بين المذهبية والوظيفية: العلويون في دولة الأسد/ سمير سليمان
“إن لم تستطيعوا جعل الناس يحبونكم, فاجعلوهم يهابونكم”
وصية مؤسس عائلة روتشيلد “ماير آمشيل روتشيلد” لأبنائه
تذهب معظم الكتابات حول طائفة العلويين السوريين, والتي تتناول واقعهم ودورهم في تشكيل سورية المعاصرة ـ وهي في غالبيتها مؤلفات وترجمات كتبت بأقلام من خارج الطائفة العلوية ـ تذهب إلى القول إن انتماء رموز النظام الأسدي الأساسيين لهذه الطائفة, باعتبارها صاحبة مذهب ديني باطني, هو الرافعة التي أوصلتهم, وأوصلت هذه الطائفة معهم, إلى قمة الهرم السياسي السوري. وأن عصبيتهم الجامعة حول مذهبهم الباطني كانت السبب الذي أدّى في نهاية الأمر لأن تستولي, وخلال أقل من جيلين, على أجهزة الدولة والسلطة, وأن تحكم السيطرة على القرار السياسي والاقتصادي والإعلامي . وهو أيضاً ما أعطى الدولة الأسدية طابعها التسلطي في علاقتها مع عموم المجتمع السوري بمختلف طبقاته وشرائحه. وبعبارة أخرى, تجمع هذه الكتابات أن وحدة المذهب بين الطائفة العلوية ورموز السلطة, وباطنية هذا المذهب على وجه الخصوص , والذي يتم التشديد عليه لإعطاء التقيّة الدينية طاقة سياسية متخيّلة, كان هو العامل المحدّد والأساسي في تحوّل العلويين من طائفة مذهبية إلى طائفة سياسية. ممّا يعطي بالنتيجة التبرير السياسي والثقافي لاعتبار السلطة الأسدية والطائفة العلوية وكأنهما شيء واحد. فبالخصوصيّة المذهبية واللحمة الطائفية إذن, تمّت عملية استيلاء تاريخية, واستعمارية الطابع, على الدولة السورية. وهي العملية التي أُطلِق عليها في الحوار السياسي السوري, والذي لا يخلو اليوم من مسحة لصيقة من ضيق الأفق الطائفي, تسمية ” العلوية السياسية “, دون أي شروح وافية عما يعنيه هذا التعبير أو عما يحمله من مضامين سياسية وغير سياسية.
وبعد شبه الإجماع هذا حول دور المذهب العلوي الباطني في تشكيل الدولة التسلطية بزعامة حافظ أسد, تتوزع التحليلات السياسية في تفسير أو تبرير هذاالتحوّل تحت عناوين ذات دلالة, مثل: “ اختطاف الطائفة” أو ” إرهاب الطائفة و تهديدها من قبل النظام” أو ” الخوف من مجيء الإسلاميين وتفضيل استبداد علماني على استبداد ديني ” … إلخ وما يجدر ملاحظته, أنه رغم كل ما قيل وما كُتِب عن العلويين, وعن مسيرتهم الظافرة والخاطفة نحو السلطة منذ مغادرتهم لحياتهم الريفية الهامشية وبيئتهم المغرقة في بدائيتها, وصولاً لتبوّئهم قمة الهرم السياسي والإجتماعي في كلّ الحواضر السورية, رغم كل ذلك يشعر المرء أن كلّ ما كُتِب لم يستطع كشف الغموض الذي لا يزال يلفّ الموضوع بوجهيه التاريخي والفكري, ويمنع فهم كيف حصل هذاالتطوّر أمام أعين السوريين, وبغفلة منهم في نفس الوقت. كما أن استمرار عنصر التشويق الذي يرافق هذا الموضوع في الحوار السياسي العام, واحتفاظه بحرارته وبإغراء الخوض فيه في كل مناسبة كموضوع إشكالي, يؤشّر بقوة على افتقاد هذه السرديّة لقوة الإقناع, وضعف تماسكها المنطقي وافتقاد سندها التاريخي. ورغم أن هذه الفرضية شكّلت الرواية المعتمدة في المخيال السياسي في صفوف المعارضة على وجه العموم, وخصوصاً عند غير العلويين منهم. وكانت, وما تزال, هي الرواية الشفاهية الأكثر تداولاً على وسائط التواصل, والتي تعرض الجوهر الطائفي ـ السياسي للدولة السورية التي نعيش اليوم مرحلة تحللها المشهود, إلا أنها لا تزال تبدو وكأنها تعاني من نقص معرفي وفي طاقتها التفسيرية.
والسؤال هنا يفرض نفسه: هل إن تهافت تفسير ما هو سياسي واجتماعي بما هو إيديولوجي أو ديني هو السبب الكامن وراء هذا التشوّش والغموض ؟. وإذا لم تستطع هذه السردية التي تعتمد باطنية المذهب العلوي كرافعة نظرية أن تقدم تفسيراً مقنعاً للفشل الواضح الذي أبدته الطائفة العلوية في إظهار الحدّ الأدنى من التضامن مع بقية المكونات المجتمعية السورية, سياسياً وثقافياً وأخلاقياً, أو في بناء ضمير وطني مستقل, وعجزت, السردية إياها, عن صياغة جواب سوسيولجي مقنع على سؤال: لماذا اختارت هذه الطائفة الخيار النقيض واصطفّت مع النظام على الضّد من المصلحة الوطنية العامة, وعلى الضد حتى من مصالحها الخاصة ككيان طائفي أو سياسي ؟ فما عساه يكون التفسير الأقرب للصواب لهذا المأزق التاريخي المزدوج للطائفة العلوية مع نظام إبادة شاملة محسوب عليها وتُحسب عليه؟ لماذا انتهت إلى مأزق جحيمي مع الأسدية من جهة, ومع بقية مكونات المجتمع السوري من جهة أخرى؟ وما هو المسار التاريخي الذي أوصلها لهذا المآل بمستحقاته المصيرية الكبيرة؟ وهل يقع هذا المسار في قصة تشكّل السلطة الأسدية, أم في قصة تشكّل الطائفة العلوية,أم أنه قصة تلاقٍ تاريخي بين مسارين مستقلين تشكّل كل منهما بمعزل عن الآخر؟
محاولة الجواب على هذه الأسئلة هو موضوع هذه المقالة .
انسجاماً مع القناعة أن الفكر لايستطيع بذاته, مهما بلغ شأنه, أن يصنع الواقع الاجتماعي, وأن ما هو خاص لايشرح ما هو عام, وأن الجزئي لايحتوي الكلي ولا يطابقه, وأن المذهب الديني لا يكفي وحده ليكون أساساً لقيام دولة شمولية تهيمن على مجتمع متنوع المذاهب والأديان, فإننا ننطلق مبدئياً من استبعاد المذهب العلوي كأداة تحليل وفهم للعلاقة التي تطورت بين النظام الذي بدأ حافظ الأسد يشرع في تشكيله بعد انقلابه على رفاقه في حركته الانقلابية التي استفرد فيها بالسلطة, وبين العلويين باعتبارهم أفراداً أو أبناء مناطق وعشائر, وخصوصاً العسكريين منهم الموجودين في أجهزة الجيش والأمن والذين شكلوا سنده السياسي والعسكري والأمني بعد أن تيقّنوا من نجاح انقلابه. أو بالنظر إليهم باعتبارهم كياناً مذهبياً لطالما كان هامشياً في التاريخ العام للكيانات المذهبية والإثنية في منطقة بلاد الشام. ونستعيض عن الرابطة المذهبية كأداة تحليل, برابطة أخرى نسميها هنا “الرابطة الوظيفية“, والتي سنتكلم عنها أدناه. كما نميّز بين العلويين كطائفة مذهبية تشكلت في التاريخ السوري حتى بداية القرن العشرين, عن العلويين الذين أعطيت لهم من قبل دولة الأسد وظيفة مخصوصة ومحددة, ومنحوا سلطة تفويضية للقيام بهذه الوظيفة. تقوم فكرة هذا المقال الأساسية, على فرضية أن الدولة السورية كما انتهت بعد مرحلة الوحدة والانفصال, وقبل عملية استيلاء الأسد عليها وإحكام سيطرته على قواتها المسلحة, كانت نتاجاً لتلاقي مسارين تاريخيين مستقلين ـ ونشدّد على كلمة مستقلّين ـ عن بعضهما. أحدهما مسار سياسي – عسكري جرى ضمن الطبقة السياسية والعسكرية على مستوى الدولة والسلطة والمنافسات السياسية. وتَمثّلَ بسلسلة الانقلابات العسكرية التي أنهت فترة برلمانية قصيرة, بما فيها مرحلة الوحدة مع مصر ثم الانفصال عنها. حيث انتهت حلقات هذا المسار بالانقلاب الأسدي في العام 1970, لتبدأ بعدها الحقبة التأسيسية للدولة الأسدية. والثاني مسار اجتماعي واقتصادي وثقافي تاريخي, استطال زمنياً لعشرات ومئات من السنين. وهي الفترة الممتدة في الذاكرة منذ نشوء الإمبراطورية العثمانية في المشرق العربي, وشكّلت كل تاريخ العلويين لغاية ظهور مفاعيل المستعمر الفرنسي. وحدّدت هويتهم وإشكاليات علاقاتهم البينية كعشائر متنوعة ومتصارعة ضمن طائفة مذهبية واحدة, ومع مجتمع الجوار كجماعة خارجية منبوذة دينياً واجتماعياً. فهو مسار يخصّ العلويين وليس غيرهم, ويروي حكاية تشكّل صورتهم الأخيرة التي اكتسبوها خلال هذه الفترة الزمنية, وكما انتهى شكلها مع نهاية الحقبة العثمانية. وهي صورة بدأت تتضح معالمها في السنوات الأخيرة بفضل الدراسات والأبحاث الأكاديمية المتحررة من التأثير الديني. بدخول سورية مرحلة الانتداب الفرنسي, فتح الباب للمرة الأولى أمام العلويين لدخول الجيش الفرنسي, فبدأ أول لقاء بين الطائفة العلوية وبين ما هو شأن وطني وسياسي عام. وتوسعت مساحة التفاعل من قبل جميع الطبقات مع الدولة السورية الجديدة في مرحلة تشكلها في حقبة الاستقلال. وهي مرحلة أعطت روحاً جديدة لعموم الفئات الاجتماعية في المنطقة, وسمحت للعلويين على الخصوص, بمغادرة قراهم ومشاركة بقية السوريين في الدولة الناشئة وفي مؤسساتها وأجهزتها. مشاركة متواضعة وغير مرئية في مرحلة أولى. ثم ارتقى دورهم السياسي أكثر مع تطور الحياة السياسية المحلية والنشاط الحزبي على الساحة السورية, وخصوصاً ضمن صفوف حزب البعث بعد توحيد جناحيه, المديني والريفي, في مرحلة التنافس البرلماني. ثم بلغ هذا الدور ذروته مع استيلاء حافظ أسد على السلطة, ليتحوّل العلويون بعدها من طائفة مذهبية تندمج بنجاح ملحوظ مع المجتمع السياسي السوري كما بقية الجماعات الدينية والإثنية, إلى جماعة تتمايز ليس فقط بمذهبها, بل بموقعها الخاص في الدولة وفي السلطة. طائفة” وظيفية ” في السياسة الأمنية للدولة الجديدة, وفي تطبيق هذه السياسة بأدوات وأجهزة بدأ العلويون يشكلون عمودها الفقري وعضلاتها وجهازها العصبي. وبدأت الطائفة تبني هويتها التعريفية الجديدة في عملية تكيّف جديد مع شروط بناء الدولة التسلطية كما خطط لها الأسد. ولينتهي اليوم مسارها, كفاعل سياسي تاريخي في ترسيم الصورة السورية, بالترافق مع انتهاء الدولة الأسدية في خضم الانتفاضة السورية.
في هذا المسار التصاعدي الطويل, تم إعادة تشكيل وبلورة هوية الطائفة العلوية وبنيتها السياسية والنفسية والاجتماعية, وغيّر حتى من هويتها الدينية, وحقنها بمضمون سياسي يرى نفسه في موقع سلطة ونفوذ, ونقلها من الموقع الأكثر هامشية ووضاعة إلى الموقع المتسيّد سياسياً واجتماعياً واقتصادياً.وهذا كان ثمنه المستحق فقدان كل استقلالية عن سلطة الأسد. فلقاء الطائفة العلوية مع دولة الأسد عند تأسيسها منذ نصف قرن, ثم اندماجها مع هذه الدولة بالشروط الأسدية, أي بشروط نشوء الدولة التسلطية, هو ما أعطى الطائفة العلوية هويتها المميزة المشتقة من وظيفتها السياسية, وخصوصاً وظيفتها الأمنية, وحوّلها لطائفة وظيفية أمنياً وسياسياً, وأقل منها طائفة مذهبية. بل يتوجب القول إن هذا التحوّل في واقع العلويين كان على حساب مذهبهم الباطني. وهذا لأسباب موضوعية مفهومة, وتمّ بدفع من سلطة الأسد وإصراره على تحويلها من جماعة طائفية يجمعها المذهب إلى جماعة وظيفية تجمعها علاقة مشروطة ومحددة المهام مع السلطة كما رسمها حافظ الأسد. هذا الدور الوظيفي في حماية الدولة القمعية كان ثمنه أن الطائفة العلوية بثقلها النوعي الذي ازداد كثافة, قد أدارت وجهاً تسلطياً تجاه المجتمع السوري, بعد أن تسلحت بتفويض سلطة شبه مطلقة الصلاحية, ومبنية في هيمنتها على الإرهاب الصرف. كانت تلك مرحلة استكمال الهيمنة بالنسبة للدولة الأسدية, واستبدال الهوية المذهبية للعلوي بهوية السلطة الأسدية وتسلّطها. أما المسار الآخر, مسار الانقلابات العسكرية وحيثياته, والذي أوصل البعث وعسكرييه إلى السلطة في سورية, فلن نتناوله في هذه المقالة, ولا يلزمنا تناوله هنا لأنه أصبح معروفاً بكل تفاصيله عند المهتمين بالتاريخ السياسي.
نحن نرى أن البحث عن العوامل التي شكّلت الشخصية النمطية للعلوي بكامل أبعادها, والتي من خلالها نفهم كيف نشأت موضوعياً العلاقة بينها وبين النظام الأسدي, ليس فقط كعلاقة مصلحة وخضوع لسلطة قاهرة, فهذه رضي بها جميع السوريين على العموم, بل كعلاقة موالاة ومشاركة على كافة الأصعدة, لا يكون في أسرار المذهب الديني لهذه الشخصية, باطنياً كان أم ظاهرياً, ولا في عقيدته وطقوسه الدينية مهما تكن هذه الطقوس أو هذه العقائد, بل في التاريخ الواقعي للمجتمع السياسي السوري العام, بشقّيه المدني والعسكري, والذي حدّد الشروط التكوينية للعلويين كما لغيرهم من الطوائف والجماعات السورية. وأيضاً في المجتمع الأهلي والسياسي العام المحيط بالعلويين بكل أطيافه كما كان يعيد إنتاج نفسه ويعيد إنتاج العلويين كأفراد يكابدون مشقّة إدراكهم أنهم ينتمون لطائفة ” خارجية“عن الإطار الجامع للملّة الإسلامية بكل مذاهبها المقرّة شرعاً, خارجية كما ترى نفسها من الداخل وكما تراها بقية الطوائف من الخارج. وأيضاً في الحياة والتاريخ الواقعيين للجماعة العلوية كما تعيد إنتاج نفسها بالشروط المعطاة لها, ككيان سياسي . مذهبي قبل تشكل الدولة السورية, وكما انخرطت في المشاركة في المجال السياسي المحايث لها, والذي اتسع لجميع المشاركين في حراكه.
***
خارجية الطائفة العلوية ، بما يعني شكل وجودها الاجتماعي, وبما يعني أيضاً شروط استمرار هذا الوجود, وهويتها, ومكونات هذه الهوية الإقتصادية والسياسية والاجتماعية, وبيئتها الحياتية العامة, بغناها أو بفقرها, وعلاقتها بالأرض التي تمنحها مقومات العيش وبملكية هذه الأرض, كل هذا, وليس مذهبها الديني الباطني, هو ما جعل منها فئة اجتماعية متمايزة و”منفصلة” نسبياً عن مجتمعها الأوسع, مطرودة منه ومعزولة عنه ومعادية له بقوة الواقع, وبتكريس ودفع واستقطاب تتكفل به على الدوام العقائد الدينية وممثلوها من جميع الجهات: الطائفة ذاتها و”أعداؤها” من بقية الطوائف. وخصوصاً الطائفة السنية صاحبة السلطة العليا في المجتمع السوري المسلم. وهو ما أحال العلويين في نهاية الحقبة العثمانية إلى طائفة خارجية أو “طائفة وظيفية بالقوة”ـ وهو تعبير سيتضح معناه على الفور في هذا المقال ـ. طائفة شاءت أقدار سورية السياسية والإقليمية أن توفّر لها في مرحلة لاحقة فرصة التحقّق الواقعي والتحول إلى “ طائفة وظيفية بالفعل “ ونستعمل هنا تعبيري ” وظيفية” و” خارجية ” كأداتي تحليل بالمعنى ذاته الذي يعتمده الدكتور عبد الوهاب المسيري في أطروحته الجديرة بالنظر في النماذج المركبة وفي مفهوم ” الطائفة الوظيفية ” على وجه الخصوص. ويستفيد الكاتب المذكور من هذا المفهوم كأداة لكشف الظروف التاريخية التي يدرسها ويحللها في مؤلفه ” دفاع عن الإنسان”, والتي جعلت من اليهود طائفة وظيفية في أوروبا منذ بداية عصر النهضة حتى اليوم, والتي تشبه إلى حد كبير تلك الظروف التاريخية التي جعلت من العلويين طائفة وظيفية بالقوة, حيث بقيت كياناً مذهبياً, لتتحول لاحقاً وبالتدريج مع حزب البعث كمرحلة أولى, ثم مع الدولة الأسدية كمرحلة ثانية وأخيرة, إلى طائفة وظيفية بالفعل, أي إلى كيان سياسي.
