة من الشباب والنساء والشيوخ، فتحوّل الغليان الثوري في قلبها إلى فِعْلٍ تاريخي مُتعدِّدِ الأبعاد.

ضاقت بعض الأنظمة العربية التي تُمَاثِل أحوالُها أحوالَ المجتمعات المنتفضة، فانخرطت في التصدِّي لكل ما يقع على مرأى ومسمع منها، مستعينةً في ذلك بالقِوى الإقليمية والدولية، المتربصة بدوائر القرار في المشرق والمغرب العربيين وفي الخليج العربي، الأمر الذي نَتَج عنه بروز ثورات مضادّة، قادتها بعض الأنظمة بهدف محاصرة عدوى مواصلة تعميم رياح الثورات.. تصدّت للحراك الاجتماعي المتواصل في الأقطار التي لم تتمكّن من بناء خطوات اللَّاعَوْدة إلى الميادين، بعد إسقاطها رؤوس الأنظمة السياسية السائدة، على شاكلة ما تَمَّ في اليمن وليبيا وسورية، فأصبحنا أمام مستنقعات وحروب بالوكالة، فاختلطت الأمور وازدادت تعقيداً، بفعل عجز الحراك الاجتماعي عن بناء القِوى القادرة على رسم معالم ما بعد إسقاط أنظمة الفساد. وشكَّلت الثورات المضادّة حَجَرَ عَثْرَة أمام إمكانية تصاعد الفعل الثوري في المجتمعات العربية.

تواصلت الثورات على الرغم من العثرات والاختناقات الحاصلة في كل من اليمن وليبيا وسورية، تواصلت بعد ذلك، في السودان والجزائر ولبنان، وبعد ما يقرب من عشر سنوات على اشتعال شراراتها الأولى، ما تزال حاجتنا إليها قائمة، فالأحوال السياسية العربية اليوم تدعو إلى ضرورة استئناف الحراك الاجتماعي الثوري، في ضوء دروس وتجارب الصيغة الأولى للربيع العربي.. وهناك علاماتٌ كثيرة تشير إلى تردِّي الأوضاع العربية، من قَبِيل العربدة الإسرائيلية المدعومة بالخيارات الصهيونية والعنصرية التي ترى في الراهن العربي الفرصة المناسبة لمزيد من توسيع سياساتها، في الاستيطان والضَّم، وفي مزيد من اختراق الجغرافية العربية من المحيط إلى الخليج.

ازدادت درجات العنف والغطرسة الصهيونية بسبب الوضع الفلسطيني العام، وبحكم الآثار المترتِّبة على الأزمة الصحية العالمية، وكذلك بفعل احتدام التنافس الدولي والإقليمي على العالم العربي، وعدم قدرة الأنظمة العربية على وَقْف حالة الذهول التي جعلتها لا تنتبه إلى ما يجري أمامها.. فأصبحنا اليوم أمام منحدرٍ بلا قرار.. مُنحدَرٍ يغلي بالاحتجاجات المخنوقة والمختنقة والمؤجلة، تحت ضغط إكراهات كل ما أشرنا إليه. أما الاحتجاجات الناشئة اليوم مجدّداً، في بعض بلدان الثورات العربية، من قَبِيل ما يقع اليوم بصورة متقطعة في تونس ومصر والمغرب، فإنها تدعونا، مرة أخرى، إلى استئناف الفعل الثوري، أي إلى مزيدٍ من العمل المناهض والمقاوم للسياسات الجارية، حيث يتم التخلي عن كثير من الطموحات التاريخية العربية، وحيث يصبح التطبيع عنواناً لصفقاتٍ لا علاقة لها بالمشروع التحرّري الفلسطيني والعربي، وذلك تحت تأثير الأوضاع التي ذكرنا بعضَها.. فهل يستعيد الفعل الثوري العربي مَضَاءَه مجدّداً لمواجهة حالة الذهول القائمة؟

العربي الجديد

————————————

الربيع العربي والفضاء العمومي/ محمد أحمد بنّيس

شكّل الفضاء العمومي، دائما، أولوية مركزية بالنسبة للدولة الوطنية العربية على اختلاف توجهاتها الإيديولوجية والسياسية. وظلت الهيمنة عليه في قلب الصراع السياسي على مدار عقود طويلة. ولم تكن هذه الدولة تسمح باحتلاله وتوظيف موارده خارج الدعاية لخياراتها وترويجها.

