تشخيص الدمار المجتمعي السوري
(1 من 3): العنف والنزاعات وآثارها
الفصل الأول مؤشرات العنف في سورية
أولًا عنف الأطراف المتصارعة في سورية
ثانيًا القتل والتعذيب والاختفاء القسري
ثالثًا انتهاكات حقوق المرأة
رابعًا انتهاكات حقوق الأطفال
الفصل الثاني مؤشرات النزاعات (الدينية، المذهبية، الطائفية، العرقية) في سورية
أولًا مظاهر التطرف الديني في سورية (2011-2020)
ثانيًا المذهبية الدينية في سورية (2011-2020)
ثالثاً الطائفية وارتكاب المجازر ذات النمط الطائفي في سورية (2011-2020)
رابعًا النزاعات التطرفية العرقية في سورية (2011-2020)
خامسًا تراجع ثقافة التسامح ونمو ثقافة الانتقام
الفصل الثالث عمليات التهجير والنزوح والتغيير الديموغرافي
أولاً عمليات التهجير والنزوح
ثانيًا التغيير الديموغرافي الممنهج
فريق عمل الدراسة: د. طلال مصطفى، د. حسام السعد و أ. وجيه حداد
ملخص الدراسة
1- بدأت حرب النظام على الشعب في سورية في آذار/ مارس عام 2011 بانتفاضة مدنية في وجه نظام حكم جاء بانقلاب عسكري سنة 1963 وأقام سلطة اتسمت بالاستبداد والتوريث. وقد اجتمعت شروط كثيرة دفعت السوريين إلى الثورة في مناخ مواتٍ ضمن مرحلة الربيع العربي. وبعد مرحلة قصيرة من انطلاق الثورة التي اتسمت بالسلمية، حولها النظام بشكل مقصود ومدروس عبر حله الأمني إلى صراع مسلح، شاركت فيه قوى إقليميّة وعالميّة. يشمل الصراع خمس قوى فاعلة لكل منها منطلقات أيديولوجية وتحالفات وأهداف مختلفة، وهي النظام السوري، المعارضة السياسية “المعتدلة” الائتلاف الوطني السوري، قوات سوريا الديمقراطية ذات الأغلبية الكردية، والتنظيمات الراديكالية “هيئة تحرير الشام”، وتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” الذي يتبنى منهجًا تكفيريًّا راديكاليًا.
هناك اختلافات كبيرة في وجهات النظر بين الأطراف المتحاربة بخصوص تحديد أسباب الحرب وتوصيف مجرياتها والتعامل مع نتائجها، وهو الأمر الذي أفرز منهجًا سياسيًا وعسكريًا لكل جهة، أفضى منذ البداية إلى العنف غير المحدود الذي مارسه النظام السوري بمنهجية، ثم الأطراف المتصارعة الأخرى بدرجة أقل.
2- منذ عام 2011، اختفى عشرات آلاف من الأشخاص على أيدي أجهزة النظام السوري. ونتيجة لهذه الحملة، تعرضت الحقوق الأساسية الخاصة بالمحتجزين المختفين للانتهاك وأعدم عدد لا يُحصى من الضحايا خارج نطاق القضاء. وقد مارست أطراف الصراع الأخرى عملية الإخفاء القسري -وإن كان بدرجة أقل كثيرًا من النظام- بعد الدخول في دوامة العنف السوري. وتعرض السوريون بصورة منتظمة -من جانب النظام بالدرجة الأولى- لأعمال قتل عمد تنتهك القانون الدولي. وسجلت حالات الوفاة في أثناء الاحتجاز زيادة ملحوظة. وسُجلت كذلك حالات وفاة ناجمة عن التعذيب في مراكز تخضع لسيطرة النظام السوري بالنسبة العظمى، ولدى أطراف الصراع الأخرى بدرجة محدودة. وما يزال التعذيب واسع الانتشار. إذ يسبب آلامًا ومعاناة جسدية ونفسية شديدة من أجل الحصول على معلومات أو انتزاع الاعترافات وعقوبة يراد بها التخويف أو الإكراه. وما تزال سوريا تتصدَّر دول العالم جميعها في ممارسة التَّعذيب -بحقِّ المعتقلين- الذي يؤدي إلى الموت في كثير من الأحيان.