ودون أن نتبنى المنهج الفكري للدكتور المسيري, فإننا نستفيد من مفهوم الوظيفية كأداة تحليل لفهم هذا الانتقال النوعي للطائفة العلوية, على مستوى الهوية ومستوى الفعل السياسي, ولنتابع مسار التحول من وظيفية كائنة بالقوة, حيث تبقى الطائفة كياناً مذهبياً, إلى وظيفية قائمة بالفعل,حيث تتحول إلى كيان سياسي بفضل دورها الوظيفي الجديد. وهو التحوّل الذي تكشّف في محصلته عن تلك الثمرة السامّة لذلك اللقاء التاريخي بين المسارين التاريخيين المشار لهما أعلاه, مسار الطائفة العلوية المتخارجة عن مجتمعها ومسار الدولة السورية في تقلباتها المنتهية بالانقلاب البعثي ثم بالانقلاب الأسدي. فهذا التلاقي هو ما أنتج العلوية السياسية ( الثمرة السامة ) كتعبير عن تغيّرات بنيوية أصابت الطائفة العلوية ككيان مذهبي سياسي بدأ يستمد هويته من خلال علاقته الأداتية مع السلطة ودوره الوظيفي تجاهها, ويتفاعل, على أرضية متنضّدة ومتزامنة من المشاركة والمواجهة, والتعايش والعداء, مع بقية المجتمع السوري, من خلال هذا الدور. وتجدر الإشارة أنه في هذا التفاعل المزدوج والمتناقض مع السلطة من جهة ومع المجتمع من جهة أخرى, تم إنتاج كل أشكال سوء الفهم المكرّس, والذي طبع النقاش العام حول علاقة النظام الأسدي بالعلويين, وحول الحدود الفاصلة بين ما هو سياسي وما هو ديني عند النظام الأسدي. وهو أساس التشوّش في الوعي السياسي حول بنية هذا النظام, وطائفيته, وعلمانيته, وعلاقته ببقية الطوائف السورية وخصوصاً الطائفة السنية الكبيرة بتعدادها ووزنها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي, والشروط المحددة لهذه العلاقة. وهو النقاش الذي لم يستطع أن يتحرر من طغيان الفكر الديني بطبعته الطائفية السنية لأسباب عديدة لا مجال لذكرها هنا ويعرفها الجميع. ما هي إذن الشروط والمحددات التاريخية التي جعلت من العلويين جماعة “خارجية ” في المجتمع السوري, وأهّلتهم ليلعبوا دوراً وظيفياً هاماً, كأفراد أو ككيان اجتماعي مذهبي, في بناء وصيانة دولة الأسد في مواجهة موت مع بقية المجتمع السوري ؟ وما هي التحولات العميقة التي أفقدتهم القدرة على الانفكاك عن هذه الدولة حتى بعد أن تحولت إلى آلة قتل جماعي ومطحنة بشرية لقتل البشر وتدمير المدن وتفتيت المجتمع والكيان السوريين ؟
ثلاثة محددات أساسية, تاريخية وليست دينية, عملت على عزل الطائفة العلوية عن السياق العام للمجتمع السوري, وجعلت منها طائفة خارجية بالنسبة لمجتمعها. ونكتفي هنا فقط بذكر هذه المحددات الثلاثة معوّلين على فطنة القارئ وثقافته في إدراك أهميتها وتأثيرها في إعطاء العلويين هويتهم الخصوصية, وكيف جعلت منها طائفة خارجية في توضعها الإجتماعي العام وفي تشكّل ضميرها ومخيالها الذي يؤطّرها كجماعة ترى نفسها منبوذة اجتماعياً ومحرومة سياسياً وحقوقياً بدون وجه حق, بحسب إيديولوجيتها, وبسبب تعسف معايير (دينية ومذهبية سنّية) تتنافى والدين الحق كما تراه هي بموجب قناعات راسخة شكّلت أرضية المخيال الشعبي للعلويين في المرحلة العثمانية, ومنها نُسِجت خيوط سردية مظلوميتهم الخاصة في تلك المرحلة من التاريخ.
الشرط الأول ـ النبذ المكاني للعلويين من المدن ـ الحرمان من التمدّن
المدينة ليست فقط هي الحيّز الجغرافي المحدّد الذي يحوي عدداً كبيراً من الناس والبيوت. فتوفّر عدد كبير نسبياً من الناس المستقرين في أماكن سكنهم وعملهم ونشاطاتهم هو شرط لازم لتعريف المدينة, ولكنه لا يكفيه. إذ تتعرّف المدينة أساساً بالنشاطات المتبادلة التي يمارسها هؤلاء الناس, والتي من خلالها تتولّد فيما بينهم علاقات اجتماعية وثقافية تتجاوز أطر وحدود علاقات القرابة الطبيعية والعائلية التي توفّرها القرية أو البادية, وتكتفي بها إلى أن تمزقها العلاقات الحضرية المدينية. فالمدينة و الحديث هنا يدور عن المدينة المشرقية ماقبل الاستعمار الغربي ـ هي السوق, وهي الورشة المهنية, والمقهى والمدرسة والجامع. وفيها يسكن الزعماء المحليون, والقناصل الأجنبيون. وإليها يأتي القادة السياسيون, والدينيون. وفيها ممثلو الحكومة, والمراكز العسكرية. وفي ساحاتها المركزية يخطب القادة السياسيون أمام الجمهور المجتمع. وفيها تتم الاحتفالات الدينية, والمهرجانات الشعبية. وفيها توزع الصحف, وإليها تأتي الأخبار من المدن البعيدة عبر الموانئ أو قوافل التجار, وفيها يتلاقى مواطنوها مع الغرباء والأجانب والمستشرقين. فالمدينة باختصار هي البيئة التي تنبني فيها وبواسطتها شخصية الفرد الاجتماعية, وعبرها يتخفّف الإنسان من بربريته, ويتمدّن. فالتمدّن ليس سوى النشاط الاجتماعي والثقافي للبشر المتنوعين في تفاعلهم السلمي المتبادل