نقد ومقالات

فواز حداد.. سردية الثورة السورية بأكثر من قراءة/ بشير البكر

فواز حداد ظاهرة فريدة في الرواية السورية. بدأ الكتابة مبكراًـ لكنه نشر متأخراً بعدما تجاوز سن الأربعين بقليل، وخلال زمن وجيز صار لديه منجز روائي كبير يصل إلى 14 رواية. وقبل كل شيء، فهو في مرتبة العابر للأجيال في الرواية السورية. ليس لديه أية قرابة مع الرعيل الأول في الرواية السورية الجديدة من أمثال حنا مينة، نبيل سليمان، حيدر حيدر، هاني الراهب، ممدوح عزام، خيري الذهبي، وليد اخلاصي، وخليل النعيمي، ولا مع الأجيال التي جاءت لاحقاً، والتي بدأت في السبعينات والثمانينات مثل سليم بركات، خالد خليفة، محمد ابو معتوق، فيصل خرتش، خليل صويلح، سلوى النعيمي، وسمر يزبك. هو ليس بعيداً من أحد من هذه الأجيال على صعيد الموضوعات، لكنه مختلف في البناء السردي كونه من نمط النساجين الذين يأخذون العمل على محمل الصبر. غير منقطع عن الانتاج منذ بدأ الكتابة، ويعمل بدأب شديد وصمت ولا ينشغل بالإعلام والنقد الذي لم يعطه حقه. ونادراً ما يتكلم عن مشاريعه الروائية، تاركاً الأمر يسير من تلقاء نفسه، وحين تكتمل الرواية يدفع بها إلى ناشره الوحيد وصديقه الأثير، الكاتب الذي رحل منذ فترة قصيرة رياض نجيب الريس.

بدأ حداد النشر متأخراً، وظهرت مجموعته القصصية الوحيدة، “الرسالة الأخيرة”، في العام 1994، وأول رواية “موزاييك، دمشق 39” في العام 1991، ومنذ لك الحين توالت أعماله بلا انقطاع، وآخرها الذي صدر في العام 2020 بعنوان “تفسير اللاشيء”. وعندما قرر النشر، كان قد وجدت المعادلة المعقولة للبداية، وهي العودة الى الماضي القريب، كتمهيد للدخول إلى العصر الذي يعيش فيه، نجح في “موزاييك” و”تياترو” لكن منعت “صورة الروائي” التي كانت أحداثها تجرى في السبعينيات. منعت على أعلى المستويات ومن ثلاث جهات، من الرقابة في اتحاد الكتاب وهي مخطوطة قبل النشر، ومن وزارة الإعلام بعد النشر في بيروت لدى محاولة تمريرها إلى الداخل، ثم من القيادة القطرية بعد محاولة الناشر التوسط لإدخالها بعد المنع الثاني. وبعدها أصبح موضوع المنع وارداً إزاء كل عمل.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار الزمن الذي ينفقه في الكتابة ومسألة التفرغ لها، فإنه يعد كاتباً غزير الانتاج. 14 رواية خلال أقل من 30 عاماً هو منجز كبير، لا سيما أنه لم يتفرغ للكتابه إلا بعد خروجه من دمشق بعد قيام الثورة السورية، بالإضافة إلا أنه لم يستقر في مكان واحد خلال السنوات الأخيرة، وتنقل مرات عديدة قبل أن يقيم في لندن في صورة مؤقتة منذ عامين. وهو بذلك غير متأثر بالمكان الذي يكتب منه، طالما أنه يحمل ذخيرته الخاصة معه، بل بالعكس، باتت رواياته تتلون بما يكسبه الكاتب من المحيط الذي يعيش فيه من ثقافة حياتية يومية، ومن غير أن أطلق حكماً نهائياً، فإن أجواء الأعمال الروائية تبدلت ما بين دمشق وسواها من البلدان الأخرى التي عاش فيها الكاتب خلال السنوات الأخيرة. صحيح أن الكاتب على العموم ليس رحالة، لكنه كائن يتفاعل مع المؤثرات اليومية حتى لو لم ينتبه لذلك.

وما يميز حداد أنه كرس نفسه منذ خروجه من سوريا في العام 2012 للكتابة كلياً، وتوقف عن أي عمل يومي آخر، وهذا ترف يطمح إليه كل كاتب، ولكنه ليس بالأمر المستحيل، إنما يحتاج تنفيذه إلى إتقان هذه العادة الجديدة وجَلَد خاص على الكتابة، لا يتوافر لكثيرين من أصحاب المشاريع، وفواز أحدهم، فهو يجلس على طاولة الكتابة يومياً من الثامنة صباحا حتى الواحدة ظهراً، ما عدا يوم الجمعة “أكتب يوميًا من دون انقطاع، أجلس وراء الطاولة، ولو لم أكتب شيئًا، أعيد قراءة ما كتبته البارحة أوّلًا، أُجري بعض التنقيحات، أو أشطب بعض ما كتبته البارحة، ثم أكتب جديدًا. أعيد الكتابة عشرات المرات، مسودات الرواية تبلغ ثمانية وقد تزيد عن خمس عشرة مرّة، دائمًا هناك حذف وإضافة”.

ويبدو من اعترافاته هنا أنه منصرف للكتابة فقط. أن يعيد الكاتب كتابة الرواية حتى حدود خمس عشرة مرة، أمر لا أظن كاتباً آخر يقوم به. هو يحتاج كما أشرت إلى ما يفوق الجَلَد، لكنه يعني في الوقت ذاته حب العمل والاعتناء به، وهذا نوع من الحياكة التي تصقل أدوات الكاتب، وتعفيه من ارتكاب الأخطاء الدارجة، ما يفسر سر تماسك البناء الروائي لدى حداد، والذي يبدو أنه مشغول بعناية عالية، وليس هناك أي تفصيل متروك للمصادفة، وهذا عائد لمفهومه للرواية. فهو يلح على المعمار الروائي، “أعمل عليه بتأن وعلى النفس الطويل، ولا أهمل على مدار اشتغالي عليه”. وأخذت رواية “الضغينة والهوى” ما لا يقل عن ثلاث سنوات في الكتابة، أدرك بعدها أنه لا يمكن له إذا أراد المحافظة على هذه السوية من الكتابة سوى التفرغ، واضطر إلى القيام بعملية بحث في فترة الخمسينيات، الصراع بين العسكر والسياسيين، التحالفات الدولية، النفط، الآثار، التبشير، الدبلوماسية، الجاسوسية، القضية الفلسطينية.

لكن هذه الرواية حوصرت في الداخل، بجهد لئيم من المشرفين على الصفحات الثقافية، ولم ينقذه من الإحباط إلا أنه كان قد بدأ قبل عام في كتابة عمل آخر “مرسال الغرام”، وكان يحتاج إلى الكثير من المراجع وساعات العمل، فكان مع قراره النهائي بالتفرغ، في العام 2000 بعد ضمان الحد الأدنى من البقاء على قيد العيش. وكانت المشكلة بعد الانتهاء من كتابة “مرسال الغرام” استحالة نشرها في دمشق وبيروت معًا، والحل الوحيد أن يقبل رياض الريس نشرها، كان المشاغب العنيد في الكتابة، يهتم بالكتاب ولو كان سيمنع من البلدان العربية كافة. وفي حوار بيني وبين حداد يقول “أرسلتها له وانتظرت ثلاث سنوات. كان المانع أنها وضعت على الرف ولم تُقرأ بسبب حجمها الكبير، ويبدو أنه أحرج مني بعد اتصالي به مرات عديدة. فطلب من المحرر الاطلاع عليها، ولم يقرأ المحرر اكثر من خمسين صفحة، حتى عاد برأي إيجابي جداً، فنشرت العام 2004، تلتها رواية “مشهد عابر” كذلك بقيت لديه ثلاث سنوات، هذه المرة بسبب جرأتها الفائقة، قال لي رياض: بالنسبة إلي لا يهمني شيء، نحن خائفون عليك أنت في دمشق. ثم نشرها العام 2007. وهكذا بدأت صداقتي مع رياض، كان في كل عام يسألني إذا كان لدي جديد. حتى بعدما أصبحت رواياتي محظورة، ولو لدخول معرض الكتاب”.

في الداخل السوري جرى تجاهله، الا القليل جداً من المقالات، “كان بعضها لئيماً ومسموماً، الادعاء بأن جرأتي ليست سوى بحث عن الشهرة، مع أنني كنت اتهرب من أن أكون معروفاً، حتى أن رياض الريس كان يقول لي انه كان يسأل المثقفين السوريين عني، فيزعمون انهم لم يسمعوا بإسمي، هذا بعدما أصبح رصيدي خمس روايات. وفي الواقع لم أرد الاصطدام مع المخابرات، لئلا أتوقف عن الكتابة، فقد وصل إلي اكثر من خبر أن هناك جهات مسؤولة تقرأ رواياتي، ومنهم وزراء وضباط يجهلون أنني اكتب من دمشق، ظنوا أني من المعارضة في باريس”. ويضيف حداد “خرجت من سوريا في آب 2012، ولم أكن أرغب في مغادرتها، لكن دعوة من صديق شجعتني، ووفرت لي الاستمرار في التفرغ، لولاه لكانت الرواية الآن حبيسة الأدراج. فقد توافر لي الشعور بحرية مطلقة مع الإحساس بالأمان. رغم اعتقادي بأنه إن لم يكن الكاتب متحرراً في داخله، فلن يكون حراً مهما كانت ظروفه جيدة”.

