أبحاث

نقد النخب السلمية في الثورة السورية/ راتب شعبو

حذرت غالبية النخب السورية، في بدايات الثورة، من خطر الانزلاق إلى العنف والسلاح والعسكرة. وأسهب كثيرون في التحذير من الانجرار إلى العنف، على اعتبار أن العنف هو ملعب النظام ومجال تفوقه، ليس فقط لأن الطغمة الحاكمة تحتكر موارد الدولة، وتكرس أكثر من ثلاثة أرباع الموازنة للجيش والمخابرات وبقية أجهزة القوة المعنية بحفظ النظام، ما يجعله، بطبيعة الحال، أقوى من أي قوةٍ يمكن أن تنظم نفسها لمواجهته عسكرياً، بل أيضاً لأن من الصعب جداً ضبط العنف المضاد إذا انطلق، وبذلك فإنه سوف يجرّ أعداء النظام إلى ممارساتٍ إجرامية الطابع، سيما أن العفوية والارتجال يغلبان على الثورة عقب سنوات القمع الطويلة، الأمر الذي سوف يحرم الثورة من التفوّق المعنوي والأخلاقي الذي يشكل مركز ثقل الثورة. هذا فضلاً عن أن عنف الدولة مشروعٌ في الوعي العام، إذا ما قيس بعنف الخارجين عليها. وأضاف آخرون محاججاتٍ أخرى ضد الخيار العسكري، مثل أنّ العسكرة تقود إلى الأسلمة، لأن التنظيمات الإسلامية هي الأقدر على تلقف هذا الخيار، بحكم بنيتها التنظيمية ووعيها الإيديولوجي. وأن الأسلمة تفتح، بدورها، الباب واسعاً أمام التطييف والتطرّف والتدخل الخارجي والارتهان .. إلخ. وتوصل هؤلاء، بالتالي، إلى أن تبنّي العنف في الثورة هو من مصلحة النظام، وأن هذا الأخير هو من يعمل جاهداً، وبكل الوسائل، للدفع باتجاه عسكرة الثورة ثم أسلمتها، كي يعزلها ويبرّر قمعها أمام الداخل والخارج.

كان هذا المنطق يشكّل نقطة جامعة تقريباً للنخب السورية المنحازة للثورة. على هامش هذا المنطق، وعلى الضد منه، حاجج بعضهم في أن نظام الأسد لا يمكن أن يسقط سلمياً، وأن معركته مع الشعب السوري معركة حياة أو موت، وأنه مستعد للمضي في قتل المتظاهرين في الساحات والشوارع والسجون حتى آخر متظاهر، ومستعد أن يرتد بالعنف والقوة ضد أي إضرابٍ تجاري وأي عصيان، والنتيجة أن أي أملٍ بإسقاط النظام منوط بالخيار العسكري مهما كانت تبعاته.

في الواقع، يمتلك كلا المنطقين السابقين ما يبرّره، ولا يمكن لأحدهما أن يدحض الآخر، سجالياً. يقوم التصور الأول على تثمين الجانب المعنوي والأخلاقي في الثورة، بوصفه مركز الثقل ونقطة الجذب التي يمكن أن تسقط النظام من خلال انكشاف وحشيته ولا أخلاقيته، على خلفيتها السلمية والأخلاقية. فيما يقوم التصور الآخر على جانب عملي، وعلى خبرة بالنظام تقول إن القوة فقط هي ما يمكن أن يفكّك نظاماً بهذا البنيان وهذا التاريخ.

تعايش هذان التصوّران في الثورة بعض الوقت مع غلبة كاسحة للتصوّر الأول في البداية. ولكن مع كل يوم من التظاهر والقمع الدموي، كان التصوّر الأول يخسر لصالح التصوّر العسكري. هكذا، وعلى معبر “الدفاع عن النفس” و”حماية المتظاهرين”، شهدت الساحة السورية ظاهرة تحول لافتة هي انتقال غالبية النخب “السلمية” إلى تبني التصور العسكري ودعمه وصولاً إلى مهاجمة والتشكيك في كل من بقي على قناعته السابقة بأن الخيار العسكري في الثورة يدمر الثورة ويخدم النظام.

