السلطة والرقابة والنص/ علي حسن الفواز
السلطة تراقب النصوص، وتضع اللغة بوصفها مجالا للتفكير في سياق فعل التأويل، الذي يسوّغ هذه المراقبة، ويجعلها ممارسة تمثيلية وحمائية للذات الحاكمة، مثلما هي ممارسة طاردة للمختلف والضدي الذي يُنتجه الآخر.
وظيفة المراقبة والتلصص والتنصت تكتسب طابعها القهري والعنفي من خلال تحولها إلى مؤسسات، وإلى أنساق حاكمة، إذ تمارسها السلطة عبر تشريعات، وعبر توظيف أنظمة ومنصات ومنابر اجتماعية وتربوية وإعلامية ودينية، تلعب دورا في احتكار النصوص، والمعرفة، وفي إقصاء وتهميش ذلك الآخر، فضلا عن اتكائها على مرجعيات فقهية تشرعن فعل الاحتكار، وتُقيم الحدّ على المختلف، تحت يافطة «تحصين الأمة والجماعة» ومواجهة المروق والزندقة والكفر والانحلال والفساد، وهي توصيفات أو تُهم» مغلقة، تفترض وجود الاستتابة كما تقول القاعدة الفقهية، أي إلى وجوب المراجعة والطاعة، والتخلّي عن أيّ خيار ضدي يسوغ الاختلاف والمعارضة، وهو ما يعني تعطيل إرادة الاجتهاد والتأويل الثقافي في قراءة أيِّ نص، وضعيا كان أم مقدسا، حيث يدخله الفقه والجماعة في النسق الحاكم، أي في النسق المغلق والمتعالق بظاهر النص، وبطبيعة المصالح الافتراضية للأمة والجماعة والسنّة..
التأطير والأدلجة
تأطير الحكم، يعني تأطير النص، وهذه الثنائية تتحول إلى مجال لإنتاج المركز الذي يحمي النص، ويؤدلج الحكم، ويمنحه المشروعية والقوة والتسويغ، وعبر وجود منصات أو مؤسسات أو «نصوص كبرى» لها فعل الرمز والعلامة، فضلا عن تحصّنها بفعل القناع الذي يمثله رجل المؤسسة أو الفقيه، أو الزعيم أو الأيديولجي، أو حارس البوابة، أو رجل الأمن في الشارع أو في المطار، حيث تتحول الوظيفة الحمائية إلى وظيفة إشهار وفرض، وهي أدوات تملكها السلطة و«عناصرها» أو أقنعتها» حيث تمارس من خلالها آلية «عنف الفهم» الذي تفرضه على الآخرين، بوصفه ترويضا، وإخضاعا لشرعنة الفكرة الموازية لأطروحة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» إذ يقترن المعروف بالفهم وبظاهر النص وبالطاعة للولاية الشرعية التي يفرضها النص، مثلما يقترن المنكر بالمختلف والضدي وغير الخاضع للترويض النصوصي.
خيار الفهم والطاعة هو خيار أيديولوجي، وأن تأطيره يستند إلى النصوص الحاكمة، وأن وظيفة الرقابة فيها تكتسب قوتها من خلال تشبعها بالقرائن النصوصية، التي تتحول إلى إجراءات تطويع وإخضاع، تقوم على فكرة احتكار المعرفة، بوصفه احتكارا شرعيا، يسوّغ الترويج للنمط والنص والفهم، أو بوصفه جزءا من خدمات قومية أو وطنية أو حزبية أو أيديولوجية، أو حتى دعائية.
