المحكمة الاتحادية العليا وملاحقة المجرمين في سورية/ ميشال شماس
صدر عن المحكمة الاتحادية العليا في ألمانيا قرارٌ مهمّ*، يؤكد اختصاص القضاء الألماني في ملاحقة الأجانب من مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وقد شكّل صدور هذا القرار دعمًا مهمًا لكل التحقيقات والمحاكمات المتعلقة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في سورية. وبصدور هذا القرار، يؤكد القضاء الألماني استمراره في ملاحقة المجرمين المشتبه بهم ومطاردتهم وتقديمهم إلى العدالة، لينالوا جزاء ما اقترفت أيديهم من جرائم، وإن كان هؤلاء المجرمون يتمتعون في بلادهم بحصانات تمنع من ملاحقتهم ومحاسبتهم. وقد وصف رئيس مجلس الشيوخ الجنائي الثالث القاضي يورغن شيفر الحُكم الذي أصدره بأنه “تاريخي”، وأضاف أن هذا القرار يمكن مقارنته بمحاكمات جرائم الحرب في نورمبرغ أو محاكمة مجرمي الحرب الصربيين ميلوسيفيتش وكارادزيتش. وأكد أن ألمانيا لن تكون ملاذًا آمنًا للأشخاص الذين ارتكبوا جرائم خطيرة ضد المجتمع الدولي في الوقت الحالي.
وقد صدر الحكم في معرض محاكمة ضابط سابق في الجيش الأفغاني، بتهمة تعذيب أسرى مقاتلي حركة طالبان في أثناء الاستجواب، وتعليق جثة أحد قادة طالبان على جدار ووضعها كتذكار. وكانت محكمة ميونخ الإقليمية العليا قد أصدرت حكمًا بالسجن سنتين بحق الضابط مع وقف التنفيذ، حيث لم تر محكمة ميونخ أن المتهم ارتكب عمليات تعذيب أو جرائم حرب. واستأنف الحكم كلّ من المتهم والمدعي العام الاتحادي أمام المحكمة الاتحادية العليا في مدينة “كارلسروة” التي أصدرت قرارًا بإلغاء الحكم السابق، بعد أن رأت أن الضابط الأفغاني السابق مذنبٌ، وأن “أفعاله تعدّ من قبيل التعذيب الكبير، ويجب أن يذهب إلى السجن الآن”.
ووفقًا للحيثيات التي وردت في قرار المحكمة، وكانت قد نشرتها العديد من الصحف والمواقع الإلكترونية الألمانية وبعض المواقع العربية، فقد أرست المحكمة اجتهادًا قضائيًا غير مسبوق، “بجواز محاكمة مجرمي الحرب الأجانب من قبل السلطات والمحاكم الألمانية، بالاستناد إلى قواعد القانون الدولي. وأن الحصانة التي يتمتع المسؤول المتهم لا يجب أن تمنع من الادعاء عليه ومحاكمته، وأكدت المحكمة في قرارها أن المسؤولين في الدول الأجنبية، مثل أفراد القوات المسلحة أو موظفي الخدمة السرية، لا يتمتعون بالحصانة”.
واستندت المحكمة في قرارها التاريخي بتجريم الضابط الأفغاني إلى مبدأ الاختصاص القضائي العالمي الذي دخل حيز التنفيذ، وأصبح جزءًا من المنظومة القانونية والتشريعية الألمانية منذ العام 2002، هذا المبدأ الذي أتاح للقضاء الألماني النظر بالجرائم والانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان كجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، وملاحقة مرتكبيها ومحاسبتهم.
يُعدّ مبدأ الصلاحية العالمية أحد الأدوات الأساسية للحد من الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، وصولًا إلى منعها نهائيًا، وهو يشكل استثناء على مبدأ إقليمية القوانين الوطنية، وهو يستند إلى فكرة الدفاع عن المصالح والقيم ذات البعد الإنساني والعالمي، من خلال منح القضاء الوطني في أي دولة الحقّ في توقيف ومحاكمة المشتبه به بارتكاب الجرائم الخطيرة المشار إليها في اتفاقات جنيف الأربعة، واتفاقية روما المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية، واتفاقية مناهضة التعذيب، وذلك بصرف النظر عن مكان ارتكاب الجريمة وجنسية مرتكبها أو جنسية الضحايا. ويُمارس هذا المبدأ عندما لا تضطلع الدولة التي جرت فيها انتهاكات خطيرة للقانون الدولي الانساني بمسؤوليتها باتخاذ إجراءات قانونية في مباشرة التحقيق في الادعاءات المتعلقة بتلك الانتهاكات ومحاكمة مرتكبيها ومحاسبتهم. ومن هنا تأتي أهمية إقرار مختلف دول العالم لهذا المبدأ في تشريعاتها الوطنية، لمنع وقوع مثل تلك الجرائم ووضع حد للإفلات من العقاب، كما فعلت ألمانيا والسويد والنمسا والنروج.
الغاية الأساسية من وجود مبدأ الاختصاص القضائي العالمي هي سدّ الثغرات الموجودة في القانون الدولي التي يستفيد منها المجرمون في الإفلات من المحاسبة العقاب، فمحكمة الجنايات الدولية، مثلًا، ما زالت مقيدة بإرادات الدول، ولا سيما الدول الخمس دائمة العضوية التي تمتلك حق النقض في مجلس الأمن، وهي روسيا والصين وأميركا وفرنسا وإنكلترة، إضافة إلى أن اختصاص المحكمة يبقى محدودًا زمنيًا بالجرائم المرتبكة، ابتداء من تاريخ نفاذ قانون المحكمة في عام 2002، وفقًا لنص المادة 11 من النظام الأساسي للمحكمة، ولا يحق لها البحث في أي جريمة قبل ذلك، إلا إذا وافقت الدولة المعنية على ذلك، وهذا يعني إفلات المجرمين الذين ارتكبوا جرائمهم قبل عام 2002 من المحاسبة.
وتأتي أهمية هذا القرار من صدوره بالتزامن مع محاكمة “كوبلنز” التي تحاكم عنصري أمن سابقين في المخابرات السورية، بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وبالتزامن أيضًا مع التحقيقات الموسعة التي يجريها مكتب المدعي العام الاتحادي في مدينة “كارلسروة”، مع الطبيب السوري “علاء موسى” المتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، كالقتل العمد والتعذيب وحرق الأعضاء التناسلية للمعتقلين، وبالتزامن مع التحقيقات التي تجري في أربع قضايا أخرى بحق كثير من المسؤولين الأمنيين التابعين لنظام الأسد والمتهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في سورية، وقد صدر في بعضها مذكرات توقيف، كالتي صدرت بحق “جميل الحسن” الرئيس السابق لإدارة المخابرات الجوية.
ومما يؤكد مدى أهمية هذا القرار ما قاله القاضي كريستوف بارث، رئيس النيابة العامة في المحكمة الاتحادية العليا، تعليقًا على هذا القرار: “إن صدور قرار المحكمة الآن يؤكد صراحة الممارسات السابقة لمكتب المدعي العام الاتحادي المتمثل في تقديم المسؤولين الحكوميين الأجانب للمحاسبة عن أخطر الجرائم الدولية أمام المحاكم الألمانية، وسوف يجذب هذا الانتباه في جميع أنحاء العالم”. ويقصد رئيس النيابة بكلامه أن قرار المحكمة الاتحادية العليا قد أقرّ صراحةً بصحة وسلامة الإجراءات والتحقيقات ومذكرات التوقيف والمحاكمات التي ما تزال تجري، وفي مقدمها محاكمة أنور رسلان وإياد الغريب والطبيب علاء موسى. لأنه كان هناك خشية من إحالة القضية إلى المحكمة الدستورية الاتحادية، لتبدي رأيها في صحة محاكمة الأجانب أمام المحاكم الألمانية على جرائم ارتكبوها خارج ألمانيا، وذلك بحسب ما نشرت الصحافة الألمانية، التي ذكرت أيضًا أن قضاة المحكمة لم يروا ضرورة إحالة القضية إلى المحكمة الدستورية؛ لأن الإحالة إليها تعني أن أمر البتّ بها سيستغرق سنوات، وقد يؤثر ذلك سلبًا على محاكمة أنور رسلان وإياد الغريب التي قد تتوقف، وكذلك التحقيقات الجارية بحق العديد من المتهمين الجدد، بقضايا التعذيب في السجون ومراكز الاحتجاز التابعة للنظام السوري، لحين أن تقول المحكمة الدستورية كلمتها.
لا يسعني في الختام إلا أن أرحّب بشدة بهذا القرار الذي أكّد من جديد أن السلطة القضائية في ألمانيا ما زالت متمسكة بتنفيذ العدالة في ملاحقة ومحاسبة المجرمين، وهو رسالة واضحة إلى كل المجرمين، وخاصة في سورية، بأن مناصبهم الحكومية والحصانات التي منحوها لأنفسهم لن تحميهم من الملاحقة والعقاب.
لذلك وجب على السوريات والسوريين أن يُسهموا بقوةٍ في دعم وإنجاح هذا المسار القضائي الجاري الآن في أوروبا، وفي ألمانيا على وجه الخصوص، وأن يُقدّموا ما لديهم من أدلة وشهود إلى السلطات المختصة، لقطع الطريق أمام من تسبب في مأساتنا، ولمنعه من أن يكون له أي دور في إعادة بناء سورية واستعادة كرامتنا التي سُلبت منّا على مدى سنوات طويلة.
(*) صدر القرار عن المحكمة الاتحادية العليا في كارلسروة بتاريخ 28/ 1/ 2021، وهي أعلى محكمة في نظام الولاية القضائية العادية في جميع مسائل القانون الجنائي والخاص في ألمانيا، ولا يمكن إبطال أي قرار صادر عنها إلا من قبل المحكمة الدستورية الاتحادية الألمانية.
مركز حرمون