اليوم إذا سألنا أحد أصحاب الرأي أو الفاعلين من دعاة السلمية في بداية الثورة، وممن اجتهدوا في التحذير من العسكرة وبيّنوا مخاطرها الكارثية، ثم تحولوا إلى متحمّسين للخيار العسكري، عن الآلية الذهنية التي حكمت تحوّله هذا، سيكون الجواب غالباً “إن النظام لم يترك أمامنا خياراً آخر، ألم تر كيف يطلق النار على المتظاهرين السلميين، هل يقف الناس بصدور عارية أمام بواريد النظام. ولولا حمل السلاح، لانتهت الثورة منذ الشهور الأولى”. الحقيقة أن هذه إجابة منطقية ومقنعة، لكنها لا تغني عن سؤالٍ بديهي آخر: هل كان يعتقد أحد أن النظام سيتراجع أمام المتظاهرين المطالبين بإسقاطه؟ الجواب بـ”نعم” ينم عن جهل بطبيعة النظام، الأمر الذي لا يعترف به أحد من هؤلاء. والجواب بـ”لا” يعيد طرح السؤال: إذن، لماذا كان التشديد على السلمية والتحذير من الخيار العسكري؟

يمكن تلمّس تفسير لهذه الظاهرة في أن التطور العسكري للثورة جرى بعيداً عن إرادة النخب السلمية، أقصى ما يمكن أن تكون هذه النخب قد شاركت فيه هو التساهل مع بعض السلاح لحماية المتظاهرين، والدفاع عن النفس في وجه الشبيحة وأجهزة القمع، لكنها لم تشارك في تقرير المسار العسكري الفعلي، بوصفه طريقاً إلى إسقاط النظام. وعلى هذا، وجدت النخب السلمية نفسها أمام خيارين: أن تقبل هذا الخيار الذي أصبح واقعاً مفروضاً، وتدافع عنه وتمشي فيه إلى النهاية، أو أن تعترض عليه وتتحوّل، بالتالي، إما إلى معالجة نتائجه من خلال أعمال الإغاثة (نسبة كبيرة من سلميي الثورة تحولوا إلى العمل الإغاثي)، أو تخرج من دائرة الفعل المباشر، كما كان حال كثيرين، ومن بينهم نجمة المرحلة السلمية في الثورة، فدوى سليمان.

على هذا، أصبح الدفاع عن العسكرة يعادل الدفاع عن الثورة، ما جعل غالبية النخب التي كانت سلمية تتحوّل، في خطابها ومحاججاتها، إلى عكس ما كانت عليه في الشهور الأولى للثورة. ليس من الصعب فهم حراجة موقف النخب السلمية المعارضة للنظام أمام هذا الواقع، إذ لا يمكن لها أن ترفض الخيار العسكري الذي راح يتوضع على الأرض، ويحقق مكاسب ملموسة. وتبدو، بالتالي، كما لو أنها تقبل بالنظام. يمكن، إذن، فهم دوافع التحول، ولكنه مع ذلك يقول إن النخب السلمية لم تكن مبدئيةً في موقفها من سلمية الثورة، معاداة النظام تفوقت لديها على المبدأ، مشاعر الرفض تغلبت على الفهم والتحليل. والطريف أن سلميين كثيرين تحولوا، في الطور العسكري، إلى دعاةٍ شديدي الحماس إلى السلاح.

الأكثر طرافة، أو غرابة، أنه حين فشل الخيار العسكري في إسقاط النظام، وقاد إلى كوارث كبرى على سورية والسوريين، راحت هذه النخب نفسها تبحث في أسباب فشل الخيار العسكري الذي كانت تقول عنه، في البداية، إنه خيار كارثي.

العربي الجديد

نقد الأحكام القيمية في نقد النخب السلمية/ أيمن أبو هاشم

نشرت العربي الجديد في عددها الصادر بتاريخ 27 يناير 2021، مقالة للكاتب السوري (راتب شعبو) بعنوان ” نقد النخب السلمية في الثورة السورية ” تناول خلالها تبدلات مواقف النخب السورية، والتي اتجهت غالبيتها كما رأى الكاتب إلى التحذير من مخاطر انزلاق الثورة منذ بداياتها، إلى العنف والسلاح والعسكرة، بدواعي التفوق الأخلاقي والمعنوي للثورة، وأسباب أخرى تتعلق بتفوق النظام بما يملكه من أدوات القوة، والخشية من أن تكون العسكرة بوابة الأسلمة، إلى التطييف والتطرف والتدخل الخارجي والارتهان، ما يبرر للنظام قمع الثورة أمام الداخل والخارج. في حين استعرض الكاتب محاججة بعضهم الآخر، التي تنطلق في تأييدها الخيار العسكري، من استحالة سقوط نظام الأسد سلمياً، وأن معركته مع الشعب السوري معركة حياة أو موت، وأن القوة وحدها هي ما يمكن أن يفكك نظاماً بهذا البنيان وهذا التاريخ. 

