صفحات الثقافة

في تفكيك الهوية الوطنية/ ماهر مسعود

يتناول العديد من الكتّاب والباحثين، القدامى والجدد، مسألة “الهوية الوطنية” باعتبارها حاصل جمع هويات الناس الموجودين في بلد ما، فهي هوية كل فرد منهم وهويتهم جميعًا في الوقت ذاته، وهي المعبّر عن هوية هؤلاء الناس، سواء أكانوا طوائف أم أديانًا أم اثنيات. وما إن يبدأ الباحث بتلك المقدّمات، يصبح كل حديث عن الهوية الوطنية مجانبًا للصواب، لأنه يبدأ أصلًا من مقدّمات خاطئة، حيث إن الهوية الوطنية ليست هوية شعب، ولا أناس موجودين في الواقع، بل هي تركيب نظري مجرد ووظيفي لكيان سياسي اعتباري هو الدولة، وهي عبارة عن جملة مبادئ مُصوغة في دستور، واتفاقات مصوغة في قوانين. تلك القوانين والمبادئ هي ما يتمّ عبره تعريف الهوية الوطنية، صياغتها وصناعتها، وهي ما يجب أن يحكم الشعب، وأن يحتكم إليه الشعب، ومن جملة القوانين والمبادئ تلك، تتشكل الهوية الوطنية، وبذلك فهي ليست هوية الشعب، بل هوية الكيان الذي يجمع الشعب تحت سقف سياسي وقانوني واحد.

ليس هناك هوية ثابتة وأصيلة وجوهرانية للشعب، ولا يجب أن تكون؛ فالشعب هو تعدد هوياتي واسع جدًا، هو طوائف وأديان وقوميات (أي شعوب من اثنيات مختلفة)، وهو جماعات وأفراد، نساء ورجال. الشعب هو تعدد كامل وهائل، وكل محاولة لصناعة هويةٍ يتطابق فيها الشعب مع الكيان الذي يعيش ضمنه هي تأسيس للطغيان والتجانس، وإعدام للشعب عبر مسح الفروق التي ينطوي عليها الشعب، ومن ثمّ هي تأسيس لشروط الحرب الأهلية، حيث يصبح الطغيان هو البديل الوحيد عن الحرب الأهلية الدائمة بين هويات أقليّة وأكثرية متنازعة.

تقول المدرسة الجشطالتية في علم النفس أن الكل هو ليس مجموع أجزائه، فالوجه هو ليس مجموع الأنف والعينين والفم والأذنين.. إلخ، بل هو الشكل الذي تنتظم فيه تلك العناصر، وهذا ما يصدق عند الحديث عن الهوية الوطنية، فهي ليست مجموع أجزاء الهويات التي ينقسم إليها الشعب، بل هي الشكل التعاقدي السياسي، القانوني والدستوري، الذي تنتظم به علاقات تلك الهويات الجزئية، والشكل -بهذا المعنى- مفصول عن العناصر ضمنه، وإن كان يحتويها. ولذلك فإن كلّ من ينتظر بناء هوية وطنية، من تجميع المكونات السورية وهوياتها ضمن هوية واحدة هي سورية، سينتهي عند حالتين: إما المحاصصة الطائفية التي هي حرب أهلية مضمرة وتحتاج دائمًا إلى ضامن خارجي لبقائها، وتحرص دائمًا على وجود ولاءات خارجية تقوم بالاستعانة بها واستخدامها عند الحاجة، بعد واقع كونها مُستخدمة من قبل تلك القوى الخارجية؛ وإما إقصاء أكبر عدد ممكن من تلك المكونات والهويات لصالح هوية واحدة، يحددها المنتصر على الجميع، وهذا يعيدنا حتمًا إلى الاستبداد، سواء كان استبدادًا أقلويًا يُقصي الجميع ويسحق الجميع على طريقة استبداد الأسد، أو استبدادًا أكثريًا شبيهًا جدًا باستبداد عائلة الأسد، لكن من دون حاجة إلى أقصى أنواع القمع في استمراره، حيث تتناسب ضرورة القمع مع موقع المستبد، فكلما كان من أقلية أصغر عدديًا، احتاج إلى قمع أقوى وأكثر ليستمر في الحكم، ولذلك -مثلًا- لم يحتج مبارك إلى أن يقمع شعبه بالطريقة التي فعلها الأسد أو صدّام، مع أن دكتاتوريته كانت شبيهة بهما.