وعلى الرغم من أن الأنظمة الحاكمة نجحت، بدرجات متفاوتة، في إقصاء الخطابات المضادّة لها من الفضاء العمومي، إلا أن تكاليف ذلك كانت باهظة، خصوصا بعد صعود خطاب الديمقراطية وحقوق الإنسان في نهاية الثمانينيات، والانسداد السياسي العام، وإخفاق مشاريع التنمية، وغياب بوادر عقود اجتماعية جديدة تنقل شعوب المنطقة إلى طور الحرية والديمقراطية.

وبقدر ما كانت تظهر أشكال جديدة للتعبئة الاجتماعية، كانت مخاوف هذه الأنظمة تتنامى من فقدان هيمنتها على الفضاء العمومي. وجاء الربيع العربي ليعلن نهاية هذه الهيمنة، بعد أن نجحت الأجيال الجديدة في تغيير المعادلة. وقد أفضى ذلك إلى ظهور أشكالٍ احتجاجيةٍ جديدة تتوسّل بالسلمية، وتوظف الفورة التكنولوجية في التعبير عن تطلع فئات اجتماعية واسعة نحو التغيير المنشود، بعد إفلاس المؤسسات الوسيطة التقليدية التي بقيت مرتهنة لحسابات السلطة.

نجح الاحتجاج الجديد في قلب معادلة الفضاء العمومي في أسابيع قليلة، وحوّله إلى حلبةٍ مفتوحةٍ للنقاش العمومي، بشكل بدت معه السياسةُ العربية وكأنها تولد من جديد بعد سنوات طويلة من الاستبداد والقمع والاجتهاد في تجفيف منابع السياسة. وقد لا يكون مبالغةً القول إن تجربة ميدان التحرير في القاهرة مثلت إحدى أكثر التجارب العالمية أهميةً في استعادة الفضاء العمومي من هيمنة السلطة، وتوظيف موارده بشكل سلمي ومتحضّر، والوعي بمخاطر الانجرار إلى العنف، هذا فضلا عما أتاحه هذا الفضاء من إمكانية لمطارحة قضايا السلطة والثروة والهوية وغيرها. وقد كشف ما حدث في ميدان التحرير، وميادين عربية أخرى، زيف الأسطوانة المشروخة للأنظمة بشأن ”استغلال المتآمرين والمندسّين هذا الفضاء لأجل تنفيذ أجندات خارجية معادية للوطن”. فلم تعد الاحتجاجات تتوازى مع أعمال العنف والفوضى، كما كان يحدث قبل سنوات خلت، وأضحت السلميةُ عنوانها الأكثر دلالة، الأمر الذي سحب البساط من تحت هذه الأنظمة والقوى الاجتماعية المصطفة حولها. ولعل هذا ما يفسر، إلى حد كبير، حالة الرعب التي تعيشها، حاليا، من عودة الحرارة إلى الفضاء العمومي، على الرغم مما يقدمه لها محور الثورة المضادّة من دعم سياسي ومالي وإعلامي.

أصبحت هذه الأنظمة تجد صعوبة بالغة في إحكام قبضتها على الفضاء العمومي، بعد أن تداعت جدران الخوف في المنطقة. وعلى الرغم مما بذله إعلامُ هذا المحور من جهود لتسفيه الثورات العربية، وتقديم صورة سوداوية عنها، مستغلا ما آلت إليه الأوضاع في سورية واليمن وليبيا، إلا أن ذلك لم يجتثّ بذرة الاحتجاج، وهو ما تؤكّده الموجة الثانية من الربيع العربي التي شهدتها المنطقة في 2019.

ومن المفارقات الجديرة بالملاحظة أن إخفاق معظم هذه الثورات في التحوّل السلمي والمتدرّج نحو الديمقراطية، لم يرافقه انكماش الفضاء العمومي المضاد، سيما في ظل ما تقدّمه مواقع التواصل الاجتماعي من بدائل موازية في هذا الصدد. بل على العكس، أصبح هذا الفضاء، خلال العقد الأخير، أكثر حيوية وقدرة على إنتاج صيغ متطوّرة للفعل الاحتجاجي.

كشف الربيع العربي دور الفضاء العمومي في إعادة تحديد ماهية السياسة، بما هي انخراط المجتمع، بمختلف مكوناته في قضايا الشأن العام. فقد طالب المحتجّون في الميادين والساحات بحقهم في المشاركة في تدبير (إدارة) هذا الشأن، بما يعنيه ذلك من ضرورة المرور نحو عقود اجتماعية جديدة تعيد صياغة علاقات القوة السائدة على صعيدي السلطة والثروة، فلم يعد بالإمكان القبول باستئثار نخبة أو أسرة أو طائفة أو قبيلة باحتكار إدارة هذا الشأن والتحكّم في موارده. ولا يصبّ هذا التحوّل في التعاطي مع السياسة في مصلحة النخب الحاكمة التي ترى في ذلك تهديدا لسلطتها على المدى البعيد.

الربيع العربي

—————————-

تقليد ثوري غير مكتمل/ إلهام عيداروس

في الذكرى العاشرة لثورات 2011 العربية، لا نملك رفاهية تجاوز فعل التذكر. ولكن، بدلًا من إقامة نصب تذكارية توقعنا ضحية الحنين إلى الماضي أو الرغبة في رثائه، نختار أن نتذكر دلالة الحاضر والمستقبل. نطرح أسئلة عن تأثير مرور الزمن في تغيير فهمنا للحدث الثوري الماضي، وعما يقوله لنا هذا الحدث، وما راكمه من أفكار وممارسات، عن إمكانية تشكل تقليد ثوري عربي. ونسبر أيضًا مساحات جديدة للسياسة اليومية و«السياسة الصغرى» تثوِّر فهمنا للسياسة وفحواها في عالم ما بعد 2011 العربي. في هذا الاستدعاء المزدوج للموتى كما للأحياء، نهدف إلى مواجهة أسئلة سياسية قديمة وأخرى جديدة حول التاريخ والتعامل مع الماضي، وحول الأيديولوجيا والتنظيم والهوية الوطنية، وحول مواقع الممارسة السياسية التي تشكل واقعنا المُعاش الآن، وقد تلهمنا لإعادة تخيل المستقبل. 

لقد كان الزمن الثوري العربي أجمل الأزمان وأقساها: شكّلنا كذوات سياسية بما حمله من شجاعة وأمل وفعل مولد، وعاد وحطمّنا بما رافقه وتلاه من وحشية لا حدود لها، وأدخلنا في خضم كل هذا في لولبة خطابية لا تنتهي عن النجاح في مقابل الفشل.

 في هذه السلسلة من النصوص القصيرة التي أعدها موقعا «الجمهورية» و«مدى مصر»، والتي تلت نقاشات بين كتّابهما، محاولة أولى لكسر هذه اللولبة. هي دعوة لتأمل العقد الماضي بوصفه تاريخ، بعيدًا عن السرديات الخشبية الجاهزة، ثورية كانت أم ما بعد ثورية، وعن غرف الصدى الفئوية أو الوطنية الضيقة، بما قد يكشف عن ديناميكيات وموضوعات وأصوات لم تحظ بالاهتمام من قبل. كمنصتين صحفيتين أسهمت لحظة 2011 في إنتاجهما، ندرك بشكل خاص كم الإنهاك والتكرار الذي تثيره النقاشات عن الربيع العربي لدى كُتابنا وقرائنا على حد سواء. وبالنسبة لنا، هذا أيضًا جزء من واقعنا المعاش وقسوته التي نختبرها في لحظات التأمل مع «ملاك التاريخ».