يرى الكاتب في مقاله أن كلا المنطقين كان له ما يبرره، لكن تطورات المشهد الدموي منذ البدايات بفعل أسلوب النظام في مواجهة المظاهرات، أدى تدريجياً إلى غلبة التصور العسكري، وانتقال غالبية النخب السلمية إلى تبني ذاك التصور. ثم يعود في نهاية مقاله إلى نقد ذلك التحول، بعد أن فشل الخيار العسكري للثورة، مشيراً إلى طرافة وغرابة أمر أولئك المتحولين من السلمية إلى شديدي الحماس للسلاح، ومنتقداً تساؤلاتهم حول أسباب فشل الخيار العسكري، الذي قاد إلى كوارث كبرى، مع أنهم حذروا – على حد قول الكاتب – منذ البداية على أنه خيار كارثي!!

يعزو شعبو تفسير هذه الظاهرة التي يضعها على محك النقد، إلى أن التطور العسكري للثورة جرى بعيداً عن إرادة النخب السلمية، التي لم تشارك فعليًا في تقرير المسار العسكري للثورة، ولكنها وجدت نفسها أمام خيارين: أن تقبل به كأمر واقع مفروض وتذهب فيه حتى النهاية، حتى أصبح الدفاع عن العسكرة بالنسبة إليها يعادل الدفاع عن الثورة، أو الاعتراض عليه والذهاب للعمل على معالجة نتائجه، من خلال النشاط الإغاثي، أو الخروج من دائرة الفعل.

لا شك أن علاقة النخب السورية بالثورة، ومساراتها السلمية والعسكرية، من القضايا التي تحتاج إلى مراجعات عميقة، تقوم على إحاطة وافية بالعوامل الذاتية والموضوعية للظواهر التي تقترن بها. وإن كان يُحسب للكاتب خوضه في هذا المضمار، غير أن مقالته التي استندت إلى منظور تحليلي ثقافوي، في قراءة وفهم الظاهرة التي تصدى لها، انطوت على اختزال وتأويل قسريين، للتحولات في مواقف ومواقع المعنيين بها، كادا أن يضاعفا من أوجه التعقيد والالتباس، حيال مواقف النخب السورية في زمن الثورة، لاسيما أن دور تلك النخب سواء في مرحلتي السلمية والعسكرة، لا يمكن اختزاله أو تنميطه وراء تلك الثنائية، التي أسبغ عليها أحكامه القيمية. إذ بدأ مقاله بالحديث عن غالبية النخب السورية المنحازة للثورة، وكأنها كانت موجّه أساسي إلى خيار السلمية، قبل تحول بعضها إلى الدفاع عن العسكرة. علماً أن حقائق يوميات الثورة منذ ارهاصاتها الأولى، كانت تُشير إلى غلبة الطابع الشعبي على مسارها السلمي، وضعف حضور النخب في قيادة تلك المرحلة، بل أن جزءً محدوداً من تلك النخب، حاول مجاراة نبض الشارع، ولكنه لم يكن مؤثراً كفايةً، لا في تقرير التوجه السلمي للثورة، ولا في تقرير خيارها العسكري.

كان على شعبو قبل أن يستغرب سؤال النخبة، والذي يكشف تناقضها تجاه خيار العسكرة، أن يضع القارئ أمام تعريف سوسيولوجي دقيق عمّا يصفها بالنخبة المنحازة للثورة، هل هي قيادات وكوادر القوى والأحزاب التقليدية، المُعارضة للسلطة قبل الثورة؟ أما أنها كتلة المثقفين وقادة الرأي في المجتمع السوري؟ أم أنها النخب الشبابية والمثقفة الناشطة في عهد الثورة. لعلَّ الخوض في هذا التعريف المطلوب أولاً، ما يفتح على ضرورة تحديد هوية وأدوار النخب، وشكل وكيفية تموضعها في الثورة السورية. إذ أن الصورة الغالبة عنها، والتي استقرت في أذهان السوريين، هي تصدّرها للمشهد السياسي، وأدوارها وتجاربها في مؤسسات المعارضة. في حين غابت الصورة الأخرى، وهي اعتكاف وعزوف مجموعات كبيرة منها، عن الحراك الثوري في محطاته المتعرجة.