والمستمر. وأسلوب الحياة الذي تتطلبه المدينة في تطورها السلمي هو ما ينتج التمدّن. وغياب هذا الأسلوب يبقي الطابع البدوي أو الريفي الخشن والفظّ. فليس إذن من تمدن, ولا ثقافة مدنية, بلا مدن. والسمات الاجتماعية العامة للشخصية العلوية التي عاشت بعيدة عن حياة المدينة, وفي توق لها حتى بداية القرن العشرين, تؤكد على واقعية وصحة الربط بين سمات ظاهرة للرعاعية النسبية عند الشخص الاجتماعي وبين حياته التي يعيشها في قطيعة مع المدينة ومع مجتمع المدينة. كما أن فكرة ترييف المدن السورية أو ترييف المجتمع السوري أو الدولة السورية والثقافة السورية في العهد البعثي بكل مراحله في السلطة, تجد أساسها في هيمنة الجماعات الريفية وفي نمط حياتها, والتي أعطت عموم المجتمع السوري صورتها عبر توسط الدولة والسلطة, وعبر صلاحيات هيمنة تسلطية غير مقوننة وغير محدودة. كما أن البغض المحتقن الذي أظهره علويون كثر في النظام البعثي ثم الأسدي للمدن السورية وأهلها, لا يعود لأسباب تتعلق بهذه المدن أو بأهلها في العمق, وهو لم يكن فقط شرطاً ملازماً لتحقق المصالح وتقاسم الثروة بواسطة عنف السلطة, بل كان أيضاً لأسباب تعود للتركيب النفسي والثقافي الذي نجم عن عهود النفي المكاني الذي فرضته المدينة على العلوي, في نفس الوقت الذي قبلت فيه أن تتعايش مع بقية الطوائف الدينية بما فيها طائفة اليهود, وأن تقبل بها كشريك اجتماعي وسياسي في أحياء طرفية ومخصصة لها في المدينة, حيث عوملت باحترام منقوص ولكنه مقونن, باعتبارها طوائف صاحبة كتب منزلة ومعترف بها إسلامياً, وليس كما هو الحال بالنسبة للعلويين المعتبرين خارج ملة الإسلام.
الشرط الثاني: النفي السياسي ـ الحرمان من التمثيل السياسي. كان حرمان العلويين من حقهم بالتمثيل السياسي المكافئ لوزنهم العددي في المناطق التي يقطنونها, كان بمثابة نفي من الدولة ومن المجتمع السياسي والشأن العام الذي يهم جميع الناس. فكان, فوق أنه نفي سياسي, استكمالاً للنفي المكاني المذكور في البند السابق وتأكيداً له. وهنا أيضاً, وجد العلويون أنفسهم في بيئة معادية وبلا سند, فتشكّل مخيالهم السياسي على هذا الأساس. وفي مقارنة مع بقية الطوائف والأقليات, كما كان يُفترض بكل علوي أن يفعل, فإن هذه الأخيرة وجدت سنداً قوياً وفاعلاً في دور قناصل وسفارات الدول الغربية التي تقاسمت حماية الأقليات الطائفية جميعها باستثناء الطائفة العلوية التي لم تجد من يتبنى حمايتها من الدول الغربية الزاحفة لبسط نفوذها على الإقليم. ويزيد من قساوة الأمر أن العلويين بقوا طوال العهد العثماني مُعتَبَرين من رعايا “مولانا السلطان” من جهة واجباتهم المتوقع أن يؤدوها تجاه دولته. وعليهم دفع الضرائب كما غيرهم عبر الملتزمين بتحصيلها من مقدّمين وزعامات محلية, والذين يزيدون الضريبة بقدر مايمكنهم ذلك. وعليهم أيضاً تقديم حصّتهم من الشباب للتجنيد في حروب السلطنة التي لا تنتهي. أما تمثيلهم السياسي في الدولة والإدارة المحلية, فقد ترك لتقرير الحكام المحليين الذين كانوا يعتمدون على معايير التقسيم الديني للطوائف المعترف بها مذهبياً, وهذا ما يجعل العلويين مرة أخرى خارج الدولة يغمرهم شعور الغبن لحرمانهم من التمثيل السياسي. ولإعطاء فكرة عن مدى النفي السياسي نذكر مثالاً واحداً ورد في كتاب ” تاريخ العلويين” – تأليف ستيفان وينتر وترجمة أحمد نظير أتاسي وباسل وطفة ـ نسخة إلكترونية: يورد الكاتب في الصفحة 322 نص وثيقة من الأرشيف العثماني تتعلق بممثلي المجلس المحلي البلدي والقضائي, نقتطع منها الفقرة التالية التي تعطينا فكرة واضحة عن الوضعية الحقوقية للعلويين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. يقول المؤلف قبل إيراد الوثيقة : “ وفي عام 1876 اندلع نزاع أكثر أهمية ( في قضاء اللاذقية ) وذلك عندما كان مقرراً انتخاب ممثلين للمجتمع العلوي في المجالس الإدارية والقضائية للمرة الأولى ” . أما الوثيقة التي يوردها الكاتب فتقول : “ وبينما انتخب ثمانية مرشحين مسلمين ومسيحيين إلى المجالس المشار إليها, عيّن مرشح واحد من طائفة النصيرية. ويمثل المسلمون والمسيحيون معاً 3000 خانة ( البيوت) في قضاء اللاذقية, في حين يفوق عدد النصيريين 6000 خانة . علاوة على ذلك فالنصيريون مكلّفون وملزمون بثلثي الإسهامات المالية والعسكرية في قضاء اللاذقية ” انتهى الاقتباس. هذا النص الوارد في هذه الوثيقة, وتاريخ الحدث المتعلق به, يعطي صورة واضحة عن درجة العزل السياسي الذي كابده العلويون, وعن الحقبة الزمنية الطويلة التي عاشوها في حالة العزل السياسي هذه.
الشرط الثالث: الحرمان من ملكية الأرض ـ قوانين التملك .
قوانين الطابو العثماني التي حوّلت طبقة الفلاحي السوريين, بما فيهم العلويون, إلى أقنان يتبعون بملكية أجسادهم وأرواحهم لشريحة إقطاعية يسكن معظم أفرادها في المدن, كانت الشرط الذي مثّل النفي الاقتصادي للعلويين في موطنهم الجبلي, فاستُكمِلت بهذا الشرط الأركان الأساسية لجعل العلويين طائفة خارجية بالنسبة للمجتمع السوري. حيث استمر بها الحال حتى نهاية الثلث الأول من القرن العشرين وبداية تشكل الدولة السورية الجديدة. وهذا الشرط الاقتصادي, والذي استثنيت منه بعض الزعامات العلوية التي أصابت به ملكيات متوسطة, هو ما وفّر الأرضية المادية لانحطاط أهل الريف اجتماعياً واقتصادياً, وليس سياسياً, ووسم بالتالي العلاقة بين أهل الريف, من علويين وغير علويين, وبين أهل المدن بكراهية ريفية تجاه أهل المدن تقابل احتقارا موجّها من أهل المدن لأهل الريف. ولاحقاً, كان النزاع على ملكية الأراضي الزراعية هو السبب في أن كل الحراك السياسي السوري وكل الأحزاب الجديدة القومية واليسارية حاولت أن تستثمر في الطبقات الفلاحية تحت مطلب إعادة توزيع ملكية الأرض والتحرر من ربقة الإقطاع, وأن تستقطبها في الصراع ضد الطبقة البرجوازية وضد سياساتها الليبرالية. وهو أيضاً أساس قوانين التأميم اللاحقة , وهي القوانين التي أوقفت التطور الاقتصادي والاجتماعي وساهمت في تاسيس الدولة الشعبوية التسلطية, والتي سيظهر لبّها الفاشي لاحقاً في مواجهة الانتفاضة السورية. تلك هي المحددات التاريخية الثلاثة التي حدّدت الهوية الخصوصية للعلويين في سورية, بمكوناتها الرئيسية: الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وهي محددات عمل الفكر السياسي الديني على تغليفها وتأطيرها وشرعنتها تحت خطاب محاربة عقيدة دينية باطنية مُنكَرة تصلح لتكون إطاراً تعريفياً مميّزاً لأصحابها. عقيدة اعتبرها المسلمون السنة أنها عقيدة مناهضة للإسلام وأن أصحابها كفرة لايستحقون أن تطبّق عليهم معايير العدالة الإسلامية. محدّدات وفّرت للطائفة العلوية أهم شرط من شروط تأهيلها كطائفة وظيفية : الشعور بوضعية خارجية بالنسبة للمجتمع العام المحيط, أي انتفاء الشعور بالانتماء لهذا الكيان المكرّس كوطن أو كمجتمع, وبواجب الالتزام بقضاياه المشتركة العامة, لا سياسياً ولا أخلاقياً. وكما هو الحال دائماً, تعزّز هذا الموقف بغطاء أخلاقي قوي وفّرته سردية المظلومية, والتي عززت عند العلويين صوابية أخلاقية يفتقدونها في علاقتهم مع سلطة الاستبداد. وشكّلت سردية المظلومية العلوية ذراع المزدوجة الآخر والمتمم للسردية الطائفية السنية حول العلويين, والتي استعاضت عن شروط الواقع التاريخي الذي شكّل الجماعة وأعطاها هويتها, بباطنية مذهب غامض يظن البعض, حتى ممن يحملون أسماء لامعة في عالم الثقافة, أنه يفسّر كل شيء عندما لا يقول شيئاً. ****
أما كيف بدأ انحطاط العلويين كجماعة وظيفية, ومذهبية, مع الإشارات الأولى لانحطاط دولة الأسد؟
نستأنف نقاش فكرة تقوم على فرضية أن العلويين لم يتحالفوا مع دولة الأسد بصفتهم كياناً مذهبياً إلا من ناحية الشكل, وإنما كان كما أراده صاحبه, حافظ الأسد, أن يكون. أي بصفتهم كياناً سياسياً ضمن إطار مذهبي وعشائري, يقوم بوظيفة أمنية محددة في هذه الدولة, مقابل ثمن أن يكونوا شركاء سلطة في هذا الدور المحدد والمقصور على حماية النظام في علاقته مع المجتمع السوري. وهذا يعني أنه لم يسمح لهم بالتدخل في رسم السياسات الخارجية للنظام, لا عربياً ولا إقليمياً ولا دولياً. ولا علاقة لهم أيضاً بالقرار الاقتصادي وكيفية التصرف بالثروة الوطنية. فهم مؤيدون, شركاء ينفذون ما يُطلب منهم وحسب. ومهمتهم لا تتعدى حماية النظام من أي مخاطر داخلية كما حصل في حماة وحلب بداية ثمانينات القرن المنصرم. وهذا يعني أيضاً, وهذا شيء مهم, أن لا ارتباط شَرطيّاً بين أن تكون علوياً وبين أن تتطوّع في تنفيذ هذه المهمة, مما جعل حماية النظام والدفاع عنه, مهمة مفتوحة أمام جميع الطوائف كما بيّن واقع الصراع السياسي السوري قبل الانتفاضة وبعدها. حيث تم لاحقاً الاستغناء عن الدور الوظيفي للعلويين عندما لم يعد كافياً, واستعيض عنه بتدخل حاسم من إيران وروسيا وحزب الله, وانشقاق في المؤسسة الدينية الرسمية, وبروز دور الشق المؤيد للنظام.
وبالترافق مع تهالك سيادة النظام الأسدي على نفسه, فقد العلويون ما تبقى لهم من قيمة سياسية داخل النظام بعد أن كانوا فقدوها في المجتمع بسبب موقفهم من الانتفاضة. يبحث هذا المقال, عبر استحضار أمثلة من التاريخ, في فكرة الوظيفية في السياسة والحوكمة, في سبيل مزيد من التوضيح. تاريخياً, لم يكن العلويون متفردين كجماعة وظيفية تعمل في خدمة نظام سياسي قائم. فقد حصل هذا دائماً مع جماعات أخرى وبأماكن أخرى وأزمنة أخرى. فمثلاً, وجد المماليك في بداية أمرهم في التاريخ الإسلامي باعتبارهم جماعة خارجية في المجتمع الذي تواجدوا فيه, حيث عملوا على صيانة وحراسة الدولة التي صنعتهم كجماعة وظيفية, قبل أن يتطور أمرهم ليصبحوا حكاماً بعد أن أطاحوا بمخدوميهم. وقبل المماليك استعمل القادة العباسيون العرب جماعات فارسية كجماعات قتالية في صراعهم ضد الدولة الأموية, لتتطور لاحقاً هذه الجماعات وتنافس العرب على سدّة إمبراطوريتهم. وفي مثال آخر أكثر نموذجية, نجده في بنية الإمبراطورية العثمانية. فبعد استكمال فتوحاته, بدأ الجيش الانكشاري العثماني يضمّ في تشكيلاته القتالية مقاتلين كانوا أطفالاً شردتهم حروب الإمبراطورية التي اتبعت سياسة جمع الأطفال من جميع البلدان الخاضعة لها.
فبعد أن يُفصلوا عن أهلهم وبلدانهم, يتم إخضاعهم لتربية خاصة كي يكونوا في المستقبل محاربين في جيش السلطنة. فهؤلاء شكلوا جماعة وظيفية أصبحت فيما بعد عماد الجيش الانكشاري وعماد السلطنة ذاتها. إلى درجة مكّنتهم من التدخل مراراً في تحديد اسم السلطان الجديد, وقتل إخوته المنافسين عندما يرون حاجة لذلك, وأحياناً الإطاحة به كما فعلوا مع السلطان عثمان الثاني. وفي مصر استعان محمد علي باشا بالألبان الذين استحضرهم معه ليستخدمهم كجماعة وظيفية في التخلص من مماليك مصر الذين كانوا ينافسونه النفوذ ويعيقون خططه في الحكم. والألبان بطبيعة الحال ” خارجيون” بالنسبة للمجتمع المصري وللمماليك على حد سواء. أما المثال الأكثر نموذجية للجماعة الوظيفية, والأكثر تشبّهاً بالحالة العلوية التي تهمنا هنا, فهو نموذج اليهود في أوروبا في العصر الوسيط وعصر النهضة وحتى اليوم. وكيفية تلاقي مسار تشكلهم الخاص كجماعة خارجية في المجتمع المحيط, مع المسار الآخر الذي أنشأ الرأسمالية وتاريخ المال والمعاملات البنكية والمالية. وكيف نقل تلاقي هذين المسارين الجماعة اليهودية من طائفة مهمشة ومنبوذة إلى جماعة وظيفية مهيمنة مالياً ومن ثم سياسياً. وهو نفس ما جرى مع الطائفة العلوية على مقياس محلي سوري وليس أوروبياً, وعلى مستوى سياسي وليس اقتصادياً.
عاش اليهود في أوروبا, طوال العهد المسيحي وحتى ولادة الدولة الأوروبية الحديثة, ذات الشروط التي عاشها العلويون في ظل الإمبراطورية العثمانية حتى نهايتها. فمنذ نشوء اليهود في التاريخ, وخصوصاً خلال وجودهم كجزء من الإمبراطورية الرومانية بعد انتصار الدين المسيحي فيها, عُزِل اليهود كجماعة دينية “خارجية” مُحتَقَرة ومُهانة, وحرموا من تقّلد الوظائف العامة ومن المشاركة السياسية, كما حرّم عليهم العمل الزراعي واستملاك الأراضي. وعُزِلوا اجتماعياً بحصرهم مكانياً في نطاق الغيتو الخاص بهم. وتُرك أمامهم مجالان فقط للنشاط العام: المجال الكتابي والمجال المالي الربوي, فنبغوا في هذين المجالين. وهذا يشابه ما جرى مع العلويين السوريين. الذين انفتح أمامهم, مع ولادة الدولة السورية بالعهد الفرنسي وما بعده, مجالان أيضاً: المجال التعليمي الذي شمل شريحة بسيطة من الميسورين مادياً بينهم, ومجال المؤسسة العسكرية المفتوحة بأبوابها الواسعة للفقراء والمعدمين والطامحين منهم. وبالرغم من اندفاعهم في المجال الأول, إلا أنه بقي ضمن حالات فردية يمكن تعدادها. أما المجال الآخر, مجال الدولة والعسكر, فقد تسابقوا إليه جماعات وأفراداً أكثر من كل الطوائف السورية الأخرى. وفي مرحلة لاحقة, وكما تغيرت هوية التفاصل المسيحي الأوروبي مع اليهود, من تفاصل ديني إلى تفاصل عنصري وسياسي يشمل جميع اليهود في العالم الحديث, كذلك تغيرت علاقة المجتمع السوري مع العلويين, من تفاصل طائفي مذهبي إلى تفاصل سياسي, نجم عن تصدّرهم لسلوك التسلّط المعمم باسم الدولة الأسدية وبعنفها. فتحوّل الإعجاب بهم في مرحلة أولى بسبب النجاح الذي أصابوه, إلى تهيّب منهم كأصحاب سلطة, لينتهي الأمر بكراهيتهم كأداة قتل بيد دولة الإبادة الموجهة ضد السوريين المنتفضين.
وفي حين وصل اليهود كجماعة وظيفية إلى السلطة وإلى التأثير على القرار السياسي في أهم عواصم العالم الغربي الرأسمالي عبر النفوذ المالي, استطاع العلويون أن يصلوا إلى ما يشبه ذلك على مستوى الدولة السورية, كثمن للوظيفة التي أدّوها في بناء الدولة الأسدية وإحكام هيمنتها على المجتمع السوري. ولكن “السوري الآخر“, الذي تمثله الشخصية السنية التي تقطن المدينة, والذي لم يطوّر خلال الخمسة عشر قرناً الأخيرة, سوى معايير دينية متصلّبة في رؤيته وحكمه على الأشياء, لا يرى في هذا التغير التاريخي الذي حصل مع العلويين من جهة, ومع الدولة السورية من جهة أخرى, سوى ما يريد أو يستطيع أن يراه من لبوس ديني في هذا الدور.
ولكن هذا الاختلاط الواقعي بين ما هو ديني وما هو سياسي في رؤية العلاقة بين العلويين والدولة الأسدية في الذهنية الدينية, لم يقتصر على الوضع السوري في عالم المسلمين, وهو ليس كله افتراضاً ديماغوجياً يتقصّده الإسلام السياسي في مضمون خطابه. بل فيه الكثير من الحقيقة التي يغفلها العقل البسيط, والتي تغنينا معرفتها عن أي افتراض لمؤامرة سياسية علوية. وهذه الحقيقة المغفلة التي تشرح الكثير, هي أن الهوية العلوية أضحت هوية مركّبة, بين ماضٍ فقير وبائس يخصّهم كجماعة دينية, وبين حاضر مترف بوعود الثروة والسلطة شريطة تحوّلهم لجماعة وظيفية في الدولة الأسدية. بين أن كانوا في ماضيهم جماعة متعايشة, وإن صراعياً وعلى المكشوف, مع مجتمعها المحيط, وبين أن أصبحوا جماعة متخارجة, عدائياً وإن بشكل مكبوت, عن هذا المجتمع. عدائية معه بسبب أنه أضحت متخصّصة بمواجهته حمايةً لسلطة يشعر عموم العلويون أنها تخصّهم أكثر من الجميع وتضعهم فوق الجميع. وإضافة لذلك فإن الخلط الواعي والمدروس بين الدين والسياسة كان دائماً من صلب سياسة الإستبداد ومن أهم مناهج وأدوات التحكم بالمجتمعات الطائفية في كل بلد, وكان النظام الأسدي بارعاً في تطوير هذه السياسة. فلسنا بحاجة, إذن, لفرضية العلوية السياسية كنظرية تقوم بذاتها, كي نفهم هذه الأداة كما خلقها واستعملها نظام الأسد. أما النتيجة الأساسية الناجمة عن تغير الهوية العلوية, والذي تسبب به هذا الدور الوظيفي وأصبح مكوناً رئيسياً من مكوناتها, فهي أن هذه الطائفة لم تعد تملك قرار ولا إمكانية الانفكاك عن هذه الدولة, وهي إحدى المآسي الكبيرة التي أصابت الطائفة والمجتمع السوري ككل على حد سواء. لقد أصبحت الطائفة أسيرة وظيفتها في دولة الأسد. ومصيرهما أصبح مصيراً واحداً ومشتركاً في المجال السياسي. وهذا لا يعني فناء الطائفة بتحطم الكيان الأسدي ورحيله, بل يعني تضعضع دورها المستقبلي سياسياً واجتماعياً. وسيمر وقت طويل قبل أن تستعيد اعتبارها كطائفة فقدت رصيدها الوطني والأخلاقي في سبيل دولة الأسد, ولم يعد لها, مثلها مثل بقية الطوائف السورية, من خلاص سوى الخلاص الوطني العام الذي يشمل جميع مكونات المجتمع في الدولة الديمقراطية العلمانية التي تحترم حقوق الأفراد والجماعات.
أما العلويون كأفراد فنحن نشهد انسلاخاتهم الفردية منذ نشوء الدولة الأسدية وحتى اليوم. وهي على العموم انسلاخات عن المذهب العلوي وعن الدين عموماً على أرضية ثقافة علمانية يسهّل انتشارها بين العلويين انعدام وجود مرجعية دينية مستقلة وممثلة للطائفة مذهبياً. وانسلاخات عن الأسدية على أرضية كراهية الإستبداد والدكتاتورية في ذات الوقت. ويشكّل هذان الانسلاخان في مضمونهما السياسي انسلاخ عام عن تحالف العلويين مع نظام الأسد. لاسيما بعدما أن تكرس الشعور أن الطائفة استغنت عن تأسيس مرجعيتها الدينية تحت الشعور المتفاخر بالوضعية الجديدة التي لا تتطلب مرجعية من جهة, وتهديد فقدانهم لدورهم الوظيفي كما أفهمهم الأسد شخصياً,من جهة أخرى. واكتفت بمرجعية سياسية مثّلها أشخاص ورموز سلطة بارزون في الجيش والأمن, كمرحلة أولى, وبتقرّب من الشيعية الدينية الإيرانية الكاسحة في البيئة العلوية, ورغماً عنها.
نحصل من هذا التحليل على نتيجة جانبية, جزئية ولكنها هامة, وهي أن الأسد هو من كان يملك المشروع المضمر والواعي لذاته في تأسيس دولته الوراثية الخاصة بسلالته والقائمة على دعم العلويين لها, فهو المؤسس الحقيقي لهذا التحالف كما كان هو المؤسس الحقيقي للدولة الأمنية التي قامت عليه. فيصحّ القول إذن أن الدولة الأسدية اخترعت “العلوية الأسدية ” كأداة لازمة لتحقيق مشروعها, بينما لايعني تعبير“الأسدية العلوية” أي شيء حقيقي في بنية السلطة. لأن الوجود العلوي في المجال السياسي السوري كان جزءاً من الأسدية ولم تكن الأسدية جزءاً من علوية سياسية سابقة عليها أو محايثة لها. والشيء لا يتعرف بجزء منه, وفي هذا جواب على سؤال وجّهه لي أحد الأصدقاء: أهي علوية أسدية أم أسدية علوية؟ .
وستتضح هذه النقطة الأخيرة في الحديث عن الكيفية التي انهارت فيها مكانة العلويين بالتدرّج وبالتوازي مع دخول عناصر لا تتعلق بهذا التحالف في بنية السلطة. بل تتعلق بتحويل الجمهورية إلى حيازة عائلية يتوارثها آل الأسد. وهي عملية شكّلت لحظة فارقة في تاريخ الجمهورية السورية, واشترطت لنجاحها قبول وتأييد قوى أخرى اقتصادية واجتماعية وإيديولوجية غير علوية. قبول وضمان إسرائيلي – أمريكي من الخارج, وإسلامي سني من الداخل السوري.
المصدر الناس نيوز