في شهوات السرد السوري!/ عمر قدور
مع مطلع الألفية الجديدة صار بارزًا ذلك الانفجار السردي السوري، وداعًا بلد الشعراء؛ هذا أوان الحكي! الانفجار لم يأتِ عطفًا على مسيرة من التراكم السردي المحلي، بدا كأنّه رغبة كانت مكبوتة لوقت طويل، وللبعض بدا كأنّه موضة تساير الدارج خارجيًا، وتساير متطلبات السوق المحليّة والأسواق المجاورة، وربما الجوائز المخصّصة للرواية التي راحت تتكاثر عربيًا.
وإذا كنّا لا نستطيع دحض فرضيّة “الموضة” كليًا فاستمرارها طوال عقدين له ما يكفي من الدلالة على ملاقاتها رغبات أصيلة في الحكي؛ عندما نكون إزاء ظاهرة عامة فقد تكون الموضة من فروعها لا في أصلها. هكذا يمكن مثلًا الحديث عن موجات قصيرة من الانشغال “على صعيد المواضيع أو الشكل” بصفتها موضة، أما السياق الذي يستوعب تلك الموجات فهو حدث، وهو حدث سوري تأخر بالمقارنة مع تاريخ حافل من السرد المصري مثلًا.
الحديث عن ظاهرة لا ينطوي في حد ذاته على أحكام قيمة، فأحكام القيمة تذهب إلى أعمال مفردة، بينما الظاهرة نفسها تستوعب الاختلاف في التقييم، والأخير قد يخضع لاعتبارات مؤقتة أو عابرة. وإذا توخينا تحقيبًا أدق، برزت في التسعينات أصوات تستهل ما سيصبح ظاهرة في العقدين التاليين، وهي تحديدًا الأصوات التي خلعت ثوب المجاز الإجباري، وخلعت معه الاشتغال الإجباري على أزمنة، إما قديمة أو مبهمة.
الحديث هنا عن شهوة السرد، عن شهوة الكلام، عن شهوة الحكي، عن شهوة امتلاك الرواية، يتعمد استخدام مفردة “الشهوة” بأعلى حمولاتها الحسيّة. هو ليس استخدامًا على سبيل المجاز، أقله في حالتنا السوريّة. الشهوة توقٌ إلى اللذة، ولا يندر في واقعنا أن تكون اللذة محرَّمة، والظاهرة التي نتحدث عنها اقترنت باقتراف ما كان محرَّمًا، وبإقبال يشي بعقود من الحرمان. إنّنا نتحدث عن عقود من حكم البعث والأسديّة، عن عقود من طغيان الرواية الحاكمة، عن عقود من اشتهاء الكلام وامتناع حريته.
السرد الروائي والواقع… أية علاقة؟
لم تُدرس ظاهرة انفجار السرد السوري باشتباكها مع الواقع، ولم تُدرس كظاهرة إلّا فيما ندر، وفيما يتعلق ببعض الفنيات والتقنيات السرديّة. على العموم، لم تكن هناك دراسات نقديّة “مؤثرة على الأقل” خلال الفترة ذاتها، واقتصرت المواكبة على تغطيات إعلاميّة بقي أغلبها في إطار مناسبة صدور الكتاب. المثال السابق عن طغيان الرواية الحاكمة ليس تفصيلًا هامشيًا في السياق، ولا نذهب إلى تسييس قسري بالقول إنّ انفجار الرواية “في جانب عميق منه ومؤثر” هو سعي إلى امتلاك الرواية الشخصيّة، سعي إلى انتزاعها من ذلك الاحتكار الذي استمر لعقود. والرواية المقصودة ليست سياسيّة بالضرورة؛ بالأحرى هو أولًا التمسك بالحق في رواية شخصيّة لا تكون متوافقة مع الرواية الحاكمة أو السائدة. هو أيضًا خروج من المجاز الذي انتُزع من وظيفته الفنيّة ليصبح وظيفة رقابيّة ذاتيةَ الممارسة، هو الحق في الفجور الذي ينبغي أن يكون متاحًا على قدم المساواة مع الحق في التوريّة أو المجاز الطوعيين.