*****

هل يمكننا الحديث عن تقليد ثوري أنتجته ثورة يناير 2011 في مصر؟ تقليد يسعى للتغيير السياسي التحرري من حيث القيم/الانحيازات وأساليب العمل/الأشكال التنظيمية؟ وأين يمكن البحث عنه؟ هل في قيم وسلوكيات وشعارات الناس الذين تحركوا بالملايين في وجه الدولة المتوحشة؟ أم في المشروعات السياسية الديمقراطية التي تشكلت وسعت لتحقيق أهداف الثورة؟ أم الاثنين؟

يتحدث موريس عايق عن معضلة واجهت الثورات العربية، وهي هيمنة ثقافة سياسية محافِظة معادية للحريات (ثقافة الثورة المضادة) على غالبية الجماهير التي شاركت في الثورات، لكنني أفضل التركيز على ما قدمته المشروعات السياسية للجماهير، التي ليست كتلة صماء وبها الكثير من التنوع في المصالح والانحيازات والمواقع.

أعتقد أن الثورة أتت بفرصة تاريخية لإنتاج مجال سياسي جديد. ملايين البشر اهتموا بالشأن العام وقرروا المشاركة فيه، وتنظيمات/جماعات بالمئات – بل الآلاف – تشكلت. كانت فرصة لإحياء الحركة الديمقراطية بمعناها الشامل السياسي والنقابي والأهلي والطلابي، وبشكل خاص، فرصة لإعادة تأسيس التيارات السياسية القائمة في مشروعات جديدة على أرضية أكثر ديمقراطيةً وانفتاحاً.

يعنيني هنا التنظيمات الحزبية كشكل معين من التنظيم السياسي، وهي تشمل التيارات السياسية كافة التي كانت قائمة في مصر منذ التحرر الوطني وحتى العقد السابق على الثورة، حيث تضمن حراكاً ديمقراطياً واجتماعياً متصاعداً كانت له أشكال تنظيمية قائمة قبل ثورة يناير. ومع الثورة في فترة الانفتاح والسيولة، ظهرت (أو كانت موجودة وتطورت) أشكال جديدة أظن أنها مثلت تطوراً داخل هذه التيارات الليبرالية واليسارية والإسلامية والناصرية باتجاهات أكثر ديمقراطية وانفتاحاً.

بالنسبة للتيار الناصري، تمثل الجديد في حزب الكرامة مقابل الحزب العربي الناصري، تعبيراً عن الاختلاف بين الناصريين الذين نشأوا معارضين لنظام السادات ورجال دولة عبد الناصر الذين عاداهم السادات، وبين التيار الشعبي الذي نشأ بعد الثورة مرتبطاً بحزب الكرامة نفسه وزعيمه حمدين صباحي.

وبالنسبة للتيار الليبرالي، نشأ مشروعان ليبراليان هامان بعد الثورة هما حزب مصر الحرية بقيادة المثقف الليبرالي عمرو حمزاوي وحزب المصريين الأحرار بقيادة الملياردير نجيب ساويرس، وذلك مقابل حزب الوفد الجديد. ولكن التنظيمين انتهت صيغتهما الأصلية فعلياً في تشرين الأول (أكتوبر) 2015 وكانون الأول (ديسمبر) 2016 على الترتيب بفعل عوامل متنوعة.

