الناس

عن محاكمة مجرمي الحرب في ألمانبا -تحليلات ومقالات-

=====================

———————————

حضر بندبة التعذيب في وجهه.. شاهد جديد يتحدى “رسلان” ويؤكد أنه ما يزال نفس الضابط المتسلط

بقبعة على رأسه وسترة زيتية فضفاضة، مع نظارة سوداء داكنة وكمامة على الوجه، دخل الشاهد قاعة المحكمة في “كوبلنز” مع محاميته وخطيبته (كما تم التعريف بها لاحقا) من الباب المخصص للشهود القريب من الجمهور الحاضر.

خلال الجلسة السادسة والأربعين، من محاكمة ضابط المخابرات “أنور رسلان”، لم تكن كل وسائل الحماية التي أحاط بها الشاهد نفسه، لتمنع شعورنا بقلقه الظاهر من خلال مشيته وتلفته يمنةً ويسرة، ولأول مرة يختار أحد القادمين مع الشهود من أقربائهم الجلوس بجانب الشاهد، كما فعلت خطيبته وليس البقاء ضمن الجمهور.

بدأت محامية الشاهد بإخبار المحكمة عن ضرورة إبقاء الشاهد مخفيا، وعن تسريبات وتهديدات ربما تستهدف أفراد عائلته في سوريا، ما لبث أن تدخل محامي المتهم أنور رسلان ليقول: “لا أجد مبررا لإبقائه مخفيا، من الطبيعي أن تخرج معلومات عن المحاكمة فهي محاكمة علنية، ومهما فعلنا فالوضع في سوريا هو كذلك، الناس هناك مطلوبون دائما للأمن، لن يغير ما نفعله هنا شيئا من الواقع هناك”.

ردت محامية الشاهد بأن الموضوع أكبر من ذلك، وبدأت بالحديث عن “فاكس” تم إرساله على وجه السرعة في اليوم السابق، أرسلته المحامية لقضاة المحكمة تخبرهم بعض ما جرى، دون أن تفصح عن معلومات أكثر أمام الحاضرين.

*إخلاء القاعة

في جلسات محاكمة المتهمين أنور رسلان وإياد الغريب، اعتدنا كجمهور حدوث مناقشات طويلة بين أطراف الدعوى، كل منهم يعزي طلبه بإخفاء الشاهد أو الكشف عنه إلى نص قانوني، وتنتهي مناقشاتهم بعد اقتناع هيئة القضاة بأحد الخيارين وإصدار قرار بهذا الشأن. أما اليوم فقد كان الأمر مختلفا تماما، فهناك حسب محامية الشاهد ما يشكل خطرا عليه، الأمر الذي جعل القاضية تتوجه إلى الحضور من صحافة وموثقين وتقول: “الرجاء من الحضور إخلاء القاعة فورا”.. كانت مفاجأة غير متوقعة، أن يُطلب من الموجودين الخروج من محاكمة علنية، يعني أن الأمر بات أكثر من جدي بالنسبة لهم، وكان لابد من إطلاع أطراف الدعوى فقط -دون الحاضرين من العموم- على حقيقة التهديد.

خمس دقائق كانت الفاصل بين إخراجنا كحضور واستدعائنا مرة أخرى للدخول، لكنها حملت الكثير من التساؤلات، بيننا نحن الذين اعتدنا حضور كل جلسات المحاكمة حتى الآن.. نتهامس خارج باب القاعة “128” (مكان المحاكمة) عمّا يحدث في الداخل، قبل أن يحسم تساؤلاتنا أحد المأمورين القضائيين وهو يفتح الباب ويخاطبنا: “الآن تستطيعون الدخول”.

في القاعة، كان القرار قد حسم لصالح إبقاء الشاهد مخفيا، يبدو أن ما أرتهم إياه محاميته لم يحتج الكثير من النقاش حوله.

جلس الشاهد وظهره للحضور، مقابلا هيئة القضاة، ومحاولا الاستفادة من الكمامة والنظارة السوداء لإخفاء معالم وجهه، جلست على يمينه كل من محاميته وخطيبته، وعلى يساره أحد مترجمي المحكمة.

خضع الشاهد لتجربتي اعتقال لصالح “فرع الخطيب” خلال 2011 و2012، وقد أخبر القضاة بالتفصيل عن هاتين التجربتين المريرتين؛ حيث تركت إحداهما ندبة دائمة على وجهه، تمكنتُ (أنا كاتبة التقرير) من رؤيتها بوضوح، عندما قابلته بعد تقديم شهادته.

الضرب الوحشي أثناء الاعتقال، مع ما يتبعه من تعذيب ريثما يصل المعتقل إلى الفرع الأمني وتبدأ “حفلة الاستقبال”، التي قد تسبب الوفاة الفورية، كما قال الشاهد، ومن قبله شهود سابقون.. هي تفاصيل اعتاد أطراف الدعوى سماعها من الضحايا الشهود، لكن هذا الشاهد كان قد ناله الكثير من التعذيب لدرجة إصابته في إحدى عينيه، وكسر أسنانه، وتهشيم ضلعين في صدره، ما استدعى نقله إلى مشفى المجتهد قبل البدء بالتحقيق معه خلال اعتقاله الأول.

“قيدوني بكرسي متحرك وأدخلوني قسم الإسعاف، أحاط بي 5 عناصر أمن مسلحين بالكامل وبدؤوا يصيحون في المشفى وينعتوني بأني إرهابي وقناص، ما أدى لحالة ذعر بين الحاضرين الذين سارعوا لقذفي بوابل من الشتائم والإهانات. بعدها، جاءني طبيب يسأل عن اسمي، وقبل أن أجيبه بادره أحد العناصر بحدة: سجله رقم ثلاثة. هكذا بكل بساطة تحولت إلى الرقم ثلاثة، اعتقد أنهم أرادوا طمس هويتي في حال مِتُّ في المشفى”.