3- عانت المرأة في “الحرب السورية” صنوفًا شتى من التعذيب والإخفاء والاغتصاب والتهديد، وهي اليوم تشكل أكثر من نصف عدد السوريين اللاجئين والمشردين داخليًا. ويعزى ذلك إلى التحاق الرجال البالغين بجبهات القتال أو تعرضهم للقتل أو الإخفاء أو الهجرة. ونتيجة لذلك شهدت سورية في خلال الصراع ارتفاعًا في عدد الأسر التي تعيلها امرأة. وغالبًا ما تكون المرأة، على الرغم من الصعوبات الكبيرة التي تعترضها، مقدمة الرعاية والمعيلة الأساسية لأطفالها. فقد أبرزت سنوات الصراع دور المرأة بصورة أكبر في ميادين السياسة والمشاركة في التظاهرات وأعدادهن بين المعتقلات، وشُكلت مجموعات حراك نسائي تطالب بصوت أعلى بحقوق النساء. من جهة أخرى تبنت مجموعات أكبر من الفصائل توجهات دينية إسلامية راديكالية تقف موقفًا متحفظًا إلى معاد لأي دور للمرأة، وأرادت إعادتها إلى البيت وفرضت عليها الحجاب والنقاب وبخاصة في مناطق سيطرة داعش والنصرة وفصائل مشابهة.
4- عانى أطفال سورية انتهاكات عدة لحقوقهم ارتكبتها أطراف النزاع جميعهم. حُرم الأطفال من طفولتهم وأرغموا على المشاركة في الحرب، وتعرضوا للقتل والاعتقال والتعذيب والاغتصاب، إضافة إلى حرمانهم من حقهم في التعليم بعد استهداف المدارس وتحويل كثير منها إلى ثكنات عسكرية. وكان من مخرجات الحرب السورية على الأطفال، التشرد والتسول وعمالة الأطفال وزواج القاصرات وغيرها من الظواهر السلبية. وحتى اليوم، لم تتوقف معاناة أطفال سورية في الداخل والخارج على حد سواء، إذ تستمر عملية انتهاك حقوقهم وتعرضهم للقتل والتيَتُّم، وتفكك أواصر علاقاتهم مع أسرهم.
5- أفرزت الحرب الدائرة في سورية في إثر الثورة السورية 2011 وحتى نهاية 2020 بين قوات النظام السوري والميليشيات الحليفة ذات الطابع المذهب والطائفي، والتابعة له من جهة، وقوات المعارضة السورية من جهة ثانية، والتنظيمات المتشددة من جهة ثالثة، نزاعات تطرفية ذات صبغة مذهبية، طائفية وعرقية في المجتمع السوري، وبخاصة أنه محاط إقليميًا بدول عانت -وما زالت تعاني- النزاعات و الحروب الطائفية، حروب طائفية مستعرة في كل مكان، مسيحية قبطية إسلامية في مصر وشيعية سنية مسيحية، عربية كردية في العراق ومسيحية شيعية سنية درزية في لبنان، وزيدية حوثية سنية سلفية وعشائرية في اليمن.
6- كان للنظام السوري الدور الرئيس في إبراز هذه النزاعات بارتكاب الميليشيات التابعة لقوات النظام المجازر استنادًا إلى المرجعية المذهبية والطائفية، فلاقت ردّة فعل عنيفة وجنوحًا نحو التطرّف؛ إذ سارع كثير من الشباب السوري إلى الانضمام إلى التنظيمات الجهادية المتطرفة مثل (داعش)، و(جبهة النصرة)؛ تنظيمات لم تتوان عن ارتكاب أبشع الجرائم بحق السوريين بدورها.
7- يقف النظام السوري منذ السبعينيات وراء معظم النزعات الطائفية والمذهبية بسلوك الجيش والمؤسسات الأمنية مع المكونات السورية الأخرى.
8- على الرغم من ارتكاب المجازر التطرفية ذات البعد (الديني، المذهبي والطائفي) من جانب بعض الأطراف السورية (ميليشيات النظام الحليفة له وتنظيمات إسلامية راديكالية وعرقية بالمقلب الآخر)، هناك مؤشرات مجتمعية سورية تشير إلى أن هذه الممارسات التطرفية لم تصل إلى مرحلة الحرب المذهبية والطائفية على الصعيد الشعبي السوري.
9- بروز مفهومات الأقليات الطائفية والعرقية التي لم تكن بارزة من قبل، والدعوة إلى الاعتراف بحقوقها وحصصها في مؤسسات الدولة وغيرها التي لم تكن بارزة من قبل ومن ثم ضعف مفهوم الدولة الوطنية الكلاسيكي ومنظمات المجتمع المدني والانتماء الوطني إلى سورية.
10- بروز الإعلام الطائفي، وبخاصة إعلام التواصل الاجتماعي غير الرسمي، حيث التحريض الطائفي اليومي من بعض المواليين والمعارضين للنظام السوري على حد سواء.
11- ظهرت ثقافة الانتقام فرديًا، بسبب ضعف البنى القانونية. وتمخضت اصطفافات الحرب عن انقسامات عمودية، مذهبية وقومية، كان للتدخل الإقليمي دور كبير في إنعاشها، كالاستقطاب السني – الشيعي/ العلوي والعربي – الكردي. مع أن هذه الاصطفافات لم تتجذر في المستوى الاجتماعي. إن عدم حدوث مواجهات ذات طبيعة أهلية بين مكونات المجتمع، من أهم المؤشرات الاجتماعية الإيجابية التي تسهل إجراءات بناء الثقة في سورية المستقبل، ما يساعد في نمو ثقافة التسامح وترسيخها بين الأجيال الجديدة.
12- ما يزال النزوح والتشـريد القسـري من أكثر تداعيات النزاع المسـلح تفاقما منذ آذار 2011. وقـد شـهدت أعـوام 2017 و2018 و2019 تدفـق مئـات آلاف النازحيـن مـن مختلف مناطـق سـورية. إذ أجـبرت العمليـات العسـكرية -الـتي قادتهـا قـوات الحلف السـوري الروسـي الإيراني، والهدن والاتفاقات التي فرضت على المدن والبلدات المحاصرة- ملايينًا مـن الأشـخاص علـى تـرك منازلـهم. وهاجر خارج سوريا ملايين من السوريين تشتتوا في بقاع الأرض كافة.
13- لم ينفصل التغيير الديموغرافي الممنهج عن التهجير القسري سوى بالهدف النهائي لمن يمارسونه، فكلاهما ينطلق من القاعدة ذاتها التي تقوم على إجبار فرد أو جماعة أو مجتمع، على أن يترك أرضه قسرًا والنزوح أو اللجوء إلى مناطق أخرى، باستخدام وسائل الإكراه، كتلك التي مارسها النظام السوري وحلفاؤه. وثمة ثلاث حالات ينطبق عليها مفهوم التغيير الديموغرافي الممنهج انطباقًا تامًا في سنوات الصراع الماضية، وهذه الحالات كان إيران وراءها وذراعها الأساس حزب الله اللبناني، وذلك من ضمن مشروعها التوسعي، وحتى إحكام سيطرتها على الوضع السوري، سواءً بارتكازها على حاضنة شيعية عبر عمليات التشييع الجارية على قدم وساق، أم بالتحكم في طرق المواصلات الرئيسة التي يستعملها حزب الله لتسهيل حركة قواته، أو التحكم في عمليات التهريب على جانبي الحدود السورية اللبنانية.
————————–
تشخيص الدمار المجتمعي السوري
(2 من 3): مؤشرات التفكك الأسري والمجتمعي في سورية
الفصل الأول مؤشرات التفكك الأسري في سورية
أولًا زواج القاصرات
ثانيًا تأخر سن الزواج (العنوسـة)
ثالثًا تعدد الزوجات
رابعًا ارتفاع نسبة الطلاق
خامسًا ارتفاع ظاهرة الأرامل
سادسًا انتشار ظاهرة تعاطي المخدرات بين الشباب والطلاب
سابعًا انتشار ظاهرة الدعارة والبغاء القسري
ثامنًا ارتفاع أعداد الأطفال مجهولي النسب
الفصل الثاني مؤشرات التفكك المجتمعي في سورية
أولًا التشرد والتسول
ثانيًا الفقر والبطالة
ثالثًا انتشار الجريمة المنظمة وتناميها
رابعًا تفشي ظاهرة الفساد
ملخص الدراسة
1- ساهمت الحرب في تفكك بنية الأسرة السورية وعدلت وظائفها. ولم يتوقف تصدع الأسرة السورية وتفككها على الجوانب البنيوية، بل شمل القيم الاجتماعية التي تعمل على تعزيز التماسك الأسري، فبرزت الصراعات والعداوات والقطيعة بين الإخوة والأقارب نتيجة وجودهم في صفوف أطراف مختلفة في الصراع السوري.
2- ظهرت سلسلة من المشكلات الاجتماعية أبرزها: انتشار العصابات الإجرامية، استفحال القتل، اختلاط القيم الداعمة للتماسك والتضامن بالقيم التفكيكية للنسيج الثقافي والاجتماعي، ما أدى بدوره إلى خلل كبير في بنية الأسرة السورية ووظائفها، أنتج عددًا من المشكلات الاجتماعية (الطلاق، تعدد الزوجات، زواج القاصرات، الإتجار بالبشر)، العنف ضد المرأة والطفل، ازدياد عدد الأطفال الأيتام، والأطفال غير المصحوبين بأسرهم، انتشار عمل الأطفال، والتسرب المدرسي، والزواج المبكر بالتوازي مع ظاهرة العزوف عن الزواج، وارتفاع نسبة العزوبية عند الذكور والإناث .
حصل تحول في نمط الاسرة السورية من النواتية إلى الممتدة التقليدية الكبيرة، المرتبطة بمجتمعات ما قبل الحديثة، أدى إلى اندلاع عدد من الخلافات الداخلية بين أفراد العائلة والصراع الدائم المدمر لعلاقات المودة بين أفراد العائلة كافة، إضافة إلى انتفاء الخصوصية الأسرية لآلاف الأسر السورية. وينطبق هذا الأمر بشكل أساسي على الأماكن التي تعيش فيها أكثر من أسرة، مثل المخيمات، مراكز الإيواء، أو المنازل التي تجتمع فيها عائلتين أو ثلاثة كما هو الحال في مناطق متعددة من دمشق وحلب واللاذقية وحمص وغيرها.
3- مع وصول نسب خط الفقر في سورية إلى 93%، بات أكثر من 70% منهم تحت عتبة الفقر المدقع، وانعدام الأمان الغذائي، ومع غياب المؤسسات الرسمية ومنظمات المجتمع المدني، وجد أكثر من ربع مليون سوري نفسه بين التسول المباشر والتشرد على قارعة الطرقات، عدا عن أعداد المشردين في المخيمات غير الخاضعين لهذا التصنيف. وشكل غياب المعيلين الذكور واحدًا من أهم الأسباب الذاتية إلى جانب الفقر العام وغياب فرص العمل والتأكل الاقتصادي العام، وجنوح النظام إلى التماهي المطلق مع أمراء الحرب الساعين إلى مزيد من النهب العام ليضاف إلى جمهور المتسولين الذي يتسع شرائح جديدة من الأرامل واليتامى والأطفال مجهولي النسب الذين لم يجدوا معيلًا لهم، إضافة إلى المعاقين جرحى الحرب وكبار السن العاجزين.
4- انعكس التدمير الكلي للاقتصاد السوري على الواقع الاجتماعي بحدة، وجرف شرائح بشرية نحو القاع بعيدًا عن وجود شبكات أمان، أو قدرة على تأمين متطلبات الحياة الرئيسية، فحرمها من قدرة الحصول على مدخولات كافية لأمنها الغذائي والصحي، فوجدت نفسها في مهب الحاجة الشديدة تبحث عن لقمتها في سلال القمامة والحاويات، ودفعتها الحاجة الشديدة إلى طلب المعونة بشكل فردي عبر التسول المباشر، أو التسول المقنع بوساطة القيام بأعمال هامشية بسيطة للحصول على مدخولات إضافية تساعد ضمن الظروف القاسية.