وبالنسبة للتيار اليساري، ظهرت دعوة لتأسيس حزب جديد لليسار في 10 شباط (فبراير) 2011 من العناصر الأكثر انفتاحاً داخل ثلاثة تيارات يسارية كانت قائمة بالفعل قبل الثورة، وهم «تيار التغيير» في حزب التجمع، و«تيار التجديد الاشتراكي» في منظمة الاشتراكيين الثوريين، وشخصيات من تيار يمكن تسميته باليسار الديمقراطي، وإن لم يكن له شكل تنظيمي موحد قبل الثورة، بالإضافة لرافد جديد ممن لم يكونوا بالضرورة يعرفون أنفسهم كيساريين قبل الثورة، فتكون حزب التحالف الشعبي الاشتراكي. وفي تشرين الأول (نوفمبر) 2013، استقال عدد من مؤسسيه ليبدأوا مشروعاً يسارياً آخر هو العيش والحرية الذي ما زال في طور التأسيس القانوني والفعلي، لكن هذا المشروع يعتبر ابن مرحلة الانغلاق والمصادرة وليس مرحلة السيولة والانفتاح السابقة (في نفس التوقيت تقريباً بدأ مشروع ليبرالي آخر ويبدو أنه لم يستمر وهو الحزب العلماني المصري، وهو قيد التأسيس).

بالنسبة للتيار الإسلامي، انشق من جماعة الإخوان المسلمين بعد الثورة جماعة من الشباب سُميِّت التيار المصري، وسعوا لتأسيس حزب. كذلك، أسس القيادي الإخواني السابق عبد المنعم أبوالفتوح حزب مصر القوية في 2012. بعد 2013، ابتعد جزء كبير من أعضاء التنظيميين عن العمل السياسي تحت تأثير الخوف أو الإحباط، كما حدث لمعظم التيارات السياسية الأخرى، لكن من استمروا منهم انقسموا تقريباً إلى ثلاثة أقسام، وفقاً لملاحظاتي الشخصية: قسم أصبح علمانياً صريحاً؛ وقسم تطرف وأصبح متعاطفاً مع الجهاديين (ومنهم من انضم لداعش فعلياً)؛ وقسم استمر في تمسكه بما يسمى بـ«الإسلام الحضاري» وبالعمل السياسي الديمقراطي السلمي. من تبقوا من التيار المصري اندمجوا في حزب مصر القوية، الذي بدوره تجمد في 2018 بسبب الضربات الأمنية.

نشأت أيضاً تنظيمات عبرت عن الاتجاه الليبرالي الاجتماعي، وكان أهم المعبرين عنه هم الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي المكون من شخصيات يسارية وليبرالية إصلاحية ساهمت في الحراك الديمقراطي قبل الثورة، وعدد من رجال الأعمال المتوسطين من المسلمين والمسيحيين، وبعض القيادات الكنسية المستنيرة نسبياً وخاصة من الطوائف الأصغر عدداً؛ وحزب الدستور الذي أسسه محمد البرادعي، وحزب العدل الذي أسسه مصطفى النجار.

يقول عمرو عبد الرحمن إن معظم هذه الأحزاب الجديدة نشأت على عجالة بـ«هدف إفساد تحالف الجيش والإسلاميين بالأساس، وليس بهدف بناء قاعدة اجتماعية تمتلك أسباب الحياة». قد يكون هذا صحيحاً، لكن اختيار هذه الأحزاب الجديدة لمهامها وطرق عملها تخبرنا عن تصوراتهم عن فئات المواطنين التي يريدون التوجه لها في المجتمع باعتبارها صاحبة المصلحة في التغيير الديمقراطي. ورغم كثرة الحديث عن شباب الثورة في تلك الفترة، وكأنهم فئة بدون محتوى طبقي أو جندري أو ديني، فإن كل حزب أو جماعة سياسية عملياً حددت هذه الفئات وتوجهت لها وفقاً لانحيازاتها وتصوراتها الأيديولوجية. لكن هذا التوجه كان مرتبكاً بفعل الانشغال بالمتصارعين على السلطة، وكذلك لأن الحركة الاجتماعية المعبرة عن هذه الفئات كالنساء والمسيحيين والعاملين بأجر كانت هي الأخرى خارجة من سنوات الانغلاق إلى حالة الانفتاح والسيولة وتمر بعملية إعادة تأسيس شبيهة. لكن أعتقد أن هيمنة الرجل المسلم النمطي الأفندي ومخيلته الضيقة على هذه التنظيمات – حتى اليسارية والليبرالية منها – جعلتها مترددة وفوّتت عليها فرص هامة في لحظات كان المجال مفتوحاً؛ خطراً وقاسياً ولكن مفتوحاً.