هذه النظرة الخدماتية لصناعة الثقافة ولنصوصها تعزز القوة الحمائية أو الصيانية لمركزية السلطة، وشرعنتها من خلال أقنعة عمومية مثل الواجب والحق العام والأخلاق والنظام الاجتماعي وغيرها، وهي قضايا إشكالية غامضة، لكنها تكتسب حصانتها من خلال حصانة الجماعات والمؤسسات التي تملك وسائل العنف التطهيري والديني والسياسي، فضلا عن ما تملكه من قوة نافذة عبر الأيديولوجيا والمركز المقدس والتموضع في الظاهر من النصوص. هذا التموضع هو المسؤول عن وضع الحدود التي تخصّ الخدمات الثقافية والشرعية العمومية، بما فيها خدمة تداول الخطاب، وخدمة الأزياء وخدمة الحقوق الاجتماعية والأحوال الشخصية، والأخطر منها «خدمة توصيل التأويل» وخدمة الخطاب الجماعوي، وهو الذي يجعلها أكثر حيازة وتمثيلا لقوة إزاحة «الثقافة» من مجالها التداولي والتعليمي والمعرفي إلى مجال دعائي أو خدماتي وأيديولوجي وعقائدي، أو حتى إلى مجال أو منصة أو منبر للتبشير والترويج بالطاعة والانخراط في الفرضيات الجماعوية للجهاد والعنف المقدس..
ضعف الدولة والعقل والاجتماع
لا شك في أن ضعف الدولة يقود إلى تقوية البراديغم السري للسلطة، أو ما تسمى بـ«الدولة العميقة» فضلا عن دوره في تقوية «النقل» وتقوية خطابات الجماعات الأصولية والراديكالية، الذي سيفضي إلى إضعاف المجتمع المدني مقابل تضخيم المجتمع السياسي والمجتمع الديني، وإضعاف البنى الحقوقية الأخرى، لاسيما تلك التي تتعلق بالنظام الاقتصادي، أي المعيش والعدالة والإشباع وفرص العمل، وبالنظام التعليمي الذي يخصّ حق المعرفة والمشاركة والرأي، وصولا إلى الحق في التنوير والعلم وفي الحصول على المعلومات، وبالنظام الاجتماعي الذي يخص العلاقات العامة والأحوال الشخصية التي ترتبط بالزواج والجنس والتنوع والجندر، والمصالح والتواصل وغيرها.
ضعف المؤسسة التعليمية أسهم – من جانب آخر- في ضعف صناعة النظرة العلمية للنص والتأويل والخطاب والممارسة الثقافية، مثلما أسهم في تهميش صناعة الوعي النقدي للأجيال في المدارس والجامعات، إذ عملت على إخضاع المدرسة إلى الجهاز الرقابي، على مستوى المنهج والدرس والنظام، فضلا عن خضوعها إلى الممارسة السلطوية التي تميل إلى مقاربة تدوير التاريخ، والميثولوجيا، والنزعات الهووية للجماعة الأصولية، فضلا عن النزوع لإعادة إنتاج صور فائقة ذات مرجعيات تاريخية وعصابية وأيديولوجية لـ«الجيل البطل» و«الطلائع الثورية» و«الوعي المسلّح» وهي ممارسات تكرس الصناعات «الانكشارية» لأجيال المستقبل.
التمركز السلطوي، هو تمركز للقوة الغاشمة، التي تعمل على أنسنة الاحتكار الثقافي والسياسي، عبر النظام الديكتاتوري، وعبر أدلجة السلطة والاجتماع والمؤسسات والنظام الاجتماعي، الذي يقود بالضرورة إلى الاستيلاء على الديمقراطية، والثروة، وكذلك الاستيلاء على النصوص، بما فيها النصوص التي تخص التاريخ والسيرة، حد تحول سرديات السلطة إلى تاريخ منهجي في المدارس والجامعات والمنابر. أغلب دولنا العربية تعيش سايكوباثيا الاستيلاء الرمزي، الذي تمارس من خلاله المؤسسات السياسية والفقهية والثقافية والإعلامية إنتاج الرموز، والأقنعة، والأيقونات والخطابات، التي تعمد على توظيف تعالقات إشارية لصناعة تشكّلات تاريخية وأنثروبولوجية وحتى أبستمولوجية، لها أنظمتها، وآليات تداولها في الإعلام وفي البرنامج الثقافي، وفي العلاقات الاجتماعية، وحتى في العلاقات الدبلوماسية، وصولا إلى الترويج في وسائل التواصل الاجتماعي.
