إنعام كجّه جي.. سيدة الشتات العراقي/ بشير البكر
إنعام كجّه جي.. سيدة الشتات العراقي ذات فجر وصلنا في قافلة صحافية الى بغداد، وفجأة صرخت من نعاسها “صباي كان هنا”
كانت الكاتبة العراقية إنعام كجّه جي تبدو وكأنها تخفي سرًّا كبيرًا عندما كانت تعمل في الصحافة، ذلك أنها توحي لمن يقابلها أنّها تتجاوز الصحافية إلى موهبة أخرى هي السرد الذي تبرع فيه. صاحبة خيال واسع وحبكات لا تنتهي حين تورد حادثة ما، بالاضافة إلى معرفة وثقافة واسعتين بتاريخ العراق الوطن الأم، والبلد الغني بتعدّديته وأساطيره وحكاياته التي لا تنتهي، وفرنسا البلد الذي جاءت إليه للدراسة ما بعد الجامعية، لكنه سرقها من المكان الأول. كانت تتسرّب من بين موضوعاتها الصحافية روايات غير مكتملة ترسل إشارات بأنّ هذه البذور سوف تكسر حدود المقالات لتذهب نحو آفاق اوسع تأخذ راحتها في الكتابة، وتعطي الأحداث والشخصيات مداها وحريتها، وهي الخبيرة بتوليف الأشياء، لتخرج من مطبخها بنكهة العارفة بأسرار الصنعة، القادرة على بناء عالم روائي لا يشبه غيره.
تأخرت انعام كجّه جي لتكتب الرواية، ولا أدري ما هو السر الكامن وراء ذلك. قد يكون حب الصحافة المزمن الذي ما زال يلازمها، او ربما مهابة اقتحام عالم الكتابة الروائية بثقة. إلا انّها بدأت قوية من خلال العملين الأولين “الحفيدة الأميركية” و”سواقي القلوب”، ورغم ان الموضوع اختلف من عمل لآخر فإنها بدت متمكّنة من أدواتها. وأهم ما لدى كجّه جي هو اللغة المتينة التي اكتسبتها من عملها الصحافي، والقدرة على ترتيب الأحداث والأفكار، وبالاضافة الى ذلك خزّان من الحكايات لا يتكرر أو ينتهي. وحين كنت التقي انعام ونتحدث في موضوع ما او أقرأ لها مقالة، فإن أول ما يلفتني هو قوة الحدس لديها التي ورثتها من البيئة العراقية الداخلية التي تبدأ من البيت. وبيت اهلها عبارة عن عيد عراقي في بيت بغدادي ذي جذور كلدانيّة موصلية (الموصل) تتقن حفظ تفاصيله وأسراره جيّدًا. بيت كريم بكل تفاصيله من الطعام إلى أحاديث الأهل ورخائهم وسعادتهم في بيئة يعيشون فيها بدلال وانسجام. حدّثتني مرة شقيقتها الكبرى في بغداد عن عالمهم السعيد في العراق بلغة الحلم، وكانت الحرب مع إيران في خواتمها. وذات فجر، وصلنا في قافلة صحافية الى بغداد، وكانت الشمس تشرق على تلك المدينة الساحرة، وفي طريقنا إلى فندق عشتار، فجأة، صرخت من نعاسها “صباي كان هنا”.
بقيت تلك الشهقة تتردد في مسامعي وتحيلني إلى بغداد كلما عاد إلي الوجه المشرق لتلك العاصمة الأثيرة. صباها هناك وشبابها في باريس. هي التي عرفت بغداد تنهض على زمن جديد، الحداثة في الشعر والموسيقى والفن التشكيلي جواد سليم، فائق حسن، شاكر حسن آل سعيد، ضياء العزاوي، ناظم الغزالي، سليمة مراد، يوسف عمر، القبّنجي، السياب، لميعة عباس عمارة، بلند الحيدري، يوسف الصائغ، جبرا ابراهيم جبرا، وفؤاد التكرلي.
حين بدأت تكتب الرواية كان ذلك الزمن قد انكسر عندما اجتاحت جحافل المارينز مدينة الرشيد، وسقط تمثال الطاغية، لكن الفاجعة كانت أكبر حين دخل بغداد اللصوص والخونة وأصحاب العمائم على ظهور الدبابات الأميركية، ولذلك جاء نصها مختلفًا عن تلك النصوص التي استرسلت في الوصف ولم تلامس حدود المأساة. وما يجعل من هذا النص حيًّا ومختلفا هو انه وثيق الصلة بذاكرة بغداد. في “سواقي القلوب” الرواية الأولى توليفة عراقية ما بين بغداد وباريس تعكس ما تحفل به الحالة العراقية من تفاصيل في الاتجاهين، وكائنات الرواية عبارة عن سواقي بعضها يلتقي، وبعضها تسير في موازاة أخرى قريبة منها، وتذهب في المنعرجات نفسها والمسار ذاته، لكنهما لا تلتقيان، وحين يحصل اللقاء يمكن أن يكون فرحاً أو حزناً. ولا ينجح الفضاء الباريسي وحياة المدينة الجديدة البعيدة عن بغداد في إحداث تغيير كبير بطبائع الشخصيات التي جاءت من ما بين النهرين تحمل انكساراتها وهزائمها ومؤامراتها، بما في ذلك طبائع وفظاظة أجهزة الأمن التي لا تتورع عن ارتكاب جريمة قتل بحق معارض هرب إلى مدينة النور.
وتُعد هذه الرواية، “سواقي القلوب”، البداية في مسيرة كجّه جي الروائية، لكنها تبدو كاملة الأوصاف من ناحية بناء الشخصيات والسرد وتركيب المشاهد والأحداث، وهو ما يعطي الكاتبة خبرة تجعلها أكثر تمكّنًا على تملك الأدوات والجرأة في تناول موضوعات أكثر تعقيداً. وإذا كانت الرواية الأولى تدور بين بغداد وباريس، فإنها بقيت عراقية، ولم تتأثر بشكل ملحوظ بمصائر وأحوال الشخصيات في العاصمة الفرنسية، وهذا الأمر سنراه يختلف في الرواية الثانية الحفيدة الأميركية التي أخذت من الاحتلال الأميركي للعراق موضوعاً لها كي تتعمق في تناول قضية الانتماء، ومسألة توزع الكائن بين وطنين، فالحفيدة الأميركية من أب عراقي مجندة في الجيش الأميركي الذي يحتل بلد أهلها، فتكون نقيضة للجدة التي رفضت مغادرة العراق مع عائلة ابنها الذي هجر البلد بعد تعرضه للاعتقال وهاجر إلى أميركا ليؤسس حياة جديدة كانت ثمرتها هذه الحفيدة التي تحمل اختلاف المفاهيم بين الأجيال العراقية، وخاصة مفهوم الوطن الذي يختلف كليا بين الجدة والحفيدة بمقدار المسافة بين الماضي البعيد الراسخ والحاضر الهش والمضطرب، ولكن ذاكرة الطفولة العراقية تأخذ الحفيدة إلى المكان الأول بقوة، وحين تغادره وترجع إلى أميركا، فإنها تترك نصفها في بغداد.
ومَن يقرأ عمل كجّه جي الأول، من دون ان تكون لديه فكرة مسبقة عنها، يعتقد انه امام كاتبة روائية اصدرت قبل ذلك أعمالاً عديدة. إن مصدر هذا الانطباع هو تمكّنها من أدوات الكتابة واتقانها للصنعة الروائية، حيث يخلو عملها الروائي من الزوائد التي لا تخلو منها البدايات، وربما يعود ذلك إلى خبرتها الصحافية الطويلة التي حصّنتها بحس عال ضد الرتابة والإنشائية. ولذلك يصاب القارئ بالفضول للبحث عن أعمال أخرى للكاتبة التي كان لأعمالها مكان مميز في المسابقات الروائية التي يعود لها القسط الأكبر من شهرة الكتابة، وكذلك الترجمات التي نقلت أعمالها إلى لغات عديدة.
مستويات السرد مختلفة بين كل عمل وآخر. في العمل الأول هناك تداخل في مستويات السرد، بينما تعتمد رواية “الحفيدة الأميركية” على الوحدة النصية التي تتخلّص منذ البداية من قيود الكتابة التقليدية، لتأخذ نمط كتابة الذات، أي استخدام أسلوب السرد الذاتي (الكاتبة) والسرد الروائي (تسلسل الأحداث بمنطقية) القائم على السيرورة الزمانية الخارجية التي يبدو فيها الزمان سريعا، يتحرك من دون توقف بين وعي الكاتبة للتناغم بين الزمنين الفني والخارجي، ومع ذلك فإنني أميل لوصفها من جنس الرواية التي يطغى فيها المضمون على الشكل، رغم تلازم السرد والوصف فيها إلى حد كبير، الأمر الذي دفع بعض النقاد لتصنيفها في خانة الكتابة الروائية المستفيدة من أدوات الصحافة. وهى بتدخلها في تسلسل السرد الروائي قد جعلتنا نشعر بوجود قلم آخر غير الراوي، هو قلم الكاتبة الساردة العليمة بما تكتب، بل وبتوجيهها لمسيرة السرد إلى تفاصيل مغايرة عن السرد الحكائي لتسلسل الأحداث العامة بشكل هارموني، أو بشكل حتى مبسط. لذا تندرج هذه الرواية في سياق مغاير ألفناه من شكل للرواية العربية.