من هنا، نرى أن التصوّرين السائدين للهوية الوطنية يدوران معًا في فلك التصوّر الذي أرساه أصلًا ومسبقًا نظام الأسد، حيث نرى كيف يبدو تصوّر الهوية الوطنية، بوصفها هوية جامعة للسوريين، كردٍّ ضمني، أبوي، تصويبي وعاطفي، على توجهات الواقع الظاهرة بعد الحرب، وعلى من يحاولون القول إنه لا بد من الاعتراف بالهويات المتعددة التي تعبّر عن المكونات السورية المختلفة والمتباعدة، وهذا ما يصبح أكثر جلاء عند نقاش المسألة الكردية. كما يبدو أن كلا الفكرتين أو التصورين يسقطان معًا في سوء فهم الهوية الوطنية، ويشدان حبل الفكر والواقع باتجاهين متقابلين ومتضادين، حيث ينتهي الأول بالمركزية، وينتهي الثاني بالفدرالية أو اللامركزية، مع مراوغة هذا المصطلح لكيلا يبدو أنه نزوعٌ نحو التقسيم أو الانفصال.

إذًا، الهوية الوطنية ليست تقسيم الهوية الكلية إلى جزئيات، ولا تجميعًا لهويات جزئية في هوية كلية لصياغة شكل للدولة. وعندما تكون الدولة (التي هي جهاز السلطة بالتعريف) محكومةً من طاغية مستبد، فليس هناك شيء يسمى هوية وطنية، لأنه ليس هناك مواطنون. هناك بالتأكيد أفراد ومؤسسات وقوانين وقضاة ومدارس وبشر يعيشون حياتهم، ولكنهم ليسوا مواطنين، فلا هم متساوون أمام القانون، ولا لهم حقوق مواطنة واضحة وثابتة ومحمية بقوة القانون، فكما يعلم الجميع، يمكن لأي رجل أمن أن يجعل القانون والدستور ممسحة لحذائه الذي يقتحم به بيت “مواطن” بلا واسطة، ويمكن للرئيس أن يقصف شعبه بالكيمياوي، ويمكن لرجل غني أن يرشو لتجاوز أي قانون.. إلخ، ولذلك، أي لأنه لا هوية وطنية ضمن حكم طغياني، تبقى المكونات الطائفية والعرقية والدينية كما هي دائمًا، تتساكن وتتراصف جانب بعضها، لكنها تبقى معزولة عن بعضها في العمق، لا تتداخل ولا تتقاطع ولا تتغير علاقاتها، ولذلك رأينا أنّ الشعب، مع بدء الحرب في سورية بعد الثورة، لم يجد هوّية وطنية يستند إليها، بل وجد الأفراد طوائف عادوا لها، ومدنًا وبلدات وأهلًا وجماعات أولية عادوا ليحتموا بها، حيث لا قانون عامًا، ولا مبادئ مشتركة، ولا كيان سياسيًا ممثلًا للجمهور العام، بل مجرد سلطة علوية يجعلك التقرب منها محميًا بالحدود الدنيا، ويجعلك الابتعاد عنها نحو دوائر أخرى، أبعدها السنّة، بلا أي حماية تقريبًا، ومشكوكًا فيك دائمًا، حتى لو كنت نائبًا للرئيس أو رئيسًا للوزراء، أو كنت ضمن أي موقع سياسي أو سيادي أو تشريعي أو أمني.

الهوية الوطنية هي هوية سياسية، لا هوية ثقافية، وهي هوية سياسية للكيان، لا للأفراد. فمثلًا، لا يمكن أن تكون الهوية العربية هوية وطنية، حتى لو كان جميع السكان من العرب، لأن العربية هنا هي ثقافة ولغة وأصول أنثروبولوجية مشتركة ليس إلا، ولا يمكن صناعة دستور خاص بالعرب، من دون أن يتحول إلى دستور عنصري وطائفي وامتيازي لا علاقة له بالكيان الحديث المسمّى دولة، لأن في كل دستور قوانينَ ومرجعيات عالمية مشتركة، تنظر إلى البشر بناء من حيث إنه “إنسان”، والإنسان صفة أولية مشتركة لجميع البشر، لا لبعضهم، وبالمقابل لا يمكن أن تكون الهوية الكردية، أو الهويات الطائفية، هوية وطنية، للأسباب ذاتها.

