“ناج من المقصلة” أو من الجحيم/ ماجد كيالي
لعلني كنت اقترحت على الكاتب عنواناً آخر لكتابه هو: ناج من الجحيم، لأنني أظنه الأنسب، والأكثر مطابقة للواقع، عن سنوات سجنه، التي كتب لها المفكر السوري برهان غليون مقدمة غنية وعميقة…
“بوابة ضيقة لا يتعدّى عرضها المتر الواحد، يقف أمامها صفان من الجلادين… ضخام البنية، قسماتهم قدّت من بازلت أسود، يحملون بأيديهم الكابلات والكرابيج الغليظة… كنت أنظر بتوجّس… إلى من سبقني بالنزول من رفقاء السفر، وهم يركضون بأقصى سرعة ممكنة، ويعبرون بين صفين من الجلادين الذين ينهالون عليهم ضرباً بكل حقدهم، ليدخلوا عبر البوابة السوداء الضيقة إلى أولى ساحات سجن تدمر العسكري… كغيري، جريت مع صاحبي المقيّد معي، تختلط أقدامنا التي تجري بنا يمنة ويسرة، في محاولة مستحيلة لتفادي ما أمكن من الضربات التي تنهال علينا، من الأعلى ومن الجانبين…سقطت خلالها على الأرض مرات، وكان الجلادون يوقظونني بجردل من الماء البارد، لأقف وأعاود تلقي الضربات من جديد… عشرات من أعقاب السجائر التي يطفئها الجلادون في وجهونا ورقابنا ورؤوسنا، والسياط تفتك بجلودنا وأطرافنا… دونما رحمة…”.
محمد برو
هكذا وصف محمد برو عبوره بوابة الجحيم، أو لحظة دخوله إلى سجن تدمر الرهيب (1980)، وعمره آنذاك 17 سنة (ولد عام 1963)، في كتابه: “ناج من المقصلة”، الذي صدر أخيراً، في 384 صفحة سطّر فيها شهادته عن تجربته، أو عن معاناته وعذاباته، في السجن لـ13 سنة، أمضى منها 8 سنوات في سجن تدمر المخيف، علماً أن التهمة كانت مجرد اطلاعه على منشور لتيار إسلامي، أي أنه أمضى أهم سني حياته في السجن (أفرج عنه عام 1993). وفي الواقع فإن محمد كشف في هذا الكتاب بعضاً من الحكايات المخفية، أو المسكوت عنها، أو المكتومة، عن الهول السوري الكبير، الذي لا مثيل له، والذي ابتلع شعب سوياً لنصف قرن، والذي توج في السنوات العشر الماضية بتشريد ملايين منه، وتدمير عمرانه، في قصص مملوءة بالأوجاع، وفي مواقف يصعب تصورها أو احتمالها.
على ذلك فلعلني كنت اقترحت على الكاتب عنواناً آخر لكتابه هو: ناج من الجحيم، لأنني أظنه الأنسب، والأكثر مطابقة للواقع، عن سنوات سجنه، التي كتب لها المفكر السوري برهان غليون مقدمة غنية وعميقة، شرّح فيها طبيعة النظام وفرادته أو استثنائيته في القسوة والعنف.
ففي تقديمه لهذا الكتاب لفت برهان غليون إلى أن المعتقل السوري “لا يشبه معتقل الغولاغ في الحقبة السوفياتية، ولا غوانتانامو الأميركي، ولا سجن أبو غريب في العراق، إذ كانت وظيفة تلك المعتقلات إخراج المعتقلين من عالم السياسة والمجتمع وكسر معنوياتهم وتركهم يهلكون فيها. أما معسكرات الاعتقال السورية، وأشهرها معتقل تدمر، فلا تدخل في أي من تلك التصنيفات، فهي أشبه بمعسكرات الاعتقال النازية، التي لم تصمم لحجز المعارضين وتحييدهم، ولكنها أقيمت لإبادة جماعات قومية أو دينية، وهذا هو التجانس الذي تحدث عنه بشار الأسد”. وعلى رغم ذلك التشبيه إلا أن غليون يعتبر أنه “لا ينبغي لهذا التشابه أن يغيّب… الفوارق الأساسية الأخرى التي تجعل من معسكر الاعتقال الأسدي نموذجاً فريداً من نوعه… فبينما تكاد الوظيفة الرئيسة لهذه الأخيرة (للمعتقلات النازية) تقتصر على التنظيم العقلاني بل الميكانيكي لهذه الإبادة الجسدية، بعيداً من أي مشاعر أو عواطف أو اعتبارات أخرى، سوى القضاء على أكبر عدد من غير المتجانسين بأسهل وسيلة وفي أقصر ما يمكن من الوقت، يركز العمل في المعتقلات الأسدية على الإبادة النفسية أو الروحية لغير المتجانسين فرداً فرداً، بإطلاق كل ما تختزنه النفس الحيوانية لدى الجلادين من منابع الحقد واللؤم والنذالة والانتقام”. ويفسر غليون ذلك بقوله: “ليس الموت هو ما يبحث عنه الجلاد هنا، وإنما استحالة الحياة، أو جعل الحياة مستحيلة من دون أن يكون الموت ممكناً، إنه العذاب… لا حاجة هنا إلى غرف غاز تقضي على المدانين بالجملة، ولا إلى محارق تخلي أماكنهم لوجبة أخرى. يتصرف الجلاد هنا وكأن الضحية عدوه الشخصي ويصر على أن يظهر في وجه خصمه كوحش مفترس لا تربطه أي صلة بالإنسانية… هكذا لا يتوقّف العذاب أبداً… فهو حساب مفتوح… وحتى وقت الأكل وقضاء الحاجة لا يترك الجلاد للضحية فرصة لالتقاط الأنفاس… هناك شيء لا إنساني، لا معقول… ليس هناك نظرية يمكن أن تفسر مثل هذه الممارسة لعنف فائض…في حالتنا السورية لهذا علاقة مباشرة بنمط استثنائي من الحكم والسيطرة… لا يوجد جواب شاف على هذا السقوط في العدمية السياسية والأخلاقية”.
لنلاحظ بيان تلك المقدمة في شهادة المعتقل عن الطقس اليومي في المأكل والاستحمام، مثلاً، إذ يقول برو: “كان الطعام يأتي ثلاث مرات في اليوم، ويأتي معه الجلادون ليتباروا في ما بينهم أيهم أبدع ابتكاراً في إذلالنا، فيدخل أحدهم جزمته العسكرية المليئة بالأوساخ ومخلفات الحيوانات التي يتعمد وطأها في أوعية الطعام المخصصة لنا… خاصة إذا ككان الطعام سائلا، مثل الشاي أو الحساء… ونقوم بإدخال الطعام بين ركل وضرب بالكرابيج وهم يضحكون بطريقة هستيرية… سننتظر البيضة الحسناء صباحاً، وهي تفرش ثوبها لسبعة أو ثمانية أشخاص… وكان في المهجع صنبور ماء ضعيف التدفق… كان يعمل ساعتين من النهار ويستريح اربعا… لنا يوم كل أسبوع نخرج فيه إلى الحمام للاغتسال، وعند فتح الباب، نخرج في رتل أحادي، يمسك كل واحد بكتف سابقه، ويتلقّم الأول بفمه طرف الكرباح الأسود الذي يمسكه الجلاد، وتحف بنا مجموعة مستذئبة من الجلادين الذين يستمرون بضربنا، ونحن نجري في خط ملتو من وطأة الجلد المنهمر والضرب المستمر على أجسادنا العارية”.
ما أود قوله هنا، بداية، إنني كنت أعرف عن تلك التجربة الرهيبة، وسمعت عن فظائعها، من أصدقائي من المعتقلين السابقين (في فترة الثمانينات)، الذين اختبروا ذلك الهول، إلى درجة أنني بتّ أعتبر فيها أن أي تجربة اعتقال أخرى، في أي مكان آخر، لا يمكن احتسابها بالقياس للسجن السوري/ الأسدي، فهي تجربة من الرعب الخالص، لا يمكن لخيال أن يتصورها، ولا لعقل أن يستوعبها. والمشكلة، أيضاً، أنني في كل مرة أسمع أو أقرأ عن تلك التجربة، أشعر وكأنني أتعرف إلى ذلك للمرة الأولى، إذ لا يمكن تصديق أن مثل ذلك قد يحدث، أو أن إنساناً ما يمكن أن يقدم على مثل ذلك بحق إنسان أخر.
بناء على ذلك، فقد وصل بي الأمر مرة أن جمعت مرة في بيتي، قبل عشرة أعوام، صديقين، الأول كان أسيراً فلسطينياً حرّر من السجون الإسرائيلية (علماً أنه من فصيل موال للنظام السوري)، والثاني معتقل فلسطيني، كان اعتقل في السجون السورية 15 عاماً لمجرد إبداء الرأي (مطلع الثمانينات)، منها سنوات عدة في سجن تدمر الرهيب. وقد طلبت منهما في تلك الجلسة عقد مقارنة بين تجربتيهما في الاعتقال، مع تأكيد أن السجن سجن، وأنه ظلم مهما كان مستواه وأمده. وطبعاً، فقد كانت نتيجة النقاش محزنة ومؤلمة وقاهرة، فالصديق المحرر من السجن الإسرائيلي، أي سجن الأعداء، رفع يديه مسلماً، بأنه كان في وضع أريح بكثير بالقياس لتجربة الاعتقال السورية (في الوطن)، التي تبعث على الذهول والجنون. طبعاً قد يأنف البعض من مقارنة كهذه، أو يعتبرها غير جائزة أو لا مشروعة، لأنه يميل إلى إنكار الواقع، بدلاً من تحميل المسؤولية للنظام الذي جعل تلك المقارنة مشروعة، علماً أن الفارق لا يكمن في القسوة المطلقة، أو الظلم المطلق، أو المحو المطلق، في السجن السوري، وإنما يكمن في أن إسرائيل لا تعامل مواطنيها من اليهود على هذا النحو البتة، في حين أن نظام الأسد فعل ذلك، بل وشرد ملايين من مواطنيه، ودمر عمرانهم من دون أي رحمة.
ولعل هذه المطالعة تأخذنا إلى أطروحة حنّة أرندت عن ‘أسس التوتاليتاريّة’، سيما عن تلك الأنظمة الاستبدادية التي انتهجت سياسة التخويف والعنف في التعامل مع مواطنيها، خصوصا اعتبارها أنّ جوهر التنظيم للنظام الشموليّ يكمن في استخدام العنف كغايةً في حدّ ذاتها، بتحويل الناس إلى “أدوات للسلطة، منزوعة من شخصيّتها، ليُستخدموا بهدف الحكم والسيطرة”. وفي مقالها الشهير: “تفاهة الشر”، تحدثت حنة أرندت عن أدولف آيخمان، أحد المسؤولين عن معتقلات الاعتقال والإبادة والحرق النازية، بقولها: “آيخمان لم يفعل شيئاً بمبادرة منه… لم تكن لديه نيّة، بأيّ شكل… لفعل الخير أو الشرّ… لم يفعل شيئاً سوى إطاعة الأوامر… أفظع الشرور في العالم يرتكبها أشخاص نكرات. الشرّ يرتكبه أشخاص ليس لديهم أيّ دافع ولا قناعات”.
باختصار صفحات كتاب أو شهادة “ناج من المقصلة” لا يمكن تلخيصها لأنها تتحدث عن حكايات بشر وعذابات المعتقلين بالتفصيل، وهو يضاف إلى جملة الشهادات عن نظام الرعب السوري، كرواية مصطفى خليفة “القوقعة”، وشهادة ياسين الحاج صالح في كتابه: “بالخلاص يا شباب”. كتاب محمد برو يقع في 384 صفحة، وهو من إصدار دار “جسور للترجمة والنشر”، بيروت 2021. للاطلاع، شهادة محمد برو صاحب كتاب: “ناج من المقصلة”، في برنامج “يا حرية” الذي كانت تعده الإعلامية الفلسطينية سعاد القطناني
درج