ميم بيرني ساندرز أو «اليسار» بوصفه خاسراً أبدياً/ محمد سامي الكيال
انتشرت صورة السيناتور الديمقراطي بيرني ساندرز، في حفل تنصيب الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن، بشدة على مواقع التواصل الاجتماعي، وباتت «الميم» الرئيسي، الذي يتداوله مستخدموها بحماسة. يمكن تفسير شعبية الصورة بطرق عديدة، أبسطها أنها تُظهر ساندرز، بوصفه رجلاً طيباً متواضعاً، وملتزماً بمبادئه، لا يهتم بالشكليات، التي يقدسها رواد هذا النوع من المراسم، وقدّم، بملابسه البسيطة، نموذجاً للمناضل والسياسي اليساري المختلف عن السائد؛ يمكن أيضاً اعتبار أسلوب جلوس ساندرز وتعابيره علامة على لامبالاته واستهانته بـ»الانتصار» السياسي، الذي حققه يمين ووسط الحزب الديمقراطي، بفوز بايدن. الأرجح أن ساندرز نفسه لم يكن يعني شيئاً بجلسته وملابسه تلك، فهي مجرد صورة لرجل مسن يخشى البرد، ويطبق قواعد التباعد الاجتماعي، وجدها البعض شديدة الطرافة، وتكسر أجواء التوتر، التي طبعت الأخبار الواردة من الولايات المتحدة مؤخراً، ثم صار الناس يتداولونها بدافع التكرار والتقليد، وربما بدون معرفة السبب، وهذه من الخصائص الأساسية لـ»الميمات» Memes.
سبق لعالم البيولوجيا التطورية ريتشارد دوكنز استخدام مفهوم «الميمات»، في سياق مختلف بعض الشيء، بوصفها النظير الثقافي للجينات، أي وحدات تحمل رموزاً وأفكاراً وتصورات، تنتقل عبر الكتابة واللغة والصورة والطقوس، وغيرها من الممارسات القابلة للتقليد والاستنساخ، بين دماغ وآخر، وتخضع للضغوط البيئية المختلفة، ما يجعلها قابلة للتطوّر والتحوّر والانتشار أو الانقراض. وعبر الميمات ينتقل تقليد ثقافي وأيديولوجي ما، أو انطباعات وانفعالات سائدة اجتماعياً.
ورغم النقد الشديد، الذي تعرّضت له هذه النظرية، من قبل بعض علماء الاجتماع، الرافضين تعميم نتائج من الحقل البيولوجي على الحقل الاجتماعي، إلا أنها تبدو مدخلاً جيداً لفهم انتشار صورة ساندرز، حتى بين أشخاص غير مطلعين على مشروعه. تعكس الصورة انطباعات شديدة القوة: العزلة؛ اللامبالاة؛ الابتعاد الطوعي عن حدث ما، يتسم بكثير من الضجيج؛ نوعا من الصفاء الداخلي، النابع من شعور بالتفوق الأخلاقي، أو التمسك بالمبدأ؛ الشعور بالأصالة وسط الزيف؛ تقبّل الهزيمة ببعض النبل والشجاعة، باختصار كثير من السمات التي تطبع أنصار الدعوات الأخلاقية، ومنها، بطبيعة الحال، جانب كبير من أيديولوجيات اليسار المعاصر.
تبدو صورة ساندرز تكثيفاً شديد التركيز لمسيرته السياسية: العم بيرني يخسر دائماً، ولكنه موجود، وسيبقى حاضراً لينغّص احتفالات الرابحين، أو ليسرق الأضواء منها على الأقل. هذا التكثيف القوي هو، على الأغلب، ما أكسب الصورة ميزات تطورية فعّالة، مكّنتها من استنساخ نفسها آلاف المرات، في بيئات متعددة. ولكن ما هي العوامل التي تجعل جلسة الخاسر النبيل نتيجةً، تبدو حتمية، لمشاريع التغيير المعاصرة؟ وهل قدر «اليسار الجديد»، وساندرز أهم ممثليه، أن يبقى مجرد «ميم»؟
استيلاء ثقافي
لا يختلف ساندرز عن بقية الساسة الديمقراطيين بملابسه فقط، ففور فوز بايدن بالرئاسة صرّح أن «التحدي الأكبر اليوم هو الاستماع للطبقة العاملة، ومعالجة آلامها»، وبالفعل يبدو أنصار السيناتور اليساري، من قواعد الحزب الديمقراطي وناشطي الاشتراكية الديمقراطية الأمريكية، الأقرب للطبقة العاملة، بمعناها الحديث، أي ملايين العاملين بأجر، في وظائف غير آمنة وغير مستقرة، من أصول عرقية وثقافية وهويات جندرية شديدة التنوع، ويساهمون في دعم وتنظيم عديد من التحركات الاحتجاجية والإضرابات العمالية. ما يجعل حضور ساندرز، على هامش احتفالات الديمقراطيين، مثيراً لبعض الاستغراب. لماذا يفشل صاحب دعوة اجتماعية، بهذه الأهمية، بتحقيق حضور أكثر استقلالية عمن يفترض أنهم خصومه الطبقيون؟
ربما تكمن الإجابة في عدم قدرة «اليسار الجديد» على التمايز عن التيار الأساسي، في ميدان الهيمنة الثقافية والأيديولوجية. يسعى ساندرز وأنصاره إلى ما يسمى «العدالة الاجتماعية» بالمعنى الأمريكي، وهو مبدأ بات مقبولاً وسائداً في المتن الاجتماعي البورجوازي المهيمن، فمن مليونيرات وادي السيليكون الأمريكي، مروراً بنجوم هوليوود وصناعة الترفيه، وصولاً لمئات الناشطين في «المنظمات غير الحكومية»، من أبناء الفئة الوسطى الأمريكية، يسود اتفاق عام على أهمية «تمكين المهمشين»، أي إعطاء الاعتراف الثقافي والإعلامي، وتوزيع بعض المساعدات والمناصب، وفق آليات المنظومة القائمة، على فئة محظوظة من أبناء الأقليات العرقية والثقافية. كما أن تقديم الرعاية الاجتماعية، على أسس عرقية، سياسة قديمة في الولايات المتحدة، قام بها عديد من الإدارات الأمريكية الحاكمة، خاصة من الحزب الديمقراطي.
ينتقد عدد من المفكرين، المقرّبين من تيار ساندرز، مثل نانسي فريزر وجودي دين «النيوليبرالية التقدمية»، أي ميل الأيديولوجيا النيوليبرالية لتبني بعض القضايا، التي كانت لسنوات من أساسيات الحركات التقدمية الأمريكية، مثل النسوية والمساواة العرقية ومكافحة التمييز، على حساب قضايا «الخبز والزبدة»، أي مسائل حقوق العمل، ومستوى الحياة والدخل، والقدرة الشرائية، ويدعون إلى القطيعة مع هذا النمط من النيوليبرالية، لخلق نوع من الهيمنة الأيديولوجية البديلة، التي تتيح تكوين شعب، أي ائتلاف متعدد الفئات والمطالب، يشمل قضايا الطبقة وإعادة توزيع الموارد والثروة؛ ومسائل الاعتراف الاجتماعي بالفئات المهمشة، في الوقت نفسه، ويُعرّف نفسه بالتضاد مع الأقلية الأوليغارشية الحاكمة، ومنها «النيوليبرالية التقدمية». إلا أن تحقيق تلك القطيعة يبدو متعذراً، للتشابه والتشابك الكبير في الأيديولوجيا الهوياتية، بين التقدميين الاشتراكيين من أنصار ساندرز، والتقدميين النيوليبراليين، في يمين ووسط الحزب الديمقراطي. فيمكن بسهولة ترجمة أي مطلب طبقي إلى لغة هوياتية، واعتبار أن قضايا الاعتراف الهوياتي تشمل، بشكل بديهي، قضايا إعادة التوزيع. وهكذا يعاني الاشتراكيون دوماً من نمط خاص من «الاستيلاء الثقافي»، وعليهم أن يسعوا دائماً لتخليص مطالبهم من ابتلاع التيار الأساسي لها، وهذا وضع معاكس تماماً للسعي للهيمنة وتحقيقها، وربما يكون مثيراً للشفقة، نظراً لعدم التساوي في أدوات الهيمنة والأجهزة الأيديولوجية بين الطرفين.
التعويل على الدولة
انشغال تيار ساندرز بقضايا الاعتراف الهوياتي قد يحرمه من القدرة السياسية الكبيرة، التي يوفرها التركيز على العمومي والمشترك والمشاع، فانقسام الطبقة العاملة إلى طوائف وفئات نوعية، يحتفي كل منها بخصوصيته وحساسياته، وتسعى لضمان مساحاتها الخاصة، التي تحميها من اعتداءات الآخرين، يعيق تشكيل قوة مجتمعية، قادرة على بناء تركيبات سياسية مهيمنة، على أساس التواصل الحر في حيز عام مفتوح.
حاولت جودي دين طرح مفهوم «الرفاقية»، ربما بديلاً عن سياسات الهوية، فالرفاقية علاقة اجتماعية قابلة للتعويض والتبادل، بغض النظر عن السمات الفردية والهوياتية، يبنيها فاعلون اجتماعيون، يجدون أنفسهم في المعسكر نفسه من الصراع، يفكّرون سياساً، على أساس تمييز الصديق من العدو، ويركزون، بشكل واعٍ، على تشابههم وتساويهم، وليس على اختلافهم، ضمن إطار سياسي واحد، قادر على تحقيق الهيمنة، فيصبح التنظيم السياسي المنشود أشبه بتمرين على مجتمع المستقبل، يبني علاقات اجتماعية جديدة هنا والآن.
اتهم كثير من اليساريين الأمريكيين دين بـ»الستالينية»، إلا أن البرنامج، الذي يقترحونه، لا يبدو أقل شمولية، أي التعويل على جهاز دولة متضخّم، يعيد توزيع الموارد، ويقوم بكل المهام الأخلاقية المنشودة، من حماية البيئة، وحتى وقاية المهمشين من «العدوان المصغر»، فيما يبقى المجتمع على انقسامه الهوياتي، ضمن مساحاته الخاصة، منتظراً خيرات «التمكين» من الدولة – الأب الخيّر.
عجز القوى الاجتماعية عن انتزاع مساحات عامة، يتم فيها تشكيل سلطة موازية وضاغطة للجمهور المنظّم، يجعل التعويل على الفوز بجهاز دولة، تترسخ فيه جماعات الضغط، الممثلة لمصالح الطبقات المهيمنة، حلماً غير قابل للتحقيق، وربما تغدو جلسة ساندرز، التي تعبّر عن الهزيمة والترفع الأخلاقي، في الوقت نفسه، المآل الممكن الوحيد، لنمط من الأيديولوجيا والفعل السياسي كهذا.
قابلية التدجين
تبدو إدارة بايدن معنية بمكافحة «التطرف المحلي»، خصوصاً التطرف الأبيض، وراديكالية بعض الجماعات اليسارية، مثل «الأنتيفا» والجماعات الأناركية الصغيرة، ما يدفع كثيراً من المراقبين لتوقع توافق في التيار الأمريكي الأساسي، ضد أقصى اليمن واليسار، وقد يوجه هذا التوافق ضد كثيرين من أنصار ساندرز، تماماً مثل المتطرفين من أنصار ترامب.
إلا أن مصير «اليسار الجديد» ربما يكون أشد إثارة للأسى من شيطنته، ونبذه خارج التيار الأساسي، فقد يتم تدجينه، بوصفه ظاهرة طريفة على هامش المتن الاجتماعي، يمكن إعادة إنتاجها على هيئة «ميمات»، لأشخاص يتحدثون بعصبية عن الطبقة العاملة، واستيحاء «النموذج السويدي» أمريكياً، قابلين للاستيعاب أيديولوجياً ضمن الثقافة السائدة، بوصفهم ناشطين غير مؤذين، ويمكن تسويق منتجاتهم الثقافية، مثل الصور والكتب والبرامج الوثائقية، التي تهاجم المنظومة، في منابر المنظومة نفسها. ميم بيرني ساندرز يعطي إشارة قوية، ومثيرة للأسف، على إمكانية تحقق هذا الاحتمال.
يبقى أن التوتر الاجتماعي، الذي يحرّك احتجاجات البشر، سواء في اليمين الأبيض أو اليسار الأقلوي، سيستمر، مع استمرار أسبابه البنيوية، وربما سيتخذ أشكالاً شديدة العنف والفوضوية، مادامت الأيديولوجيا والثقافة السائدة غير قادرة على تقديم ما هو أفضل من هذا النوع من الميمات.
باحث سوري يقيم في ألمانيا
القدس العربي