من دون تفاضل في القيمة بين الجنسين الأدبيين، كان من الأسهل على الشعر الاستمرار، بل الازدهار أحيانًا في ظروف معيقة للسرد والرواية. فالشعر موجود أصلًا في دائرة المجاز والتورية، وهو صوت الفرد لا روايته، حيث ينبغي أن نفرّق جيدًا بين الاثنين. الشعر، وفق فهم عامّي، متصل بالمشاعر أكثر مما هو معبّر عن القناعات العامة، وانشغاله باللغة يفوق بطبيعته الانشغالات الخارجة عنها. لقد تكرّس الشعر إلى حد كبير كتعبير للذات عن الذات، في حين أتت الرواية كتعبير عن الذات إنّما من خلال الآخر، ومن خلال الفضاء العام، والذات نفسها قد تكون مستترة خلف روايتها أو راويها، أو قد تكون حاضرة إنّما خارج المجازات والتورية، بل لم يخفِ بعض التجارب الروائيّة ذلك الميل إلى إظهار الذات الصادمة والفاجرة والمنتقمة لعهود من الكبت.
الحديث عن عهود من الكبت يأخذنا إلى الاستحقاقات التي ستواجه التجارب الروائيّة الجديدة، ومن المفارقة أنّ ما هو جديد زمنيًا عليه مواجهة تراكم من القضايا الجديدة والقديمة، بعضها يخص الواقع العام وبعضها يتعلق بتطور الفن الروائي عالميًا. فالرواية الجديدة “بتعبير مجازي” لن تعيد اختراع السيارة، لكن إذا كان من السهل مسايرة ما هو جديد في السرد العالمي “غالبًا كما يصل عبر الترجمة” فليس بالسهولة ذاتها تقديم اقتراحات خاصة متمايزة. إنّ تعبيرًا مثل “الرواية السوريّة الجديدة” ظهر فضفاضًا، ليتضمن ما هو جديد زمنيًا لكنه يقع فنيًا في إطار السرد التقليدي، وما هو جديد من محاولات “أقل ربما” للتجريب الفني. هو تعبير مواكب لظاهرة بعموميتها، هي كما أسلفنا متعددة ومتفاوتة فنيًا، مع سمة مشتركة هي محاولة استدراك الفوات السابق وامتلاك الرواية المُستلبة.
باندلاع الثورة ستكون الرواية السوريّة أمام تحدٍّ جديد أولًا، قبل أن تتفرع تحديات مديدة لم تكن في الحسبان. التحدي الأول الأهم هو مواكبة الثورة روائيًا، وسواء كنا من أنصار سرد الحدث الراهن أو من أنصار التريث وترك مسافة زمنيّة للتأمل، فذلك لا يغيّر كثيرًا من طبيعة التحدي، أو لنقل من طبيعة المنافسة بين الرواية والثورة!
واحد من أهم التحديات التي وضعتها الثورة ليس في القدرة على التعبير عنها بأمانة، بالمفهوم السياسي للنزاهة، فهذا جانب أخلاقي له أهميته في مكان آخر. التحدي الكبير هو التعبير عن الفن نفسه بواسطة الفن، التعبير عن الثورة بواسطة الرواية، على اعتبار أنّ الثورة في حدّ ذاتها فن، والرواية فن آخر قد يتقاطع مع فن الثورة أحيانًا وقد يفترق عنها أحيانًا أخرى. في جانب مهم منها، تختزن الثورة شهوة الحكي وامتلاك الرواية والصوت الشخصيين، هذا في صلب مطالبها الأولى الديموقراطيّة، لكنه ليس وجه التشابه والمنافسة الأبرز الذي تضعه أمام الرواية. نحن عندما نتحدث عن الفن لا نذكر غالبًا ما هو بديهي لجهة الكثافة التي يختزنها، والكثافة هي مفهوم يخص الزمن الفني لا كثافة الأفكار. بهذا المعنى، الثورة هي زمن فني بالمقارنة مع الزمن الاعتيادي الذي يسبقها أو يليها. هي تلك الكثافة التي لم نعشها من قبل على هذا النحو، ربما باستثناء مناماتنا، مع التشديد على التشبيه الأخير لكون الكثافة سمة تميّز الثورة والحلم مثلما يُفترض أنها تميّز الرواية.
لصالح الثورة لا الرواية
سهّلت الثورة للرواية السوريّة انتشارها، وانتشارها بالعديد من اللغات على نحو غير مسبوق. هذا “النجاح” يُحسب حتى الآن لصالح الثورة أكثر مما يُحسب لصالح الرواية، فالدافع الذي حرّك اهتمام العالم هو الحدث السياسي لا ذلك التميز الفني الذي جعل الرواية السوريّة مطلوبة لدى القرّاء، من دون أن تعني هذه الملاحظة انتقاصًا من سويّة الأعمال المنشورة أو عدم التفريق بين سويّاتها الفنيّة المتباينة. بعبارة أخرى، الثورة التي تضع تحديًا فنيًا قدّمت فرصًا وتشجيعًا بارزين على الصعيد التسويقي. لكن ما هو تسويقي قد يزول بزوال أسبابه، أما التحدي الفني فهو باق بأصله وبتفرعات لم تكن محسوبة من قبل.
من التفرعات أن نسأل اليوم، وقد لا يكون سؤالًا سابقًا لأوانه، هل حديثنا عن الرواية السوريّة ستبقى له الدلالة نفسها التي نفهمها الآن؟ أبعد من ذلك، الآن مع كتابة هذه السطور، هل الرواية التي يكتبها سوريون هي رواية سوريّة بالمعنى المُشار إليه سابقًا وبالمعنى التقليدي الذي يخص أي تقسيم جغرافي كالحديث عن الرواية المصريّة أو التركيّة.. إلخ؟
لتخيّل الإجابة على الأسئلة السابقة نفترض أنّ كاتبات وكتّاب الرواية الذين أصبحوا في المنافي، وقد لا تُتاح لهم العودة، لن يكونوا في معزل عن ثقافات منافيهم المتنوعة، وسيكون لتلك المنافي أثر ظاهر أو خفيّ في رواياتهم المقبلة. بتعدد المنافي، سنكون إزاء روايات فقدت جانبًا قد يكون مهمًا من الإرث المشترك، الإرث الذي كنا نتحدث عنه للتو في سياق بروز ظاهرة الرواية السوريّة. مع تهجير ثلث السوريين إلى الخارج، ينطبق على القرّاء السوريين ما يحدث للكتّاب، فهم سيكونون عرضة للتأثر “وربما التماهي” مع ثقافات منافيهم المختلفة، بما لذلك من أثر على تلقي القرّاء منهم.
إننا لا نعلم، على سبيل المثال، كيف سيكون حال نص روائي سوري مكتوب في ألمانيا ومتأثر بالمكان الجديد، عندما يصبح بين يدي قارئ سوري في إسطنبول أو بيروت أو دمشق أو حلب أو باريس. نفترض أن تلقّي النص لن يكون على شاكلة ما كان من قبل، عندما كان هؤلاء جميعًا يعيشون في مكان مشترك، وتجمع بينهم تفاصيل حياة يوميّة متشابهة، ويختلفون أو يختصمون حول القضايا ذاتها التي هي بمثابة همّ عام أو همّ شريحة محددة في الحيز الجغرافي الذي يعطي لهذه السطور مبررها، أي سوريا.
من وجهة نظرٍ شخصيّة، يبقى الأهم ذلك التمسك بالحق في رواية شخصيّة، وبقاء شهوة الحكي لا لأنّه كان ممنوعًا، وإنّما حبّاً به بعد اكتشاف لذته. “الرواية السوريّة” مفتوحة على العديد من الاحتمالات، بما فيها تبدد هذا التعبير وفراغه من المعنى، وإذا تحقق هذا الاحتمال فستكون رحلة قصيرة جدًا لـ”الرواية السوريّة”. بانحياز إلى اللذة، قد لا يكون ذلك سلبيًا على الإطلاق، إذ لطالما كانت اللذة شخصيّة كشأن الشهوات الساعيّة إليها.
حكاية ما انحكت