من الملاحظ أيضاً أن الكاتبة تنظر إلى موضوع العمل، وهو احتلال العراق، من زاوية واحدة والاتجاه نحو الكشف المتعاقب، ويقع منظارها على فئة اجتماعية محدودة. وأعتقد أن ذلك يرتبط بموروثها الشخصي الحميم، لذا أرادت ان تكتب رواية وتسجل شهادة على مرحلة صعبة من تاريخ بلدها، من دون اسقاطات متعسفة.
ولا تبتعد كجّه جي في الروايتين اللاحقتين “طشاري” و”النبيذة” عن الثيمات التي حفلت بها “سواقي القلوب” و”الحفيدة الأميركية”. وتحضر فيهما حكايات الوطن والمنفى والاقتلاع والتمزق الذي شهدته الأسرة العراقية بسبب القمع، ومن بعده وقوع البلد تحت الاحتلال. والملاحظة الجديرة بالاهتمام هي حضور المرأة القوي في أعمال الروائية الأربعة. “سواقي القلوب”: شخصيات نسائية متعددة. “الحفيدة الأميركية”: الجدة والمترجمة. “طشاري”: الطبيبة الأم والطبيبة البنت. “النبيذة”: الصحافية تاج الملوك عبد المجيد. وغالبية هذه الشخصيات تأتي من بيئة قريبة من الطبقة الوسطى التي تحظى بمستوى جيد من التعليم والثقافة، وعلى صلة مع العالم الخارجي، وتلتقي أيضاً عند مسألة الانتماء القوي للعراق. ويشكل حضور باريس في كل الرويات وجها آخر، الحرية. غير وجه بغداد في زمني الديكتاتورية والاحتلال الأميركي الذي أعاد البلد قرنا إلى الوراء.
هناك سؤال ظل يراودني وهو إلى اي مدى يشبه نص إنعام كجّه جي حياتها؟ وجاء هذا السؤال من تقاطع أفكار شكلتها من خلال معرفتي بالكاتبة في باريس، منذ أكثر من 25 عاماً، تخللتها لقاءات مع بعض أفراد أسرتها في بغداد وباريس، وبعض صداقاتها الحميمة من العراقيين وغير العراقيين، لا سيما الصديقة التي لم تفارقها في باريس الصحافية التونسية جليلة الدخلاوي، والكاتب صموئيل شمعون. وشكّلت جليلة وصموئيل جانباً كبيراً من فضولي لمتابعة أعمال إنعام منذ زمن طويل، وساهما في تشكيل صورة لها لدي بوصفها عراقية باريسية. والشخصية الروائية التي فتّشت عنها ولم أجدها في أعمال كجّه جي حتى الآن هي سامي بابيان، والذي تعرفت إليه في بغداد في نهايات الحرب العراقية الايرانية عن طريق الصحافي اللبناني فؤاد حبيقة، مدير مكتب مجلة “الأسبوع العربي” في باريس حينذاك. زارنا في فندق بابل برفقة زوجته إلهام (شقيقة إنعام الكبرى) مديرة مدرسة في بغداد، لكنها وجه آخر لبغداد التي كانت تمثل بثقافتها وسلوكها العراق منذ فترة الزمن الانكليزي والملكية. وفي السهرات مع الزوجين اكتشفت بغداد أخرى ذات صلة وثيقة بالماضي الذي تأسس نحو الحداثة. وسامي رجل أعمال على مستوى من النجاح. كان همه الأساس أن يحصل على تأشيرة سفر لزيارة والدته التي هاجرت الى أميركا، وكان يهاتفها كي يقول لها لا تموتي أنا قادم. لكنه لم يتمكن من ذلك.
هذه الحادثة ليست معياراً للحكم على أعمال كجّه جي، لكنها تصلح مدخلًا لروايات جديدة ينتظرها القرّاء بلهفة، خصوصاً أنها بدأت في عملها الأخير تقترب من سيرة عائلتها، وهي المسيحية العراقية التي تنفرد برسم خريطة روائية للشتات العراقي.
أعمال إنعام كجه جي صدرت عن “دار الجديد” البيروتيّة. “الحفيدة الأميركيّة” و”طشّاري” و”النبيذة”، وصلت إلى لوائح جائزة الرواية العربيّة القصيرة وترجمت إلى لغات شتّى.
“لورنا” كتابها الأوّل وهو قصّة لورنا جواد سليم، صدر العام 1998.
المدن