مادة فواز حداد، التاريخ السوري وواقع الحياة السورية. بدأ من مكان صريح وواضح، من دمشق الواقعة تحت الانتداب بكل ما كانت تحفل به العاصمة السورية في ذلك الوقت من تنوع وتعدد، وذلك في رواية “موزاييك، دمشق 1939″، وسافر في رحلة طويلة ليصل إلى “تفسير اللاشيء” آخر إصدارته. ومن المؤكد أنه لن يقف عند التفسير الذي يوحي من بعيد أن الكاتب يتجه نحو التجريد في العنوان الأخير، بقدر ما هي مسألة “تكنيك” سبق له أن اتبعه في عناوين أخرى، فيما كان يغوص في الواقع، مثل عمله المعنون بـ”الشاعر وجامع الهوامش”، ورغم أنه بقي في موضوعه الرئيسي نفسه، الزمن السوري، فإنه غاص أبعد في التجريد من خلال الشخصيات المحورية في الرواية: المفكر، الفنان، والمثقف، والذين من خلالهم يبسط الحال السوري على استقامته، ويضعه على طاولة التشريح بوصفه زمناً معتلاً، يحتاج إلى علاج خاص لأنه خارج من عوالم “الدولة الشمولية الرثة”، التي بناها حاكم سوريا لتحول المواطن إلى كائن خارج الزمن والتاريخ.

ما يساعد على قراءة فواز حداد هو القدرة على الكتابة من داخل الحدث. كتابة ليست تقريرية او على شاكلة الريبورتاج الصحافي، بل هي سردية روائية تستوفي كل الشروط الابداعية. وهو، على عكس أطروحة دارجة في بعض أوساط الكتاب، تقول بأنه لا يمكن أن نكتب عن الحدث قبل نهايته. وهذا غير دقيق. يصح الوجهان. هناك من الروائيين من كتب عن الحرب الأهلية الاسبانية قبل نهايتها، وهناك من كتب عنها لاحقاً، وكان لكل من تلك الأعمال الروائية موقعه ومكانته طالما أنه لم يخرج عن حدود الرواية. ولا يكتب حداد فقط من داخل الحدث السوري الكبير الذي بدأ العام 2011 بالثورة على النظام، وإنما رجع إلى الوراء حين أطل التوحش برأسه في الثمانينات، ويبدو أنه ذاهب نحو مستقبل هذا الحدث بقوة “خلافًا لما قلته سابقًا، امتد مشروعي الروائي عن الحدث السوري، لم يعد ثلاث روايات أصبح خمس روايات، وليس هذا من باب التطويل، ولا أنّني وجدت موضوعات جاهزة أكتب عنها، الأمر غير هذا تمامًا. إنّه حدث هائل، تتفتق عنه أسئلة أكثر من أن تحتويها مئات الروايات”.

وضع حداد في رواية “السوريون الأعداء” الأساس لمشروعه الروائي ما بعد الثورة الذي يتوالى في روايات تطرح سيرة الخراب السوري، وكل ما صدر بعدها من أعمال هو السير في دروب الآلام مع اختلاف للأحوال والعناصر والأدوات والأجواء. من تلك الرواية أعطى اشارة للقراء الذين يتابعونه، على أنه سيذهب في مسار ليس فيه ما يسر أو يفرح لأنه سيفتح الجرح على اتساعه ويكشف الوحشية التي لا حدود لها. وتشكل رواية “الأخوة الأعداء” المدخل إلى المأساة السورية كونها كانت البروفة التي بدأت في العام 1982، وخلالها تدرب الوحوش على كل فنون القتل، وبالتالي فإن كل ما يصدر عن هذا المجتمع فإنما يجد أسبابه في تلك الأيام التي كشف فيها النظام عن وجهه وملامحه القاسية، وبدأ مشروعه القائم على الدم. وتشكل هذه الرواية ملحمة السوريين الخاصة، إذ لم يسبق لروائي سوري أن كتب من داخل الجرح. كتب من دون خوف أو مكيجة للوضع وبلا مجاملات او مراعاة لاعتبارات سياسية او ردود أفعال. قال كل ما يمكن أن يقوله الضحايا حين تتاح لهم لحظة رواية ما عاشوه، ولذلك لم تعجب هذه الرواية الكثيرين ممن يريدون تعقيم التاريخ وتنظيفه من الدماء قبل تقديمه للقراء.

وأظن أن فواز حداد أنفق في تلك الرواية من الجهد والوقت أكثر مما أنفقه في أي رواية أخرى من رواياته، ليس لأنها جاءت من الحجم الضخم، بل لما حفلت به من وقائع وما جاء فيها من تفكيك وإعادة تركيب لمجزرة حماة وما ترتب عليها أو نتج عنها من استبداد ضرب الحياة السورية بالكامل، وهو يريد أن يقول إن ما عاشته سوريا منذ العام 2011 من رعب على يد النظام، إنما تأسس هناك في بداية الثمانينات، وهذه الوحشية ليست رد فعل على الثورة الجديدة، بل هي خميرة جاهزة جربها النظام وعرف مفعولها السحري، لكنه لم ينجح في تطبيق الوصفة نفسها، ولم يستفد مما راكمه من عنف كي يسكت الناس كما حصل في السابق. ويصف حداد هذه الرواية في شهادة له: “بدأت كتابة “السوريون الأعداء” بعد مضي نحو ستّة أشهر على الثورة، وأخذت منّي من الوقت ما يزيد عن عامين. كنت أكتب يوميًا ومن دون انقطاع، مُحاولًا تغطية أربعين عامًا من عمر النظام، الأمر الذي اضطّرني للعودة إلى الكثير من المراجع. أما القسم الثاني منها، خاتمة الرواية، ويتعرّض للسنة الأولى تحديدًا من الثورة، فكنت قد عشته يومًا بيوم”.

يكتب فواز حداد طيلة الوقت، وكلما رأيته أجده قد خرج من عمل أو أنه منشغل في عمل جديد. ويمكن هنا أن أسجل ملاحظات عديدة. الأولى هي أن حداد يشكل إضافة جديدة للرواية السورية وتعزيزاً لها بين ما ينتجه الروائيون العرب، ومن خلال تتابع أعماله إنما يرفع من مكانة الرواية السورية ضمن رؤية واعية لما يتصوره هو للكتابة الروائية السورية. الملاحظة الثانية هي أنه تجرأ اكثر من غيره، ونزل من البرج العالي إلى الشارع واستقى من الثورة مادته الخام، وهو بذلك يشتغل عبر “تعرية واقع يجري بمرمى أبصارنا، بالتوثيق والخيال والتأمّل. ليس لأنّه يمنحنا مادّة غزيرة للكتابة فقط، بل للتعرّف على أنفسنا أيضًا، وبلادنا وتاريخنا، والجنون البشري، والفساد المعمم، وجرائم التسلّط… والأهم، أنّه لا مفر من الحربة والعدالة.” وفي رواياته المتتالية بعد العام 2011، عمل، بحسب النقّاد، للولوج إلى قطاعات المجتمع السوري، راصدًا علاقة كلّ منها مع تقلّبات الوضع السوري التي أزهرت في الربيع، ثم تداعت إلى جحيم أرضي.

أما الملاحظة الثالثة فتتمثل في أن حداد صاحب النهايات المفتوحة في أعماله الروائية، في فترة ما بعد العام 2011، ما يعني أننا أمام مشروع روائي لن نجد له مثيلاً حين نرجع إلى سردية الثورة السورية بأكثر من قراءة.

الرواية المقبلة، وهي جاهزة لدى دار النشر، وعنوانها “يوم الحساب”، ستليها في العام المقبل رواية ضخمة عنوانها “النظام”، وهو لا يستبعد التورط في رواية سادسة تجول في رأسه، وبذلك يكون قد وضع نقطة الختام حول تصوره لهذا العصر الذي عاشه. بعدها تبدأ مرحلة أخرى في رحلته الروائية، من دون التخلي عن سورية موضوعه الأثير، “إذا منحت سنوات أخرى من العيش فلدي ما أقوله عن هذا العصر. هذا العالم لا يصح أن نخرج منه قبل أن نقول كلمتنا فيه”.

لماذا روايات عديدة؟ “لأنني في مواجهة عصر يمتد نصف قرن على الأقل، كل رواية من رواياتي تتعرض للحدث السوري من زاوية، تبرز جانباً، من دون إغفال الجوانب الأخرى، ما حدث في الربيع العربي، كان حدثاً هائلاً، ولا يمكن حصره في هذه السنوات، بل يعيدنا إلى ما سبقه، لا سيما النظام ككيان ضخم وجبار، راسخ ومشوه حتى العظم، حوّل سوريا إلى هولوكوست، لا يمكن الكتابة عنه من دون التوغل فيه”.

المدن

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button