5- أفضت المتغيرات العسكرية والاجتماعية إلى تنامي ظاهرة الأطفال مجهولي النسب الذين تزايدت أعدادهم في المناطق الخارجة على سيطرة النظام، سواء بسبب الزواج من مقاتلين أجانب لم تحدد هوياتهم بدقة، أم بسبب الزواج من مقاتلين محلين قتلوا لاحقًا، وتعذر إيجاد وثائقهم أو تسجيل واقعات زواجهم بسبب فقدان الوثائق أو موت الأبوين كليهما، ومع تغيرات خرائط السيطرة تكشفت الأعداد الكبرى لأبناء هذه الظاهرة حيث استدعت الحاجة إلى توثيق وجودهم أو تحديد نسبهم وجنسياتهم، و إيجاد الجهات الوصائية الكفيلة برعايتهم، وخصوصًا في حال غياب الأبوين.
6- مع تجاوز نسبة الفقر في سورية معدل تسعين في المئة وهي أعلى نسبة مسجلة في الكوكب يتنحى الحديث عن كونها الحاجز الأكبر أمام التنمية الفردية والمجتمعية، وكونها تولد مزيدًا من الفقر والإحباط، لمصلحة الحديث عن خطرها الوجودي المباشر على حياة السوريين أولًا، وعلى قدرتهم على الصمود والاستمرار ثانيًا، بانتظار الحلول الفردية أو الجماعية أو السياسية.
7- اختلطت الجريمة المنظمة في سورية بالإرهاب وجرائم الحرب. وبين الانفلات الأمني وضعف سيطرة الدولة، وتنامي الفساد وتحول سورية إلى مصاف الدول الفاشلة، سيطرت الجريمة على جزء كبير من النشاط الاقتصادي الشرعي وغير الشرعي وحققت مدخولات خيالية لأصحابها الذين تميزوا في مناطق النظام بقربهم منه، وبالأخص أثرياء الحرب أو ما يمكن تسميتهم (بمحظيي النظام) الذين تحولوا إلى سادة الجريمة المنظمة في وجوهها الأكثر ربحية مستفيدين من شراكاتهم مع النظام وأقطابه في الحصول على الحصانة الكاملة وعدم الخضوع للمساءلة.
وشكلت الجريمة المنظمة في بعض وجوهها المحلية نوعًا من الرشوة للموالين، في الخطف لأجل الفدية وتجارة الاعتقال، وتبييض الأموال داخليًا، وتزوير الوثائق الشخصية والعقارية والاستيلاء على الأملاك. وارتبطت تلك الشبكات مع مثيلاتها في المناطق الخارجة على النظام بحكم المصالح، بغض النظر عن الوضع القتالي والسياسي المتنافر، وبخاصة في التبادل السلعي والنفط والتهريب والإتجار بالمخدرات والآثار وتبييض الأموال، حققت أموال الجريمة المنظمة مصدرًا مهمًا من التمويل الذاتي للميليشيات الجهادية المناوئة للنظام.
8- شكل الفساد جوهرًا أساسيًا في منظومة السلطة السورية، انبثق من احتكارها القرار في مجالات الحياة كلها، واحتكارها آليات المحاسبة وإخضاعها لوصاية لسلطة التنفيذية بما فيها القضاء، وإلغائها وقمعها كل أدوات المحاسبة المندرجة خارج إرادتها كالصحافة والمجتمع المدني، فباتت المشرع والمنفذ والرقيب والمحاسب في آن معًا. ومن جهة ثانية شكل صعود أمراء الحرب إلى الواجهة الاقتصادية وضياع الهامش بين القرار الحكومي ومصالح تلك الفئات ارتفاعًا في معدلات الفساد بشقيها المغطى بتوصيفات قانونية كالاستثمار والتعهدات والقرارات الحكومية، أو الفساد المرتبط بنهب المال العام.
وساهم نقص تدفق المعلومات وغياب الشفافية وانعدام المساءلة، في تنامي الفساد المرتبط هيكليًا بمدى النفوذ والاقتراب من موقع القرار في سنوات الحرب ليرتفع إلى مستويات قياسية عالميًا جعلت سورية ضمن البلدان الأعلى فسادًا في العالم.
فقد أصبح ترتيب سورية في تقرير منظمة الشفافية الدولية في آخر السلم، أي باتت سورية الدولة الأكثر فسادًا في العالم اليوم.
وفي المقابل استثمر النظام الفساد وظيفيًا في مستويات متعددة؛ منها إحكام القبضة على المقربين منه لضمان عدم خروجهم عن النسق الخاص به، ومنها تعويم الفساد اجتماعيًا، وإحالته إلى الطبيعة المجتمعية وعوامل التربية الذاتية للتهرب من مسؤولياته في محاربة الفساد، وانعدام سلطة القانون، وتوازن السلطات.
9- بالتوازي مع استمرار الفساد فوتغوله ي بيئة النظام، افتقرت بنى المعارضة، وقوى الأمر الواقع الخارجة على سيطرة النظام إلى النزاهة والشفافية، وغياب شبه كلي للقانون ومرجعياته الواضحة، وافتقرت إلى آليات المحاسبة، واتسمت بعدم استقرارها العسكري والزمني، ليجد الفساد فرصه المواتية في تلك التقلبات.
10- مع استعادة النظام مساحات واسعة من سورية بمساعدة الروس، ارتفع منسوب الفساد في مناحي الحياة العامة كلها، لتصل سورية بقيادة أمراء الحرب الجدد الذين تصدروا المشهد، إلى رأس قائمة الدول الأكثر فسادًا في العالم.
———————————
تشخيص الدمار المجتمعي السوري
(3 من 3): انهيارات قطاعات التعليم والصحة والدعم الاجتماعي
الفصل الأول انهيار قطاع التعليم
أولًا خسارة الكادر التعليمي والمهني
ثانيًا انهيار التعليم وفاقد التمدرس
ثالثًا فواقد المعرفة الأكاديمية
رابعًا المناهج التعليمية في المناطق السورية
الفصل الثاني انهيار الواقع الصحي
الفصل الثالث انخفاض منسوب الدعم الاجتماعي
ملخص الدراسة
1- أفضت الحرب السورية إلى تفريغ المجتمع السوري من كثير من كوادره ونخبه التعليمية والمهنية بآن معًا، ومع الاستنزاف الكبير في القطاع التعليمي والصحي والهندسي، يخسر المجتمع السوري أهم مفاتيح التنمية بفقدانه رأس المال البشري الأكثر تأهيلًا لإعادة البناء والإنتاج، ومع خسارة اليد الماهرة والمدربة فإنه يفقد الركيزة الأساسية في عمليات الإنتاج لاعتمادها الرئيسي على وجوده. وتأتي الخسارة المعنوية والثقافية إلى جانب الخسارة الاقتصادية بفقدان اليد الخبيرة والمدربة في المهن والحرف اليدوية المتصلة بالتراث ليشكل فقدها خسارة للتراث الإنساني والمحلي بما تمتلك من أصالة وغنى بصري وفني، وبما تختزن من عوامل الهوية المحلية ومكوناتها التاريخية.
2- انهيار التعليم الكمي والنوعي، وانخفاض عدد الكادر التدريسي المؤهل، وانعدام حوافز العملية التعليمية وضبابية أهدافها، إضافة إلى فاقد التمدرس الذي يشمل ثلث السوريين المؤهلين للدراسة حاليًا، سيضع مصير جيل كامل في مهب المجهول. إن كارثة التعليم هي كارثة مزدوجة بمساريها الفردي والمجتمعي، وهي من الكوارث التي تترك آثارًا مديدة وتمتد إلى أجيال لاحقة لما يترتب عليها من تبعات اقتصادية واجتماعية ونفسية على المديين القصير والمتوسط، وربما على المدى الطويل أيضًا.
3- كانت المناهج الدراسية إحدى المؤشرات الأيديولوجية الدالة على هوية الصراع في سورية، بالنسبة إلى كل طرف من أطراف الصراع. ففي المناطق التي يسيطر عليها ما يسمى بـ (الإدارة الذاتية) غيرت المناهج الدراسية تغييرًا كاملًا وجذريًا للمراحل الدراسية كافة، واعتمدت فرض فكرها وسياساتها للمناهج التعليمية استنادًا إلى الأيديولوجيا بشكل صارخ، من خلال الاهتداء بفلسفة عبد الله أوجلان بوصفه قائدًا للشعب الكردي.