أزمة السلطة لا علاقة لها بأزمة العقل العربي، ولا بآليات نقده كما طرحها محمد عابد الجابري، لأن السلطة العربية بنية مصنوعة، تقوم على ثنائية العرق والقوة، مثلما تقوم على الأنساق الحاكمة في النصوص، التي تحولت في ما بعد إلى دساتير، وإلى سرديات كبرى، وأن ظواهر «العقل» و«النقد» هي نزعات استيهامية للسرديات المضادة التي تنتجها الجماعات «المطرودة» والمهمَّشة، التي فشلت في صناعة قوة متعالية لـ«النص المضاد» مثل المعتزلة الذين حولوا عبر علاقتهم بالسلطة مفهوم العقل إلى سلطة قامعة وطاردة للمختلف. وحتى جماعات مثل السلفية والأصولية وجدت في التمترس السلطوي نزوعا لتمثيل فكرة الحاكمية، ولفرض مفهوم «النقل» النصوصي، الذي أغلق الاجتهاد، والتأويل، واتهام «العقل» بالقصور، وضعفه في السيطرة والتقويض، وفي إدارة تلك السرديات، ومن هنا تبدو «مثالية» الحديث عن نقد العقل العربي في سياقه البياني والعرفاني والبرهاني محاولات لتجرئة مواجهة السلطة بوصفها مركزا كليانيا، فاللغة والعرفان والغنوصيات ليست توليدات مجردة لجماعة دون أخرى، كما يرى الجابري، ولا حتى البرهاني توليدا له أنساقه النافرة، لأن أصحاب هذه المظاهر تحولوا في النهاية إلى ضحايا للمركز السلطوي، فالحلاج الشهيد عنوان للقتل العرفاني، والمتنبي ضحية للقتل البياني، وابن رشد ضحية للطرد البرهاني.
العودة إلى الدولة
توصيف الدولة كنظام مؤسسي هو الخيار العقلاني لإنتاج القوة الحمائية، وتأطير فاعلية الجماعات، وحتى السيطرة عليها وإخضاعها للقانون، بما فيها قانون حيازة السلاح، واختيار المنبر والتظاهر، وهذا الأمر تاريخي في سياقه وفي إجراءاته، فالإسلام ما كان له أن يكون نظاما مؤسساتيا وعسكريا لولا تحوله إلى دولة، وبالتالي إخضاع النصوص للمصلحة وللنجاح، ولكن تغوّل السلطة داخل الدولة في مراحل لاحقة، وصعود «النص» بوصفه النقلي على حساب المصلحة أسهم في بروز الجماعة المستفيدة، أي جماعة احتكار ذلك النص وتأويله وتوظيفه، التي تحولت إلى أشكال ومراكز لإدارة الطغيان والاستبداد، وللقبول بفكرة «النقل» على حساب «العقل» بوصفه مجالا للتفكير والنقد، وصولا إلى تحولها إلى جماعات للإرهاب والتكفير..
عقلنة الدولة هي رهان على عقلنة العمل المؤسساتي، بدءا من مؤسسة المدرسة والعلم والجامعة، وصولا إلى عقلنة المناهج والنظم والبرامج، مثلما هي رهان على عقلنة «الإنسان القانوني» الذي ينخرط في عمل المؤسسات، أكثر من انخراطه في الجماعات والأدلجات، وبالتالي سيكون هذا الإنسان العقلاني هو كائن الدولة الفاعل والمؤثر والأكثر تمثيلا لقيم المستقبل، وأكثر قبولا بأفكار وممارسات التقويض الميتافيزيقي..
ناقد عراقي
القدس العربي