لا يوجد هويات وطنية للجماعات والأفراد، أو لا يجب أن تكون، ما يمكن ويجب أن يوجد هو حقوق سياسية للجماعات والأفراد، وعندما نتكلم عن حقوق سياسية للجماعات، فهذا لا يعني امتيازات على الإطلاق، بل يعني إعادة حقوق سياسية مسلوبة أصلًا، وغير معترف بها ضمن دولة الاستبداد، ولكن الكلام عن حقوق سياسية للجماعات لا يجب أن يشمل أبدًا حق تقرير المصير، لأن تقرير المصير ينبني على علاقة احتلال/ استقلال، لا على علاقة مواطنة، وهذا يعني أنه ليس للأكراد حق تقرير المصير، إلا إذا أعلنوا بوضوح رغبتهم في إنشاء دولة مستقلة، لكن هذا لا يعني بالمقابل أن العرب هم من يقررون مصير الأكراد، حيث يكفي أن يتمسك العرب باسم “العربية” ضمن الجمهورية السورية، لكي يصبح من حق الأكراد المطالبة بجمهورية كردية مستقلة.

إن فكرة حق الشعوب بتقرير مصيرها هي فكرة سخيفة أصلًا؛ لأن الشعب هو تركيب وليس جوهرًا خالصًا، والشعب صناعة وليس قومًا متماهيًا لا يتغيّر بالزمان والمكان، والشعب بالمعنى القديم هو مفهوم ديني، يدلّ على طوائف دينية أو أديان تظن أنها تبقى هي ذاتها عبر التاريخ “شعب الله المختار”. الشعب صناعة سياسية وليس مادة مصنوعة سلفًا، وفكرة حق تقرير المصير هي مبدأ تزييف للواقع، يخفي خلفه القوى المتحكمة في الواقع، ولم يحدث في التاريخ أن شعبًا قرر مصيره إلا في مراحل ما بعد الديمقراطية، أي عندما لم تعد القوى المتصارعة بحاجة إلى صراعها على الأرض والحقوق السياسية حربيًا. لم يحصل حق تقرير للمصير قطّ في مراحل التأسيس، لأن التأسيس هو صراع قوى، ونحن في مرحلة التأسيس لنظام سياسي جديد، ودولة جديدة، وعقد اجتماعي جديد، ولن يؤدي التمسك بالدولة والنظام والعقد الاجتماعي القديم إلا إلى استمرار الحرب الأهلية، حتى الانتصار الساحق لأحد الأطراف على الآخر وفرض الواقع الجديد بالقوة.

إن تفكيك الهوية الوطنية لا يعني تجزئتها، بل تفتيت التحجّر الذي تقبع فيه، وتفكيك الأخلاق السياسية التي ترعاها وتقف خلفها. هو تفكيك التماهي بين الشعب والدولة، وبين الشعب والنظام السياسي، وبين الشعب والتاريخ، سواء أكان ذلك التاريخ عربيًا أو كرديًا أو سريانيًا أو فينيقيًا، فالتاريخ هو أيضًا ما نصنعه هنا والآن في الحاضر، وليس مجرّد ما نستجلبه من الماضي لنعتاش عليه في الحاضر. والتفكيك هنا هو إستراتيجية متشعّبة، تتجه إلى تفكيك معنى الهوية لإبراز التعدد القائم في كل هوية، وتفكيك معنى الوطنية لفصلها عن التعريف الذي سوّده نظام الأسد، وسهّل عليه تخوين كلّ من يعارضه، ومن ثم سجنه وقتله، مثلما سهّل تخوين السوريين لبعضهم، ونشر ثقافة التخوين، ثم فصل الوطنية عن احتكار العرب أو الكرد أو الطوائف والجماعات الأهلية. وأما التشعّب الثالث لإستراتيجية التفكيك فهو تفكيك العلاقة الجامعة بين الهوية والوطنية، وإعادة صياغتها على نحو جديد، لا يستخرج الهوية الوطنية من الأفراد ولا الجماعات، بل من المبادئ والقوانين والتشريعات التي تضبط علاقاتهم في زمان معين ومكان محدد.

مركز حرمون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى