نقد ومقالات

البحث عن أجمل صورة في العالم : كيف يكون شكلهم هؤلاء ال .. سوريون؟

بين صيف ٢٠٠٦ في حمص وباريس ٢٠١٤، تتداعى ذكريات وحيّوات المصوّر السوري، مظفر سلمان، بين أزمنة البدايات والعمل في ظروف صعبة بحثا عن “أجمل صورة في العالم” يحلم أي مصوّر بالتقاطها، حيث توقف عن التصوير صيف ٢٠٠٦ تاركا عمله، وبين نهايات تراجيدية أوصلته مرة أخرى إلى التوقف عن التصوير عام ٢٠١٣ لأسباب مختلفة، نقرأ عنها في هذا السرد الذي يدفع كل منّا للبحث في ذاته وجوانيته وأحلامه، سواء المتحقّق منها أو المجهض.

-اقبض على السوريين الذين رفعوا العلم فوق قوس النصر.

– حاضر سيدي، ولكن … كيف يكون شكلهم هؤلاء ال .. سوريون؟

حمص صيف عام ٢٠٠٦

أنا الآن ممدّد على الكنبة في غرفتي، استيقظت للتو وغير قادر على النهوض، نظري باتجاه الأرض، أتأمل عشرات الصور فوق طبقة من الجرائد، ماتزال عليها بعض من آثار المياه بعد عمل ليلة طويلة أخرى امتدّ حتى الصباح، طبعت خلالها تلك الصور. ولأنني لم أكن في ذلك الوقت أترك كادراً أبيض حول الصورة عند الطباعة، فلم أرغب بتعليقها على الحبل باستخدام الملاقط، كي لا تترك أثراً، واكتفيت بوضعها فوق عدّة طبقات من الجرائد على الأرض مباشرة بعد غسلها بالماء، فكان أول عمل أقوم به عندما أستيقظ، وفي شكل شبه يومي، هو جمع الصور خوفاً من سحقها تحت قدمي بالخطأ، لكنني أشعر بتعب وإرهاق شديدين اليوم، فقد مضى شهران على هذا النحو، ولم أصل إلى حل للمشكلة، كما لم يعد لديّ القدرة ولا حتى الرغبة في فعل الجزء الأكثر متعة من عملية التصوير المتمثل في الطباعة.

28 تموز 2020

متفكراً بما حدث وبين النوم واليقظة، تلتقط عيوني الصور من على الأرض ليعبث بها الحلم ويغير من تكوينها، أثناء دقائق، قبل أن أصحو من جديد لأرى الصور قد عادت إلى شكلها الأصلي.

منذ شهرين فقط تركت العمل الذي طالما حلمت به في التصوير الصحفي، والأسوأ أنني لم أستطع الاستمرار به أكثر من ستة أشهر، هذه الفكرة أرعبتني، فأنا بالفعل قد غيّرت مسار حياتي سابقاً، بعد سنوات مريرة وصعبة، تخلّلتها فترة الخدمة العسكرية، لذا فإن فكرة تغيير المسار مرة ثانية غير واردة إطلاقاً.

لم يحدث أي مشكلة حقيقية، فقط شعرت أنني لم أعد أستطيع التصوير، أطفأت جهاز الخليوي وحجزت نفسي في منزلي المستأجر في دمشق ثلاثة أيام متتالية، كانت خلالها الأحداث التي يجب عليّ تصويرها تنهال على ضميري، وكأنني أحد الملائكة الهاربين من واجبهم الإلهي المقدّس في تسجيل خطايا البشر، وبعد أن تأكدت أنّ ضميري الذي لم يهتز خلال ثلاثة أيام لن يهتز في اليوم الرابع، قرّرت ترك العمل والعودة إلى حمص.

تجنباً لمشاكل إضافية قرّرت ألا أخبر عائلتي أنّ سبب تركي العمل هو اختفاء رغبتي بالضغط على زر آلة التصوير، واكتفيت بجملة واحدة “تم طردي”، وهذا شائع جداً مع القطاع الخاص الوليد حديثاً آنذاك في سوريا، لأن فكرة أن تتقبّل عائلتي فشلي أكبر بكثير من تقبّل ضعفي أمام زر الكاميرا، الذي بمقدور أي انسان في ذاك وهذا الزمان الضغط عليه في سهولة بالغة.

بداية اعتقدت أنني تعبت كثيراً من كثرة طلبات الصحفيين الذين لم يخفوا سعادتهم في وجودي معهم، فصاروا يطلبون مني صوراً لكل شيء تقع عيونهم عليه، أي شيء يمكن أن يكون الآن أو في المستقبل مادة لمقالة تنشر في المجلة، هذا النوع من التعب كان سيزول طبيعياً بعد ليلة نوم جيدة، ولكنه بقي وزاد عليه، طعم مرارة في فمي عند استيقاظي صباحاً حتى بعد ثلاثة أيام إجازة إجبارية فرضتها على نفسي. كنت رويداً رويداً أفقد رغبتي في التصوير حتى كرهت حمل الكاميرا. وكأنني أخسر نفسي بشكل عصي على التفسير؛ أخافني ذاك الشعور جداً حتى أنني لم أجد حلاً سوى ترك العمل والانسحاب إلى غرفتي في حمص والاحتماء بها حتى تتكشف الحقائق.

21 آب 2020

استرداد الروح القديمة كان طريقي الوحيد في البحث عن حل لتلك المشكلة، عدت إلى كاميرا الفلم القديمة والتصوير الحر، التظهير والطباعة التقليديين، كنت أظن أنّ عملي على الكاميرا الديجتال كان له أثر سلبي، حيث شعرت في أول مرة التقطت فيها آلاف الصور الجاهزة للنشر بعد لحظة التصوير فوراً، بشيء يشبه رمي إصبع ديناميت في بحيرة لصيد السمك، و لكن هنا البحيرة كانت أنا، شعرت أن ذلك الأمر خرّب شيء ما، يجب عليّ الغوص عميقاً حتى أحدّد ماهيته.

لم يكن لدي الكثير من الأماكن حتى يبدو أنّ الغوص صعب ومرهق إلى هذا الحد، الشوارع الخاوية من المارة عند هبوب الريح القوية كانت إحدى أكثر الأوقات التي أنتظرها كي أستمتع بساعات طويلة من المشي، أو بلكون الطابق الثاني المطل على حديقة المنزل، فعلى الرغم من أنني أغطس إليه صعوداً ولكنه موجود في مكان سحيق لا أعرف سبّبه، سطح المنزل أيضاً. لا بد أن أنام صيفاً على سطح المنزل حتى لو اعترضت أمي. ومع ذلك هأنذا بعد شهرين من الغوص اليومي في أعماقي التي تبدو بدون قاع، أجد نفسي غير قادرٍ على النهوض مجدداً، وعقلي وحلمي يتنازعان على شكل الصور الأخيرة، وكأن كل واحد منهما يريد شيئاً مختلفاً.

في ذلك المساء، وفي أثناء تصفحي، لأحد الدفاتر القديمة في محاولة للتأكد من بعض القواعد في استخدام الفلاتر الملونة أثناء عملية التصوير، باللونين الأبيض والأسود، قرأت في زاوية إحدى الصفحات السؤال التالي: أين هي أجمل صورة في العالم؟

دمشق صيف عام ١٩٩٧

كان لا بدّ لي من البقاء في دمشق، ذاك الصيف، من أجل متابعة دروس اللغة اليابانية وأيضاً لإنهاء الفترة التدريبية في أحد مكاتب الخدمات السياحية في المدينة. وعلى النقيض من المتعة الكبيرة التي وجدتها في دراسة التاريخ والآثار واللغات كان التدريب في مكتب سياحي عمل شاق ينطوي على تعقيد بدت في مقابله رموز الكانجي اليابانية سهلة الفهم، ذروة التعقيد ذاك كانت عندما قال لي مدير المكتب مرة: “لازم تكون حربوء”. ومع أن الكلمة بسيطة وواضحة المعنى، ولكن لم أفهم ما علاقة دراسة التاريخ والآثار بأن أكون حربوء. وقتها تعلّمت الفرق بين اللغة والكلام، حيث أن إتقان لغة يمكن من خلال الدراسة أما فهم الكلام فلا يمكن، إلا من خلال عيش الخبرات الحياتية، هذا الفهم لم يجعل من مهمتي سهلة أبداً، فقد كان صيفاً صعباً جداً لدرجة أن زياراتي إلى بيت العائلة، في حمص أصبحت حاجة روحية أكثر منها زيارات روتينية.