حتى الأطباء وقسم الإسعاف تعاملوا معه بقسوة كما أخبر القضاة، ففي مشفى المجتهد قال له طبيب العينية بعد فحصه إنه لن يرى مرة أخرى بعينه المصابة، وعند هذه اللحظة لم يكن أحد منّا (نحن الحاضرين) بحاجة لرؤية معالم وجهه المخفية، ليدرك حجم الألم المتسرب من بين كلماته.

بعد إخراجه من المشفى محملا بأدوية ووصفات طبية، قام عناصر الأمن برميها جميعا وتمزيق الوصفات، وهم يقولون: “يجب أن تموتوا، لا أن تعالجوا”.

في اليوم الثاني من وجوده في فرع الخطيب، تم استدعاؤه للتحقيق، ومن تحت “الطماشة” استطاع رؤية المكتب الفخم الذي كان فيه محقق واحد ميَّز شكله بنظرة خاطفة. سأله المحقق عن أحد أقاربه، وعندما أجاب الشاهد جوابا لم يعجب المحقق، اقترب منه وصفعه على وجهه مرتين، ومن ثم ضربه بركبته على بطنه.

*زاوية في الجحيم

“بعد أن رأيت صورته على الانترنت، عقب إلقاء القبض عليه في ألمانيا.. عرفته، لقد كان هو من ضربني، لقد كان أنور رسلان وأستطيع أن أؤكد ذلك بنسبة 90%”، قال الشاهد للقضاة. طلبوا منه النظر مرة أخرى للمتهم، والإشارة إليه شخصيا من بين المحامين والمترجمين الجالسين معه، نظر الشاهد إلى “رسلان” وبإشارة من يده، أكد أنه هو. هذه النظرة والإشارة كان لها حكاية أخرى، رواها الشاهد لـ”زمان الوصل”.

رغم اهتزاز نبرة صوته أحيانا وإنهاك ذاكرته بتفاصيل الاعتقال التي كان يجب أن يستحضرها ليخبر القضاة بها بعد مضي كل تلك السنوات، لم يطلب الشاهد استراحة على مدى 6 ساعات سوى مرتين، لم تتجاوز الواحدة منهما ربع ساعة. لم ينسَ الشاهد أن يخبر القضاة عن حالات الوفاة التي رآها في المعتقل، وعن شاب قُلعت أظافره وعُذب بشدة، وعن آخر فقد عقله نتيجة عدم النوم والجلوس لأربعة أيام متواصلة، حيث بدأ يتبول في ثيابه ويتحدث مع نفسه.

كما أخبرهم عن أطفال لم يتجاوزوا الخامسة عشر من العمر، عُذبوا بطريقة وحشية ووضعوا نتيجة سوء حالتهم الصحية في زاوية بـ”المهجع الكبير” بفرع الخطيب، “زاوية” تم تخصيصها للحالات “الميؤوس منها”.. أخبرهم عن تفكيره بالانتحار أثناء اعتقاله الثاني في فرع الأربعين (الذي كان يرأسه حافظ مخلوف) بعد أن تم إيقافه بجانب درج الطوارئ في البناء، وهناك قرر للحظة أن يرمي نفسه نتيجة التعذيب الشديد ويأسه من البقاء حياً، غير أن الأسئلة الأولى من القضاة (بعد تحدثه عن اعتقاله الخاص وقبل سرد كل هذه التفاصيل)، كانت بعيدة عما قاله كشاهد، قريبة منه كإنسان:

-القاضي: “كيف حالك اليوم؟ بعد كل ما مررت به؟ هل تستطيع أن ترى بعينك المصابة؟”.

-الشاهد: “بعد خروجي من المعتقل، أول مرة خضعت لعلاج لمدة 6 أشهر واستطعت الرؤيا بعد ذلك، لقد كان تقييم طبيب مشفى المجتهد خاطئا، قمت بمداواة أسناني… أما حالتي النفسية (صمت برهة وأكمل) فأنا لا أملك جرأة الذهاب لطبيب نفسي لأخبره بما حدث معي، أنا أرسم وهذا الشيء يساعدني، أما الانتحار فكان مجرد فكرة راودتني للحظة، سرعان ما تراجعت عنها”.

-القاضي: هل أكملت دراستك؟ هل تعمل الآن؟

-الشاهد: أكملت دراستي وتخرجت، ودائما ما رافقني التوتر أثناء ذلك. أعمل الآن من منزلي.

دخل القضاة بعد ذلك في تفاصيل أعمق حول ما عاناه الشاهد وما عاينه بنفسه، أخبرهم أنه تعرض للتعذيب عدة مرات في كلا الاعتقالين أثناء التحقيقات وقبلها، ووصف بكل دقة ما شاهده من آثار تعذيب على معتقلين آخرين، كان يروي هنا وكأن الحدث “طازج” وقع البارحة أو قبلها، وكأن تفاصيله لم تبرح ذهنه ولو برهة.

“في زاوية صغيرة من المهجع الكبير كان هناك رجل مصاب في بطنه، لون الدم كان مائلا للبرتقالي، والالتهاب منتشر في قدميه، حتى أنني رأيت الدود يمشي عليهما. لم يكن قادراً على الحركة فكان يقضي حاجته في ملابسه، لاحقا نادى أحد المعتقلين السجان وأخبره أنه مات، فأمرهم بإلقائه خارج المهجع”.

-القاضي: “كيف تأكدت أنه مات؟”.

-الشاهد: “ليس لدي جواب طبي دقيق ولكن المعتقلين الآخرين قالوا أنه مات، وعندما حملوه لم يكن يتحرك، لم أستطع رؤيته عن قرب لأن المهجع مكتظ جدا”.

