الشيطان عبر العصور : من ملاك إلى الزعيم القائد/ علاء رشيدي
يبقى الشيطان أو الشر الأساس قائماً في الثقافة والفكر الإنسانيين، فالشيطان ابتكار إنساني في النهاية.
ما هي سمات الشيطان المعاصر؟
ساتان، إبليس، الشيطان، لوسيفير، مفستوفيليس…
يختار الروائي ميخائيل بولجاكوف في روايته “المعلم ومرغريتا”، المكتوبة في أربعينات القرن العشرين اسم “فولند”، ليفتتح القرن العشرين باستمرارية حضور الشيطان في الأعمال الأدبية، إذ حملت تلك الرواية الرعب الذي عاشه الفنانون الروس في ظل القمع الستاليني.
كل الأسماء السابقة هي لشخصيات تخييلية، أدبية، فنية. وأضافت الباحثة الألمانية حنة آرنت، هتلر إلى أسماء الشر في العصر الحديث. لكن انتقال هوية الشيطان من الشخصيات الأدبية إلى الشخصيات الواقعية أمر في غاية الصعوبة، إذ يمكن الرد ببساطة بأن الرئيس الأميركي هاري ترومان والذي أمر بإلقاء القنبلتين النووتين على هيروشميا وناكازاكي في اليابان،هو الشيطان الأكثر إيذاءً للبشرية في القرن العشرين، بينما يعتبر آخرون أن العالم المكتشف للقنبلة النووية هو أساس الشر.
ما أن نبدأ بالتسمية حتى تتفرق الآراء، وتتحكم الإيديولوجيات في الاختيار، فلاديمير بوتين أم دونالد ترامب؟ بشار الأسد أو أبو بكر البغدادي؟ المسؤول الفاسد أم صهره أم زعماء الطوائف الذين يكرسون الدين لخدمة مصالحهم؟ كذلك فإن الأمر لا يتعلق بالأسماء، بل بالأفعال الأكثر شيطانية.
نشأة جهنم مع ولادة العالم الجديد
ولد الشيطان في الشرق الأوسط، وذلك بحسب التوراة في العهد القديم الذي يسميه “ساتان”، وكذلك المتهم The Accuser. بهذه الإفتتاحية يبدأ غريغ مودي فيلمه “تاريخ الشيطان”، 2007، ليذكر بأن الشيطان كان ملاكاً أدى أكبر الخدمات للرب حين اختاره ليصبح الملاك المتمرد، العاصي، الملعون. وفي الإطار نفسه، يعتبر المفكر السوري صادق جلال العظم في نصه “مأساة إبليس”، أن مصير الشيطان كان مقرراً له مسبقاً من قبل الرب، ما يجعله شخصية تراجيدية، فرض عليه دوره فرضاً في قصة الخلق، أي أن يعرف الحقيقة، بأن الإنسان سيعيث فساداً، وأن يرفض الطاعة، وأن يُلعن. ففي البدء كان الشيطان ملاكاً، كتب له الله أن يعارض خلق الإنسان، فيخصص له “الجحيم”.
ولدت “جهنم” كمكان لعنة للشيطان، قبل ذلك لا تذكر النصوص مكاناً باسم “جهنم”، بل “آيش” وكان للأخيار والأشرار. لكن العصر الحديث أبدع جهنم الحقيقية الأكثر رعباً وجنوناً مع اكتشاف العالم الجديد. فالجحيم هو ما عرفه شعوب الأميركيتين مع وصول الغزوات الأوروبية إليها في القرن الخامس عشر من إبادة شبه شاملة. لقد ولد العالم الجديد للإنسانية على أنقاض جثث وأشلاء الملايين من السكان الأصليين لأميركا، حضارات كاملة أبيدت بأشنع أنواع القتل، وأفتك الفايروسات.
لبنان المحكوم من إله الشر- الظلام
منذ تلك اللحظة من الحكاية، والنعيم والجحيم متجاوران، بإمكاننا النظر إلى الفارق الطبقي في لبنان، خصوصاً في المرحلة الحالية، لنتبين البنايات الفارهة وحياة البذخ لأصحاب رؤوس الأموال المشيدة رفاهيتهم على بؤس الطبقات العاملة، فجاء في تقرير منظمة “أوكسفام” أن 5 في المئة من الشعب اللبناني يستحوذون على 95 في المئة من الثروات. تمكن الاستعانة برؤية الديانة الزرداشتية عن الخير والشر منذ 3500 عام، لإسقاطها ببساطة على لبنان. بحسب زاردشت هناك إله للخير أهورمازدا، النور، النظام، الصدق، والإله الشرير أهريمون، الظلام، الفوضى، الكذب. يرى زرداشت أن العالم هو صراع بين هاتين القوتين، وعلى الجميع أن يأخذ موقفاً من هذا الصراع. وبالانتقال إلى لبنان، فإن أصحاب الثروات والسلطة هم أنفسهم السبب في عيش المجتمع في الظلام، بسبب السرقات والفساد في قطاع الكهرباء التي يرتكبها مسؤولون ووزراء ومقاولون. فالثروات الكبيرة، والسلطة في الممارسات، يضاف إليها إغراق المجتمع في الظلمات، هذه هي تماماً مواصفات أهريمون إله الشر-الظلام في الرؤية الزرداشتية.
صلاحيات الشر المطلق: الحزب، الجيش، الأمن
لم تعد صورة الشيطان القديمة مؤثرة بالثقافة اليهودية، فجهنم اكتسبت اسماً معاصراً وأشد خيالاً في الوحشية، إنها محارق أوشفيتز ومعسكرات الاعتقال التي خسر فيها ملايين اليهود في أوروبا حياتهم. هذا المكان المهلك لا علاقة للشيطان به، بل يدار بعناية من قبل قائد الحزب، الأب القائد، الذي امتلك مع البطش سلطة أقوى من السلطات السماوية، إنها سلطة الخوف والقمع، التي منحته قيادة الحزب، رئاسة البلاد، ريادة الجيش، والحكم النهائي على أجهزة المخابرات والأمن. هذه هي الصلاحيات التي سمحت بابتكار جهنم تصنف من الأعنف على مستوى التاريخ، سواء في ألمانيا النازية، إيطاليا الفاشية، كوريا الشيوعية، سوريا البعثية.
حقيقةً، كان اليهود أول من منح الشيطان بعداً سياسياً، وذلك خلال فترة حكمهم من السلطة الرومانية، لقبوه بـThe Beast 666، وهي كلمة كانت تدل على القيصر الروماني بشكل مضمر. لكن كيف تحول الشيطان في الحكاية من الملاك المحكوم إلى الحاكم، من التابع إلى المركز. سيتكرر التحول باستمرارية عبر التاريخ، فبعد 4 قرون، ستصبح الإمبراطورية الرومانية امبراطورية مسيحية، ويصبح الدين صاحب القوة الخارقة والقدرة على البطش. لقد أخذ الدين الشوكة القديمة التي كانت بيد ساتان. تحت ذريعة الدين، سيقتل الناس بتهم الهرطقة، وشبهات الكفر، وتحرق نساء تحت حجة السحر، وفي تلك الفترة ظهرت للمرة الأولى تهمة “أعداء الله، عملاء للشيطان”، وهي ما زالت فاعلة حتى اليوم في الفكر التكفيري، من تنظيم “القاعدة” وحتى “داعش” أو حملات تكفير رسامي الكاريكاتير ورسامي القصص المصورة وقطع رؤوسهم، كما حصل راهناً.
الوحي الإلهي للرئيس
كما بطش الرومان باليهود والمسيحيين الأوائل، أخذ الدين على عاتقه استمرارية التكفير و”التطهير” من أعداء الله وأصدقاء الشيطان الذين يحددون وفقاً لهوى السلطة الدينية الجديدة. وسيستمر الأمر على هذا المنوال، دوران سلطة البطش والانتقام حتى يومنا هذا. فقد أعاد إحياء الفكرة بقوة في السنوات الأخيرة هرم السلطة في الولايات المتحدة، وهو الرئيس جورج دبليو بوش، الذي قال: “الشر موجود حقاً. ونحن الخير فإما أن تكونوا معنا أو ضدنا”، وبعد أسابيع، أضاف نبوءة وحي: “لقد سمعت صوت الله يطلب مني الذهاب إلى العراق”، وهكذا بإمكان الضحايا العراقيين على مدار نحو 17 عاماً أن يخبرونا كيف يولد جحيم المأساة العراقية على يد الوحي الإلهي، بحسب مزاعم جورج بوش. كيف يمكن التذكير بالصورة التي تسربت من سجن أبو غريب، حيث السجين المعذب والمربوط إلى أسلاك الكهرباء، وهو يرتدي قلنسوة تغطي وجهه، ويبدو منهكاً وقابلاً للسقوط، لكن القائمين المستمتعين بعمليات التعذيب من الجنود الأميركيين من الإناث والذكور كانوا يرغبون بالتقاط الصورة، لتبقى شاهدة ليس على شيطانيتهم، بل على شيطانية رئيس أميركي مقبل وهو دونالد ترامب، والذي عفا منذ أيام بموجب صلاحياته الرئاسية مرتكبي جماعة “بلاك ووتر” من أفظع مجزرة ارتكبوها في العراق. وهكذا، نتأكد في كل يوم من قدرات الشر في العثور على شيطانه في أكثر الثقافات تقدماً وتطوراً.
جسد الشر أنثوي
لا يمتلك الشر مساحةً من الثقافة الرمزية وحسب، إنما له مع حالة بوش وترامب جسداً معاصراً ثرياً وهو الأكثر تصويراً وظهوراً في الإعلام العالمي. العودة إلى التاريخ تكشف لنا الحاضر. كذلك، كان للشر جسد المرأة، شهوانيتها هي الخطيئة، منبع الشر المستمر، منذ خضعت لإغواء الحية في العهد القديم. ترسخ قصة الخلق قناعة بأن الشر الأدهى آت من جسد المرأة، التي وكما يتعجب غريغ مودي تقع في غواية الشيطان، على رغم بشاعة هذا الكائن وقذارته. وكانت كتابات القديس أوغسطين ركزت على القدرات الجنسية للشيطان، فشرح بوجود أنيكوابيا: جني يغوي النساء ليلاً، وساكوباي: الجنيات اللواتي يغوين الرجال. يكمن الشر إذاً في الإغواء الجنسي، ويتكرس عبر الثقافة في جسد المرأة، العورة، الدافع إلى الشهوة، بينما يتابع الرجل تعدد الزوجات والخادمات والوصيفات. ليلتصق وسم الكائن المنقاد لنزاوته على المرأة وحدها. ويمارس الختان بنسبة 85 في المئة من نساء مصر والسودان، إن النعيم أو الجنة الذكورية متخيلة، بأجساد إناث بلا بظر، وبلا شهوة.
ويحمل أشهر أفلام السينمائية الإباحية في السبعينيات، والذي استمر يعرض لسنوات في صالات السينما، بعنوان “الشيطان في السيدة جونز”. يمتلك الفيلم حكاية تشمل الكثير من العناصر بين الجنة وجهنم، الحياة والحساب، الموت والعودة إلى التمتع بالشهوة. وفي النهاية، يرسم الفيلم جهنم بطريقة جديدة، إنه جسد السيدة جونز بشهوانيته وجنسانيته في غرفة مغلقة مع رجل يهتم بأصوات الذباب أكثر من التواصل معها. افتتح هذا الفيلم سلسلة لا نهائية من الأفلام، بعناوين ملأت الصالات لسنوات متواصلة، مثل “الشيطان في السيدة جونز بداية جديدة”، “الشيطان الجديد في السيدة جونز، البعث، القيامة”، حتى أصبحت غريزة الحياة، أي أيروس بحسب تعبير فرويد، على كونها خطيئة تتوجب الرجم في العراق وإيران، والقتل في سوريا ولبنان من ضحايا جرائم تحت ذريعة الشرف، وشرعت عبر القوانين، التي تعفي عن الجناة، المجرمين، المغتصبين بحرص على ألا يلقى الرجل العقاب الملائم على جرائمهم. لكن الأخطر تجلى في مستوى الحقوق، ترث المرأة في الإسلام نصف ما يرثه الرجل. لقد وظفت صورة الجسد الشيطاني للمرأة في القوانين الوضعية. وفي لبنان وسوريا لا تملك المرأة حق إعطاء الجنسية لأبنائها وبناتها، ذلك أن الذرية الأنثوية شريرة، تفسد نقاء السلالة.