فالثورة كانت فرصة لتطوير إجابات تحررية على أسئلة الدولة والثروة وقواعد الحياة الخاصة والعامة، خاصة في ظل المواجهة مع الإسلام السياسي سواء أثناء تحالفه مع العسكريين أو صراعه معهم، لكن قِصَر النظر وهيمنة هذه المخيلة الضيقة أضاع فرصاً لا لحسم هذه الأسئلة (فالحسم كان صعباً بالفعل) وإنما لوضع حد أدنى جديد أو لطرح بدائل أكثر جذرية على الساحة لتكون أحد البدائل المتصارعة على الأقل.

من الأسئلة/المحطات التي أعتقد أنها عبرت عن هذه الفرص الضائعة:

    أسئلة العدالة الاجتماعية: كيف أصبح التحرير موقع الأسئلة «الكبرى» المتعلقة بمسألة الحكم والديمقراطية، وأصبح ماسبيرو وجهة المهمشين الباحثين عن العدالة الاجتماعية مثل السكان المعترضين على الإخلاءات القسرية والمسيحيين الرافضين للعنف الطائفي؟

    في انتخابات برلمان 2011، كانت خيارات القوى الديمقراطية سواء في برامجها أو اختيارها لمكوناتها ومرشحيها محافِظة ومحدودة.

    صياغة الصراع حول مدنية الدولة بقيت صياغة دينية، مع التسليم بمرجعية الأزهر وتعزيز سلطة المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية على حياة المواطنين الخاصة.

    ضعف اهتمام الأحزاب الديمقراطية بالصراع حول الأحوال الشخصية مع الإخوان والسلفيين في مجلس النواب ذي الأغلبية الإسلامية.

    وبشكل عام، ضعف التواصل مع الحركات الاجتماعية المنبثقة من نضال الفئات الاجتماعية المذكورة أعلاه، وعدم تقدير أهمية ما تفعله سياسياً باعتباره «مطالب فئوية».

    الديمقراطيون الذين بدأوا النضال ضد حكم الإخوان بعد الثورة ضموا إلى صفوف جبهتهم السياسية عناصر رجعية بدعوى توسيع المعركة لإنقاذ الوطن. وبعد عزل الإخوان عن السلطة في صيف 2013، تلكأوا في العودة لموقع المعارضة، فتركوه شاغراً للإسلاميين محاولين التشبث بموقع الناصح الأمين للسلطة الجديدة.

    وهناك قضية التنظيم، فقد سعت الأحزاب الجديدة للتجديد في أشكالها التنظيمية لتصبح أكثر مرونة وقدرة على استيعاب الروافد الجديدة، لكن معظمها بقى أسير جوهر الأشكال القديمة.

معروف أن العديدين من قيادات وأعضاء التنظيمات التي ذكرتها حالياً سجين أو منفي أو مختفٍ قسرياً أو مطارَد، ولا أنكر أبداً دور القمع الوحشي في قطع الطريق على تطور مشروعاتها فكراً وممارسة. كذلك، لا أهدف من الملاحظات السابقة إلى التطهر، فأنا واحدة ممن شاركوا في كل المحطات المذكورة سابقاً. لكن إن كان علينا كديمقراطيين في هذا البلد الاستمرار في محاولة الحفاظ على بؤر النضال الديمقراطي القليلة المستمرة، والتي لم يتمكن القمع من قتلها بعد ومحاولة خلق أخرى جديدة، علينا أن نفكر فيما فعلناه حين كان المجال مفتوحاً.

موقع الجمهورية

——————————————-

=======================

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button