بالإضافة إلى ذلك حدث أن اشتريت في ذلك الصيف أول فيلم أبيض وأسود بعد أن توضح حبي للتصوير من خلال كاميرات زملائي أثناء زياراتنا الأسبوعية للمواقع الآثرية، إذ مللت من تصويرهم كما يريدون وقرّرت أن أمتلك فلمي الخاص، وأن أصوّر ما أريد وكان مرجعي الوحيد في ذلك الوقت قبل أن يكون لدي إنترنت أو كمبيوتر، هو كيس كبير ممتلىء بالصور العشوائية القديمة، موجود في خزانة الثياب الخاصة بغرفة نوم أمي، إذ احتفظت بما بقي من متعلقات والدي بعد وفاته، مطلع العام ١٩٨٧.

وعلى الرغم من أنني أفرغت محتوياته عشرات المرات خلال السنوات العشر السابقة، إلا أنه كان في كل مرة يدهشني بشيء جديد. لم أقتنع بقدرات الكيس السحرية إلا في ذلك الصيف عندما قدّم لي فلم نيجاتيف بعلبته المعدنية، علمت بعد سؤالي لأخي الكبير أنه كان آخر فلم في كاميرا والدي.

هارباً من تعقيدات الحاضر وشخوصه الضبابية إلى الماضي البسيط والواضح وجدت نفسي أعود من الماضي بتعقيد أكبر، وصورة أكثر ضبابية من صور شخصيات العاصمة، فبعد أن قمت بتظهير الفيلم الذي تخرّب بمعظمه بسبب عدم حفظه بشكل سليم زمناً طويلاً، وجدت على شريط النيجاتيف ملامح صورة وحيدة طلبت من فني الطباعة في المختبر طباعتها، ولكنه اعتذر بحجة أنها متضرّرة جداً لدرجة أنّ جهاز الطباعة الآلي لم يستطع طباعتها في شكل صحيح، فقد كانت شفافة جداً لدرجة أنّ الشخوص الثلاثة المتواجدين في الصورة يبدون كأشباح بوجوههم المطموسة الملامح.

بتواطؤ استسلمت سريعاً لكلام فني الطباعة، ثم خرجت وسعادة خفية دفعتني لعدم الذهاب الى أيّ مختبر آخر وتجريب محاولة أخرى، وكأنني كنت سعيداً بضبابية الصورة، الأمر الذي سيتيح لي استمرار تخيّلها كما أريد، وبالتالي استمرار العلاقة مع ذلك الماضي الذي لم يقطع صلته بي فأرسل لي هذه الصورة. أعدت لف النيجاتيف داخل علبته المعدنية الأصلية وعلقتها مع مفتاح المنزل لتكون في جيبي دائماً، أتحسسها بأصابع يدي اليمنى في أي وقت أشتاق فيه للحديث مع والدي عن المستقبل، مثلما فعلت تماماً، في آخر مرة كنت عائداً فيها، معه إلى المنزل، من ورشة النجارة مساء، وهو يمسك بيدي اليمنى على طول الطريق.

حمص شتاء ٢٠٠٣

    أين هي أجمل صورة في العالم؟ (سألني أستاذ التصوير).

    في جيبي منذ ست سنوات (فكرت).

لم يمنعني عن ذاك الجواب سوى أنني أردت أن يبقى موضوع الصورة خاصاً بي، وعندما جاء جواب الأستاذ: “إنها في رأسك، ويجب أن تبقى هناك وفي اللحظة التي تتشكل خارج رأسك فأنت ميت (كان يقصد الموت الفني)!. ربما كان من الجيد أنني صمتُّ ولم أتسرع في جوابي الأحمق ذاك، فلم أرغب بأن أبدو ميتاً أمام استاذي وأصدقائي بهذه السرعة، وكان من الجيد أيضاً أن الصورة على نحو ما هي في عقلي وأنني بالفعل أتخيلها دائماً. ولكنني بعدما سمعت جواب الأستاذ صرت خائفاً من طباعتها لأنني غير واثق من أنّ صورة أخرى ستنبت في عقلي بدلاً عنها، لقد كانت الصورة قاربي الوحيد الذي حملني إلى الماضي، وأعاد ربطي بما سُلب مني بشكل حسي وليس مجازي، لقد كانت صورة من والدي يمكن أن تكون ما أريده، لكنْ إذا طبعتها ستأخذ شكلاً نهائياً وسيسقط القارب من رأسي وأفقد وسيلتي الوحيدة في السفر ثانية الى الماضي.

لم يكن جواب الأستاذ مكتوباً على إحدى صفحات الدفتر لحظة قرأت السؤال في مساء ذلك اليوم من صيف عام ٢٠٠٦ في حمص، لكنني تذكرت كل تلك القصة، لقد كان السؤال محفوراً في ذاكرتي، أفكر الآن بأنني ربما بالفعل متُّ فنياً أثناء عملي في دمشق دون أن أدرك ذلك، وهذا الألم ليس إلا بسبب رفضي مغادرة الواقع!

تساءلت عندها عن جدوى احتفاظي بالصورة مجهولة الفحوى والهوية، طالما أنها لم تعد تنقذني وقرّرت طباعتها في تلك الليلة.

لم تسعفني التقنية المتوفرة في طباعة الصورة الشبحية تلك بسهولة، حتى عندما أغلقت عدسة جهاز الإسقاط الضوئي حتى آخرها، وحددت زمن الطباعة بثواني قليلة، كانت النتيجة صورة سوداء في شكل كامل، كان علي أن أمسك ورقة سوداء تحجب الشعاع الضوئي عن ورقة الطباعة الحساسة للضوء، وأن أحركها ذهاباً ثم إياباً، في أقصى سرعة ممكنة بحيث تلقت ورقة الطباعة الضوء مثلما تتلقى العين مشهداً بلمح البصر.

كان مشهد إعادة تشكل ملامح وجهي الطفولي قبل عشرين عاماً كما التقطه أبي في آخر صورة، وأنا أقف أمام أختي الكبرى التي تحمل بين ذراعيها أختي الصغرى، مشهداً يستحق من أجله موت أجمل صورة في العالم.

ولكن وعلى نحو مدهش يشبه القصص المسحورة استيقظت في اليوم الثاني وعلى الأرض صورة واحدة سحقت عشرين سنة من الغياب، شعرت بأنني صرت أكثر خفة. وعلى الرغم من أنّ مخيلتي أصبحت فارغة من تلك الصورة إلا أنّ الألم وشعور التعب تقلّصا كثيراً.

باحثاً عن السبب فكرت أنه وعلى الرغم من أنّ الصورة المتخيلة تبدو صورة مستقبلية دائماً، مما يجعل المصوّر حيّاً نظرياً، إلا أنّ حقيقة التخيّل لا يمكن أن يكون إلا اعتماداً على ما هو ماض من صور وأحداث وأحلام وأشخاص ومعارف، يفرض على الصورة المتخيلة روح الماضي في شكل كبير وتصبح مع استمرار وجودها، حاجزاً يمنع المصور من رؤية الواقع، وإن كان ذلك صحيحاً، فإنّ قصة الرجال الخمسة الذين كانوا يتجولون في القرية وهم يحملون فوق رأسهم قارب كبير تنطبق علي بالفعل… لما سألهم أحد القرويين عن سبب حملهم للقارب أينما ذهبوا لدرجة أنه كاد يسحقهم أجابوا: هذا القارب أنقذنا من الموت على الضفة الأخرى من النهر، لولاه ما نجونا ولذلك لا نستطيع  تركه.

ولكن كيف لصورة واحدة أن تسحقني؟ ربما لم تكن صورة واحدة! هي بالتأكيد الصورة الوحيدة التي كانت توجد بشكل فيزيائي، ولكن ربما هناك صور أخرى مختبئة في مخيلتي في مكان ما! طمعاً بأن أصبح أكثر خفة ومن يدري ربما ينبت لي أجنحة… بدأت أطارد الصور المختبئة في ذاكرتي. ومن أجل طباعتها ما عليّ سوى استحضارها إلى وعيّ ورسم ملامحها بدقة في عقلي حتى تتوقف عن التشكل اللانهائي المهلك في مخيلتي.

حتى أفتش عن تلك الصور عدت لزيارة كل الأماكن التي اعتدت على قضاء الوقت فيها، ولكن في مخيلتي، وفيما عقلي يراقب… عندما عدت للتجوّل في مخيلتي في شوارع المدينة الخاوية أثناء هبوب الريح القوية رأيت أخي الأكبر مني بسنة واحدة يحمل كرة قدم خضراء بين ذراعيه وأنا أتبعه بحثاً عن تحديات جديدة في الأحياء البعيدة بعد أن هزم جميع الأولاد بمراوغاته الساحرة عندما كنّا صغاراً… كانت تلك آخر المرات التي لعبنا فيها الكرة معاً قبل موت والدي.

وعندما صعدت في مخيلتي إلى سطح المنزل صيفاً كي أنام لحقتني ابنة الجيران بشعرها الأسود الطويل استلقت فوق جسدي ولم تتركني إلا عند بوابة الحلم… في بداية الخريف رحلت إلى بيروت، ولم أسمع عنها شيء بعد ذلك أبداً. أما وجهها سيكون من الصعب تذكره من لقاءات لم تكن إلا في الليل. وستكون المرات القليلة التي كان فيها القمر كاملاً هي ضوئي الوحيد لتحديد الصورة بدقة. أما عندما صعدت إلى بلكون الطابق الثاني في مخيلتي رأيت نفسي، من حيث أقف أمدّ يدي إلى غصن شجرة التوت وأقطف منها الحبات الطازجة وألتهمها فوراً.. كانت أقدم شجرة في حديقتنا، وعملاقة لدرجة أنّ ارتفاعها وصل الطابق الثالث، وامتدت بأغصانها إلى ثلاثة بيوت من بيوت جيراننا، فيما رفعت جذورها بلاط الحديقة إلى الأعلى فقرّرت عائلتي قطع الشجرة حتى لا تتضرّر أساسات المنزل عملاً بنصيحة أحد العارفين… كيف لمئات الصور في ذلك الكيس السحري ألا تحتوي على صورة واحدة لشجرة التوت؟

بعد أشهر، وفي الخريف من ذلك العام ٢٠٠٦، كنت جالساً في غرفتي وارتفعت في الهواء فجأة حتى كاد رأسي يصطدم بالسقف، لم ينقذني سوى صمت أمي وأخي الجالسين إلى جانبي، والذي أعادني بهدوء إلى الكرسي. لقد قرأت للتو خبر فوزي بجائزة في روما، والمفارقة أن موضوعها كان حول واقع الشباب المعاصر، لقد نبت لي جناحان فعلاً ولن يختفيا إلا مع مغادرة سوريا نهائياً.

في البداية حزنت من ردة فعل أمي وأخي، ولكن مع قليل من التفكير انتبهت إلى إمكانية أنهم لم يصدقوني… فكيف لي أن أفوز بجائزة أوروبية، وأنا للتو مطرود من مجلة محلية في دمشق؟ نسيت أنني كذبت عليهم، كما وكيف لي أن أسافر إلى إيطاليا وأنا لا أملك خمس ليرات أجرة الذهاب إلى أي مكان في حمص؟ كانت تلك الصورة التي رسمتها أنا عن نفسي في خيال الآخرين، وتمنعهم عن رؤية واقعي الحقيقي، لن ألومهم على ذلك ولن أحاول تفسير شيء.

توافقت عودتي من روما مع حصولي على فرصة جديدة في جريدة محلية يومية، كانت بوابة كبيرة جداً لدخول الواقع من جديد. كان العمل اليومي لا ينتهي، حتى في أيام الجمعة كنت أعمل في تصوير مباريات الدوري المحلي لكرة القدم وأصبحت زياراتي الحمصية تقل تدريجياً، ربما شعرت بالتعب في بعض الأحيان ولكن لم أشعر بالضغط الذهني أبداً، كنت أفرّغ مخيلتي كل يوم من أي صورة عالقة لم أستطع إلتقاطها لأعود كل يوم مع ذاكرة أكبر ومخيلة فارغة وعيون بيضاء واسعة تشبه عيوني في صورة النيجاتيف القديمة، عيون قادرة على رؤية المستقبل، إن صدف وقرّر أن يمر في هذه البلاد التي لا يحدث فيها إلا الماضي.

لم يكن هناك أي ضرورة لإخفاء الجناحين لأنه لم يكن أحد ليصدّق وجودهما، حتى لو رآهما بعينيه، لذلك كنت ألصق بعض الصور المضحكة عن الرئيس الأسد على الحائط خلف مكتبي في الجريدة. إلى أن قرّر المستقبل زيارتنا بالفعل في العام ٢٠١١ وبدأت حينها الثورة السورية.

كشفت الصور التي أرسلتها عن المظاهرة التي خرجت في ٢٥ مارس ٢٠١١ من المسجد الأموي، عن وجود أجنحتي وبدأت ضرورة إخفائها، وعندما وصلت إلى مرحلة لم أعد أستطيع الطيران، غادرت إلى حلب حيث الحرب هناك، كان الواقع والخيال يتجلّيان فيزيائياً في نفس الوقت بانسجام نادر لم يدم طويلاً. لم يكن ظهور أجنحتي للعلن أمراً خطيراً حيث كان للجميع هناك أجنحة من كل الأشكال والألوان، وطالما أنّ الموت محصور برصاص القناص والسكاكين وقذائف المدفعية فلا بأس، كنّا دائما نستطيع النهوض بعيون بيضاء واسعة ومخيلة جاهزة لاحتضان المستقبل، إلى أن بدأ الدمار يأخذ نطاقاً أوسع بكثير… صواريخ سكود التي يدمر واحداً منها حيّاً كاملاً، وغارات الطائرات بصواريخها العشوائية، جعلت من قدرتي على إفراغ مخيلتي أمراً مستحيلا، فعلى الرغم من أنّ الموت جزء طبيعي من المستقبل إلا أنه عندما يصبح هو المشهد الوحيد ينتفي المستقبل، وتصبح الحياة صورة عن الماضي… فإن مات والدي منذ سنين طويلة فهنا مات آلاف الآباء، وإن قطعت شجرة توت واحدة في بيتي، فهنا قطعت كل الأشجار، وإن كانت طفولتي انتهت فجأة فهنا لم يعد يوجد أطفال… وهكذا رويداً رويداً امتلأت مخيلتي بآلاف الصور عن الحياة التي كان يجب أن تكون، في طبيعة الحال لم أستطع تصوير كل تلك المشاهد قبل دمارها أو ربما وصلت متأخراً.. تلك الصور عن الحياة  أرادت النجاة والعبور عبر قارب مخيلتي إلى مكان آخر لدرجة أنني، ومع نهاية عام ٢٠١٣ ومن جديد لم أعد قادراً على التصوير ولا على حمل الكاميرا.

باريس ٢٠١٤

جالساً في المقهى أفكر في إذا كنت قادراً على ترجمة كل تلك الصور بعيداً عن واقعها أو أنني يوماً ما سأكون قادراً على رؤية الواقع من جديد. جلس إلى جانبي صاحب المقهى السوري وأخبرني عن ذلك الشرطي الذي تلقى أمراً بالقبض على السوريين الذين حاولوا رفع علم الثورة فوق قوس النصر في العاصمة باريس خلال إحدى المظاهرات المناصرة للثورة السورية، وكيف أنه لم يحصل على جواب من الضابط صاحب الأمر عندما سأله عن شكل السوريين كيف يتبدى؟

عندها فكرت: أن ذاك الشرطي ودون أن يدري  قد ارتسمت في مخيلته أجمل صورة في العالم، ومهما حاول تشكيلها في وعيه فستعود إلى مخيلته من جديد لأننا لا نملك شكلاً واحداً، ستكون تلك الصورة قارب نجاتنا الذي تركناه خلفنا، والتي ستسحق بثقلها كل بوليس العالم.

مصوّر سوري مقيم في فرنسا، يتركز عمله حول الصورة الوثائقية. عمل سابقاً مع وكالتي رويترز و الأسوشيتد برس في تغطية الثورة و الحرب السورية. وهو مدرب التصوير الصحفي مع الأكاديمية الإعلامية في شمال أفريقيا ومنظمة MICT الألمانية.

(هذا المقال جزء من سلسلة مقالات عن التصوير السوري والمصورين السوريين. بتمويل من مؤسسة فريدريش ناومان من أجل الحرية)

حكاية ما انحكت

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button