الشيطان هو الآخر
مع دخول الشيطان إلى فضاء الجسدي الحسي، امتلك قوة لا تقاوم، واضطرت الكنيسة إلى الاعتراف بقدراته الحسية. يؤكد المؤرخون المختصون في تلك الفترة، أن القوانين الكنسية سمحت بالتعذيب شرط أن يقع على غير المسيحيين، أي على اليهود والمسلمين. وهكذا، تحول التعذيب إلى لذة، شرط أن يكون محدوداً، بدون دماء، ولا إعاقات دائمة.
ومع ظهور الإسلام، تلبّس الشيطان تماماً بصورة المسلم. حتى أن الملك الفرنسي فيليب لابل 30 م، هاجم سفيره الخاص لأنه تفاوض مع المسلمين “أتباع الشيطان”، ليعلن عام 32، الحرب ضد أتباع الشيطان، الحرب ضد إبليس. الذريعة نفسها، التي استعملتها السلطات السورية، وغيرها من السلطات الدينية والعربية التي لم تستسغ جماليات موسيقى الآلات الإلكترونية، غيتار كهربائي، درامز كهربائي، لتطلق على محبي هذا النوع من الموسيقي لقب عبدة الشيطان وتطلق حملة اعتقالات واسعة في التسعينات أدت إلى دخول مبدعين، موسيقيين وموسيقيات إلى المعتقلات، بتهمة عشق الشيطان، وكذلك الأمر في لبنان. وهنا بالتالي، فالآخر ليس الدين المغاير فقط، بل الأنواع الفنية المغايرة. راهناً، اعتقلت السلطات الفلسطينية الموسيقية سما عبد الهادي، واحدة من أبرز مدمجات الموسيقى العربيات، ويذكر أنها كانت من بين الموسيقيين العالميين الذي أقاموا حملة دعم كبيرة لمدينة بيروت بعد الآثار المدمرة لجريمة انفجار مرفأ المدينة. وهي الآن معتقلة تحت ذريعة أن هذا النوع الموسيقي لا ينتمي إلى التراث العربي والفلسطيني.
الشيطان، الزعيم، يمنح المزايا
لا يمكن تحديد بداية التفكير بالاستفادة من قدرات الشيطان واستعمالها في سبيل تحقيق منفعة الإنسان، قال مايك ستود: “الشيطان يمكن أن يجعلني غنياً، والشيطان يقدر أن يجعلني مرغوباً”، ومن تلك المرحلة تحديداً المرحلة الرومانسية، تغيرت حال الشيطان من الملعون إلى الكائن القادر على امتلاك مزايا النجاح، والثراء والسلطة. وهنا بلغت صورته أعلى تألقها. فظهرت أشهر شخصيات الشيطان باسم مفستوفيليس في المسرحية الشهيرة “فاوست”، لغوته. أصبح كلي القدرة، رفيع الثقافة حيث يظهر لفاوست حين يعجز الأخير عن المعرفة، يساعده مفستوفيليس على تحقيق طموحه للمعرفة، وكذلك النزوات والانحرافات، كيف أصبح الشيطان عارفاً، وكلي القدرة؟ كيف تحول من ملاك إلى العارف الكلي القدرة. يقول دانيل ديهيل من جامعة “أوكسفورد”: “كان الشيطان ملاكاً ومنحه الرب القدرات”، ويمكن القول إن الإنسان هو الذي منحه صفاته عبر العصور. كذلك الحال مع الزعيم الطائفي، كيف أصبح الأقوى، الأفهم، والقادر على القيادة، إنها رغبة الناس في الاستفادة منه للمنفعة الفردية: “الزعيم الطائفي يمكن أن يجعلني غنياً، الزعيم الطائفي يقدر أن يجعلني محمياً”. هكذا قويت شوكة الشيطان والزعيم، من خلال علاقة منفعة متبادلة بقبول السلطة غير الشرعية.
