سورية بين فيلتمان وفورد وهوف/ وائل السواح
كتب ثلاثة دبلوماسيين أميركيين ديمقراطيين سابقين، أخيرا، مقالات مميّزة عن سورية، طالبين من الرئيس جو بايدن رسم سياسة جديدة لسورية. جيفري فيلتمان وروبرت فورد وفريد هوف. يشغل فيلتمان الآن منصب زميل زائر في الدبلوماسية الدولية في برنامج السياسة الخارجية في معهد بروكينغز. وكان قد شغل منصب وكيل الأمين العام للشؤون السياسية في الأمم المتحدة نحو ست سنوات. وكان سفيرا للولايات المتحدة في بيروت ومساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى. وفي كلّ مراحل عمله، كانت سورية جزءا من اهتماماته. وكان روبرت فورد سفير الولايات المتحدة في دمشق في أثناء اندلاع الانتفاضة السورية في مارس/ آذار 2011، وله خبرة واسعة في العالم العربي، حيث كان سفيرا في الجزائر ونائبا لرئيسة البعثة في العراق بعد إطاحة صدّام حسين. وهو حاليا أستاذ في جامعة يال وزميل في معهد الشرق الأوسط في واشنطن. أما فريد هوف فكان المبعوث الخاص إلى سورية، وقدّم استقالته احتجاجا على سياسة الرئيس الأسبق، أوباما، الهلامية بشأن سورية، بعد مهزلة الخطوط الحمراء والأسلحة النووية الشهيرة في عام 2013.
كتب فيلتمان مقالته بالاشتراك مع هراير بليان، وهو أحد الاعتذاريين المشهود لهم للدكتاتور السوري بشار الأسد، وأحد أقوى الأصوات الديمقراطية التي تطالب برفع الضغوط المفروضة عليه، من معهد كارتر. نشرت المقالة في موقع بروكينغز بعنوان “الولايات المتحدة تحتاج سياسة جديدة تجاه سورية”. ونشر فورد مقالته في مجلة فورين أفيرز المرموقة تحت عنوان “فشل سياسة الولايات المتحدة في سورية”. ونشر هوف مقالته في موقع أتلانتيك، “سورية: أي طريق للمضي في عهد بايدن؟”.
مقالة فيلتمان وبليان هي الأغرب، فالأول من أشد منتقدي الرئيس السوري بشار الأسد ومناهضي سياساته الداخلية والخارجية، بينما كان الآخر منتقدًا قويًا لفكرة أن الضغط وحده سيغير السلوك الإشكالي للأسد. ويستطيع القارئ العارف أن يميّز في المقال بين كتلتين من الأفكار، تلغي إحداهما الأخرى. وتقدّم المقالة مجموعتين من التوصيات لإدارة الرئيس بايدن، الأولى (تستطيع أن ترى فيها خطّ هراير بليان) ترى أن على الولايات المتحدة “النظر في إعفاء جميع الجهود الإنسانية لمكافحة كوفيد 19في سورية من العقوبات. وبالقدر نفسه من الأهمية سيكون تسهيل إعادة بناء البنية التحتية المدنية الأساسية، مثل المستشفيات والمدارس ومرافق الري. سيتبع ذلك تخفيف تدريجي وقابل للعكس للعقوبات الأميركية والأوروبية”.
في المقابل، تستطيع أن تتقفّى أثر جيفري فيلتمان في الاستدراك التالي: “لن يتم إطلاق هذه الخطوات إلا عندما تتحقق الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون من تنفيذ خطوات ملموسة تم التفاوض عليها مع الحكومة السورية. ومن شأن آليات الرصد أن تتأكد من التقدم. ستشمل الخطوات الإفراج عن السجناء السياسيين، والاستقبال الكريم للاجئين العائدين، وحماية المدنيين، ووصول المساعدات الإنسانية من دون عوائق، وإزالة الأسلحة الكيميائية المتبقية، وإصلاحات القطاع السياسي والأمني، بما في ذلك المشاركة بحسن نية في اجتماعات الأمم المتحدة في عملية جنيف، وتحقيق المزيد من اللامركزية”.
يرى السفير روبرت فورد، في مقالته، أن ثمة روابط سياسية وعسكرية تاريخية تربط بين روسيا وسورية، وهي علاقات تبلغ من القوة حدّا يغدو معه من غير المرجح أن تضعفها الضغوط الأميركية. حافظت روسيا وسورية على علاقة وثيقة منذ الحرب الباردة، وعمل المستشارون الروس في البلاد قبل وقت طويل من بدء الصراع الحالي في عام 2011. كما أن وجود إيران طويل الأمد، ولن تغير الدوريات الأميركية الصغيرة العرضية في شرق سورية أيًا من هذه العلاقات الثنائية، ولن تكون قادرة على منع شحنات الصواريخ الإيرانية إلى البلاد، وهو أمر تقوم به القوات الجوية الإسرائيلية بالفعل بشكل فعال. وبالتالي، فإن نصيحة فورد للرئيس بايدن هي باختصار أن “يسمح لروسيا وتركيا بتأمين مصالحهما الوطنية من خلال تحمل عبء مكافحة تنظيم داعش. في النهاية، تشكل هذه الصفقات جوهر الدبلوماسية، العمل على حل مشكلات محدّدة، حتى مع شركاء بغيضين، لتحقيق أهداف محدودة ولكنها مشتركة.
في المقابل، يتبنى فريد هوف موقفا مغايرا تماما لموقف السفير فورد المهادن، وموقف فيلتمان السلبي. كان واضحا في إدانته سياسة الرئيس السابق أوباما، الذي رفض بشدّة “رفع إصبعه لمعارضة أو معاقبة استراتيجية بقاء القتل الجماعي للمدنيين للنظام السوري، حتى عندما نشر أوباما قواته لمحاربة “داعش” في شمال شرق سورية والعراق. وفي الواقع … أكد للمرشد الأعلى لإيران أن العمليات العسكرية الأميركية في سورية لن تستهدف عميله (الأسد)، الذي شجّعه بالفعل انهيار “الخط الأحمر” (رسمه الرئيس أوباما) عام 2013، فاستخدمه كشيك على بياض مجدّد ومجاني، وأغرق البلاد بأقصى قدر من الدماء”.
ويستنتج أنه بينما يتعيّن على إدارة بايدن أن تراجع العقوبات المفروضة على زعماء النظام والمؤسسات، في محاولة للتأكد من أن لا شيء تفعله الولايات المتحدة لمحاسبتهم، يضيف، ولو بشكل هامشي، إلى المعاناة التي يعاني منها السوريون، بسبب سوء الحكم في بلادهم، فلا يجب أن تكون الإدارة بحاجة “لتلقي تعليمات من أولئك الذين يسعون إلى ترسيخ حكم المدمر الرئيسي لسورية”. وسأل الدبلوماسي العريق: “أيعقل أن الدولة التي أشرفت على الاستقرار بعد الحرب في اليابان وألمانيا تفتقر الآن إلى المهارات اللازمة للعمل مع السوريين والشركاء الدوليين” في سورية؟
وبينما لا يكاد كلّ من فورد وفيلتمان يذكر الانتقال السياسي، يكرّر هوف، بوضوح، أن الانتقال السياسي الذي ينتج حكمًا شرعيًا سيظل هدف السوريين. ويجب على الإدارة الجديدة أن “تلزم نفسها بمعاقبة أي حملة متجدّدة من القتل الجماعي للمدنيين وإرهاب الدولة التي يمارسها نظام الأسد عسكريًا”. وذكّر هوف بحقيقة أن أنصار النظام كانوا يتجهون إلى مخارج مدينة دمشق في صيف 2013، “عندما مسح الرئيس أوباما خطه الأحمر الخاص بالأسلحة الكيماوية.” وأضاف أن كبار مسؤولي إدارة بايدن أقرّوا علناً بالأسف على السياسات السورية لإدارة أوباما، مؤكّدا أنه “سيتم اختبار صدق أسفهم ذاك وأهميته على الأرض عندما يستأنف نظام الأسد المذابح الجماعية، سواء بالأسلحة الكيماوية أو البراميل المتفجرة أو أي أدوات أخرى لإرهاب الدولة في مخزونه”.
تعبّر المقالات الثلاث عن وجهات نظر ثلاث متباينة: وبينما يسعى السفير فورد إلى إقناع الإدارة الجديدة بالانسحاب من سورية وإخلاء المنطقة للروس والإيرانيين، من دون أن يقدّم سببا مقنعا لذلك، يقع فيلتمان في حيرة من أمره، فهو يريد رفع البأس عن السوريين، ويأمل أن يتمّ ذلك من خلال رفع العقوبات عن النظام وتشجيعه ليقدّم تنازلات حقيقية، يدرك هو نفسه أن النظام غير راغب في ذلك، ثم يأتي أوضح الأصوات بين الثلاثة: فريد هوف. كان هوف دوما أوضح الأصوات الديمقراطية المدافعة عن السوريين، وهو لا يزال صلبا في موقفه الحازم من أن الأسد لا يمكن أن يكون جزءا من الحل، وهو الوحيد الذي يحترم القرارات الدولية المطالبة بانتقال سياسي حقيقي، بعيدا عن الأسد وزمرته. وأخيرا هو الوحيد الذي تخلّى عن حزبيته، وقال قول الحق في الضربات التي وجّهها الرئيس السابق ترامب إلى الرئيس السوري “على الرغم من كونها رمزية استطاعت أن توصل رسائل قوية إلى النظام”.
تشكّل هذه الأصوات الثلاثة الخلفية التي ستستأنس بها سياسة الرئيس بايدن في سورية، ولا نستطيع سوى أن نأمل في أن الإدارة الجديدة لن تعيد مأساة سياسة الرئيس أوباما الجبانة والمتردّدة، ولن تعتبر جزءا من الملفّ الإيراني، وإن يكُن ذلك الأمر مستبعدا، وخصوصا بعد تعيين صديق الإيرانيين، روبرت مالي، مبعوثا لإيران، فهل تستفيق المعارضة السورية من سباتها العميق وتنظر حولها، عسى أن يكون لها قول مختلف؟
العربي الجديد
—————————–
الولايات المتحدة بحاجة إلى سياسة جديدة في سوريا/ جيفري فيلتمان و هرير بليان
سيرث الرئيس المنتخب “جو بايدن” أزمة عمرها 10 سنوات في سوريا ولا تزال تشكل تحديات استراتيجية وإنسانية حادة بالنسبة للولايات المتحدة، لدى الإدارة الجديدة فرصة لإعادة تقييم سياسة الولايات المتحدة بشأن سوريا، وإعطاء الأولوية للدبلوماسية لتعزيز مصالحها.
يُعرف أحدنا(يقصد نفسه والكاتب المشارك معه في كتابة المقال) منذ سنوات بأنه من أشد المنتقدين للرئيس السوري بشار الأسد ولسياسات سوريا الداخلية والخارجية، في حين كان الآخر منتقداً قوياً لفكرة أن الضغط وحده سيغير ما نعتبره سلوكاً إشكالياً، ولا تزال خلافاتنا السياسية قوية، خاصة فيما يتعلق بالرئيس الأسد، مما يجعل توصيتنا المشتركة أكثر أهمية، في الواقع، نتفق على أنه باستثناء مواجهة تهديد داعش في شمال شرق سوريا، وهو محور مهم، فقد فشلت السياسة الأمريكية منذ عام 2011 في تحقيق نتائج إيجابية.
تشمل المصالح الأمريكية في سوريا القضاء على التهديد الذي تشكله الجماعات الإرهابية، ومنع استخدام الأسلحة الكيماوية وانتشارها، وتخفيف معاناة ملايين المدنيين الذين مُزقت حياتهم بسبب مزيج من الحرب والقمع والفساد والعقوبات.
بالإضافة إلى ذلك، تعتبر سوريا نقطة اشتعال للصراع بين القوى الخارجية، بما في ذلك صراع الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل وإيران وروسيا وتركيا، وصراع تركيا والجماعات الكردية المدعومة من قبل الولايات المتحدة، وهناك اهتمام آخر مهم وهو عبء اللاجئين على البلدان المجاورة وأوروبا، حيث تستمر الهجرة الجماعية في تأجيج رد الفعل الشعبوي.
نجحت السياسة الأمريكية الحالية – التي تتمحور حول عزل سوريا ومعاقبتها – في شل اقتصاد البلاد الذي دمرته الحرب بالفعل، لكنها فشلت في إحداث تغيير سلوكي، حيث فشلت الجهود السابقة لتدريب مجموعات المعارضة وتجهيزها وتسليحها بالضغط على الأسد لتغيير الاتجاه أو ترك السلطة، وبدلاً من ذلك، ساهمت هذه السياسات في تعميق اعتماد سوريا على روسيا وإيران.
أدّت عقوبات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى إحداث نقص حاد في العملة السورية وساهمت في انهيارها كاملاً، لكنها لم تضعف الدعم الرئيسي للأسد من قبل جمهوره المحلي ولم تُغير سلوك النخبة الحاكمة، لقد وضعت سياسة العقوبات الولايات المتحدة على الهامش وجعلت كلاً من روسيا وتركيا وإيران المتحكمين الرئيسيين بمستقبل سوريا. في غضون ذلك، توقفت الجهود الدبلوماسية التي تقودها الأمم المتحدة في جنيف والتي تركزت على الإصلاحات الدستورية.
والأسوأ من ذلك، أن العقوبات المطبقة على سوريا تؤدي بشكل غير مباشر إلى عواقب إنسانية كبيرة من خلال تعميق وإطالة بؤس السوريين العاديين، وتمكين مستغلي الحرب وتدمير الطبقة الوسطى السورية التي تعتبر عاملاً مهماً للاستقرار والإصلاح طويل الأمد، وفي المقابل من الصعب الافتراض أن من يقود سوريا اليوم يعاني بسبب هذه العقوبات.
تواجه الولايات المتحدة الآن خياراً بين استمرار النهج الحالي، الذي حقق نجاحاً مؤقتاً بالنسبة لدولة فاشلة في الأساس، أو بدء عملية دبلوماسية جديدة تهدف إلى تقديم إطار عمل مفصل لإشراك الحكومة السورية في مجموعة محدودة من الخطوات الملموسة والقابلة للتحقق، والتي في حال تنفيذها، ستقابلها مساعدة موجهة وإعادة نظر في العقوبات من طرف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
الهدف من هذا الإطار هو وقف دوامة الانحدار في سوريا وإعادة تنشيط الدبلوماسية من خلال تقديم نهج مرحلي يُمكّن من إحراز تقدم في مختلف القضايا، ومنح الحكومة السورية وداعميها مساراً واضحاً للخروج من الأزمة الاقتصادية والإنسانية الحالية، دون أن يتصدى للتحدي الاستراتيجي المتمثل في اصطفاف سوريا مع إيران وروسيا، مع أنه أمر مرفوض من الولايات المتحدة، وهذا النهج الجديد أيضاً لا يُحاسب أي أحد على الوفيات والدمار المروع في سوريا- لكن النهج الحالي لا يفعل ذلك أيضاً.