بمعنى أوسع كان ثمة نكوص للنخبة في تجربتها خلال الثورة، ومن انخرطوا في حقلها السياسي، تأرجحوا ما بين الأداء المُخيّب للآمال والعجز عن التغيير الإيجابي. نزولاً عليه تكمن المراجعة الأدق في دراسة هذه الظاهرة، من كافة أسبابها وجوانبها. أما تعليق الكاتب لأسباب التناقض في مواقف النخبة من السلمية، على مشجب عدم مبدئيتها، لأن معاداة النظام لديها تفوقت على مبدأ السلمية، وأن مشاعرها الغاضبة تفوقت على الفهم والتحليل، فهذا استنتاج قاصر على إدراك الدوافع والمصالح، التي تحكمت بمواقفها واستجاباتها الفردية والجماعية. بل المدعو للغرابة أيضاً تلك المفاضلة، التي وضعها الكاتب بين مبدأ السلمية ومعاداة النظام، متجاهلاً أن الثورة هي التعبير الدامغ عن معاداة النظام، وأن أسلوب إدارة الصراع معه يقترن بطبيعة الصراع نفسه، ومجرى تحولاته ومتطلباته، لاسيما أن أسلوب النظام الدموي الذي لم يغب عن المقالة، لم ولا يسمح أساساً بمثل هذه المفاضلة، وإلا ما معنى أن يؤكد الكاتب على الوجاهة، في منطق من أيدوا الخيار العسكري نفسه. يستوي في ذلك استنتاجه الخاطئ، عن غلبة مشاعر الغضب على الفهم والتحليل، وفي ذلك تجريد نظري لواقع أشعلت المآسي كل آبار الغضب فيه، بينما سها شعبو عن المشكلة الحقيقية في تبدل المواقف من العسكرة، سواء من دعاة خيار السلمية، وحتى من رهط كبير حملوا السلاح، تعود إلى غياب مشروع وطني لإدارة الصراع وتنظيم أساليبه وتكتيكاته، وهنا يُقال الكثير حول أسباب الإخفاق السياسي والعسكري لقوى الثورة والمعارضة. حتى من امتلكوا الفهم والتحليل، لم يسهموا عملياً في تفكيك هذه المعضلة، لأن تصريف قدراتهم في تصويب مسارات الثورة، كان يَفترض انخراطهم في السياسة، ولو من خارج التيارات والمؤسسات التي واظبوا على انتقادها. ما يثير وبإلحاح أزمة العلاقة الشائكة بين النخب والسياسة، وهي أحد شواغل من يبحثون عن اجتماع السوريين على مشروع إنقاذي لوطنهم.

 الموضوعية والإنصاف في أية محاولة لمراجعة وتقييم، الفواعل المؤثرة في الشأن السوري، ومكنون علاقاتها وتفاعلاتها بالثورة، تجنب المقاربات النخبوية التي تفصل المواقف والاستجابات النظرية، عن تحولات الواقع ومعطياته المتغيرة. في حالة النخب السورية ثمة حاجة لمنهجية مقارنة، توضح عناصر التشابه والاختلاف فيما بينها، وتعدد مصادر تكوينها ومستويات تجاربها، وطبيعة صلاتها بفئات المجتمع السوري في زمنه العاصف، وما الذي حكم مواقفها من الثورة في ضوء تحولاتها، وذلك لتفسير وفهم أقرب لمختلف اتجاهاتها. لا يقلل من انتقادي لما جاء في هذه المقالة، من أهميتها في ضرورة نقاش ونقد أحوال النخب السورية وأزماتها، وكيفية بناء تصور جديد، لأدوارها المأمولة في استنهاض واقع بلدها.

موقع مصير”

في النقد الفارغ من النقد… د/ راتب شعبو

من دواعي سروري أن يثير مقالي في “نقد النخب السلمية في الثورة السورية” الذي نشرته في العربي الجديد بتاريح (27/01/2021) النقاش، سواء على صفحات الفيسبوك أو في مقالات مستقلة كالتي أتناولها اليوم للكاتب “أيمن أبو هاشم” الذي يرى في مقالي “أحكاماً قيمية” ويعنون مقاله المنشور في موقع “مصير” (30/01/2021) كما يلي: “نقد الأحكام القيمية في نقد النخب السلمية“.

