الوقوع في “غرام” السجن السياسي/ إيلي عبدو
أصبح السجن “مدرسة” المثقفين والمؤمنين والسياسيين، وتحول الطارئ المعطوف على تجارب مؤلمة، إلى دائم، يمكن تأويل ما يحتويه من ألم بوصفه نضالاً ومقاومة وصموداً، حيال آلة التعذيب والموت اليومي.
تنحو كتابات عن السجن السياسي، منحى متناقضاً، يكشف عن تجارب مريرة ومأساوية حطمت حيوات أفراد وحرمتهم عيش حقب طويلة من حياتهم بشكل طبيعي، ويضمر في الوقت ذاته، محاولة تحويل الاستثناء إلى قاعدة، وجعل مقاومة السجن بأدوات ابتكرها كل فرد وفق تجربته، بالإيمان الديني أو الثقافة والقراءة، أمراً قابلاً للتطبيع معه، ووجهاً آخر للحياة.
والتأرجح بين الوجهين، قسوة التجربة والتطبيع معها وجعلها نموذجاً، يجعل الفرز بينهما شديد الصعوبة، بحيث يتحدث سجين ما عن التعذيب والقهر والإذلال، لكنه سرعان ما يستحضر قواه الإيمانية لمواجهة كل ما يمّر به، جاعلاً من الاستثناء، أي اعتقاله، مسرح اختبار واستنطاق لقناعات الدين، وهو ما يتكرر عند سجناء علمانيين، استحضروا في شهاداتهم عن السجن بجانب المعاناة المقيتة، ما تعلموه من لغات وما ترجموه من روايات وما قرأوه من كتب، ما حدا بكاتب وشاعر أن يلاحظ أن السجن السياسي هو المعادل للجامعة، حيث يتخرّج منه السجناء، مثقفين ومترجمين وناطقين بلغات عدة.
والملاحظة تلك، يمكن إسقاطها على التجارب الإيمانية حيث السجن مسجد صوفي، يستنفر قدرات المؤمن لمواجهة ما يمر به.
من هنا يمكن أن يمتلك السجن، كما سجل من عاش في زنازينه وكما استنتج من قرأ شهاداتهم، قدرة على تعريف الأشياء ومنحها معاني تفتقدها في الواقع، حيث الجامعة خارج السجن، تخرّج طامحين لوظائف لا أكثر، والمسجد مجرد مكان لأداة الطقوس.
وربما يتسع التعريف هذا متجاوزاً الثقافة والغيب، ليطاول الشرعية السياسية، المتفقدة كآليات لتداول السلطة والانتخاب، ما ينتج حرمان المجتمع مع إفراز ممثليه. فعلاقة السجن بالشرعية السياسية، تنطلق من حزبيين مؤدلجين، اعتقلوا لسنوات طويلة، ومنحهم اعتقالهم، شرعية لممارسة السياسة، بمعزل عن فهمهم للأخيرة، إذ يكفي أن تعارض نظام ويعتقلك، لتصبح سياسياً وتلعب دوراً عقب أي انتفاضة على النظام الذي اعتقلك.
هكذا أصبح السجن “مدرسة” المثقفين والمؤمنين والسياسيين، وتحول الطارئ المعطوف على تجارب مؤلمة، إلى دائم، يمكن تأويل ما يحتويه من ألم بوصفه نضالاً ومقاومة وصموداً، حيال آلة التعذيب والموت اليومي.
وإن كان من البدهي أن الأنظمة مسؤولة عن تضييق مجالات المجتمع إلى الحدود الدنيا وإفقادها قيمتها لتصبح وظائف في خدمة الاستبداد، فإن جعل السجن السياسي معياراً لتعريف ما افتقد قيمته، هو وقوع في فخ السلطة، حيث أن الاستثناء يعرّف الطبيعي، ويمنحه قيمة من خارج شروطه. فالثقافة مثلاً، تنمو بالجدل والاختلاف والتعدد والمناخ الحر المفتوح على السجالات، وهو ما ليس متاحاً، لسجين سياسي، يراكم معرفة بشكل دؤوب من دون أن تخضع معرفته لامتحان السجال مع الآخر والعلاقة مع الواقع، وكذلك الحزبي الذي يحتفظ بالإيديولوجيات ذاتها التي اعتقل من أجلها، ويمارس السياسة لاحقاً، انطلاقاً منها. ما يعني أن التجربة السجنية، التي تستنفر قدرات الفرد من إيمان وثقافة، تبقى تجارب محصورة في إطار أحادي، ولا تتطور، بفعل ضيق الأفق المفروض عليها، وجعل هذه التجارب معايير لتعريف العالم، هو أقرب إلى الرد على الاستثناء باستثناء مضاد.
السجن السياسي ليس سوى جحيم فرضه الاستبداد لتأديب خصومه وإبادتهم، وبالتالي، الشهادات حوله يمكن أن تفيد في فهم العلاقة بين الاعتقال والاستبداد، وتقدير حيوات عاشت أقسى التجارب وتحّملت آلاماً مريرة، أما دفع تجارب السجن لتصبح، معايير تعرّف العالم الخارجي، وتمنحه قيماً جرده منها الاستبداد، فهذه، قد تكون، دلالة خطيرة، تشير إلى مقارعة الديكتاتور على المعاني والأفكار من داخل الزنزانة فقط، وإن كان الديكتاتور مسؤولاً عن تضييق وعينا، عبر منع السياسة وتطويع المجتمع وجعل السجن اختباراً دائماً للتطويع والمنع، فإن التغلب على ذلك، يحتمل الخروج عن مركزية المعتقل التي صنعها المستبد، والتفكير بالسجن بوصفه عاراً واستثناء أكثر منه عالماً لإنتاج المعاني.
درج