-القاضي: “هل كان هناك مكان للنوم في المهجع؟”.

-الشاهد: “لا، وإن حاول أحدهم الاستلقاء سيأتي آخر ويستلقي فوقه، ويأتي آخر أيضا وربما يصل الأمر إلى أربعة أجساد مكدسة فوق بعضها، لذلك لم يكن يجرؤ أحد على الاستلقاء، هذا إن وجد مكانا، لأنه يعلم أنه سيختنق بعد أقل من نصف ساعة”.

وتابع: “كانت الالتهابات حالة شائعة جدا بين المعتقلين بسبب شدة الحرارة (لأن السقف حديدي والأعداد كبيرة داخل المهجع)، ومهما كان الجرح بسيطا كان يتحول لالتهاب سيء خلال يومين. في إحدى المرات قمنا بعملية جراحية لأحد المعتقلين، في محاولة بدائية لمعالجة إصبع قدمه، حيث تخثر الدم الفاسد ووصل الالتهاب لدرجة سيئة جدا.. بقطعة دهان يابس أخذناها من الحائط وحولناها إلى مشرط فتحنا الجلد، وقمنا باللازم، لم يكن هناك أدوية ولا نستطيع طلبها بكل الأحوال… الزاوية التي وضع فيها الأشخاص المصابون كانت الأسوأ على الإطلاق، لأنها كانت نهايتهم، باختصار كان المكان جحيما”.

لم تسعف أطراف الدعوى ساعات الجلسة الست لطرح كل ما بجعبتهم من أسئلة، فقرروا استكمال الاستماع إلى الشاهد في اليوم التالي (بتاريخ 26 تشرين الثاني/ نوفمبر)، وبجلسة دامت نحو ساعة ونصف، أنهتها القاضية بكلمة “شكرا”، قالتها للشاهد باللغة العربية لا بالألمانية، معلنة بذلك نهاية الاستماع إليه.

*حضرت لأتخلص من الرعب

أمام الباب الرئيس وبعد أن انصرف الجميع، قابلت الشاهد وجها لوجه للمرة الأولى، لم يكن يدخن بشراهة أو يلتفت بكثرة كما اليوم السابق، لا تزال نبرته تحمل بعضا من القلق.

“وصلتني رسالة قبل يومين من شهادتي من إحدى وسائل الإعلام تفيد عن معرفتها بقدومي إلى المحكمة رغم اتفاقي المسبق مع هيئة القضاة على إبقاء اسمي وصورتي وكل ما من شأنه الكشف عن هويتي سرياً، فكيف وصل للصحافة؟!، كان ذلك سببا كافيا لأفكر بعدم الحضور إلى الجلسة، لقد شعرت بتهديد حقيقي، لم يكن من المفترض حدوث ذلك”.. هذا ما أخبرني به الشاهد أمام باب المحكمة، محاولا توضيح ما تداوله أطراف الدعوى عندما أخرجونا من القاعة.

رأيت علامة ظاهرة فوق عينه، سألته: أهي علامة التعذيب التي تحدثت عنها؟ فأجاب: “نعم لاتزال ظاهرة حتى الآن”. تابعنا المسير سويا برفقة خطيبته.

-هل كنتَ خائفا؟

-لا بالمطلق، توترت بالبداية قليلا بسبب الترجمة وأردت فقط أن يصل كل ما أقوله بوضوح، وأثار فضولي العدد الكبير للقضاة والمحامين الذين رأيتهم في القاعة.

أخبرني أنه كان مخيرا بين الحضور وعدمه، لأنه يقيم خارج ألمانيا، ولكنه برغم ما حدث أراد القدوم.

-لماذا؟ ماهو دافعك لذلك، رغم ما حدث من تسريب هويتك؟

-لقد شعرت أولا أنه انتصار شخصي لي أمام ضابط قام بضربي في يوم من الأيام. عندما طلب مني القضاة النظر إليه نظرت بتحدٍ وقوة، هو أيضا نظر لي بذات الطريقة، أردت أن أقول له حينها: هل تظن أنك لاتزال تملك السلطة؟ أو أنك لاتزال الأقوى؟ لقد شعرت بنظرته أنه لا يزال ذلك الضابط، أنا واثق أنه لو أُعطيَ السلطة مرة أخرى فلن يكون سلوكه مختلفا عما سبق، لقد رأيت الشر في عينيه، لم يكن خجلا أبدا ولا نادما، لقد سردت تفاصيل مؤلمة جدا في شهادتي ومع ذلك كان يبدو لا مباليا. هؤلاء الذين أخبرت المحكمة عنهم (ضحايا التعذيب)، كانوا دافعي الثاني لآتي هنا، لقد شعرت بأنني مسؤول عن رواية قصصهم، أشخاص لم أعرف أسمائهم ولكني سمعت صرخاتهم تحت التعذيب، ورأيت ما حلَّ بهم. من جهة أخرى شعرت أنني تخلصت من الرعب، رعب الاعتقال والضابط الذي لازمني مدة طويلة.

يواصل: بعد دخولي قاعة المحكمة شعرت أني في موضع قوة وعدل، قلت لنفسي: هنا لن يستطيع إيذائي. تتدخل خطيبته هنا وتكمل: لكنك بعد أن أدرت وجهك عنه اختنقت حتى ظننتك كدت تبكي. فيجيبها: صحيح لأنني بعد أن نظرت إليه وأشرت له بإصبعي شعرت أنني أشير إلى أحد مصادر ألمنا جميعا، شعرت بذلك الألم دفعة واحدة ورأيته أمامي بوضوح، في سوريا كنا دائما “مطمشين” لا نرى ولا نعرف شيئاً، نُهدَّد ونُضرَّب دون أن نعلم من يفعل ذلك بنا، فجأة استطعت رؤيته أمامي والإشارة إليه، لقد أنزلت القناع عن وجهي حينها، لم أشعر بالخوف أن يراني،كنتُ على يقين أنني في هذه اللحظة بالذات أقوى منه.

لونا وطفة – زمان الوصل – خاص

زمان الوصل

———————————-

حوار مع الصحفية لونا وطفة.. الشاهدة على محاكمة أنور رسلان

حوار يمان الدالاتي

لونا وطفة صحفية سورية مواليد دمشق عام 1981 حصلت على بكالوريوس في الحقوق عام 2011 ولم تكمل دراستها لانخراطها في التظاهرات السلمية بداية الثورة السورية في منطقة سكنها. بدأت عملها الثوري في إيصال المساعدات المالية للغوطة الشرقية أثناء الحصار، الأمر الذي أدى لاعتقالها عبر كمين نصبته لها عناصر النظام وسط دمشق عام 2014. اقتيدت لونا للفرع أربعين الأمني في دمشق وبعد ساعتين من التحقيق اقتحم رجال الأمن منزلها وصادروا ممتلكاتها وأوهموها باعتقال أبنائها لإجبارها على الاعتراف.

بقيت في المعتقل 13 شهرًا متنقلة بين فروع عدة ووجهت لها تهمة تمويل الثورة والترويج الإعلامي لتوثيقها مجزرة الكيماوي في أغسطس 2013، بالإضافة لاشتراكها بتأسيس الاتحاد النسائي السوري الحرّ.  مارست داخل السجن المحاماة فكانت تقدم الاستشارات القانونية لرفيقاتها في الزنزانة وتكتب طلبات الاسترحام للمعتقلات اللواتي لم يحصلن على زيارات عائلية. كما سرّبت بعض الرسائل للإعلام باسم “لونا العبد الله”، الاسم الحركي الذي كانت تكتب به قبل الاعتقال.

غادرت سوريا بعد الخروج من المعتقل بشهرين متجهة إلى ألمانيا حيث تقيم منذ خمس سنوات وعادت لممارسة الصحافة التي بدأتها من دمشق، تعتبر لونا الصحفية السورية الوحيدة التي كانت حاضرة في جميع جلسات محاكمة المتهم أنور رسلان، الجارية في مدينة كوبلنز الألمانية والتي تعتبر – بنظر كثيرين – خطوة أولى على طريق تحقيق العدالة للسوريين.

نسأل لونا في هذا الحوار عن تفاصيل المحاكمة وتجربتها كشاهدة وصحفية ومعتقلة سابقة.

مقابلة لونا وطفة

مرحبًا لونا، كيف حالك في ألمانيا؟

جيدة شكرًا لسؤالك. أنا هنا منذ خمس سنوات ولا أستطيع القول البتة أنها كانت سهلة. خرجت صفر اليدين محملة بالذكريات والآلام واضطررت للتعامل مع مجتمعٍ آخر لا يشبهني وبلغة لا أعلم عنها شيئ، لكنني الآن وحين أنظر أين أصبحت أرى أننا كلنا كلاجئين سوريين في ألمانيا استطعنا إنجاز الكثير بالرغم من كل الصعوبات.

بناءً على ماذا أتيح لك حضور المحاكمة؟ وكيف كانت التجربة؟

المحاكمة علنية وبناءً عليه يستطيع أي أحد حضور جلساتها، بيد أن تشتت السوريين في المدن والولايات الأوروبية وطول المسافات مع تكاليف ومشاق السفر، بالإضافة لكثرة جلسات المحكمة أدى لقلة الحضور من الجانب السوري ومن أي جنسية أخرى تهتم بهذا نوع من المحاكمات سواءً منظماتية أم صحفية، لدرجة أن الحضور عادةً لا يتجاوز الخمسة أشخاص.

حقيقةً هي تجربة فريدة من نوعها. أقول دائمًا إننا كسوريين مررنا بالكثير خلال السنوات العشرة المنصرمة ولم يكن شيئٌ مما مررنا به يمت بصلة للعدالة أو إجراءات التقاضي، لقد كانت صدفة غريبة بالنسبة لي، أيّ  نقل المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين لي ودون إرادة مني – شأني في هذا شأن جميع اللاجئين – إلى هذه المدينة بالذات قبل خمس سنوات، ومن ثم بدأ المحاكمة في هذه المدينة بالذات ولمتهمين بمعتقل كنت به سابقًا ومن ثم أن يتاح لي توثيق هذه المحاكمة! هذه صدفة لا أستطيع فهمها، لكنها بالتأكيد فرصة لا تقدر بثمن.

عندما أسمع تفاصيل روايات الشهود والمدعين، تعيدني الذاكرة بشكل تلقائي لما عايشته هناك، بعض التفاصيل التي يروونها هي ذاتها في رأسي، المكان الذي يصفونه أتذكره جيدًا لأنني كنت هناك لمدة شهرٍ كامل من فترة اعتقالي التي استمرت عامًا وشهرًا متنقلة بين عدة أفرع، والسجَّان الذي عذبهم جميعًا “أبو الغضب” عذبني أيضًا. أحاول ألا أغرق بالألم وأنا أكتب وراء الشاهد/ة أو المدعي/ـة، أحيانًا يصعب عليَّ رؤية الورقة لأن الدمع يحتبس في عيني، لكن سرعان ما أُخرج نفسي من هذه الحالة لأن توثيقي لرواياتهم كوني الصحفية السورية الوحيدة التي تفعل ذلك أهم بكثير من إطلاق العنان لذاكرتي عن المكان.

ما يجمعني بالشهود والمدعين في هذه القضية بالذات أكثر من كوني صحفية توثق إجراءاتها ورواياتهم، هو أنني معتقلة سابقة عاشت التجربة وفي عين المكان، لكن في فترة زمنية مختلفة عن تلك التي تتناولها المحاكمة. ورغم أنني عايشت الألم ذاته، فإنني أسعى دائمًا، فيما أوثقه عن الجلسات، للحيادية في النقل، وهذا لا يعني أنني حيادية في القضية ذاتها، لكن حيادية النقل جزء مما تتطلبه عملية التقاضي التي تخضع فعلًا للقانون ولا تشوبها شائبة الوساطة أو التمييع.

ليس من السهل لا على المدعين والشهود في هذه القضية ولا على سواهم قبول فكرة أن التقاضي يجري الآن خارج سوريا ومن أشخاص لا يعرفون تمامًا طبيعة الأفرع الأمنية حتى لو ملكوا الكثير من المعلومات لكنهم لم ولن يتمكنوا من رؤيتها ومعاينتها في الوقت الحاليّ، لكن ورغم أنها – إن صح الوصف – خطوة صغيرة باتجاه العدالة، تبقى تجربة مهمة جدًا على عدة أصعدة من وجهة نظري، فأولًا هي مهمة للضحايا أنفسهم فيها، لأنهم سيأخذون ولو جزءًا يسيرًا من حقهم، وهذا يحدث للمرة الأولى لأيّ معتقل سابق في سوريا، وثانيًا نحن جميعًا نتعلم الآن من هذه المحاكمة وما سيليها من محاكمات، لأننا في المستقبل سنحتاج كوادر ملمة تمامًا بأساليب التقاضي في سوريا وسيكون لدينا بالفعل خبرات محلية في هذا الشأن.

رفضت النيابة العامة الاتحادية الألمانية اعتبار العنف الجنسي في سوريا ممنهجًا، هل هذا الرفض يعني أن شهادات من تعرضوا للعنف الجنسي سيتم تجاهلها؟ يقول مكتب الادعاء العام إن هناك نقصًا في الشهادات، فلماذا هناك نقص؟

الموضوع ليس نقصًا في الشهادات، لكن لنقرب الصورة أكثر دعينا نقولها كالتالي: كل معتقل في سوريا تعرض للتعذيب بطريقة أو بأخرى وهذا ثبت برواية كل من خرج منها حيًَّا، وبالتالي فإن التعذيب “بشمولية هذه الكلمة” هو عملية ممنهجة في السجون السورية، لكن ليس كل معتقل/ـة تعرض للعنف الجنسي تحديدًا، وبالتالي فهو غير ممنهج.

هكذا رأى مكتب المدعي العام الاتحادي المسألة وهذا لا يعني أنه نفى وجود العنف الجنسي في المعتقلات السورية أو أنه سيتجاهل شهادات على صلة بهذا الموضوع، بل وجهه كتهمة أيضًا ضمن لائحة الاتهام التي تلاها في اليوم الأول من هذه المحاكمة لكن ليس كعمل ممنهج وإنما كاتهام من مدعين اثنين قالا إنهما تعرضا للعنف الجنسي في فرع الخطيب. إذًا الأمر ليس نقصًا في الشهادات، لكن عدم تعرض جميع من شهدوا في هذه القضية للعنف الجنسي تحديدًا، جعله لا يرقى لمستوى المنهجية في استخدامه كوسيلة تعذيب من وجهة نظر الادعاء العام.

من جهة أخرى أرى أن حساسية هذا النوع من التعذيب والنظرة المجتمعية والأحكام المسبقة للمعنف جنسيًا رجلًا كان أو امرأةً جعل الكثيرين يحجمون عن ذكر تفاصيل ما مروا به، ولا أستطيع لومهم في هذا – وأقصد هنا بالعموم وليس ضمن هذه المحاكمة تحديدًا – الأمر الذي جعل الصورة العامة لما يحدث في فروع المخابرات السورية تبتعد عن منهجة العنف الجنسي دون إلغاء وجوده، وتقترب أكثر من منهجة العنف بالعموم دون تحديد نوعه. باعتقادي نحتاج وقتًا طويلًا لنتعامل مع هذه النقطة بالذات وبطريقة مختلفة.

سمعت أن بعض الشهود غيّروا أقوالهم أثناء المحاكمة، ما صحة هذا الكلام؟ وما مدى تأثير ذلك على مصداقية بقية الشهادات والمحاكمة ككل؟

جملة “غيَّروا أقوالهم” تحمل معنيين: الأول أنهم أخطأوا وبالتالي سيكون لخطأهم تأثيرًا سلبيًا على مصداقية باقي الشهادات، أو أنهم كذبوا، وهنا سأتطرق للاحتمالين معًا. أولًا إن كان السبب خطأً وهو غالبًا ما يكون بالتواريخ والأرقام. حتى الآن جاء  شهودٌ ومدعون كثيرون إلى المحكمة وقالوا بشكل صريح للقضاة إنهم منذ خروجهم من المعتقل يعانون من اضطرابٍ في الذاكرة وهذا حقيقي، كثيرٌ منهم لا يستطيع تذكر التواريخ والأرقام بالذات بشكل صحيح وهذا يسمى في مجال المحاكمات الأخطاء البشرية “Human Error” وهو أمر طبيعي ومقبول مئة بالمئة ولا يُضر بقيمة الشهادة ذاتها ولا بشهادات أخرى.

البعض منهم جاء دون محامٍ وحتى دون تدريب مسبق على أداء الشهادة، لأنهم لم يعلموا عن حقهم في توكيل محامٍ، وهذا أدى بالإضافة لرهبة وقوفهم أمام هيئة القضاة، وما تسببه هذه الحالة من ارتباك حقيقي، إلى تردد بالحديث أو عدم إعطاء تفاصيل ظنوا أنها قد تؤذيهم بطريقة أو بأخرى. هذه التجربة الجديدة بكل ما تحمله الكلمة من معنى أدت لقلق الكثيرين منهم. ونحن لا نعرف ما هو تأثير هذه الشهادات عليهم في المستقبل، لا ندرك إلى أي مدى ستصل بنا لاحقًا، إضافة إلى أننا لاجئون وجزءٌ كبيرٌ منا لا يزال يخاف من فكرة الترحيل أو المستقبل الغامض، لا أحد يستطيع لوم الشاهد وهو في هذه الحالة من الخوف وعدم الشعور بالأمان والاستقرار أو التهديد الممكن خاصة مع ضعف برنامج حماية الشهود حتى الآن.

ثانيًا إن كان السبب اعتقادنا أن الشاهد/ة كذب في شهادته. فإضافة لكل ما ذكرته أعلاه نجد أن هناك اتجاهًا تاريخيًا دائمًا لتكذيب بعض تفاصيل روايات من مرَّ بمثل هذه التجارب. حدث ذلك سابقًا مع عدة أشخاص عاشوا تجربة معسكرات الاعتقال النازية مثلًا إلا أن ذلك لم يؤثر على مصداقية الرواية التاريخية للمحرقة بحد ذاتها، لأن الحقيقة الكُبرى لا تتلاشى بالتفاصيل.

السؤال الأهم لمن يعتقد أن بعض الشهود كذب في روايته، هل نستطيع أن نتأكد من ذلك حقًا؟ (إن لم يشر القضاة لاختلاف أقواله بعد مقارنتها بما أدلى به مسبقًا للشرطة الجنائية) أو هل نستطيع التأكد أن الشاهد كذب وأخبر القضاة عن شيء حدث معه وهو لم يحدث؟ خاصةً إن كان متسقًا مع ما يحدث مع المعتقل في السجون السورية عادةً. هل فعلًا يستطيع أي أحد منا معرفة ذلك؟ دون أن ننسى عدم إمكانية فحص مكان وأدوات الجريمة.

برأيي الشخصي إن معرفة تجربة كل معتقل بتفاصيلها أمر مستحيل بالمطلق، وبالتالي لا يمكن الحكم بناءً على تسلسل أحداث مثلًا أو على منهجية أساليب معينة في التعذيب، هذا غير وارد أبدًا في الحالة السورية وخاصة مع تفرُّد كل مسؤول وكل فرع أمني بفعل ما يريد وإطلاق يدهم بعد بداية الثورة السورية بشكل كامل. ولنفترض جدلًا أن أحدهم غيَّر أقواله أو أدلى بمعلومات غير صحيحة، ذلك لن يؤثر الآن على مصداقية الرواية الكاملة لطبيعة الاعتقال في سوريا، كما لم يؤثر سابقًا على حقيقة رواية الهولوكوست، خاصة مع وجود كم هائل من الأدلة المسرَّبة والتقارير الأممية وملف صور قيصر بالإضافة لشهادات الشهود في هذه المحاكمة.

محاكمة أنور رسلان

ما مستقبل المحاكمات السورية في ألمانيا بعد صدور قرار يرفع حظر الترحيل إلى سوريا؟ أعرف أن بعض الناشطين والحقوقيين والعاملين في منظمات مدنية يحملون إقامة لاجئ، فهل من الممكن أن يؤثر ما يجري لهم شخصيًا على سير المحاكمة؟

شخصيًا أجد أن قرار رفع حظر الترحيل في ألمانيا هو قرار سياسي سيئ وغير مدروس لأنه يفترض بالضرورة عودة التعامل السياسي مع نظام الأسد وبالتالي اعترافًا ضمنيًا بشرعيته، عدا عن أنه قرار زئبقي غير موضح، مثلًا ماذا نعني بمرتكبي الجرائم وعن أي مستوى من الجرائم نتحدث؟ ما نوع الخطر الذي من الممكن أن يشكله هؤلاء على الشعب الألماني لتكون النتيجة ترحيلهم؟ ما يعني أن تقدير ماهية الحالات التي قد يشملها القرار هو تقديرٌ شخصيٌ وبالتالي يحتمل الصواب والخطأ.

نعم، ربما يؤثر ذلك على سير المحاكمات من حيث ترحيل من لا يجب ترحيله مثلًا أو شعور الشهود بتأثير أقوالهم في المحاكمات على وضع إقامتهم بطريقة سلبية. حتى الآن لا يبدو القرار واضحًا لكن أجد أنه من المؤسف فعلًا أن البلد الذي بدأ محاكمة المتهمين بجرائم ضد الإنسانية ارتُكبت في سوريا، هو ذات البلد الذي رفع حظر الترحيل إلى سوريا حيث ارتُكِبَت هذه الجرائم.

كشاهدة على هذه المحكمة كيف يتم التواصل مع مقدمي الشهادات؟ وكيف تكون حالتهم النفسية بعد تقديم الشهادة؟

سأشرح لكِ كيف يصبح أي شخص شاهد/ة أو مدعي/ـة في أي من المحاكمات القادمة التي تعمل بمبدأ الولاية القضائية العالمية في المحاكم الأوروبية.

أولًا عندما قدمنا إلى أوروبا كلاجئين استمع المكتب الاتحادي للهجرة واللجوء إلى رواياتنا، عن أسباب تقدمنا بطلب اللجوء. بعضٌ من هذه الروايات حملت تفاصيل اعتقالٍ سابقٍ مع أسماء أشخاص قاموا بالتعذيب أو لأفرع أمنية كانت هي جهة الاعتقال.