في مقالي المذكور تناولت بالنقد النخب السلمية التي انتقلت من التحذير الشديد من العسكرة في بداية الثورة، إلى الحماس للسلاح بعد ذلك، إلى البحث في أسباب فشل المسار العسكري الذي حذرت منه هذه النخب واعتبرته كارثياً منذ بداية الثورة. ورأيت في هذا ضعفاً في مبدئية هذه النخب، وانجرافاً غير نقدي وراء مسار مصنوع من خارجها ورضيت أن تكون تابعة له.

أجاد الأستاذ أيمن في عرض فكرة المقال، ولكنه لم يكن، كما أرى، وكما سأحاول أن أبين، على المستوى نفسه في النقد الذي لم يشتبك مع فكرة المقال بل اكتفى بتقديم ملاحظات لا تمس الفكرة، أي لا تنقدها.

أولاً، يقول الأستاذ أبو هاشم إن النخب السورية المنحازة للثورة لم تكن موجه أساسي إلى خيار السلمية وإن المسار السلمي جاء من غلبة الطابع الشعبي على الثورة، وإن النخب كانت ضعيفة الحضور في قيادة تلك المرحلة. لا أختلف مع هذا الكلام، ولا أفهم أين وجه النقد فيه لفكرة المقال الذي يحاول الناقد نقده. هل يغير هذا الكلام من حقيقة أن النخب كانت تحذر من العسكرة بأشد العبارات، وكانت تعتبرها خيار النظام الذي يريد جر الناس إليه؟ ألا يحق نقد تصور ذهني ما إلا إذا كان هذا التصور في موقع القيادة؟

ثانياً، ينتقل الأستاذ أبو هاشم إلى مدخل ثان في النقد هو موضوع التعريف. فيكتب بلغة تعليمية “كان على شعبو قبل أن يستغرب سؤال النخبة، والذي يكشف تناقضها تجاه خيار العسكرة، أن يضع القارئ أمام تعريف سوسيولوجي دقيق عمّا يصفها بالنخبة المنحازة للثورة“. لا أدري ما هو “سؤال النخبة” الذي أستغربه أنا في مقالي المنقود. على العكس، نقدي ينصب على النخبة لأنها لم تسأل. لكن أبو هاشم يجد مشكلتي في أنني لم أعرّف النخبة “تعريفاً سوسيولوجياً دقيقاً“. لا أدري أيضاً لماذا يريد تعريفاً “سوسيولوجياً” و“دقيقا” ونحن في سياق نقد نخبة سياسية. على أي حال، سبق أن اكتشف “مثقفو” النظام، باباً “فلسفياً” يريح من مواجهة الأسئلة السياسية الملحة، اسمه “التعريف“: قبل أن نتحدث عن الحرية، تعالوا نعرف الحرية. تعالوا نعرف الإرهاب. تعالوا نعرف الثورة ..الخ، وصولاً إلى مقولة “الشيء في ذاته” الكانطية الشهيرة.

عليّ إذن، بحسب أبو هاشم، أن أعرف النخب “تعريفاً سوسيولوجياً دقيقاً” قبل أن أنتقد النخب. ولكي يساعدني ناقدي في التعريف يسأل: “هل هي قيادات وكوادر القوى والأحزاب التقليدية المُعارضة للسلطة قبل الثورة؟ أما أنها كتلة المثقفين وقادة الرأي في المجتمع السوري؟ أم أنها النخب الشبابية والمثقفة الناشطة في عهد الثورة“. ورغم أن النخب المذكورة ليست نخباً “سوسيولوجية دقيقة“، إلا أنني، ورغبة في الوصول إلى نتيجة، سأجيب ناقدي بنعم، هذه هي النخب التي قصدتها. ولكن أبو هاشم، بدلاً من أن يقودني إلى نتيجة، يقطع الحبل ويتركني أسقط في خيبة لا ينفع معها التعريف السيوسيولوجي أكان دقيقاً أو عاماً، حين يكمل: “غابت الصورة الأخرى، وهي اعتكاف وعزوف مجموعات كبيرة منها عن الحراك الثوري“. ما دخل اعتكاف مجموعات كبيرة أو صغيرة في نقدي لتحولات النخب في الثورة؟ هل الاعتكاف المذكور هو الذي دفع النخب التي لم تعتكف إلى دعم العسكرة مثلاً؟

ثالثاً، يقول ناقدي “أما تعليق الكاتب لأسباب التناقض في مواقف النخبة من السلمية، على مشجب عدم مبدئيتها، لأن معاداة النظام لديها تفوقت على مبدأ السلمية، وأن مشاعرها الغاضبة تفوقت على الفهم والتحليل، فهذا استنتاج قاصر على إدراك الدوافع والمصالح، التي تحكمت بمواقفها واستجاباتها الفردية والجماعية“. حين تحذر نخبة معينة من خطر معين ثم تنغمس هي نفسها في الخطر الذي حذرت منه، ألا يحق للمرء القول إن هذه النخبة لا تلتزم بقولها، أو إنها غير مبدئية، وتميل “ما مال الهوا أو الهوى“؟ على أني لا أفهم لماذا يرى أبو هاشم في عدم المبدئية مشجباً.

لنتابع، يرى ناقدي أن استنتاجي “قاصر على” إدراك دوافع ومصالح النخب. لا شك أنه يقصد أن يقول “قاصر عن“، لأن المعنى يختلف إلى النقيض باختلاف حرف الجر. إذن هناك دوافع ومصالح للنخب في تحولها الحربي، لكن المؤسف أن الناقد لا يبين أياً منها. وفي الوقت نفسه لا يقبل تفسيري الذي يقول إن معاداة النظام تفوقت لدى هذه النخب على مبدأها السلمي، وأن الغضب لديها تفوق على الفهم والتحليل. والحق أن تفسيري يكاد يكون وصفياً. اللافت أن أبو هاشم يؤكد تفسيري في معرض نقده، حين يتكلم عن “واقع أشعلت المآسي كل آبار الغضب فيه“. وفي المقال المنقود كلام عن أن مستوى رفض النظام الدموي تغلب، لدى النخب السلمية، على “الفهم والتحليل” وجعلها تمضي في مواجهة النظام بكل السبل.

رابعاً، في البحث أكثر عن فكرة مفيدة لدى ناقدي تفسر التحول الحربي لدى النخب السلمية، نعثر على “غياب مشروع وطني لإدارة الصراع“. سنفهم المشروع الوطني هنا بمعناه السلمي. من أين يأتي المشروع الوطني؟ أليس من النخب؟ وهل يكون فشل النخب في بلورة مشروع وطني مبرراً لفشلها في التزام مبدأ السلمية؟

وإذا فهمنا المشروع الوطني المذكور بمعنى عسكري، لماذا إذن حذرت النخب السلمية من العسكرة، هل يكون نوعاً من التمويه مثلاً؟

ثم يرى أبو هاشم ضرورة “تجنب المقاربات النخبوية التي تفصل المواقف والاستجابات النظرية، عن تحولات الواقع ومعطياته المتغيرة“. ترجمة هذه النصيحة في موضوعنا تقول إن النخب تحولت لأن الواقع تحول. النخب إذن تحولت من السلمية إلى الحربية لأن الواقع تحول من سلمية (خارج إرادة النخب، بسبب الطابع الشعبي) إلى الحربية (خارج إرادة النخب، بسبب إسلاميين وخارج). أذكر أن هناك من نقد المقال نفسه على صفحته على الفيسبوك بالقول إن العسكرة لم تكن “خياراً“. على هذا يتبين أن صورة النخب السورية السلمية في تصور ناقدي مجرد تابع فاقد القيمة لمسار مرسوم من خارجها، هل هناك لا مبدئية أكثر؟ لماذا يعترض ناقدي عليّ إذن؟

أخيراً أتساءل أين الأحكام القيمية التي يجعلها ناقد نقدي عنواناً لمقاله؟ في مقالي قدمت وصفاً لتحولات النخب وأعطيت تفسيراً، ولم أطلق أحكاماً قيمية. وتبين أن صورة هذه النخب (وأنا واحد منها وأنقد نفسي كما أنقد غيري) في منطق مقال الناقد ليست أفضل من الصورة التي يريد دفعها عنها.

يوجد فارق بين من ينتقد وهو يدفعه هم معرفي، ومن ينقد بفعل عدم مطاوعة نفسيه تجعل نقده وكأنه محكوم بمبدأ الدفاع عن النفس حيث الغاية المعرفية تأتي متأخرة في سلم الأولويات.

موقع نواة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى