ليبيا وسوريا: تمرين على المقارنة/ موفق نيربية
في مقابلة في آب/ أغسطس 2012، لم يأبه لوران فابيوس وزير الخارجية الفرنسي بكونه يعترض على توقيع رئيسه ساركوزي على بيان مشترك مع رئيس المجلس الوطني السوري المعارض آنذاك، يربط ما بين الوضعين السوري والليبي، وقال إنه «من الخطأ المقارنة بين الوضع في سوريا وليبيا». في ما يلي سيقع ذلك الخطأ، عن سابق تعمّد وتصميم.
بيّن فابيوس أسبابه يومها، بأنها تكمن في الفروق الجيو- استراتيجية بين البلدين؛ ويقصد مقدار قربهما من أوروبا غالباً؛ إضافة إلى تركيبة النظام السوري المختلفة نسبياً عن ليبيا، من حيث الجيش القوي والنظام الأمني؛ بما في ذلك وجود السلاح الكيماوي؛ الذي يؤرق وجوده الآخرين، أكثر مما كان يؤرّق السوريين أنفسهم. ولم يذكر الثروة النفطية الليبية يومها، ولا الخوف من التفاعل مع منطقة الساحل الافريقي، حيث أخذت بؤرة للتطرف والإرهاب بالتبلور والتطور.
هناك في ليبيا، أخذ حلف الناتو، بتفويض رسمي من مجلس الأمن؛ زمامَ الأمر في يده في وقت مبكّر، وأبعد القوى الهامشية – نسبياً- عن التفكير بالتدخل المباشر، ثم حصل تدخل خارجي لعب دوراً مهماً في حسم الأمور بسرعة، حتى سقطت طرابلس في أيدي المعارضة خلال أشهر، وقُتل القذافي المختبئ في مجرور على طريق عام بعدها أيضاً بأسابيع. وما بين يوم بداية الثورة في 17 شباط/فبراير ويوم قصف قوات النظام بحوالي 110 صواريخ توماهوك، هنالك ثلاثون يوماً وحسب؛ ما أشعل ذلك مخيلة الثوار الشبان في سوريا، ومعارضتهم الكهلة، وأخذوا يحلمون بانتصار لا يطول انتظاره. تفاقمت الأمور بعد ذلك في ليبيا بسبب العجز عن السيطرة الأمنية على البلاد، بعد خلاصها من القذافي وأدواته وآليات حكمه. وابتدأت كذلك بالتخمّر فالتفسّخ في سوريا، مع الكثير من الدعم الخارجي «الناشف» الذي لا يشبه ذلك الذي حصل في ليبيا، مع الكثير من المطامع الإقليمية التي ازدهرت في غياب الكبار عملياً.
ما أثار تلك المقارنة هو ما حدث مؤخراً في مسار العملية السياسية الليبية، من انتخاب ناجح، كما يبدو، لسلطة تنفيذية برعاية الأمم المتحدة، ودعم القوى الدولية الأساسية، خصوصاً بعد مؤتمر برلين في مطلع عام 2020 الذي ضمّ إلى ألمانيا كلّاً من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وروسيا وتركيا ومصر والإمارات، إلى الاتحاد الافريقي والأوروبي والجامعة العربية، وكان بمثابة مظلة دولية لحماية ودعم الحوارات الليبية العتيدة أو المقبلة.. وقد حضرت للتوّ في مخيلة العديد من السوريين مقارنات بين ما حدث، وما يحدث في مسار عمليتهم السياسية، إن كانت هنالك عملية سياسية فعلية، وانصبّ الاهتمام حالياً خصوصاً على نجاح من لم يكن متوقعاً نجاحه في تلك الانتخابات المقصورة، وفشل من لم يكن متوقعاً فشله. بدلاً من حسابات المهندس الذي كنته، سأستعين بحسابات البقّال الذي كان والدي؛ وسأنظر في أرقام تلك الانتخابات التي جرت بين أعضاء ملتقى الحوار السياسي، الذين كان عددهم 75 وظهروا في النتائج 74 لأسباب تمّ تبريرها. من هؤلاء كما يبدو، مارس الجميع حقّهم، ما عدا واحداً لم يهجر المكان ولم يخاصمه. جاء هؤلاء من الغرب – 37 عضواً- ومن الشرق- 23 عضواً- ومن الجنوب- 14 عضواً- وبين تلك الأقاليم ما بينها من عوامل تجاذب وتباعد منذ القديم، ولطالما سمعنا في طفولتنا عن طرابلس وبرقة وفزّان. وأثبتت تطورات الأحداث في السنوات الأخيرة تلك الظاهرة، حتى تبلور حكم «حكومة الوفاق» مع أحزابها وقواتها المسلحة أو فصائلها من جهة، وحكم «الحكومة المؤقتة» مع مجلس النواب بتنظيماتها و»جيشها الوطني» و»المشير» حفتر من جهة أخرى.. وظهر دعم الإمارات ومصر وروسيا في الشرق، ودعم تركيا في الغرب.. وتوزّعت أشباح أوروبا على أهوائها ومصالحها العتيقة بينهما. رغم ذلك، كان في القائمة الفائزة أولئك الذين حصلوا على أصوات قليلة جداً في الانتخابات الأولية بين كل مجموعة إقليمية على حدة؛ في حين جمعت القائمة الخاسرة أولئك الأعلى أصواتاً في تلك المجموعات، وبشكل ملموس أكثر: حصل عقيلة صالح على تسعة أصوات في إقليمه في الشرق، ومحمد يونس المنفي على خمسة أصوات فقط. وحصل خالد المشري على ثمانية أصوات، بينما لم يحصد عبدالله اللافي إلّا صوتا واحدا – ربما كان صوته غالباً – في مجموعة الغرب. في حين حصل عبد المجيد سيف النصر على ستة أصوات في مجموعة الجنوب، وموسى الكوني على صوتين فقط في الجنوب. وفازت القائمة التي ضمت الثلاثة الذين وردوا ثانياً هنا للتو، مع عبد الحميد دبيبة الذي تفوق أيضاً على الشخصية البارزة فتحي باشاغا، وكلاهما من مصراتة. وما عدا موسى الكوني، الذي كان عضواً في المجلس القديم، لم أكن قد سمعت بأسماء الفائزين كلّهم. وقد يوحي ذلك كلّه بأن هنالك جواً عاماً قد سئم قياداته المحلية، ويريد الخروج من المأزق والمتاهة، ربّما يوحي أيضاً بانبعاث روح» ليبية» تفوقت على الجهوية والروابط المحلية.
يلفت الانتباه أنه ظهرت تصريحات حول» مؤامرة» تركية، مع أن رئيس المجلس الفائز من الغرب، ونائبه الذي من الشرق – التركي كما يُقال- لم يحصل في الانتخابات الإقليمية الفردية إلا على صوت واحد، وكذلك يلفت الانتباه تلك الدرجة العالية من الترحيب بالعملية ونجاحها من قبل الأطراف المختلفة سابقاً.. كما قد يعطي المشهد انطباعاً بأن هنالك انفلاتاً – أو بعض انفلات – من التبعية للداعم الخارجي، أو بتعبير آخر: من الارتهان ونتائجه الوخيمة، بذلك يتعمّق الفارق – إن صحّ- ما بين الحالة الليبية والسورية: هنالك انخراط أكبر فعالية بكثير من قبل الخارج ذي النفوذ الدولي في العملية السياسية في ليبيا، ظهر بأشكال أكثر انسجاماً منذ مؤتمر برلين وما تلاه.. وحين يكون ذلك الانخراط وازناً يخفّ تأثير المتداخلين الأصغر نسبياً، وتخفّ بالضرورة تأثيرات الاختلافات الجزئية على الضفة المقابلة من البحر المتوسط، ليسود ما هو أقرب إلى أجواء حلف الناتو عند الأزمات الجدية. هنا، ربّما يؤثّر غياب ضغط القوى المتضائل على أطراف الصراع المباشر، لتتفلّت قليلاً وتنطلق بتأثير»وطنيتها» إلى مواقف أكثر استقلالية.. ولا تتوافر عوامل مثل هذه في ما يخصّ سوريا، لا في الأجواء الدولية النافذة، ولا بين السوريين أنفسهم على الإطلاق.
يبدو أن القوى الليبية حين توفّرت لها الشروط الكافية، تملّصت من نجومها الساطعة، وتداخلت مواقفها خارج المعادلات البسيطة التي تختصر الأمور بترجمة كل شيء من خلال المراجع الخارجية، أو حتى من خلال الانتماءات السياسية أو الأيديولوجية، التي غدت مؤخّراً مهزلة قاتلة. هنالك ضجر ورفض للطبقة السائدة على السطح، تجلّى إسقاطاِ لها في تلك الانتخابات البسيطة.. في حين لا تتوافر الشروط ولا الإرادات ولا القوى الكافية للقيام بمثل ذلك في سوريا، رغم ضرورته الملحّة، بل المصيرية حالياً. الوضع في سوريا مختلف وأكثر تعقيداً، فالقذافي هنا ما زال حياً، بل ينوي ترشيح نفسه من جديد ومن دون كللٍ للرئاسة في حزيران/يونيو المقبل.. وهنالك قوى خارجية مسلحة ما أنزل الله بها من سلطان على الأرض، وطائفية وعنصرية فائرتان تخرّبان أي بارقة أمل سياسية. وهنالك أيضاً معارضة وسلطة متنافستان على الضحالة والارتهان لآخر أو آخر، وعلى مقدار الانفلات من الوطنية التي تستبطن المواطنة إلى هويات هدّامة.. ولو كانت إحداهما لنا، والثانية علينا! بل إن هنالك استعصاءً يستطيع توليد اقتراحات عسكرية وطائفية وعشائرية وعصبوية لمسار سياسي..
كاتب سوري
القدس العربي