تبدأ السقطة تحت لوائه من محاولة تبرير الشر بكونه فلهوية وحلالاً على الشاطر، مبدأ أخلاقي يتبعه محمد بن سلمان بعد ذبح خاشقجي، وبوتين بعد تسميم معارضيه، وتتبعه منظومة الفساد والبطش في سوريا. فالشطارة والفلهوية في الثقافة السائدة تعنيان حتماً التلاعب والتحايل. وتقول العرب عن ذلك ذكاءً، وشطارة. وإلا كيف يمكن فهم أن يجوع لبنان ويفقر بينما بعض أصحاب رؤوس الأموال يتباهون بما فعلوه من إخراج مبالغ خيالية بعد ثورة تشرين 2019. يتحدث خبراء اقتصاديون عن مليارات الدولات أخرجت وبينما يعي أصحابها بأن الآثار ستكون مدمّرة على المجتمع، النجاة الفردية هي فلهوية، شيطانية. وإلا كيف تغرق بيروت بالعتمة، ويفتقد الناس المازوت، وهو يهرب بالشاحنات إلى سوريا، كيف يفضل المهرب أن تنار مدن أخرى من خيرات بلده، بينما تغرق مدينته في الظلام والتراجع؟ إنه إله الظلام الزراداشتي.
الشيطان شخصية إعلانية جذابة
بعد الثورات الفرنسية، أصبح الشيطان بطلاً يحارب ضد السلطة، وأصبح شجاعاً. ففي العصر الرومانسي امتلك الشيطان مزايا المتمرد، المختلف، والمثقف. لكن هذه الصورة ما تلبث أن تتغير مع العصر الاستهلاكي، ليصبح الشيطان هو ذلك الرجل الأنيق الذي يرتدي زياً أسود أنيقاً، ورداء وهو يأكل الشوكولا أو يشرب الويسكي. لأن الشر الحقيقي لم يعد مجسداً بشخصية، بل بمنظومة الاستهلاك. فإقامة النظام الاقتصادي العالمي على فكرة الاستهلاك، تتبوأ بريادة أحد أكثر أفكار الشر التي ابتكرتها التجربة الإنسانية وحشية وتهوراً، حتى أمكن استعمال الشيطان نفسه كمروج للاستهلاك. لقد أصبح الشر بعيداً وعميقاً، يتجسد في نهم الإنسانية للاستهلاك، واستعملت دراسات علم النفس لأجل صناعة الرغبات الاستهلاكية والسلطة السياسية، كما تبين سلسلة مقالات الكاتب عبد الله حسن على موقع “درج”، تحت عنوان “عصر صناعة الرغبات والديكتاتوريات المستنيرة”.
“ألعن من الشيطان”
تدرج في العامية مقولة أو توصيف أحدهم بـ”أكثر أبلسة من الشيطان” وهو تعبير شائع حد اعتباره أمثولة. وهي الفكرة التي تقوم عليها الحلقة العاشرة من سلسلة مسرح الدمى لفرقة “مصاصة متة”، المخصصة لشخصية الدمية “بيشو”، التي تجسد الرئيس السوري، تحمل هذه الحلقة عنوان “ثالثهما الشيطان”، حيث الدمية بيشو حائر التفكير كيف التعامل مع التظاهرات الحاصلة في البلاد، ويتمنى لو يتواصل مع والده الأب ليساعده، فيظهر على المسرح حضور صوتي يمثل الشيطان أو صوت الماوراء، لتبدأ الحوارات بين بيشو والشيطان، والإقتراحات عن كيفية إيقاف التظاهرات: “اعتقال نصف الشعب، تهجير النصف الآخر، تدمير القرى، والقتل لإشاعة الخوف”، لتنتهي الحكاية وكما في الأمثولة الشعبية، حين الشيطان يعترف بعجزه عن مجاراة درجات الشر أو الأذى في فكر بيشو. تبين الحكاية أن خيال الشيطان الشرير محدود بالشفقة أو القلق من المبالغة، لذلك فإن أفكار استعمال السلاح الكيماوي على مناطق بعينها لا يجرؤ الشيطان على التفكير بها، فكيف بتنفيذها ؟ فلكل عصر، وحضارة وثقافة، ابتكارات جديدة في فكرة الشر. فالعلوم والابتكارات الإنسانية قادرة على توليد الخير، بمقدار ما يمكن توظيفها في تنفيذ خيالات جديدة ومبتكرة من الشر لم تعرف سابقاً. فاستعمل الغاز، والسموم المعدلة، والأسلحة الكيماوية، والقنابل النووية، وحتى الطائرات النفاثة استعملت بطريقة جهنمية في إسقاط برجي التجارة العالمية مع 3000 ضحية.