في القانون الألماني يحق للمكتب الاتحادي للهجرة واللجوء مشاركة أي معلومات مع مكتب الادعاء العام، حال وجد أهمية لذلك، وبالتالي يحق له مشاركة ما ورد في جلسات استماعنا إن حملت تفاصيل كالتي أشرت إليها. يتم النظر في هذه الملفات بعد وصولها لمكتب المدعي العام، فإن كانت ضمن قضية يعملون عليها ضد أحد الأشخاص أو أحد الأفرع الأمنية تتم مشاركة هذه المعلومات مع الجهة التنفيذية لمكتب المدعي العام الاتحادي وهي الشرطة الجنائية الاتحادية.

تتواصل الشرطة الجنائية مع الشخص للإدلاء بأقواله أمامها وتطلب تفاصيل أكثر عن القصة التي رواها أو تقديم أدلة أكثر إن كان يملكها. يتم تجميع هذه الشهادات والأدلة ضمن عملية التحقيق التي تقوم بها الشرطة الجنائية في القضية المعنية وشهادة الشهود هي جزء فقط من هذه العملية، هناك الأدلة المكتوبة أيضًا والوثائق وآراء الخبراء، إلخ، ترفع الأخيرة نتائج التحقيق الذي أجرته للمدعي العام مرة أخرى.

بعد ذلك يقدم مكتب المدعي العام ملف القضية للمحكمة المختصة وهي المحكمة الإقليمية العليا في الولاية الألمانية المعنية بالقضية (في حالة المتهمين إياد وأنور كان الاختصاص لمحكمتين إقليميتين وهما المحكمة الإقليمية العليا في برلين بسبب إلقاء القبض على المتهم رسلان في برلين، والمحكمة الإقليمية العليا في ولاية راينلاند بفالز بسبب إلقاء القبض على المتهم إياد بمدينة تابعة لهذه الولاية ومحكمتها الإقليمية في مدينة كوبلنز. تم اختيار الثانية بناءً على تقديرات من المحكمتين أنها ستكون أفضل لمتابعة مسار المحاكمة حتى النهاية، لأنها في مدينة صغيرة وليست في العاصمة حيث عدد الدعاوى أمام المحكمة الإقليمية في برلين أكبر بكثير منها في كوبلنز). هذا جزء من الشهود والمدعين، هناك جزء آخر يتم تقديم قصصهم عبر التعاون بين المنظمات الحقوقية السورية والأوروبية لمكتب المدعي العام.

تنظر المحكمة بالدعوى المقدمة أمامها ولها خيار الرفض إن وجدت أنها لا ترقى لمستوى التقاضي أو قبولها، وإن قبلتها، تبدأ باستدعاء كل المدعين والشهود الذين مثلوا سابقًا أمام الشرطة الجنائية لتقديم أقوالهم مرة أخرى أمام هيئة قضاة المحكمة حيث يسألونهم عما قالوه سابقًا للشرطة الجنائية وتكون أقوالهم موجودة أمام القضاة للمقارنة بين قالوه سابقًا وما يقولونه الآن.

قد يكون هناك مدة زمنية طويلة بين ما قاله الشاهد/ة للشرطة الجنائية سابقًا وما يقوله الآن للمحكمة، أحيانًا سنة وأحيانًا عدة سنوات بحسب المدة التي احتاجها مكتب الادعاء العام للعمل على هذه القضية، لذلك كثيرٌ من الشهود ينسون أقوالهم، بسبب مرور وقت طويل أولًا، وثانيًا لعدم السماح لهم بالاطلاع على أقوالهم السابقة قبل الإدلاء بها في المحكمة للمرة الثانية. أما عن كيفية تواصل المحكمة مع الشهود والمدعين، فترسل بريدًا لهم لتحديد موعد جلساتهم لديها. إن كان الشهود ضمن ألمانيا مثلًا والمحكمة موجودة في ألمانيا فلا يحق لهم رفض دعوة المحكمة بل هم ملزمون قانونيًا بالمثول أمام المحكمة والإدلاء بأقوالهم، أما إن كانوا خارج ألمانيا فهم مخيرون بالحضور أو عدمه لأنه لا يوجد قانون أوروبي يلزمهم بذلك.

أغلب الشهود والمدعين وبحكم تواصلي المباشر معهم بعد الإدلاء بأقوالهم في قاعة المحكمة يشعر بارتياحٍ كبير، في البداية يكون الارتباك واضحًا تمامًا عليهم خاصة أولئك الذين يأتون دون محامٍ كما أشرت، وليس لديهم أي فكرة مسبقة عن طبيعة المحاكمة وجلساتها، أما بعد ذلك فأغلبهم يتخلص من الارتباك ويشعر أنه أدى واجبه الآن، ما يجعله أيضًا يشعر بنوعٍ من الرضا عن النفس والسعادة، هذه حالة لمستها لدى معظم الشهود والمدعين.

بعض ممن قدموا شهاداتهم في المحكمة وصلتهم تهديدات، كيف تم التعامل مع الموضوع؟ هل قدمت لهم الدولة الألمانية أي نوع من الحماية؟ وما نوعها حال وجدت؟

لدى مكتب المدعي العام برنامج لحماية الشهود يجب على الشاهد/ة إن شعر بالتهديد أن يسجل نفسه به وأتوقع أن أغلب الشهود لم يفعلوا هذا لعدم معرفتهم به، لكن نحن نتكلم عن الشهود المقيمين في ألمانيا فقط لأن مكتب الادعاء العام لا يستطيع تقديم حماية للمقيمين خارج ألمانيا. بعض الشهود سُمح لهم بالتكتم على معلوماتهم الشخصية أمام الجمهور في قاعة المحكمة لكن بالطبع معلوماتهم الشخصية موجودة في ملف الدعوى وبالتالي يستطيع أطراف الدعوى فقط الاطلاع عليها دون كشفها للعلن. أحد الشهود سُمح له بنصف تنكر ومُنع من التنكر الكامل فجاء إلى القاعة وقد ارتدى نظارة و لحية وشعر مستعار فقط.

