الفردانية المُعطّلة والاستثمار السياسي للاكتئاب/ محمد سامي الكيال
يسخر المفكر الإيطالي جورجيو أغامبين، بمرارة بالغة، من الادعاء بازدهار الفردانية في عصرنا، خاصة في شروط العزلة، التي تفرضها إجراءات العزل والإغلاق، المرتبطة بمكافحة فيروس كورونا. بالنسبة لأغامبين فنحن نشهد «حشداً سلبياً» أي مجموعة من البشر، يجمعهم تراصهم وسلبيتهم، ورغبتهم بالحفاظ على مسافة في ما بينهم، ويقومون، بشكل موحّد ومتحمس، بفرض الحظر على أنفسهم.
في هذا الشرط يصعب الحديث عن خصوصية أو فرادة، بل عن أشخاص، يقومون، بكل طوعية، بتكرار كل الممارسات القطيعية، ولكن بشكل مُفرد ومعزول. وبالفعل يمكن ملاحظة الخلط الحاصل في الأيديولوجيا المعاصرة، خاصة ما يسمى منها بـ«الليبرالية» بين الفردانية والعزلة، فالفردانية لا تعني بالضرورة بقاء البشر المُفردنين في وحدة مفرطة، أو افتراضهم الحق بوجود دائرة سحرية حول أجسادهم وذواتهم.
ازدهرت الفردانية تاريخياً في شروط شديدة الجمعية، حين اعتبر الفرد، المساوي للذات القانونية البورجوازية، أنه غير ملتزم بالضرورة بالروابط الاجتماعية التقليدية، وقادر على الدخول في روابط حرة وتعاقدية مع آخرين، قائمة على المصلحة والرغبة والتوافق الفكري. ولم يُعرف دعاة الفردانية، غالباً، إلا من خلال روابطهم الجمعية، مثل التجمعات النقابية والمهنية، ومن نماذجها الأولى اتحادات التجّار، في المدن البورجوزاية المتحررة من سلطة الامبراطوريات القروسطية؛ والتجمعات السياسية والثقافية والعلمية، ومنها لقاءات المفكرين والأدباء في صالونات عصر التنوير الشهيرة، فضلاً عن تثوير النزعة الفردانية للعلاقات الشخصية، لابتكار أشكال جديدة من الروابط العائلية والعاطفية، المتحررة من مأسسة التقاليد.
باختصار كان دعاة النزعة الفردية، غالباً، أقل الناس تعرّضاً للوحدة، وأشدهم ارتباطاً بالدعوات الاجتماعية، ورغم نقد الحركات العمالية للفردانية البورجوازية، فإنها ورثت عنها مبدأ الحق بتشكيل الروابط الحرة، وأحقية البشر في «الشجاعة في استخدام العقل» وهو المبدأ التنويري الأساسي، ضد كل وضع اجتماعي لا يبدو عقلانياً أو عادلاً، وحق الفرد بالتطور الحر ضمن الجماعة، وبالجدل معها.
يمكن أيضاً ملاحظة ظاهرة أساسية أخرى في «الحشد السالب» وهي الميل الدائم لطلب الدعم والتمكين، ولكن ليس من الآخرين، أو المجتمع بشكل عام، الذي بات مصدراً محتملاً لخطر ما، سواء كان العدوى أو التمييز أو «العدوان المصغر» بل من مؤسسات متخصصة واحترافية، تمتلك نمطاً من الصواب، المحدد بشكل متعالٍ ومسبق، وتلعب دوراً إرشادياً وتربوياً، مثل المنظمات غير الحكومية ومؤسسات الطب النفسي، فيصبح الشعور الدائم بالأذى والاكتئاب، محدداً أساسياً للذات الفردية، وكأن خصوصية الفرد لا تنبع إلا من عمق وشدة ما تعرّض له من اضطهاد وظلم، والمزاودة بذلك على الآخرين، الذين قد ينتمون إلى هويات تحتل مكانة أقل في هرمية الضحايا. فما النتائج الاجتماعية لهذا النمط من الفردانية؟ وهل أصبح الاكتئاب والعزلة عاملين أساسيين في السياسة والسلطة المعاصرة؟
الهوس بالأذية
لعب النقد الاجتماعي والأيديولوجي المعاصر، دوراً مهماً في كشف أشكال الهيمنة والتمييز المعاصرين، إلا أن انتقاله من تحليل الشروط الواقعية الصلبة للاستغلال والاضطهاد، مثل توضيح أنماط استغلال العمل الإنساني، بمعناه الأشمل، المادي وغير المادي؛ وأشكال العنف الرمزي والهيمنة الأيديولوجية، إلى البحث عن أشكال «مصغّرة» ولاواعية من العدوان، قابلة بشدة للتأويل الشخصي، المرتبط بتجارب المضطهدين الذاتية وحساسياتهم غير القابلة للترجمة للغة عقلانية وعامة، ساهم بنوع من الهوس الارتيابي بالأذية: أجسادنا محاطة، في كل مكان، باحتمال التعرّض لاعتداءات الآخر، التي يمكن أن تكون بالغة الصغر، لدرجة قد لا ندركها إلا بشكل غير مباشر، أو بكثير من سوء النية، النابع من شعور مبالغ به بالظلم والضعف. الجيرة الإنسانية تصبح، بهذا المعنى، عبئاً ثقيلاً، فمن الصعب أن يبني الفرد علاقات منتجة، في مجتمع مليء بمصادر التهديد، والظُلّام التاريخيين.
نقلت حركات التظلّم المعاصرة النقد الاجتماعي من تحليل المنظومات والبنى المُنتجة للاضطهاد، بشكل غير فردي أو ذاتي، إلى تأثيم هوية الآخر المفترضة، واعتباره ذاتاً منتجة للمظالم. وإذا كانت العلوم الاجتماعية المعاصرة قد اتجهت، في فترة ما، إلى المنظوماتية والبنيوية، في محاولة لجعل خطابها أكثر علمية وأقل أيديولوجية، من خلال استبعاد الذات والجوهر، لمصلحة ما هو نسق كلي أكبر من مجموع عناصره Holism، فمن الممكن اعتبار دعاوى التظلّم المعاصرة ردة إلى التصورات الأيديولوجية الذاتوية شديدة الانغلاق.
يمكن تفسير الشروط البنيوية لانتشار أيديولوجيا التظلّم بتدهور الروابط الاجتماعية، التقليدية والتعاقدية، مع انحلال مواطن العمل واللقاء العمومي التقليدية، فلم يعد بإمكان الأفراد الاعتماد على أكواد اجتماعية، مقبولة ومتعارف عليها، لبناء علاقاتهم، في الحيزين العام والخاص، فيصبح الاعتماد على هوية، تستمد حيثيتها من مدى تعرضها للأذى، تعويضاً أيديولوجياً لغياب الدعم المجتمعي. وتكتسب بذلك المشاعر السلبية، التي تولّدها العزلة، معنى ما.
من ناحية أخرى يبدو أن العزلة أحد الشروط الأساسية للمرونة الشخصية، التي يتطلبها سوق العمل الحالي، فالأفراد المتعلقون بروابط اجتماعية متينة، غير قادرين على أقلمة أنفسهم مع الشروط غير المستقرة للإنتاج المعاصر. وبات العاملون مضطرين لتسويق قوة عملهم بشكل مرن أيضاً، فلم يعد ما يبيعونه مقتصراً على المهارات العضلية والذهنية وحسب، بل صارت العوامل الثقافية والجندرية والعرقية، مما يمكن تسويقه والاستفادة منه. هكذا يغدو التركيز على الهوية والتظلّم شريكين للعزلة، في صياغة الأفراد القابلين للدخول في عالم العمل المعاصر.
لا يبدو كل هذا إيجابياً للغاية من منظور الصحة النفسية، فمشاعر الارتياب والحزن والاكتئاب والحقد، صارت شرطاً أساسياً للوجود الاجتماعي للأفراد، وتقوم عليها بناءات أيديولوجية وسياسية وثقافية شديدة التعقيد، تستثمر في أفراد مسجونين ضمن حدود غير مرئية، وغير قادرين على إطلاق حيويتهم، ما يجعلهم أكثر قابلية للخضوع لمختلف أشكال الهيمنة.