منهجيات تبرير الشر وقيادة الزعيم
إذاً، يبقى الشيطان أو الشر الأساس قائماً في الثقافة والفكر الإنسانيين، فالشيطان ابتكار إنساني في النهاية. والآن، بإمكاننا القول إن أي إنسان خطاء، وإن نيرون، هتلر، ستالين، السيسي، محمد بن سلمان، بشار الأسد، كلهم شخصيات قابلة لارتكاب الأخطاء وخصوصاً أنها في موقع القيادة، لكن جوهر الشر، أو إكساءه الحال الواقعية والمستمرة، يكون على أيدي أولئك الذين يساهمون في إيجاد المبررات والدفاع عن هذه الأفعال. فالإعلامي، المثقف، الفنان، إذ يساهم في بناء سردية تشرعن العنف، أو تبرره، أو حتى تقترح عليه أفعالاً جديدة حاضرة في حياتنا الثقافية والتلفزيونية والإعلامية، يسهم في إنضاج الكتابات الإعلامية واللقاءات التلفزيونية بالشخصيات التي تبرر للمجرمين أفعالهم، وتمنحها الحجج والمبررات. يظهر ذلك بين أنصار الرئيس عون أو غيره، حين يبررون كل الأفعال التي يقدم عليها بالحكمة، ويرتكبها أيضاً أتباع “حزب الله”، أو أي مسؤول آخر يقدم على الخطأ. لقد كان إبليس صادقاً مع الله وآدم، لكن الأبواق الإعلامية أو الأنصار الحزبيين لطالما استطاعوا أن يعموا الأعين عن بعض الحقائق، لكن ذروة هذه الأفعال الشيطانية، هي حماية الرئيس ميشال عون بعض الموظفين المتهمين بانفجار مرفأ بيروت، وكذلك حماية سعد الحريري الرئيس المطلوب إلى التحقيق حسان دياب بذريعة حماية موقع رئاسة الحكومة “السني”. لا داعي للدهشة، لقد خلقنا بتبعيتنا لشيطان يفاجئنا بعمق احتقاره لنا.
جهنم في مخيم
يروي الشاهد من مخيم المنية على المحطة التلفزيونية اللبنانية: “حاوط الرجال المخيم، ومنعوا خروج السكان، وأضرموا النار، بينما اضطر اللاجئون إلى إلقاء بأبنائهم وبناتهم من فوق الجدار”. هذه الصورة مثلت لحظة شيطانية في ذهني، خصوصاً أن النيران تلتهم الجحيم من خلفها. لا يتوقف الأمر على فعل لبناني بآخر سوري، فالسوريون ارتكبوا المجازر ببعضهم بعضاً أيضاً، لكنها صورة مثُلت كرمزية مباشرة للجحيم، لكن علينا أن نتذكر درس هذه الرحلة في تاريخ الشيطان، الفاعل ليس إلا مرتكب الخطيئة، والشر يكمن في مكان آخر. لم يعد المسؤول عن انفجار مرفأ بيروت هو الشيطان، بل المساعد على الإفلات من العقاب، وهذا يشملنا جميعاً.
المشعوذ يؤسس طائفة جديدة
في الخاتمة نذكر كيف تأسست كنسية الشيطان عام 1966، على يد المشعوذ أنطوني لافي، في سان فرانسيسكو. كان الناس يأتون إلى بيته ليحل مشكلاتهم مقابل دولارين، وبعد ازدياد شعبيته نصحه أحد أصدقائه بتحويل منزله إلى كنيسة، وراح يتوافد إليه الناس من كل طبقات المجتمع: طلاب، عمال، مثقفون. وهكذا تشكل زعيم ديني أو طائفي جديد، كما نعرف، من الخوف والإيمان بالخرافة، وشيد ديانة جديدة، قال عنها في تصريح إعلامي: “نؤمن بالجشع، نؤمن بالأنانية، نؤمن بكل هذه القيم التي تحمس الإنسان، لأن الإنسان بحاجة إلى الحماسة”. من دون أن يبين الحماسة لأجل أي فعل، تهريب الأموال، نهب البلد، أم الجشع في المناصب الوزارية، بينما الناس يعانون من شدة الفقر، البطالة، ألم التفجير، وبالأدق تعاني من تبعية الزعيم الذي يبدأ كعرافة أو منجم وينتهي للتحكم بمصائر الجميع.
درج