بالعموم لا أجد شخصيًا أن الجهد المبذول لحماية الشهود والمدعين كافٍ حتى الآن لكنه يتحسن بمرور الوقت، فمثلًا لم يُقبل في بداية المحاكمة طلب أغلب الشهود عدم ذكر معلوماتهم الشخصية لأن هيئة القضاة لم تجد أسبابًا مقنعةً لذلك ولم يكن التهديد حينها واضحًا كما هو اليوم، أما الآن فهي تقبله أكثر من ذي قبل.

كيف غطت الصحافة العربية والألمانية تطورات المحاكمة؟ وهل كانت جيدة بما فيه الكفاية نظرًا لكونها الأولى من نوعها؟

في اليوم الأول من المحاكمة حضرت الكثير من وسائل الإعلام العربية والغربية وغطت الجلسة الأولى، لكن التغطية الإعلامية لعموم المحاكمة ولسير الجلسات لاحقًا ليست جيدة حتى الآن، فعلى المستوى العربي وخاصة السوري ليس هناك وجود صحفي في قاعة المحكمة غيري إلا ما ندر، حيث حضر صحفي أو صحفية سوريان لمرة أو مرتين فقط من أصل 56 جلسة حتى الآن، وبالتالي تكتب بعض المواقع تقارير بين الحين والآخر معتمدة على ما يُنشر سواءً مني أم من المنظمات الحقوقية المتابعة للقضية وللأسف في الغالب دون الإشارة للمصدر فيظن البعض أنهم حاضرون في المحكمة ومتابعون لجلساتها، الأمر الذي يخلق انطباعًا غير صحيح بوجود تغطية إعلامية فاعلة.

أما على المستوى الألماني فهناك بعض الصحفيين والصحفيات الذين يتابعون بشكل متقطع حضور بعض الجلسات لكنهم لم ينقطعوا بشكل كامل كما حدث مع الصحافة العربية والسورية. لا يزال اهتمام الصحافة الألمانية بالمحاكمة أفضل من الصحافة العربية والسورية، ونسبة التقارير التي يكتبونها عنها أكثر من تلك العربية التي كُتبت حتى الآن، لكن شخصيًا لا أعتبر أن ما كُتب حتى الآن على الأصعدة كافة كافيًا لإعطاء محاكمة بمثل هذه الأهمية حقها.

برأيك كيف تؤثر هذه المحاكمات على نظام الأسد؟

هذه المحاكمة وما سيليها من محاكمات لن يكون لها تأثيرٌ سريع أو مباشر على نظام الأسد، لكن باعتقادي أن تراكم هذه المحاكمات مع ما يصدر عنها من أحكام ستكون أداةً قويةً بإيدينا مستقبلًا للضغط باتجاه تغيير الواقع السوري، لأنها مستندٌ قانوني يدين منهجية العنف في سوريا، صادرٌ من محاكم مختصة ومنفصلة عن إرادات الدول.

للعمل ضمن نطاق الولاية القضائية العالمية يجب أولًا إثبات أن ما ارتُكب من جرائم تقع تحت مسمى جرائم ضد الإنسانية وليست جرائم شخصية ارتكبها متهمٌ بشكل خاص ومستقل مثلًا. لأجل ذلك كان هناك الكثير من الجلسات التي تناولت الوضع السوري بالعموم وتم استدعاء خبراء سواءً أوربيين أم سوريين كشهود للإدلاء بآرائهم تجاه ما يحدث هناك، كما تمت قراءة عدة تقارير أممية في قاعة المحكمة صادرة عن منظمات عالمية تهتم بموضوع منهجية التعذيب في الأفرع الأمنية مثل تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش “لم نرَ مثل هذا الرعب من قبل”.

هذه الأمور تؤدي لإدانة العنف الممنهج، ما يعني أنني لأدين  شخصًا واحدًا فقط ماثلًا أمامي كمتهم، لا بد لي أن أدين كامل المنظومة التي عمل بها سابقًا، وهذا ما يعنيه مبدأ العمل بالولاية القضائية وأحقية هذه الدول بتناول جرائم لم تحدث على أرضها ولا تمس مواطنيها ولا علاقة لها بها، ومن هنا تتجلى أهمية هذه المحاكمات، أي بإدانة المنظومة الأمنية كاملة في سوريا، وهذا ما سيكون مصدر تهديد للنظام السوري في المستقبل.

كيف من الممكن أن تفتح هذه المحاكمة الطريق لمحاكمات أخرى في ألمانيا وأوروبا ولمجرمين آخرين؟ هل سيفتح الباب لتحقيق أوسع للعدالة؟

كل قضية منفصلة عن الأخرى، لكن جميعها بالطبع تؤدي لتحقيق مستوى أفضل من العدالة للضحايا، أما عن فتح الطريق لمحاكمات أخرى، فهذا يعتمد على ما لدى الادعاء العام من أقوال وما قدمه أساسًا اللاجئون من معلومات لبناء ملف القضية.

قدم السوريون الكثير حتى الآن، و هم في الحقيقة السبب الرئيسي لوجود هذا النوع من المحاكمات، فلولا أقوالهم وشهاداتهم لم يكن لهذه المحاكمات من وجود، وبحسب اطلاعي ومعرفتي ببعض التفاصيل من مصادر خاصة، أستطيع القول إن عددًا كبيرًا من المحاكمات سنسمع عنه قريبًا.

يمان الدالاتي

صحفية ومحررة في موقع نون بوست

نون بوست

———————————

===========================

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button