تم وضع اللبنات الأساسية لمثل هذا الإطار في ورقة بحثية صادرة عن مركز كارتر في أوائل كانون الثاني (يناير) وتستند إلى المشاورات المكثفة التي أجراها المركز مع السوريين على جميع جوانب الانقسامات السياسية في البلاد وكذلك المجتمع الدولي.
أولاً، يجب على الولايات المتحدة النظر في إعفاء جميع الجهود الإنسانية لمكافحة كوفيد 19 في سوريا من العقوبات، كما يجب أن يحظى تسهيل إعادة بناء البنية التحتية المدنية الأساسية، مثل المستشفيات والمدارس ومرافق الري بنفس القدر من الأهمية، وسيتبع ذلك تخفيف تدريجي وقابل للتغيير للعقوبات الأمريكية والأوروبية.
لن يتم منح هذه التسهيلات إلا عندما تتحقق الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون من تنفيذ خطوات ملموسة تم التفاوض عليها مع الحكومة السورية، ومن شأن آليات الرصد التأكد من تقدم هذه المفاوضات، وستشمل هذه الخطوات الإفراج عن السجناء السياسيين، والاستقبال الكريم للاجئين العائدين، وحماية المدنيين، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية دون عوائق، وإزالة ما تبقى من الأسلحة الكيميائية، وإصلاحات القطاع السياسي والأمني، بما في ذلك المشاركة بإيجابية وفعالية في اجتماعات الأمم المتحدة في جنيف، والقبول يالمزيد من اللامركزية.
بالمقابل يجب ألا تتكون لدينا أوهام كبيرة؛ فإن حواجز النجاح في هذه المسألة كثيرة، إذ لم تُظهر القيادة السورية الاستعداد لتقديم تنازلات، وتحقيق تقدم في هذا النهج الجديد التدريجي يتطلب استجابة سورية قابلة للقياس، ففي حال اكتفى نظام الأسد بمجرد التشدق بالإصلاح فيجب أن يؤدي هذا إلى تعليق التسهيلات الأمريكية والأوروبية وقد يؤدي إلى فرض عقوبات “سريعة”.
تخلت معظم الدول التي دعت إلى رحيل الأسد عن هذا المطلب منذ سنوات، لكنهم استمروا في سياسات الضغط والعزلة التي فشلت في تحقيق أي من الإصلاحات المتصورة في هذا الاقتراح التدريجي.
هذا الاقتراح ليس هدية للحكومة السورية، المسؤولة عن القسم الأكبر من الوفيات والدمار خلال السنوات العشر الماضية، بل مضمون هذا الاقتراح هو أنّ إدامة الوضع الراهن لن يؤدي فجأة إلى نتائج مختلفة عن تلك التي شهدناها منذ عام 2011.
نعتقد أنه من خلال الإعلان لقائمة تفاوضية من الخطوات المتبادلة، سيكون بإمكان الولايات المتحدة وأوروبا ضمنياً ممارسة نوع مختلف من الضغط على سوريا لتحقيق الإصلاحات التي تم رفضها حتى الآن،
والتغيير الحالي في الإدارة الأمريكية يوفر فرصة لدراسة واختبار هذا النهج الجديد.
جيفري فيلتمان: كان وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية.كما شغل العديد من المناصب في وزارة الخارجية الأمريكية، من ضمنها مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى.
هرير بليان: كان مدير برنامج حل النزاعات في مركز كارتر، وعمل في البلقان وأوروبا الشرقية والدول المستقلة والناشئة عن الاتحاد السوفيتي والشرق الأوسط وأفريقيا، وفي المنظمات الحكومية الدولية (الأمم المتحدة ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا) والمنظمات غير الحكومية (مجموعة الأزمات الدولية وغيرها).
———————————-
فشل إستراتيجية الولايات المتحدة في سوريا/ روبرت فورد
يجب أن تقر واشنطن بأنها لا تستطيع بناء دولة
خلال السنوات الأربع التي قضاها في منصبه ، وعد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مرارًا وتكرارًا بإخراج الولايات المتحدة من سوريا. وقال إن جهود الولايات المتحدة طويلة الأمد لإعادة بناء مجتمعات ما بعد الصراع وتحقيق الاستقرار فيها كانت مضللة ومحكوم عليها بالفشل. بالنسبة للجزء الأكبر ، أقدم ترامب على خفض أعداد القوات في العراق وأفغانستان ، وخفض تمويل الترويج للديمقراطية بنحو مليار دولار خلال فترة توليه المنصب.
لكن إدارة ترامب تخلت عن سياسة عدم بناء دولة لمتابعة جهد طويل الأمد – في سوريا. حاولت الولايات المتحدة استخدام القوة العسكرية والضغط المالي لإجبار الرئيس السوري بشار الأسد على قبول إصلاحات دستورية كبرى وإنشاء منطقة حكم ذاتي كردية في شمال شرق البلاد. تحت إشراف الولايات المتحدة ، تطورت تلك المنطقة إلى شبه دولة بجيشها الخاص ، قوات سوريا الديمقراطية (SDF) ، وبيروقراطية راسخة – تهيمن عليها وحدات حماية الشعب الكردية السورية (YPG) وذراعها السياسي ، حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD). ).
بعد ست سنوات وحوالي 2.6 مليار دولار ، هذه الدويلة هي طفل أمريكا ، نشأت تحت الحماية العسكرية الأمريكية ومحمية من الجيران المعادين. غير قادر على دعم نفسها ، ستظل منطقة الحكم الذاتي معتمدة على موارد الولايات المتحدة في المستقبل المنظور. ومع ذلك ، فإن الالتزام المفتوح من هذا النوع ليس ما تحتاجه الولايات المتحدة. لم تكن سوريا أبدًا قضية أمن قومي أمريكية رئيسية ، وكانت المصالح الأمريكية هناك دائمًا مقتصرة على منع الصراع من تهديد مخاوف واشنطن الأكثر أهمية في أماكن أخرى. السياسة الأمريكية الحالية لا تفعل الكثير لتحقيق هذا الهدف المركزي. كما أنها لم تؤمن الإصلاح السياسي في دمشق ، ولم تعيد الاستقرار إلى البلاد ، وتعاملت مع فلول تنظيم الدولة الإسلامية ، المعروف أيضًا باسم داعش. من الأفضل أن يغير الرئيس جو بايدن مساره – سحب مئات الجنود الأمريكيين المنتشرين حاليًا في سوريا والاعتماد على روسيا وتركيا لاحتواء داعش.
ظاهريًا ، تم تصميم الإستراتيجية الأمريكية في شمال شرق سوريا للتخلص من آخر بقايا داعش ، مما يحرم التنظيم من الملاذ الآمن لشن الهجمات منه. على الرغم من أن الحملة العسكرية الدولية التي استمرت لسنوات دمرت المجموعة الإرهابية إلى حد كبير ، إلا أن أعضائها الباقين ما زالوا يشنون هجمات متفرقة منخفضة المستوى في سوريا والعراق. من المفترض أن يساعد الدعم الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية ، ووحدات حماية الشعب الكردية التابعة لها ، هذه الجماعات على احتواء داعش بأقل قدر من المساعدة الخارجية ودون الحاجة إلى انتشار أمريكي واسع النطاق.
على الرغم من جاذبيتها من الناحية السياسية ، إلا أن هذه الاستراتيجية معيبة للغاية. وأدى حلفاء الولايات المتحدة الأكراد السوريون إلى تفاقم التوترات الإقليمية القائمة منذ فترة طويلة بين العرب والأكراد. بين المجتمعات العربية على وجه الخصوص ، هناك إحباط واسع النطاق من الهيمنة السياسية الكردية – التي مكنتها الولايات المتحدة – والسيطرة الكردية على حقول النفط المحلية. كما احتج السكان العرب على الفساد الإداري المزعوم لقوات سوريا الديمقراطية ، وعمليات مكافحة الإرهاب القاسية ، وممارسات التجنيد الإجباري. من جانبها ، شنت القوات الكردية هجمات بسيارات مفخخة على بلدات عربية خاضعة لسيطرة الجيش التركي. في مثل هذه البيئة المليئة بالتوترات العرقية والخلافات القبلية ، يمكن لداعش العمل بقبول ضمني من المجتمعات المحلية والتجنيد من صفوفهم الساخطين. ستواجه الولايات المتحدة دائمًا هذه المشكلة إذا كانت سياساتها تفضل دولة يهيمن عليها الأكراد في شرق سوريا.
استراتيجية الولايات المتحدة لها عيب آخر أكثر جوهرية: تنظيم الدولة الإسلامية لا يتم احتواؤه في المناطق الواقعة تحت سيطرة الولايات المتحدة وقوات سوريا الديمقراطية تعمل الجماعة الإرهابية أيضًا في منطقة تسيطر عليها بشكل فضفاض الحكومة السورية وحلفاؤها ، بما في ذلك روسيا وإيران ، والتي تمتد ما يقرب من 200 ميل إلى الغرب من نهر الفرات. إذا كان الهدف هو منع داعش من إعادة تشكيل نفسها أو استخدام سوريا كنقطة انطلاق لشن هجمات في مكان آخر ، فإن حصر الانتشار الأمريكي في الربع الشرقي من البلاد لا يحل هذه المشكلة.
يفتقر النهج الأمريكي الحالي أيضًا إلى نهاية قابلة للتحقيق. بدون غطاء دبلوماسي وعسكري أمريكي ، من المرجح أن تواجه وحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية حربًا على جبهتين أو ثلاث جبهات ضد كل من تركيا والحكومة السورية ، الأمر الذي من شأنه أن يبتعد مقاتليهما عن المعركة ضد داعش. لمنع هذه النتيجة ، مع استمرار دعم القوات الكردية ، سيتعين على الولايات المتحدة البقاء في شرق سوريا إلى أجل غير مسمى. إذا اختارت روسيا أو تركيا أو إيران أو الحكومة السورية زيادة الضغط العسكري على القوات الأمريكية أو الدولة الكردية الوليدة ، فستضطر الولايات المتحدة إلى إلقاء المزيد من الموارد على المشكلة. كان هذا هو الحال عندما بدأت الوحدات العسكرية الروسية في مضايقة الدوريات الأمريكية في صيف عام 2020 – وأرسلت القيادة المركزية الأمريكية وحدات مدرعة خفيفة جديدة كرادع. من المرجح أن تزداد هذه الديناميكية سوءًا في السنوات القادمة.
الاعتماد على روسيا وتركيا
بالنظر إلى هذه العيوب في سياسة ترامب تجاه سوريا ، تحتاج الإدارة الجديدة إلى نهج مختلف – نهج يحتوي على داعش بنجاح دون إلزام الجيش الأمريكي بحرب أخرى إلى الأبد. بدلاً من الحفاظ على الإستراتيجية الأمريكية الحالية ، يجب أن يعتمد فريق بايدن ، بتركيزه الجديد على الدبلوماسية ، بشكل أكبر على روسيا وتركيا. يبدو أنه غير سار ، فإن الاعتراف بمصالح هذين البلدين في سوريا قد يؤدي إلى نتائج أفضل.
روسيا ليست شريكًا مثاليًا ، لكن دعمها للأسد يجعلها القوة المناسبة لتولي القتال ضد داعش. إن موسكو ملتزمة بضمان بقاء الحكومة السورية ، كما أن عودة ظهور داعش (التي يُحتمل أن تمولها حقول النفط السورية التي تم الاستيلاء عليها من قوات سوريا الديمقراطية) سيهدد الأسد بشكل خطير. للاستفادة من هذا الشريط الضيق من الأرضية المشتركة ، يجب على إدارة بايدن إبرام صفقة تفوض موسكو مهام مكافحة داعش على جانبي نهر الفرات. سيتطلب هذا حتماً زيادة البصمة العسكرية الروسية في شرق سوريا ، وستحتاج الولايات المتحدة إلى التفاوض على انسحاب تدريجي لقواتها ووضع جدول زمني للانتقال من السيطرة الأمريكية إلى السيطرة الروسية.
ومع ذلك ، فإن تسليم المسؤولية عن مهام مكافحة داعش في شرق سوريا لن يلغي الحاجة إلى منع الجماعة الإرهابية من استخدام سوريا كقاعدة لمهاجمة حلفاء الولايات المتحدة أو مصالحها. للتخفيف من هذا التهديد ، يجب على الولايات المتحدة إقناع تركيا بتأمين حدودها الجنوبية. مثل موسكو ، لدى أنقرة حوافز واضحة للتعاون. كما شن تنظيم الدولة الإسلامية هجمات إرهابية داخل تركيا أيضًا. ومع ذلك ، سيكون من الصعب إغلاق حدود يبلغ طولها حوالي 600 ميل بالكامل ، لذا سيتعين على واشنطن تزويد تركيا بالدعم التكنولوجي والاستخباراتي لمراقبة حركة الإرهابيين. سيتطلب مثل هذا الجهد تعاونًا مكثفًا ، وكان من الصعب التعامل مع الأتراك حتى قبل أن يساعد دعم الولايات المتحدة لوحدات حماية الشعب ، التي تعتبرها تركيا جماعة إرهابية ، في تعزيز العلاقات. لكن التعاون سيكون أسهل بمجرد أن تتوقف الولايات المتحدة عن مساعدة القوات الكردية بشكل مباشر. الهدف الأساسي لتركيا هو منع هذه الجماعات من إنشاء كيان مستقل في سوريا.
الدور الصحيح
يجب على بايدن تجنب مفاجأة شركاء الولايات المتحدة الأكراد بهذه الاستراتيجية الجديدة. يجب على إدارته إبلاغهم في وقت مبكر بشأن الخطوات الأمريكية الوشيكة. كانت قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب شريكين جيدين في القتال ضد داعش ، وسيكون من الحكمة أن يواصل الروس العمل معهم بموجب ترتيب جديد. موسكو لديها خبرة في هذا المجال: لقد أنشأ الروس ، وجُهِّزوا ، ويشرفون حاليًا على “الفيلق الخامس” من المقاتلين الموالين لدمشق الذين يقومون بمهام في جميع أنحاء البلاد. بالاشتراك مع الحكومة السورية ، يمكن لموسكو إنشاء “الفيلق السادس” الجديد المكون من أعضاء قوات سوريا الديمقراطية تحت القيادة الروسية.
بشكل منفصل ، سيتعين على حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب التفاوض مع دمشق حول الوضع السياسي للأراضي التي يسيطرون عليها. يمكن لعلاقة حزب الاتحاد الديمقراطي الطويلة الأمد مع الحكومة السورية أن تسهل هذه العملية. في عام 2012 ، أبرم التنظيم اتفاقًا مع الأسد للسيطرة على المدن الشمالية الشرقية مع انسحاب الجيش السوري ، ولم تتعرض مجتمعاته مطلقًا لحملات قصف حكومية كتلك التي استهدفت حمص وحلب وضواحي دمشق. الآن ، يجب على وحدات حماية الشعب وحزب الاتحاد الديمقراطي البناء على هذا الإرث لتأمين حقوق المواطنة والملكية المتساوية لمجتمعاتهم – وهي حماية لطالما حرمها الكثير من الأكراد السوريين. على الرغم من أن مثل هذا الترتيب لن يشكل حكماً ذاتياً كاملاً في سوريا الفيدرالية ، إلا أنه سيكون بمثابة تحسن كبير مقارنة بالوضع الراهن قبل الحرب.
ومع ذلك ، سيكون هناك بلا شك صيحات احتجاج من السياسيين والمحللين الأمريكيين الذين يصرون على أن واشنطن مدينة لوحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية بأكثر من ذلك بكثير. لكن على الرغم من المساعدة الكردية القيّمة في الحرب ضد داعش ، فإن الولايات المتحدة لا تدين لهذه الجماعات بمظلة عسكرية غير محددة على حساب دافعي الضرائب الكبير. المصلحة الوطنية للولايات المتحدة هي احتواء التهديدات الإرهابية ، وليس ضمان شكل الحكم في شرق سوريا.
الاعتراف بالحدود الأمريكية
في نهاية المطاف ، تحتاج إدارة بايدن إلى أن تكون واقعية بشأن قدرة الولايات المتحدة على انتزاع التنازلات السياسية في سوريا. لطالما سعى المسؤولون الأمريكيون ، إلى إصلاحات من حكومة الأسد – دون نجاح يذكر. من جانبها ، حاولت إدارة ترامب استخدام العقوبات المالية والسيطرة على حقول النفط السورية لإجبار دمشق على تغيير سلوكها. الأسد بالكاد يتزحزح. تتفوق دمشق في توتير المفاوضات ، ومحادثات الأمم المتحدة في جنيف التي علقت واشنطن آمالها عليها متوقفة. بالنسبة للأسد وزمرته ، الصراع هو لعبة محصلتها صفر حيث تؤدي مطالب الإصلاح أو الحكم الذاتي حتمًا إلى عدم الاستقرار أو تحديات لسيطرتهم أو دعوات غير مرحب بها للمساءلة. وهكذا ، يحارب النظام على افتراض مؤلم بأن الإصلاح سيقصر من عمره. سيطرة الولايات المتحدة أو قوات سوريا الديمقراطية على حقول النفط الصغيرة في شمال شرق البلاد لن تغير هذا الحساب.
يجب على الولايات المتحدة أن تكون واقعية بشأن قدرتها على انتزاع التنازلات السياسية في سوريا
يزعم محللون آخرون أن الانسحاب الأمريكي من شأنه أن يمنح إيران وروسيا السيطرة على سوريا. تتجاهل هذه الحجة الروابط السياسية والعسكرية بين البلدين منذ عقود طويلة مع دمشق – وهي العلاقات التي من غير المرجح أن تضعفها الضغوط الأمريكية. حافظت روسيا وسوريا على علاقة وثيقة منذ الحرب الباردة ، وعمل المستشارون الروس في البلاد قبل وقت طويل من بدء الصراع الحالي في عام 2011. لن تغير الدوريات الأمريكية الصغيرة العرضية في شرق سوريا أيًا من هذه العلاقات الثنائية ، ولن تكون قادرة على منع شحنات الصواريخ الإيرانية إلى البلاد – وهو أمر تقوم به القوات الجوية الإسرائيلية بالفعل بشكل فعال.
يمكن لبايدن بالطبع الحفاظ على استراتيجية إدارة ترامب. لكن القيام بذلك سيعني إهدار مليارات الدولارات مع تفاقم التوترات الطائفية والفشل في احتواء داعش. للولايات المتحدة أهداف محدودة في سوريا يجب أن تكلف واشنطن أقل بكثير. مهما كانت الأموال النقدية التي تريد إنفاقها يجب أن تذهب إلى مشكلة اللاجئين الهائلة. من الأفضل السماح لروسيا وتركيا بتأمين مصالحهما الوطنية من خلال تحمل عبء مكافحة داعش. في نهاية المطاف ، تشكل هذه الصفقات جوهر الدبلوماسية – العمل على حل مشاكل محددة ، حتى مع شركاء بغيضين ، لتحقيق أهداف محدودة ولكنها مشتركة.
المصدر: فورين أفيرز
———————————–
سوريا.. ما الطريق للمضي قدماً في عهد بايدن؟/ فريدريك هوف
ترجمة: ربى خدام الجامع
يصادف شهر آذار من العام 2021 الذكرى السنوية العاشرة لقرار بشار الأسد الذي يقضي بشن حرب على المتظاهرين السلميين، وقد نجم عنه تدفق كبير للاجئين أدى في نهاية المطاف إلى تغيير سياسة أوروبا بطريقة أسعدت سكان الكرملين. كما أدى ذلك القرار إلى تدمير “الدولة السورية”، وأسفر عن ظهور استجابات للسياسة الأميركية قامت بتعميق الأزمة كما قوضت من صدقية الولايات المتحدة، سواء في الداخل السوري أو خارجه. والآن يتعين على أي إدارة أميركية جديدة أن تتعامل مع تلك المشكلة التي وصلت إلى قعر جهنم، ولكن ما الذي يمكن فعله بعد كل هذا؟
إن الموقف الافتراضي للرئيس جو بايدن وفريقه من المحتمل أن ينضوي ضمن حدود محاولة إدارة الفوضى. ولكن لنكون منصفين، لا بد أن نعلن بأن الإرث الذي خلفته إدارة دونالد ترامب في سوريا لم يكن ساماً، كذلك الذي تركته إدارة أوباما لمن أتى بعدها.
إذ خلال سعيه الحثيث لعقد اتفاق نووي مع إيران، الحليفة الإقليمية للأسد، رفض الرئيس أوباما وبكل إصرار أن يحرك أي ساكن للوقوف في وجه المجازر الجماعية التي يتعرض لها المدنيون أو لمعاقبة النظام السوري عليها والذي اتخذ منها وسيلة وأسلوباً للنجاة والبقاء في سدة الحكم، بل حتى عندما قام أوباما بنشر جنوده لمحاربة تنظيم الدولة في شمال شرقي سوريا وفي العراق، لم يفعل أي شيء من ذلك. فقد نقلت صحيفة وول ستريت جورنال رسالة كتبها أوباما ووجهها للمرشد الأعلى في إيران، أكد له فيها أن العمليات العسكرية الأميركية في سوريا لن تستهدف صاحبه، الذي سبق له أن تجرأ أكثر بعد انهيار الخط الأحمر الذي رسمه له أوباما في عام 2013، وهكذا أخذ الأسد يسفك الدماء كما يحلو له إلى أبعد الحدود، بالاعتماد على ذلك الشيك الموقع على بياض والذي يتم تجديده تلقائياً بلا أي مقابل.
غير أن إدارة ترامب ردت مرتين بصورة عسكرية على هجمات الأسد الكيماوية التي استهدفت المدنيين، لتدحض بذلك نظرية أوباما التي ترى بأن معاقبة الأسد في سوريا أو ردعه لن تؤدي إلا إلى حالة من الغزو والاحتلال. ثم إن منحدر التصعيد الزلق أصلاً الذي تقوم عليه فكرة إدارة أوباما التي ركنت إلى السلبية، قد تقوض بشكل أكبر بعد الهجوم الذي شنته روسيا عبر نهر الفرات. في حين قامت إدارة ترامب بتسريع وتيرة المعركة ضد تنظيم الدولة في شمال شرقي سوريا، ما أدى إلى إنهاء دولة الخلافة بصورتها الفعلية. غير أن هذا النصر أيضاً قد تقوض هو الآخر بسبب تلك السياسة الفاشلة. فقد أدى القرار العفوي الذي اتخذته إدارة أوباما بلا أدنى تفكير، إلى عقد شراكة ضد تنظيم الدولة مع “الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني الإرهابي” ما أدى إلى نفور تركيا وإبعادها عن ذلك الملف، مع إطالة أمد المعركة ضد تنظيم الدولة، وذلك بعد الاستعانة بميليشيا وليس بأشخاص محترفين لقتال متطرفين مسلحين. ثم بعدما أجرى الرئيس ترامب مكالمة مع الرئيس التركي، وأقدم على “خيانة” حلفاء واشنطن من قوات سوريا الديقمراطية “قسد”، في الوقت الذي أعلن فيه مسؤولون في إدارته بأنه من الصعب على الأميركيين تنظيم ملف استقرار المناطق المحررة من تنظيم الدولة بعد انتهاء القتال.
وهكذا أتت إدارة بايدن وتسلمت السلطة بعد أسبوعين بالضبط من وقوع تمرد مسلح، لتركز بشكل واضح وصريح على الجائحة وتبعاتها الاقتصادية، ولهذا أصبح وضع سوريا ضمن قائمة الأولويات بالنسبة للعمليات الأميركية ضرباً من المستحيل.
وهنا تحاول الأطراف التي يهمها تعزيز الحظوظ السياسية للأسد، ابتداء من الديكتاتور نفسه، وتبذل كل ما بوسعها للاستفادة من انشغالات الإدارة الأميركية الجديدة. فقد ادعى النظام السوري مرات عديدة بأن العقوبات الاقتصادية الأميركية هي المسؤولة الأولى والأخيرة عن فشل الاقتصاد السوري، لا فساد ذلك النظام وعدم كفاءته ووحشيته. ويدعم هذا التوجه مركز كارتر، الذي يركز على الافتتاحية التي كتبها الرئيس جيمي كارتر في صحيفة نيويورك تايمز عام 2018، والتي ذكر فيها بأن رفع العقوبات عن سوريا شرط أساسي لإنعاش الاقتصاد السوري، كما طالب بالعودة بشكل تدريجي للتعامل مع الأسد على المستوى الدبلوماسي، بالرغم من أنه أصبح أكبر مجرم حرب خلال القرن الواحد والعشرين.
وبلا شك، يتعين على إدارة بايدن مراجعة أمر العقوبات المفروضة على أعوان النظام والمؤسسات التابعة له حتى يضمن عدم وصول أي شيء تفعله الولايات المتحدة لمحاسبة تلك الجهات، لزيادة معاناة الشعب السوري، ولو بشكل طفيف، بعدما تحمل ذلك الشعب ما تحمله نتيجة لفساد الحكم في البلاد. إذ كثيراً ما تتحول العقوبات لأدوات قاسية وفظة تتسبب بوقوع أضرار غير محسوبة، ولكن لا حاجة للإدارة الأميركية الجديدة لأية تعليمات تتلقاها ممن يسعون لترسيخ حكم ذلك الشخص الذي دمر سوريا قبل أي طرف آخر.
وإذا لم تتم مجابهتها مجدداً بصيغة عسكرية من قبل الروس أو من يدعم النظام السوري، فستسعى إدارة بايدن على المدى القريب إلى إضعاف النار تحت الإناء الذي يطبخ فيه الملف السوري، أو استبعاد سوريا بشكل كامل عن فرن السياسة، والاعتماد على تقديم المساعدات الإنسانية للاجئين وللسوريين الذين يعيشون في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام. وبالطبع يجب بذل كل الجهود في هذا المضمار، مع الشركاء كافة، وذلك لتقديم المساعدات العاجلة لكل السوريين المحتاجين، بصرف النظر عن المكان الذي يعيشون فيه. إلا أن القيام بذلك في المناطق التي يسيطر عليها النظام أمر صعب، وهذا ما اكتشفته هيئة الأمم المتحدة، وذلك لأن أفراداً من حاشية النظام نجحت بالاستئثار بعقود الإغاثة حيث اعتمدت عليها لإثراء نفسها وجمع ثروات لصالحها هي فقط دون غيرها.
إن العمليات التي يجب أن تتم في شمال شرقي سوريا حيث تسعى القوات الأميركية مع شركائها المحليين لمنع تنظيم الدولة من العودة للظهور، يجب أن تخضع لمراجعة داخلية فورية. فقد اقترح دبلوماسي أميركي سابق أن يتم تسليم مهمة محاربة تنظيم الدولة إلى روسيا والنظام، إلى جانب المناطق التي تم تحريرها من تنظيم الدولة في شمال شرقي سوريا، وهنا يأمل المتطرفون الإسلاميون الذين يسعون جاهدين للعودة مجدداً لقيادة ذلك التمرد، أن تصغي الإدارة الأميركية لتلك النصيحة، وذلك لأنهم يعرفون تمام المعرفة بأن دولة الخلافة لن تقوم لها قائمة دون وجود حكم الأسد الفاشل في سوريا، وحكم نوري المالكي الفاشل في العراق.
وهنا كيف لنا أن نصدق بأن الدولة التي أشرفت على عملية ترسيخ الاستقرار بعد الحرب في اليابان وألمانيا لم يعد لديها اليوم من المهارات ما يساعدها على التعاون مع السوريين والشركاء الدوليين لتمكين نظام حكم شرعي محلي من القيام في شمال شرقي البلاد، أي إيجاد البديل الذي طال انتظاره ليحل محل الأسد؟! لهذا ينبغي على وزارتي الدفاع والخارجية الأميركيتين، بالاعتماد على المعلومات التي تقدمها وكالة التنمية الدولية أن تقوم بمراجعة هذه النتيجة التي خلصت إليها إدارة ترامب. صحيح أن القرار الذي اتخذ في شمال شرقي سوريا والذي سعى لتجنب غياب الاستقرار الكارثي بعد القتال في العراق وليبيا سيكون من الصعب تنفيذه على الأرض، إلا أنه لا ينبغي للكرد السوريين أن يحكموا العرب السوريين، كما لا ينبغي أن يحكم الأتراك الكرد السوريين. بيد أن الأسد ونظامه نجحوا في تحويل سوريا إلى جرح نازف مفتوح وذلك عبر إقناع الأقليات بل حتى العرب السنة أنه لا بديل عن حكم العائلة المتوحشة، إلا حكم المتطرفين الإسلاميين المتوحشين مثلها تماماً. وبالتأكيد كان شمال شرقي سوريا المكان الملائم لإثبات كذب النظام والمدافعين عنه، ولكن أما تزال تلك المنطقة تثبت كذب ذلك الادعاء؟
بالنسبة للهدف الشامل الذي يتصل بالملف السوري، ما يزال الانتقال السياسي الذي ينتج عنه ظهور حكم شرعي في البلاد هدفاً بالنسبة للإدارة الأميركية، بيد أن ذلك لن يحدث خلال الدقائق العشرين القادمة، هذا طبعاً بالمعنى المجازي للكلام. غير أن سوريا في ظل حكم الأسد وحاشيته لن تمثل إلا تهديداً خطيراً على السلم في تلك المنطقة، حيث ستمثل تهديداً بالنسبة لجيرانها، وستعتبر دولة داعمة للتطرف والإرهاب، ومنصة لانطلاق إيران في هيمنتها على المنطقة. وهكذا ستظل سوريا تحت حكم الأسد دوماً تلوح بإفراغ نفسها من كل المضامين الأخرى، حتى ولو، بل على الأخص بعدما يتم إغداق أموال إعادة الإعمار على ذلك النظام الذي لا يشبع.
في الحقيقة ليس هنالك ما يصلح حال سوريا على المدى القريب، إلا أن الخيار الأكثر تدميراً بالنسبة للمصالح الأميركية ولمستقبل سوريا هو أن نفترض أن الأسد قد انتصر وأن نسعى للعودة إلى حضنه اللزج. وهنا من الضروري مواصلة دعم المبعوث الأممي الخاص، إلى جانب التمسك بقرارات الانتقال السياسي التي يقرها المجتمع الدولي كما تجسدت في عام 2012 بالبيان الختامي لمجموعة العمل من أجل سوريا، وفي قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254. كما لا بد من مضاعفة الجهود لجمع سجل كامل يدعم بالنهاية عملية محاسبة الأسد وأعوانه بشكل قانوني، بحسب توصيات مجموعة دعم سوريا في عام 2019، إلى جانب إجراء تحقيقات حول جرائم الحرب التي ارتكبتها روسيا في سوريا.
ويجب على الإدارة الأميركية الجديدة أن تلزم نفسها بفرض عقوبة عسكرية عند تجدد عمليات القتل الجماعي التي تستهدف المدنيين في سوريا أو عند ممارسة نظام الأسد لإرهاب الدولة. ثم إن أنصار النظام كانوا يبحثون لهم عن مخرج في صيف عام 2013 عندما قام الرئيس أوباما بمسح خطه الأحمر بالنسبة لاستخدام الأسلحة الكيماوية، ولقد اعترف كبار المسؤولين لدى إدارة بايدن أمام الملأ بالندم فيما يتصل بالسياسة الأميركية تجاه سوريا أيام إدارة أوباما. ولهذا سيختبر مدى صدق ذلك الندم وكذلك مدى أهمية العمليات التي سيقوم بها ذلك الفريق في حال مواصلة نظام الأسد قتل المدنيين بصورة جماعية، سواء عبر استخدامه للأسلحة الكيماوية أو البراميل المتفجرة، أو أي أداة أو وسيلة أخرى موجودة في مخازنه ومستودعاته بوسعها أن تعبر عن إرهاب الدولة.
إن اتخاذ أميركا أو عدم اتخاذها لأي إجراء في سوريا هو الذي أوعز لخصوم الولايات المتحدة إلى أي مدى بوسعهم أن يتقدموا في أوكرانيا وغيرها وإلى أي مدى بوسعهم أن يستخدموا القوة والشدة في هذا المضمار. إلا أن سوريا لم تكن مرشحة في يوم من الأيام للاحتواء الذاتي، إذ من الممكن أن تذهب عشر سنوات من السياسات الأميركية الخاطئة هناك والتي نجم عنها تفكير وتعقل كبير مع انضباط في تحديد الأهداف ورسم الاستراتيجيات سدى دون أي فائدة ترجى، كما أن الأسد ونظامه ليسوا على وشك تبييض السجون، أو الترحيب بعودة اللاجئين، أو مشاركة السلطة مع أي أحد، بل إنهم ينتظرون بكل صبر وأناة استسلام الغرب الذي أكد لهم من يدعمهم بأنه آت لا محالة. ولهذا لا ينبغي لإدارة بايدن وهي تتجنب تغيير النظام في سوريا بالقوة، أن تفكر باستيعاب نظام الأسد أو التوصل معه إلى أية تسوية.
——————————-
بعد عقد من الفشل.. هل يملك بايدن القدرة على تغيير سياسة أمريكا في سوريا؟
ن لدى الغرب أي خطة للتدخل في سوريا وانقاذ الثورة”/ أرشيفية
تمثل سوريا فشلاً ذريعاً للسياسة الخارجية الأمريكية على مدى عقد من الزمان، ومن الطبيعي أن الرئيس الجديد جو بايدن سيسعى على الأرجح لاتباع سياسة جديدة، والسؤال هل يمتلك خيارات فعالة يمكنها أن تغير الواقع المرير هناك؟
فمنذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية ضد حكم الرئيس بشار الأسد المتسم بالفساد والقمع قبل عشر سنوات، وكان وقتها الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن نائباً للرئيس الأسبق باراك أوباما، تمحور هدف الولايات المتحدة الرئيسي في التخلص من نظام الأسد، لكن حتى الآن فشلت واشنطن في تحقيق الهدف الأساسي من سياستها، ولا حتى الأهداف الأخرى تحقق منها شيء يذكر.
وربما يكون الشيء الوحيد الذي نجحت السياسة الأمريكية المطبقة حالياً والتي تتمحور حول عزل سوريا ومعاقبتها، هو شلّ اقتصاد البلاد الذي مزَّقَته الحرب بالفعل، لكن تلك السياسة فشلت في إحداث أي تغييرٍ جوهري يذكر في مسار الأحداث. إذ لم تُكلَّل الجهود السابقة لتدريب مجموعات المعارضة وتجهيزها وتسليحها للضغط على الأسد لتغيير الاتجاه أو مغادرة السلطة بالنجاح. وفي المقابل، أسهمت هذه السياسات في تعميق اعتماد سوريا على روسيا وإيران.
وتناول موقع Responsible Statecraft الأمريكي موقف الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة جو بايدن من الملف السوري، من منطلق أنه ورث أزمةً عمرها 10 سنوات ولا تزال تشكِّل تحدياتٍ استراتيجية وإنسانية حادة، راصداً أن الإدارة الجديدة لديها فرصةٌ لإعادة تقييم سياسة الولايات المتحدة إزاء سوريا، وإعطاء الأولوية للدبلوماسية لتعزيز المصالح الأمريكية.
سياسة أمريكا في سوريا فاشلة
البعض في دوائر السياسة الأمريكية الخارجية يُعرَف بالانتقاد الشديد للرئيس السوري بشَّار الأسد ولسياسات سوريا الداخلية والخارجية، فيما يُعرَف البعض الآخر بالانتقاد القوي لفكرة أن الضغط وحده سيغيِّر ما يُعتَبَر سلوكاً إشكالياً. ولا تزال الخلافات السياسية، خاصةً فيما يتعلَّق بالأسد قوية، وباستثناء مواجهة تهديد داعش في شمال شرق سوريا، هناك اتفاقٌ على أن السياسة الأمريكية فشلت منذ العام 2011 في تحقيق نتائج إيجابية.
وتشمل المصالح الأمريكية في سوريا القضاء على التهديد الذي تشكِّله الجماعات الإرهابية، ومنع استخدام الأسلحة الكيماوية وانتشارها، وتخفيف معاناة ملايين المدنيين الذين مزَّقَت الحرب والقمع والفساد والعقوبات حياتهم.
بالإضافة إلى ذلك، تُعتَبَر سوريا نقطة اشتعالٍ للصراع بين القوى الخارجية، بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل وإيران وتركيا والأكراد، المدعومون من الولايات المتحدة. وهناك أمرٌ آخر مهم، وهو عبء اللاجئين على البلدان المجاورة وأوروبا، إذ تستمر الهجرة الجماعية في تأجيج ردِّ الفعل الشعبوي.
وقد أدَّت العقوبات الأمريكية والأوروبية إلى ضررٍ حاد في الاقتصاد، وساهمت في انهيار العملة السورية، لكنها لم تضعِف الدعم الرئيسي بين جمهور الأسد المحلي الأساسي، ولم تغيِّر سلوك النخبة الحاكمة. لقد دفعت سياسة العقوبات الولايات المتحدة إلى الهامش، وجعلت روسيا وتركيا وإيران الحكَّام الرئيسيين لمستقبل سوريا. وفي غضون ذلك توقَّفَت الجهود الدبلوماسية التي تقودها الأمم المتحدة في جينيف، والتي تركَّزَت على الإصلاحات الدستورية.
والأسوأ من ذلك هو أن العقوبات على سوريا تؤدِّي إلى عواقب إنسانية ضارة غير مقصودة، من خلال تعميق وتمديد بؤس السوريين العاديين، وتمكين مستغلِّي الحرب، وتدمير الطبقة الوسطى السورية، وهي مُحرِّكٌ مُحتَمَل للاستقرار والإصلاح طويل الأمد. ومن المُفتَرَض أن قيادة البلاد لا تعاني بسبب العقوبات.
عندما أظهرت نتائج الانتخابات الأمريكية أن ترامب قد خسر، وأن بايدن هو الرئيس الجديد في البيت الأبيض، ساد العالم جو من التفاؤل بأن السياسات الشعبوية القومية التي سادت الكرة الأرضية بتأثير ترامبي سوف تنتهي، وتحل محلها سياسات تقوم على التعاون واحترام حقوق الإنسان، والسوريون أيضاً كانوا ينتظرون نتائج الانتخابات الأمريكية الأخيرة، شأنهم شأن باقي العالم، والآن تولى بايدن الرئاسة بالفعل.
لكنّ تقريراً نشره موقع المجلس الأطلنطي للدراسات رسم صورة غير مبشرة في هذا الشأن، فإدارة بايدن مثقلة بأعباء داخلية قاسية، تتمثل في جائحة كورونا التي أودت بحياة أكثر من 400 ألف أمريكي وأصابت الملايين ولا تزال، إضافة إلى تداعياتها التي أطاحت بالاقتصاد الأمريكي إلى انخفاضات لم يشهدها منذ عشرات السنين، هذا بخلاف الانقسام العميق الذي تشهده البلاد، والذي كانت أحداث الاقتحام الدموي للكونغرس وتنصيب بايدن تحت التهديد أبرز المؤشرات على أنه أزمة قد تمتد.
وبخلاف معاناتها الداخلية، تواجه إدارة بايدن تحديات هائلة في السياسة الخارجية، تتمثل في الصين وروسيا، وسعيهما لتأكيد المكاسب التي حصلت عليها كل منهما خلال رئاسة ترامب وسياساته الانعزالية من جهة، والاتفاق النووي الإيراني الذي انسحب منه ترامب ويرغب بايدن في العودة إليه، وحرب اليمن وغيرها من ملفات الشرق الأوسط الشائكة، ناهيك عن الخلافات داخل حلف الناتو بين تركيا واليونان وفرنسا وغيرها من قضايا وصراعات السياسة الخارجية.
في ظل تلك الأجندة المزدحمة يرى كثير من المراقبين أن الملف السوري ربما لا يجد مكاناً على أولويات الإدارة الأمريكية الجديدة على المدى القصير ولا المتوسط أيضاً.
هل يملك بايدن أوراقاً للتغيير الحقيقي؟
لكن حتى في حال قررت إدارة بايدن أن تتعامل مع الملف السوري سيكون عليها أن تختار بين النهج الحالي، الذي نجح فقط في المساهمة في الفشل المزمن للدولة السورية، أو العملية الدبلوماسية التي يُعاد تصوُّرها بهدف تطوير إطار مُفصَّل لإشراك الحكومة السورية في مجموعةٍ محدودة من الخطوات العملية والملموسة، التي في حال تنفيذها ستُقابَل بمساعدةٍ مُوجَّهة وتعديلاتٍ في العقوبات من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
والهدف من هذا الإطار هو وقف دوَّامة الانحدار في سوريا، وإعادة تنشيط الدبلوماسية من خلال تقديم نهج مريح يمكِّن من إحراز تقدُّمٍ في القضايا المنفصلة، وإعطاء الحكومة السورية وداعميها مساراً واضحاً للخروج من الأزمة الاقتصادية والإنسانية الحالية. لا يتعاطى هذا الإطار مع التحدي الاستراتيجي المتمثِّل في اصطفاف سوريا مع إيران وروسيا، وهو أمرٌ مرفوضٌ من الولايات المتحدة، ولا يحاسب أيُّ شخصٍ على الوفيات والدمار المُروِّع في سوريا، لكن النهج الحالي لا يفعل ذلك أيضاً.
وتبلورت اللبنات الأساسية لهذا الإطار في ورقةٍ بحثية صادرة عن مركز كارتر، في أوائل يناير/كانون الثاني، وتستند إلى المشاورات المُكثَّفة التي أجراها المركز مع السوريين من جميع جوانب الانقسامات السياسية في البلاد، وكذلك مع المجتمع الدولي.
أولاً، يجب على الولايات المتحدة النظر في إعفاء جميع الجهود الإنسانية لمكافحة جائحة كوفيد-19 في سوريا من العقوبات. وبالقدر نفسه من الأهمية، سيكون من الضروري تسهيل إعادة بناء البنية التحتية المدنية الأساسية، مثل المستشفيات والمدارس ومرافق الري، على أن يتبع ذلك تخفيفٌ تدريجي للعقوبات الأمريكية والأوروبية.
لن تُطلَق هذه الخطوات إلا حين تتحقَّق الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون من تنفيذ خطواتٍ ملموسة جرى التفاوض عليها مع الحكومة السورية. ومن شأن آليات الرصد التأكُّد من التقدُّم في ذلك. وستشمل الخطوات الإفراج عن السجناء السياسيين، والترحيب باللاجئين العائدين، وحماية المدنيين، ووصول المساعدات الإنسانية دون عوائق، ونزع الأسلحة الكيماوية المتبقية، وإصلاح القطاع السياسي والأمني، بما في ذلك المشاركة حسنة النيَّة في عملية جينيف التي تديرها الأمم المتحدة، والمزيد من اللامركزية.
روسيا أصبحت القوة الأبرز المسيطرة على سوريا
لكن يجب ألا تكون هناك أيُّ أوهام، إذ إن الحواجز كثيرة أمام النجاح، إذ أظهرت القيادة السورية القليل من الاستعداد لتقديم تنازلت، ويتطلَّب الزخم في هذا النهج التدريجي تحرُّكاً سورياً يمكن التحقُّق منه.
لقد تخلَّت معظم الدول التي دعت إلى رحيل الأسد عن هذا المطلب منذ سنوات، لكنهم استمروا في سياسة الضغط وفرض العزلة التي فشلت في توليد أيٍّ من الإصلاحات المُتصوَّرة في هذا الاقتراح التدريجي. وهذه ليست هديةً للحكومة السورية، المسؤولة عن الكثير من الوفيات والدمار خلال السنوات العشر الماضية، بل إنها طرحٌ بأن استمرار الوضع الراهن لن يؤدِّي فجأةً إلى نتائج مختلفة عن تلك التي شهدناها منذ عام 2011. ومن خلال الإطلاق العلني عن قائمةٍ مُتفاوَض عليها من الخطوات المتبادلة، يمكن للولايات المتحدة وأوروبا تطبيق نوعٍ مختلفٍ من الضغط على سوريا، لتوليد الإصلاحات التي رُفِضَت حتى الآن. إن تغيير الإدارة الأمريكية يمنح فرصةً لاختبار هذا النهج الجديد.