أسطورة أم كلثوم.. من “الحمار” إلى “التيك توك”/ شريف صالح
ما الذي جعل أم كلثوم عبقرية؟ سؤال نستحضره، مرّة جديدة، في ذكرى غياب أم كلثوم (3 شباط/ فبراير 1975). هل الولادة كقديسة؟ فالأم فاطمة، تحمل اسم صغرى بنات النبي وأقربهن إلى قلبه. والأب إبراهيم، يحمل اسم “أبو الأنبياء”، منشد وإمام مسجد قرية “طماي الزهايرة”. يُقال إن “الداية” عندما صاحت مبشرة بها، كان الأب يقرأ عن “بنات النبي” ووقعت عينه على اسم “أم كلثوم”. كان إطلاق أسماء بنات النبي شائعًا: زينب، ورقية، وفاطمة، ما عدا “أم كلثوم” ظلّ نادر الاستعمال.
هوجم الأب على هذا الاسم الثقيل على ألسنة الفلاحين، لكنه تمسّك به، وفضّل المحيطون تدليلها باسم “سومة” أو “ثومة”.
أب شديد التدين، بالكاد يكسب في الشهر “عشرين قرشًا” من إقامة الشعائر والإنشاد في الموالد، اعتاد عند الفجر أن يناقش زوجته حول قسوة الفقر، قبل أن يستيقظ أطفالهم، لكنّ أم كلثوم كانت تسمع، وتدعو الله في سرها، أن يساعدها كي تسعد أبويها.
وعلى الأرجح كان باب السماء مفتوحًا وسمع الملائكة صوت قلبها الطاهر.
ليست عبقرية أم كلثوم في تربعها على قمة الغناء العربي لنصف قرن، بل في الربع قرن الأول من عمرها، في الجانب الصعب من حياتها، وليس الجانب السهل.
ملكة الحفظ
ما لم تحصل عليه أم كلثوم بإقناع والدها الشيخ إبراهيم، كانت تناله بعاطفة أمها “فاطمة”، فهي من دفعت الأب كي يسمح لها بالذهاب مع شقيقها “خالد” إلى “كُتاب الشيخ عبد العزيز”، وضغطت عليه كي يدبّر “قرشًا” كمصاريف تعليم لها. آنذاك، قبل أكثر من مائة عام كان الفلاحون يعانون من السخرة والعبودية والأوبئة، وآخر همهم أن تحصل “الأنثى” على أي قسط من التعليم.
وعندما فكّر الأب في تعليم ابنه خالد مهنة الإنشاد وأداء الموشحات، ليساعده في تحسين الدخل، كانت أم كلثوم تمرّ بهذه البروفات وهي تلهو بدميتها التي صنعتها جدتها من القماش. فكانت تردد ما يقوله أبوها من أشعار، حتى حفظتها عن ظهر قلب، وإن لم تفهم معناها.
وسرعان ما انتبه الأب إلى أن ابنته تحفظ أسرع وأفضل من الابن، فلما لا تكون هي من يعتمد عليها؟
طبق المهلبية
“المهلبية” حلوى ريفية لا تحتاج أكثر من الحليب والسكر. حلوى الفقراء مثلها مثل “الكراملة” التي تُباع في محال البقالة. أقصى ما يمكن لطفلة ريفية أن تحصل عليه، هو تذوق طبق “مهلبية” كي تؤمن أن للحياة مذاقًا حلوًا.
لم تكن مهتمة بالإنشاد، ولم تتحمس للذهاب مع أبيها، لولا أن أغراها بطبق “مهلبية”، فتشجعت وغنت لأول مرة أمام خمسة عشر رجلًا.
من يومها ظلّ حافز التشجيع، والمكافأة المادية، راسخًا في شخصيتها. فمن أجرة جنيه كامل، إلى آلاف الجنيهات.
الاختباء وراء العقال
في صورها الأولى وهي صبية تظهر مرتدية العقال، كأنها ولد. ربما فكر الأب في حمايتها، بهذا اللبس التنكري وإرضاء قناعته الدينية بإخفاء أنوثتها.
هذا الشكل حيّد إحساسها بأنوثتها وجسدها، ومنحها ثقة لا يُستهان بها في مجتمع الغناء الذكوري إلى حد كبير.
تروي أم كلثوم طرفة عن هذا المجتمع، عندما دُعيت إلى حفل، ثم طلب الداعي أن تظل تغني إلى أن يتم ضرب “الكلوب” (مصباح يُعلق في المناسبات ويضاء بتعبئة الكيروسين)
ظلت تغني وعينها على “الكلوب”، ثم تبين أن الداعي أقام الحفل فخًا كي يحضر خصومه وينتقم منهم. والطريف أنهم حضروا وانتصروا في المعركة.
من هذا العالم، اكتسبت أم كلثوم الثقة والندية، وكسرت الدائرة التي تحاصر كل فتاة وامرأة. وأصبحت هويتها مرتبطة بصوتها، وليس بكينونة جسدها.
الحمار في العقد
طافت أم كلثوم مع أبيها في قرى كثيرة وسط وشمال الدلتا. اضطرت للسير ذهابًا وإيابًا خمسة وستة كيلومترات لإحياء حفل. هذه الرياضة الإجبارية، والسير الطويل وسط خضرة الريف، فتح حنجرتها ورئتيها، وأكسبها جسدًا قويًا لا يحتاج إلى ميكرفون.
ورغم أن والدها- مدير أعمالها بلغة عصرنا- حاول التعلم من “عقود” المنشدين الكبار، فكان يشترط لها في العقد “كازوزة” (كولا) وتوفير بضعة حمير لها ولفرقتها. إلا أن أصحاب الحفلات كثيرًا ما كانوا يتنصلون، فيوفرون الحمار في الذهاب، ثم تضطر للسير على قدميها عند الرجوع.
وما أكثر الأيام والليالي التي قضتها على أرصفة القطارات، في عز البرد ولهيب الحرّ، بانتظار قطار لا يمرّ إلا مرة في الصباح وأخرى في المساء. تجربة علمتها صلابة الإرادة، وعرفتها على أفراح وأحزان الشعب المصري.
طعنة في الشرف
في بداية عهدها بالقاهرة، أراد صحفي مقرب من سلطانة الطرب منيرة المهدية، أن يجاملها فطعن في سمعة الآنسة القادمة من الريف وشرفها.
طعنة لا يحتملها أب ريفي وإمام مسجد، فأمرها بالعودة نهائيًا إلى قريتها، لولا تدخل صديق للأسرة قال للأب إن الهروب يعني صحة الشائعة، بينما البقاء أفضل تكذيب لها.
كانت هزة كفيلة بالقضاء على الأسطورة قبل ولادتها، لكنّ أم كلثوم تحمّلتها، وأدركت أنّ لكل درجة في سلم المجد، ضريبة لابد أن تتحملها وتدفعها.
الإحساس والمعنى
كانت تتمتع بالملكة الحافظة للشعر والمقامات، لكنها لا تفهم المعنى، إلى أن استمتعت بالصدفة إلى أغنيات أستاذها الشيخ أبو العلا محمد، وتأثرت به بشدة، ثم التقته بالصدفة على رصيف القطار، فشجع والدها على الاستقرار بها في القاهرة، وتابعها في كل حفلاتها.
نفخ أبو العلا من روحه في حنجرتها الذهبية، فجعلها تكتشف القوة التعبيرية الهائلة في صوتها، ودربها أن تفهم وتحس بكل كلمة قبل أن تشدو بها.
شعر ابن الفارض ونثر المنفلوطي
عن طريق الشيخ أبو العلا التقت أم كلثوم برفيق دربها الشاعر أحمد رامي، ومن خلاله تعمقت معرفتها بشعر المتنبي وابن الفارض. كما قرأت كلّ مؤلفات لطفي المنفلوطي، فتشكلت لها ذائقة لغوية وثقافية رفيعة، تتغذى على ولعها الدائم بالتعلم والمعرفة منذ اليوم الأول الذي ذهبت فيه إلى “كُتاب القرية”.
أصبح لديها تخت
أكمل محمد القصبجي ما بدأه الشيخ أبو العلا، وكوّن “التخت” الشرقي المصاحب لها، وأصبح رئيس فرقتها حتى وفاته، بعد أربعين عامًا.
وهكذا قيّد الله لهذه الطفلة “المعجزة”، بعد عشرين عامًا من التعب والشقاء والإصرار والتعلم، أن تخلع العقال وتنطلق أسطورتها رسميًا في العام 1924. وبعد “الحمار” وقطارات الدرجة الثالثة والبرد والجوع، باتت تركب أحدث السيارات وأفخم الطائرات، وتحلّ ضيفة على الملوك والأمراء.
بداية النجومية
التيك توك
ومع الذكرى ال 46 لرحيلها، يطرح السؤال نفسه: ما الذي يتبقى من هذه الأسطورة؟
بمرور الزمن، يتقلص حضور الفنان، ويتلاشى تأثير تجربته، وقد يُختزل في فيلم أو بضع أغنيات. لكن ما حدث مع أم كلثوم هو العكس. فرغم الطبيعة الشرقية وطول أغانيها، وصعوبة بعض الكلمات، ورغم أن حنجرتها توقفت قبل نصف قرن تقريبًا لكنها مازالت حاضرها بقوة ومنافسة لكل موجات الغناء العربي بما في ذلك أغاني المهرجانات.
إلى اليوم، آلاف الصفحات والمقاطع تنتشر لها في الفيسبوك والانستغرام والتيك توك واليوتيوب.
ملايين المعجبين يتعاملون بوصفها أسطورتهم الخاصة، وكل منهم يعتبر نفسه حارسًا شخصيًا على إرثها.
كل منهم يعيد إحياء نصوصها ضمن نص خاص به هو، فمن يكتب أسماء أغانيها على أكواب القهوة والشاي والأطباق الفضية والميداليات والأساور الذهبية، ومن يتفنن في رسم ملامحها، بحروف أغانيها. من ينتقي أجمل المقاطع لها مثل “هات عينيك تسرح في دنيتهم عينيا” و “أنت يا جنة حبي واشتياقي وجنوني” و”نقول للشمس تعالي تعالي بعد سنة” و”كان لك معايا أجمل حكاية في العمر”.
عشرات المقاطع الخالدة يُعاد تدويرها وفق مقاييس “السوشيل ميديا” في حدود دقيقة غالبًا، مطرزة بصورها بالأبيض والأسود، أو مصاحبة لمقاطع فيديو لفتيات جميلات وسط الطبيعة الخلابة والأنهار والخيول البرية.
كل مستمع عاشق، يكتب تعليقات عن تاريخه السري مع “الست” وأغانيها، بدءًا ممن كان لهم حظ حضور حفلاتها الحية، أو من سمعوها في إذاعات القاهرة ودمشق وبغداد وبيروت. من ذاكروا المقررات الصعبة بمصاحبة صوتها، ومن أحبوا سرًا على أنغامها، ومن قضوا سنوات الجيش والحروب برفقتها في راديو صغير.
كل واحد، يرى أن هذا الصوت جزء من تاريخه الشخصي، تاريخ الحب. حتى الشباب ممن لم يعاصروها، يبكون في تعليقات اليوتيوب لأنه لا ينسون لحظات سماع الأب والأم لها.
كل من عاصرها وتلاها، من عبد الوهاب وفريد الأطرش وأسمهان، تراجع مع غياب الجسد إلاّ أم كلثوم، استمرّت أسطورتها في التوغل والامتداد. تفتت نصوص أغانيها الطويلة إلى مقطعات مكثفة. تحولت أسماء أغانيها إلى أيقونات وتعاويذ سحرية للحب.
ومن بعد أن كانت تذهب على حمار إلى حفل يحضره بضعة أشخاص من أرياف الدلتا، هي اليوم أسطورة حيّة في الذاكرة كما في “السوشيل ميديا”، حيث يُعدّ جمهورها بالملايين، على امتداد الكرة الأرضية. ولن نعدم راقصة أمريكية أو كندية ترقص على أنغام أغانيها.
وكأنما الزمن كلّما أوغل في الابتعاد بذكرى رحيلها، زاد يقين الأجيال الجديدة بأنها صوت الحب والخلود، وأغانيها وحدها الجديرة بأن تُسمع إلى الأبد. النهار العربي