تقنيات غير اجتماعية
يبذل الأفراد عادة جهداً معيناً، في التعامل مع أجسادهم، وضبط أنماط سلوكهم، للوصول لحالة معينة، تؤمّن لهم اعترافاً اجتماعياً، وتكسبهم صفات مطلوبة ضمن الجماعة، مثل القوة أو الطهارة أو ضبط النفس. وقد تحدّث كثير من المفكرين عن تفكك الإطار الأخلاقي العام، الذي كان يوجه تقنيات الذات تلك، ويكسبها المعنى، في الشرط العقلاني الحداثي، الذي اهتم أكثر بأسئلة المعرفة والقانون، على حساب أسئلة الأخلاق والقيمة، فصار تجميع المعلومات عن الأجساد، وتعيين حدود السلوك القانوني، سابقاً على التعامل الأخلاقي مع الذات، وأصبح سعي الأفراد أكثر تركيزاً على غايات عقلانية، مثل الصحة والالتزام بالقانون، في ما بات السلوك الأخلاقي، الذي لا يمس الحدود، التي تعيّنها السلطة الحيوية القائمة، متروكاً لتقديرهم الشخصي.
إلا أنه يمكن الحديث عن نوع من عودة تقنيات الذات في شروط العزلة المعاصرة، فكثير من الأفراد يبذلون جهوداً شاقة، لتطويع أجسادهم وتصرفاتهم، بالتوافق مع قيم أخلاقية أو أيديولوجية سائدة، ويتبعون تعليمات معينة، في ما يخص غذاءهم وأنماط استهلاكهم وأساليب تعبيرهم، تنتشر بشكل جمعي عبر الشبكات الإعلامية ومواقع التواصل، ما يجعل الأفراد المعزولين شديدي التشابه والتكرار، رغم كل احتفائهم بالاختلاف.
اللافت في كل هذا الانهمام الأخلاقي بالذات، أنه لا يُعنى بإدماج الأفراد في روابط اجتماعية متينة، مثل كل الأطر الأخلاقية التقليدية، بل يقوم أساساً على ترسيخ عزلتهم، وتصليب الحدود في ما بينهم، بوصف الجهد الأخلاقي أمراً يتم في «المساحة الخاصة» للفرد، ويساهم في تحصينها وضمان خصوصيتها. يتكبّد الأفراد المعزولون كل مشقة تطويع الذات أمام المجموع، بدون أن ينالوا الأمن والحميمية، التي توفرها المجتمعات التقليدية. فلا يكتسبون ميزات الفردانية ولا الجماعاتية، ويعانون من كل مشاكلهما في الوقت نفسه.
البحث عن «فتحة»
ضمن هذا الشرط تغدو الصحة النفسية للأفراد عاملاً شديد الحضور في السياسات الحيوية المعاصرة، فيصبح التعامل مع البشر اليائسين والمتذمرين عبئاً على أنظمة اجتماعية، غير قادرة أو معنية بأداء وظيفة الاندماج الاجتماعي، فتلجأ لكثير من العلاج النفسي والسلوكي، الذي يسعى لجعل العيش في «المساحات الخاصة» محتملاً إلى حد ما، فيما يتسع تحديد السلوك الشاذ والمرضي وغير السوي، ليشمل مجموعات واسعة من السكان، يتم نبذها بوصفها متطرفة ورافضة للقيم المعاصرة. وإذا كان الأفراد المعزولون، والمتراصون بوصفهم حشداً سالباً ومُطوّعاً، الأكثر مناسبة للمنظومة الاقتصادية والسياسية والحيوية القائمة، فإن كل محاولات السعي للتغيير لا بد أن تُعنى، بدورها، بالجانب النفسي – الحيوي لهؤلاء الأفراد، وخلخة سياسات الاكتئاب السائدة، عن طريق كسر طوق العزلة المفروض عليهم. هنا تغدو محاولة ابتكار فتحات ومعابر في الحدود غير المرئية بين البشر، مساهمةً بإطلاق الحيوية بالاجتماعية، من خلال إعادة إنتاج مساحات عامة، تُفعّل فيها القدرات التواصلية للغة العادية، والمشاعر الأكثر إيجابية، مثل الثقة والتعاطف والمحبة. بهذا المعنى يغدو كسر «المساحات الخاصة» بدلاً من احترامها غير المشروط، أحد أكثر المهام السياسية ضرورة في عصرنا.
القدس العربي