وأدرك النظام السوري أهمية المناهج الدراسية ودورها في الترويج للبروباغاندا الخاصة به، فأحدثت وزارة التربية 2015 المركز الوطني لتطوير المناهج التعليمية. وقد غيِّرت المناهج منذ 2016-2017 بشكل يتوافق مع تلقين الجيل الجديد الخضوع الطوعي تحسبًا لخروجهم من سلطة النظام الدكتاتورية كما حدث في 2011.
واتسمت المناهج التعليمية للمناطق الخارجة على سيطرة النظام بالإرباك بعد فشلها في تقديم منهاج جديد مخالف لمنهاج النظام، فاكتفت بحذف كل ما يتعلق برموز النظام وبعض المغالطات التاريخية. أما تنظيم داعش فقد كان التعليم بالنسبة إليه نهجًا لتنشئة جيل متطرف وراديكالي، قبل سقوطه.
4- أفضت الحرب إلى تأكل القطاع الطبي وتراجع الرعاية الطبية بشكل كبير، وبخاصة لدى الجهات العامة. ومع تراجع مستويات الدخل وانتشار الفقر يتعذر على الأفراد الحصول على الرعاية الطبية اللازمة وعلى مقوماتها الغذائية، وتتعذر عليهم الوقاية من المخاطر المترتبة على انهيار القطاع الصحي، ومن أهمها مخاطر الأوبئة حتى القديمة منها، والجديدة أيضًا، كما في وباء كوفيدا-19، كورونا الذي حصد مزيدًا من الأرواح، في ظل صمت وتضليل إحصائي من النظام.
ويدفع الانهيار الصحي مزيدًا من الشرائح والأفراد إلى الحاجة الملحة والفورية إلى الرعاية الطبية الخاصة، وغير المتوفرة حاليًا، وغالبًا ما تكون أدنى من المطلوب عند توفرها، وتشمل أصحاب الإعاقات والأطفال تحت سن الخامسة، وأصحاب الأمراض المزمنة ليشكل مجموعهم ما يزيد على ثلث الشعب السوري حاليًا.
5- شكل انخفاض الدعم الخارجي والداخلي عبئًا كبيرًا على المواطنين السوريين، في ظل اقتصاد مشلول ومدمر، وخاضع لسيطرة أمراء الحرب كليًا، ونجم انخفاض الدعم عن مزيج من تراجع الاهتمام الدولي بالقضية السورية، وعن سلوك النظام الساعي إلى الاستئثار بتلك المساعدات وتجييرها لمصلحة حربه، وإطالة أمد بقائه في السلطة, وترافق انخفاض الدعم المقدم للشعب السوري مع انخفاض مماثل في دعم حلفاء النظام له لأسباب متعددة يتعلق بعضها بابتزازه للحصول على مكاسب إضافية، ويتعلق بعضها الآخر بأوضاعهم الاقتصادية المتردية في ظل العقوبات الرادعة، وبالأخص إيران. وأرخى انخفاض الدعم الخارجي بظلاله على الشرائح الأفقر وخصوصًا جمهور النازحين المتزايد عدديًا بفعل العمليات العسكرية، وأرخى بظلاله على شبكات الدعم الداخلية الممولة من الخارج التي كانت تساهم جزئيًا في تغطية من الاحتياجات الإنسانية تتسع مع ارتفاع نسب الفقر العامة.
6- بسبب أزمته الاقتصادية الخانقة، وطبيعة سياساته المحكومة من أمراء الحرب سعى النظام إلى التخفف من أعباء الدعم الموجودة تاريخيًا، فقلصها وعكس مخرجاتها برفع الأسعار ليمول نفقات الحكومة والنظام من جيوب الناس وعلى حساب خبزهم اليومي بوصفه آخر موضوعات الدعم، وعلى حساب حاجاتهم الإنسانية التي باتت دون الحد الأدنى بكثير.
7- أفضت حالة الإحباط المنتشرة في سورية الآن إلى إضعاف المجتمع ككل، وقد أفقده المآل الذي وصلت إليه الأحداث الثقة في حصول عملية التغيير السياسية التي من المفترض أن تعيد إلى المجتمع نبضه وتضع آليات عادة بناء إنقاذية شاملة للنهوض بالمجتمع والفرد معًا.
مركز حرمون