نصوص

رسائل صغيرة/ رهام راجح محمود

“رحمك فاقد”

تدور هذه العبارةُ في رأسي، كما تدور العصافيرُ على أعشاشها في المساء، مذ فسّرتْ إحدى قريباتي حالةَ الأرق التي اعترتْني منذ أنجبتُكَ.

قد تبدو العبارةُ شاعريّةً وصادمةً في آن معًا. فالرحم لم تُرِدْ أن تكون، في هذه العبارة، أكثرَ من عشٍّ يَفْرح بإيواء عصفورٍ سيغرِّد، عمّا قريب، في العالم الخارجيّ.

إنْ تكن الرحمُ هي دلالةَ الاحتواء الأولى في اللغة والعالم، فإنّها كذلك دلالةُ الانعتاق الأوّل. إلّا أنها، على ما يظهر، لم تُبْدِ الرّغبةَ في الانعتاق منكَ.

لقد وهبتَني جسرًا إلى السماء عند سماعي أُولى نبضات قلبكَ الذي كنتُ أغفو على إيقاعه الخافت. وقد وجدتُ أنّ الحوامل يدخلن إلى قلوبِ الأجنّة ليرتحن من تعب أجسادهنّ، وينمن في أيديهم المتكوّرة على صدورهم الصغيرة كما ينام الرّاعي في ثقوب نايه الصغير — هناك، حيث الجبالُ القصيّة، التي رتّل آدمُ أسماءَ سنديانها على مسامعكَ لتَكْبرَ على حبّها.

في البدء، لا بدّ من إخباركَ بأنّ الأمومة صنّارةٌ من التعب، جذرُها في السماء، وأنّني لم أكن لأرى أمّي في الهواء والهوى لولا إنجابي إيّاك. للمرّة الأولى أرى توهُّجَ قلبها حين التصقتَ بجسدها عندما حملتْكَ في المستشفى، لأرى كيف يكتسي الطينُ بنقوش الكواكب.

لا بدّ من إخبارك كذلك بأنّكَ أعظمُ إنجازاتي، في بلادٍ قد يكون الإنجازُ فيها حاليًّا هو الصبرَ على أيّامها الثقال، التي لا يُعْلم متى ستنقضي. أتطلّعُ إلى الأيّام التي سأحدّثك فيها عن مُدن الأحلام المشْرعة ليديْك الصغيرتيْن، كما لكلّ الأطفال.

لم نتركْ لكم مدنًا غضّةً تتفتّح لأجنحتكم البيضاء. إلّا أننا سنجنح مع ابتساماتكم التي ستلوِّن خرابَنا. أذكرُ أنني رأيتُ بجعًا راقصًا يفرّ من الإسمنت المتهالك عندما ضحكتْ طفلةٌ سوريّةٌ التقطتْها عدساتُ الكاميرا بين ركامٍ ما.

أعرفُ أنّكَ بمجيئكَ ستفتح نافذةَ الأسئلة، وأنني لن أملكَ من الأجوبة إلّا القليل. ستسأل عن الصور الكثيرة التي تشعُّ في جدران المنازل بعد الحرب، وعن النباتات التي عرّشتْ في النوافذ المهجورة، وعن المتعبين الذين خبّأوا في بزّاتهم الخُضْرِ جمرَ الصبر ونذروا حياتَهم لحراسةِ ليلِكَ وليلِ الأطفال الآخرين.

إلّا أنّني سأردّد معك القصائدَ التي لم تذبل، لنعلّقَ الأغنياتِ على عناقيد الفجر، ونضيءَ دروبَ الطيور المهاجرة.

سأخبركَ بأنّ يدك – كما أيدي كلّ الأطفال – قادرةٌ على تحريك نجوم السماء، وأنّ الشُّهُبَ أغانٍ سقطتْ من أفواههم نحو الأرض.

سأتشاركُ معك لعبةَ بناء المنازل. سنُغمض أعينَنا ونحلم بأنّ الرصاص في العالم أكله الذئبُ، وبأنّ ليلى ستعود إلى منزلها بعد أن تعبتْ من الانتظار على أرصفة المطارات.

ما زال في العالم شيءٌ للبناء. وأمام يديك العالمُ لتحرِّكَه.

سنترك خلفَكَ الحروبَ، والأخبارَ المليئةَ بالتراجيديّات. وسنردّد معًا مقولة رافايل ألبرتي: “أنتَ في وحدتك بلدٌ مزدحم.”

سنلوّن اللوحاتِ الباهتةَ في المقاهي المهجورة، وسنُفْرغ جعبةَ بنادق الصيّادين كي لا تضلّ الطيورُ طريقَ العائدين.

سنكتب مئاتِ القصائد. وسنغنّي للصيف، وللمطر، وللأيدي الطريّة التي تلوّح على الشرفات للآباء العائدين.

سنكتب للزوارق التي طافت على ظلال الحلم في البحار، وللمياه التي صارت سجلًّا للهويّات الغارقة.

سنغنّي للشعراء الذين يومِئون للسجون، فتخلعُ قضبانَها وترحل.

سنغنّي للفلاحين وللرغيف الحزين. وسننشد للجياعِ على باب الصبرِ الطويل.

سنغنّي للقارّات الخمس المبلّلةِ بالرماد، وسنستعير ضوءَ الشمس من جباه العمّال.

سنحفظ معًا أغنيات العشّاق المنسيّة، وسنُلقي بها في الشوارع الخاوية.

سنكتب معًا على الجدران أغنياتٍ للأقدام الحافية والعيون المالحة. وسنُسند رؤوسَنا إلى أجسادها العاشقة، ونتنجنّب الرصاصَ الطائش.

سأنتظرك في الطرق جميعِها، ريثما تنتهي من تلوين العالم بأصابعك العشر الصغيرة. سأنتظركَ وأنت تضع أمنياتك التي ستخبّئُها لـ”سانتا” في شجرة الميلاد، لأقولَ لك: لستُ أنا مَن استرقَ النظرَ إلى أحلامك الصغيرة، بل العصافير المنتظرة في الجوار.

سأتركُ لكَ أن تعلّمَني كيف تدور الأرضُ حول قلوبِ الأمّهات المنتظرات أبناءَهم الغائبين، وكيف يتّصل الأمسُ بالغد إنْ غرّد الكونُ في عينيْك (اللتين لم أقبض على لونهما بعد).

سأتركُ لكَ أن تعلّمني الرقصَ مع التماثيل، والأشجار، والصحراء، بينما ينهمر المطر.

سنكتب مئاتِ القصائد على دفاتر الأطفال. وسأكتب في ختامها:

“إلى حَسَن الذي علّمني الحُبّ.”

حمص

الآداب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى