إذا انفتحت سيرة كريستوفر هتشنز/ صبحي حديدي
تتداول الأوساط الأدبية والصحافية، في الولايات المتحدة وبريطانيا خصوصاً، حكاية غير مألوفة؛ مبعثها رسالة موقعة من كارول بلو – هتشنز، الوصية على أملاك الكاتب البريطاني – الأمريكي كريستوفر هتشنز (1949 – 2011) ومن ستيف واسرمان وكيله الأدبي. الرسالة تقول التالي: «تناهى إلينا أنّ طامحاً إلى كتابة سيرة، عيّن ذاته بذاته، يدعى ستيفن فيليبس، يعكف على وضع كتاب عن كريستوفر. لقد قرأنا مقترحه وروّعتنا مقاربته الفجة والاختزالية. لا نثق في كامل هذه المحاولة للنيل من الرجل. ولن نتعاون فيها، ونحثكم على رفض أي التماسات من السيد فيليبس أو ناشره و. و. نورتون».
وفي مادة أولى تصدرت صفحات الكتب، تناولت صحيفة «نيويورك تايمز» الحكاية، فكتبت إليزابيث هاريس من زاوية منطقية، كما يتوجب القول: ليس أمراً استثنائياً أن تنتفض أسرة راحل دفاعاً عنه إزاء مشروع سيرة قد تسيء إليه، لكن ما هو غير مألوف هنا أن تحثّ الآخرين على عدم التعاون مع الكاتب. وهي تنقل عن جون غلوسمان، رئيس التحرير في نورتون، أنه لا يذكر نشر سيرة حصل قبلها على ترخيص من الوصي على الأملاك؛ وأنه، من جانب أهمّ، أُعجب بمقترح فيليبس وخططه البحثية والمسائل الثقافية التي يزمع إثارتها في السيرة.
أكثر من هذه المادة، تعنيني مقالة أخرى حول الحكاية كتبها دافيد ناسو، أحد أبرز كتّاب السير الذاتية في الولايات المتحدة (جوزيف ب. كنيدي، أندرو كارنيغي، وليام رادولف هيرست…)؛ وتقصّد، أغلب الظنّ، أن ينشرها في مجلة The Nation. وهذه، كما هو معروف، أعرق دوريات اليسار الأمريكي، والمنبر البارز الذي احتضن كبرى قضايا الانشقاق الفكرية والسياسية في الولايات المتحدة؛ وكان هتشنز قد واظب على الكتابة فيها طوال عقدين، قبل أن يغادرها على خلفية تأييده لحروب الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن «ضدّ الإرهاب» و»تغيير النظام» في أفغانستان والعراق؛ وبالنظر إلى معارضة هيئة تحرير المجلّة، ومعظم كتّابها، لهذه السياسات. وخلاصة مقالة ناسو هي الدفاع عن حقّ فيليبس، وأي كاتب آخر سواه، في اقتراح كتابة سيرة هتشنز، والعمل ذاته سوف يفرض قيمته من عدمها عند صدوره؛ وأمّا اعتراض كارول بلو – هتشنز وستيف واسرمان فهو من حقهما مبدئياً، لكنّ حثّ الجميع على عدم التعاون مع فيليبس يهبط إلى مصافّ «الرقابة الاستباقية» التي لا تردع هذا الكاتب وحده، بل أيّ كاتب آخر قد لا يُطابق، لسبب أو لآخر، معايير الوصية على هتشنز ووكيله.
والحال أن أمر السيرة، خاصة إذا كانت تتناول عَلَماً أو شخصية عامة أو إشكالية لاعتبارات شتى، ليس بالأمر العابر أو اليسير، وثمة تراث زاخر ينافي كتابة السيرة؛ وليس المقصود هنا السيرة الذاتية، فالحديث عنها مختلف وذو شجون. يضرب ناسو، في مقالته المشار إليها أعلاه، مثال سيغموند فرويد الذي تعمّد إتلاف جميع الوثائق والمراسلات والمخطوطات التي يمكن أن تقود كتّاب سيرته إلى أيّ خيط يكرهه، أو تفصيل لا يراه متلائماً مع مسارات حياته. وثمة (في النطاق الأنغلو – سكسوني على وجه أخصّ) أمثلة عديدة عند صمويل جونسون وشارلز دكنز وولكي كولنز وهنري جيمس وتوماس هاردي، أحرقوا مراسلاتهم لقطع الطريق على كتّاب سِيَرهم الآتين، في مستقبل قريب أو بعيد.
فكيف وسيرة كريستوفر، إذا انفتحت، سوف تنطوي على خزين غنيّ ومعقد ومتناقض وخلافي؟ لقد بدأ عقلاً لامعاً دائم التغريد خارج السرب، وناقداً ثقافياً دائب الانشقاق عن المألوف، ومعلّقاً سياسياً منحازاً إلى القضايا الخاسرة، وشريكاً مع إدوارد سعيد في الكتاب الشهير «لوم الضحية» أحد ألمع الأعمال عن القضية الفلسطينية في اللغة الإنكليزية. ثمّ انتهى إلى تأييد غزو العراق، والحماس لكتاب تافه أصدرته الصومالية – الهولندية أعيان حرسي علي بعنوان «كافرة»، والاتفاق مع وزير الدفاع الأمريكي الأسبق دونالد رمسفيلد في استخدام عبارة «ما يُسمّى الأراضي المحتلة» لوصف الضفة الغربية وقطاع غزّة، وإقرار الإنذار الذي وجهه بوش إلى الفلسطينيين: إمّا التصويت ضدّ عرفات، أو العيش إلى الأبد في ظلّ الاحتلال…
كلّ هذه الاعتبارات لا تحجب عن فيليبس الحقّ في استكمال كتابة سيرة هتشنز، واللجوء في هذا إلى كلّ ما، ومَنْ، يرى أنه جدير بتقديم معلومة تسلط الضوء على هذا الجانب أو ذاك من تفاصيل حياة رجل سبق أن عرّى أوراق التين كافة التي تستّر بها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، ولم يتورع عن وصف الرئيس الأمريكي الاسبق بيل كلنتون بـ»الحوت الأبيض»، وأماط اللثام عن علاقات الأمّ تيريزا الخفية مع طغاة العالم ولوردات المخدرات، واستبق الكثيرين في وصف دونالد ترامب بأنه لن ينجح إلا في «تغطية 90% من جمجمته بـ30% من شعره». السيرة نسخة من حياة هذه الشخصية أو تلك، ولكنها ليست الحياة كلها، وليست اكتمالها أو القول الفصل فيها، وكلما تعددت نُسخ السيرة تنوّعت زوايا النظر أو دلالات الرؤيا.
ألم يستبق هتشنز، نفسه، جميع أصدقائه وخصومه بكتابة سيرة ذاتية بعنوان «هتش 22: مذكرات»، صدرت سنة 2010؛ سرد فيها كيف بدأ تروتسكياً يدعو إلى قتال الشوارع ضدّ الرأسمالية، وهو اليوم مصابٌ بهستيريا تأييد سياسات أمريكا!
القدس العربي