في النبر الشعري من جسم اللغة إلى لغة الجسد/ منصف الوهايبي

أتيح لي منذ سنوات في إسبانيا (مرسية) والبرتغال (لشبونة) أن أشارك شعراء أجانب في إنشاد قصيدة للوركا، وقصيدة لفرناندو بسوّا، بلغات شتّى منها العربيّة. كانت التجربة ممتعة حقّا، فالقصيدة هي/ هي في لغتها الأمّ، وليست هي نفسها في اللغات المنقول إليها. ولا أقصد ها هنا الترجمة وما قد يعتري النصّ الأصلي بسببها، وإنّما طرائق الإنشاد؛ بل كانت القصيدة «نصّا جمعا». كان زملائي وأصدقائي ينشدون و«ينبرون» سواء في الفرنسيّة التي أعرفها أو في الإنكليزيّة التي أفهمها قليلا، أو في الإسبانيّة والبرتغاليّة؛ ناهيك عن السويديّة والروسيّة وبعض لغات أوروبا الشرقيّة. وكان لنا بعد ذلك «الحفل» حديث عميق، وقد شدّهم الإنشاد بالعربيّة؛ حتى أنّ بعضهم قال لي: «حقّا.. كان إنشادك ممتعا جدّا.. كأنّه أخذة ساحر». وكان ردّي أنّ للعربيّة، وربّما لشقيقاتها اللغات السامية، خصائص، كلّما تعلّق الأمر بالإنشاد. فهو يتحقّق على أساس من ثلاث سمات رئيسة هي تعداد المقاطع الصوتيّة والقافية والنّبر. ولئن أمكن إلى حدّ ما، ضبط السّمتين الأولى والثانية، والوقوف على مجمل الوظائف التي تنهضان بها، فإنّ ضبط النّبر مطلب صعب المنال، تنهض في سبيله عقبات ليس من اليسير تذليلها.
غير أنّ الإقرار بأنّ التّنبير راجع إلى حال الشاعر المنشد وموقفه الفكري أو الشّعوري، لا يعني أنّ صلته باللغة معدومة بالجملة؛ بل لعلّه راجع إلى اللّغة أكثر ممّا هو راجع إلى المنشد أي إلى طريقته الخاصّة في إنشاد القصيدة وأدائها.
ومن الثّابت تاريخيّا أنّ الأبجديّة العربيّة كانت في عصور التّدوين الأولى تتألّف من حروف تشير إلى الأصوات الصّامتة، ولكنّها تخلو من الرّموز التي تؤدّي الحركات أو تضبط أواخر الكلمات أو تشير إلى المدّ أو التّشديد أو الإشباع أو الإمالة أو السّكون أو التّنوين. ولم يكن تطوّرها وقد أصبحت تشتمل على هذا كلّه، ليجلّي للباحث مواقع النّبر أو التّنبير في الشّعر، وهي مظهر من مظاهر أدائه، يتوقّف على معرفتها حدّ الإنشاد، وتسويغ الوصف الذي يمكن أن نقترح له. والإنشاد شكل من أشكال التّنقيط أو التّرقيم لم تعرفه العربيّة في صورته الحديثة إلاّ لاحقا، وإن كان المسلمون عنوا به في تلاوة القرآن؛ في ما أسموه اصطلاحات الضّبط وعلامات الوقف. ولا أحد بميسوره أن يقطع برجحان طريقة في التّنبير أو الإنشاد أو ببطلانها، أو بالكيفيّة التي كانت القصيدة تنتقل بها من جسم اللّغة إلى لغة الجسد، لأنّ الإنشاد أداء صوتيّ أو تنغيم خاصّ بالشّاعر أو بمنشد القصيدة. وعليه، فقد يستقيم لنا القول في النّبر متى استأنسنا بخصائص اللّغة وما يتعلّق منها بإنشاد الشّعر، ووقفنا على القواعد الخاصّة بالبيت أي تلك التي تجرى بها اللّغة إجراء مخصوصا، عسى أن نتميّز المواقع التي يتراسل فيها البيت واللّغة، من المواقع التي يتدافعان فيها.
أمّا النّبر في اللّغة، فيقع على عنصر بعينه في موضع بعينه وهو المقطع عادة، فيزيد في شدّة الحركة من حيث هي مركز المقطع الصّوتي القابل للنّبر، أو في ارتفاعها أو في طولها أي في إصدار صوت أكثر جهرا أو شدّة أو طولا. وقد يرتكز النّبر على أحد هذه المؤشّرات أو على اثنين منها أو على الثّلاثة مجتمعة، دون أن يسوق ذلك إلى استنتاج متعجّل؛ كأن نقرّر أنّ النّبر لا يضبط ولا يقاس، أو أنّه سائب منساح لا يحكمه قانون ولا تنتظمه قاعدة. فربّما جاز مثل هذا الاستنتاج في شعر المحدثين منّا من شعراء «قصيدة النثر». أمّا في الموزون على ضرورة التمييز بين «قصيدة التفعيلة» و«قصيدة البيت»، فالأمر مختلف جدّا، ذلك أنّ النّبر في هذا الشّعر موضوعيّ، مصدره اللّغة نفسها أو ما نسمّيه «شعريّة اللّغة».
ولعلّ غفلة الباحثين عن «موضوعيّة» النّبر أن ترجع في جانب منها، إلى عدم تمييزهم بين نبر موقعه الكلمة ونبر موقعه الأداة النّحويّة، من جهة، وبين الكلمة صوتا والكلمة معجما، من أخرى. بل هم يحصرون النّبر في الكلمة المفردة ويغفلون عن كونه يتعلّق بالتّركيب أو بمجموع الجملة أو بالطّرق والوجوه في تعلّق الكلم بعضها ببعض، بعبارة عبد القاهر الجرجاني المأثورة.
أمّا نبر الكلمة فيقع على مقطع من الكلمة وهو يجري عادة على قاعدتين اثنتين:
أولاهما نبر موقعه المقطع الأخير المنبّر، أو القابل للتّنبير ويسمّى بـ «النّبر الصّوتي» أو نبر قفلة الكلمة. وهذا ممّا يفسّر في نظرنا، ظواهر شعريّة عند القدماء والمعاصرين، قلّ أن عني بها الدّارسون مثل اطّراد صيغة المفعول المطلق وصيغة المثنّى، وظاهرة القافية / الاسم…
وثانيهما نبر موقعه المقطع الأوّل المنبّر ويسمّى بـ «النّبر المضادّ»، ويمكن أن نتبيّنه بكثير من اليسر في فواتح القصائد وبخاصّة تلك التي طالها الحذف أو الاقتضاب؛ وكأنّها استئناف لكلام محذوف، وأمثلته كثيرة قديما وحديثا.
وأمّا النّبر الذي موقعه الأداة النّحويّة فمردّه إلى الكلمات العوامل مثل أدوات الاستفهام والتّعجّب والنّفي وإلى النّعوت والضّمائر والظّروف، فهي على قدر ما تتأدّى بنبر خاصّ هو من كنهها ومن لوازم نطقها؛ يمكن أن يتمدّد نبرها هذا إلى الكلمة أو الكلمات التي تحدّها أو تستدعيها، بحيث يختلف التّنبير من تركيب إلى آخر. ومن شأن هذا النّبر على مقطع بعينه أن يدلّ على صيغة الجملة (استفهام أو تعجّب أو نفي) أو أن يُضاف إلى نغم صوتيّ ما أو تنغيم محتمل، كأن يرتفع الصّوت في نهاية الاستفهام، أو أن يُضاف إلى النّبر المألوف في صيغة التّعجب.
والاستنتاج الذي نسوّغه بشيء من الاطمئنان أنّ حصر النّبر في كلمة واحدة، كلما تعلّق الأمر باللّغة العربيّة، لا يسعفنا كثيرا في حدّ المقطع المنبور أو في ضبطه وقياسه. وهو ما ذهب إليه زميلنا خميّس الورتاني في أطروحته عن خليل حاوي، ولكنّه لم يتنبّه إلى أنّ التّنبير يمكن أن يتحقّق في أوضاع الكلمة المفردة مثل وضع التّنكير حيث يقع النّبر على المقطع الأخير، ووضع التّعريف حيث يقع النّبر على المقطع الأوّل من الكلمة؛ وهو في الحروف الشّمسيّة أطول منه في الحروف القمريّة. فثمّة نبر موقعه مقطعان قصيران ونبر موقعه مقطع قصير واحد.
وفي ما عدا هذه الاستثناءات، وهي من النّدرة، بحيث يصعب التّعويل عليها في تحديد أنموذج اللغة، فإنّه من الصّعوبة بمكان وصف العربيّة بشيء من النّبر الدّيناميكي أو الموسيقيّ. وربّما كان الأجدر والأنجع صرف النّظر إلى نبر الأداة النّحويّة حيث يمكن أن نميّز مستويين:
أحدهما وحدات منبورة على مقتضى القاعدة الأولى (وقوع النّبر على المقطع الأخير) أو القاعدة الثّانية (وقوع النّبر على المقطع الأوّل) وفي هذه الحال يتركّب نبر الأداة النحويّة من نبر هذه الوحدات وبخاصّة كلّما تأدّى هذا النّبر في صيغ مخصوصة (استفهام، تعجّب، نفي) مختزلة في كلمة واحدة مثل (من؟ ماذا؟).
والآخر وحدات منبورة يتحقّق فيها نبر الأداة النّحويّة بصورة مستقلة، ولابدّ في هذه الحال من تمييز الوحدات التي يتأدّى فيها الاستفهام أو التّعجّب مثلا، بطريقة مباشرة، من تلك التي يتأدّى فيها، بطريقة غير مباشرة. على أنّ هذه الأدوات (أين – ماذا- من – كم- يا…) هامدة في ذاتها؛ ويمكن أن نلاحظ بشيء من اليسر أنّ نبر الأداة النّحوية يفرض نفسه بصورة تكاد تكون مستقلّة عن الأداة التي تحدّده. بل ربّما أكثر من الأداة نفسها.
هذا في النّحو، أمّا في الصّرف فإنّ الحال الواحدة التي نقف فيها على النّبر، هي حال لاحقتي المؤنثة المفردة: آ ء / و آ. ولا شكّ أنّ لظهوره أثرا في المعنى.
والحقّ أنّنا لا نملك إلاّ أن نشاطر هنري فليش رأيه في أنّ العربيّة لا تستدعي من حيث بناؤها تدخّل النّبر الدّيناميكي أو الموسيقي، ما دام موقع الكلمة لا يختصّ بشيء ما يحدّد وظيفته في الجملة. فالموقع إنّما يتحدّد بطريقة متصلة باللّفظ، بوساطة المقوّمات الإعرابيّة والتّصريفيّة.
إنّ الجهود المضنية التي بذلها المستشرقون والعرب المعاصرون مثل كمال أبو ديب خاصّة، لحدّ مواقع النّبر اللّغوي في العربيّة وضبطها لا تسلمنا إلى شيء من اليقين القاطع. وليس في هذه الجهود ما يسوّغ دراسة النّبر الشّعري على أسس علميّة سليمة، فهذا مبحث يصعب أن يستقيم، في غياب تحديد النّبر اللّغوي تحديدا تاما دقيقا. ولا نخال مداخلة النّبر اللّغوي من زاوية النّبر الشّعريّ، إلاّ أشدّ استعصاء، لأنّ النّبر الشّعريّ محكوم بالإنشاد وليس بالإيقاع. وعليه فإنّ السّبيل السّالكة إليها إنّما هو القصيد نفسه أكان في لغته الأمّ أم مترجما كما ذكرت في مقدّمة هذا المقال.
*كاتب من تونس
القدس العربي