«الفاشية الرقمية» حيث يختلط اليمين باليسار والوسط/ صبحي حديدي
في مقالة تعود إلى عام 1995 نشر الروائي وعالم السيميائيات الإيطالي أمبرتو إيكو مقالة (إحالتها، هنا، إلى النسخة الإنكليزية كما نشرتها مجلة New York of Books) ساجل فيها بأنّ الفاشية، على نقيض النازية، ليست واحدة أو متماثلة أو يسيرة التعريف؛ ولهذا فقد حدّد 14 نقطة لإحكام تشخيصها، في زمان ومكان محددين. الأرجح أنّ المرء ليس في غنى عن استعادة بعض، أو حتى جميع، تلك النقاط إذا شاء تمحيص النزوعات الفاشية خلف مناخات العداء للإسلام والمسلمين في فرنسا المعاصرة، مثلاً؛ إنْ على مستوى شعبي وشعبوي وداخل أحزاب اليمين المتشدد والعنصري، أو في المقابل ضمن تيارات تزعم الانتماء إلى «يمين جمهوري» أو «يمين ديغولي» فلا تجد غضاضة (بل تعرب عن حماس جارف) في إشاعة تعبير مثل «اليساروية/ الإسلامية» l’islamo-gauchisme، أو تطالب بتأثيمه قانونياً (بافتراض أنّ قوامه ومرتكزاته قابلة أصلاً للتعيين) أو تذهب أبعد (كما فعلت مؤخراً فريديريك فيدال وزيرة التعليم العالي الفرنسية) فتوصي جهة أكاديمية رفيعة مثل «المركز الوطني للبحث العلمي» بإجراء تحقيق حول انتشاره داخل الجامعات.
نقاط إيكو الـ14 هي التالية، باختصار شديد يقتضيه المقام:
1 ـ عبادة التقليد أو التراث؛
2 ـ رفض الحداثة والتحديث، بما في ذلك عصور الأنوار والعقل على صعيد أوروبي؛
3 ـ عبادة الفعل من أجل الفعل، حيث لا حاجة للتبصّر في مسوغاته قبل القيام به؛
4 ـ الاختلاف خيانة، والروح النقدية تسفر عن تمايزات وهذه تكرس العلم، والعلم يحث على الثقافة الحداثية؛
5 ـ التخوّف من الاختلاف، فالجاذبية الأولى لأية حركة فاشية هي إشاعة الخشية من الدخيل؛
6 ـ الجاذبية للإحباط الاجتماعي، وكانت أكثر سمات الفاشية الكلاسيكية نمطيةً هي اعتناق إحباطات الطبقة الوسطى؛
7 ـ الهوس بحال العقدة، حيث يتوجب على أتباع الفاشية أن يشعروا بأنهم محاصرون، وأسهل طريقة لفكّ الحصار هي اللجوء إلى كراهية الآخر؛
8 ـ العدو ضعيف وقوي في آن معاً، ويتوجب إقناع الأتباع بأنهم قادرون على هزيمة العدو أو الاندحار أمامه؛
9 ـ النزعة السلمية هي عمالة سرّية مع العدو، فلا صراع من أجل الحياة بل هناك حياة من أجل الصراع؛
10 ـ احتقار الضعيف، فالنخبوية هي جانب قياسي في كلّ إيديولوجيا رجعية؛
11 ـ كلّ إنسان يتربى كي يصبح بطلاً، والبطولة هي المعيار؛
12ـ الذكورية مقترنة بالسلاح، الأمر الذي ينطوي على احتقار المرأة والعادات الجنسية غير القياسية، في آن معاً؛
13 ـ ثمة «شعبوية انتقائية» هدفها تكريس عواطف ومناخات «صوت الشعب»؛
14 ـ الفاشية تتحدث بلغة جديدة، وعلى الكتب المدرسية الفاشية أن تحدّ من نفوذ المحاكمة العقلية والنقدية.
لم يكن إيكو يصف الفاشية الكلاسيكية الإيطالية/ الألمانية، خلال عشرينيات وحتى أربعينيات القرن المنصرم، فحسب؛ بل كان في واقع الأمر يستبصر، أو لعله كان يتحسب، نهوض فاشيات ونازيات أخرى جديدة، حتى إذا لم تكن طارئة تماماً بالضرورة. في رأس هذه ما بات اليوم يُعرف تحت اسم «الفاشية الرقمية» التي لا تقتدي بالفاشية الكلاسيكية في تسخير الصحيفة والإذاعة والتلفزة ووسائل الدعاية الإيديولوجية والحزبية التقليدية، بل تلجأ إلى توظيف الوسيلة الأخطر في عصرنا: الإنترنت. وبهذا المعنى يرى باحثون معاصرون في علوم السلوك والإدارة، من أمثال الألماني توماس كليكوير (وأشير، دون إبطاء، إلى كتابه المميز «الاستغلال تحت قناع الحرية الفكرية» 2011)؛ أنّ منصات شائعة، عالية الشعبية، مثل تويتر وفيسبوك ويوتيوب ليست وسائل تواصل اجتماعي بقدر ما هي أيضاً وسائل تواصل مضادة للاجتماع البشري، أو «أنتي ـ اجتماعية» كما يسميها.
والرجل يشير، محقاً تماماً كما يقول المنطق، إلى أنّ الفاشية تبدلت اليوم عما بدأت عليه قبل 100 سنة، تماماً كما أنّ الرأسمالية المعاصرة لم تعد اليوم هي ذاتها في (غالبية) توصيفات آدم سميث وكارل ماركس: الرأسمالية الليبرالية في القرن الثامن عشر باتت رأسمالية الاستهلاك الجماهيري العريض في أعقاب الثورة الصناعية؛ والرأسمالية الكينزية، نسبة إلى الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز، التي سادت خلال أربعينيات وحتى سبعينيات القرن الماضي، هي اليوم رأسمالية نيوليبرالية بسبب تفكك إمبراطوريات فرنسية وبريطانية وسواها، مقابل هيمنة الولايات المنتحدة ثمّ صعود الاتحاد الأوروبي. الفاشية الكلاسيكية، في تحوّلها اليوم إلى فاشية رقمية، تقتفي دروب تبدّلات منتظَرة؛ ولم يكن الاندحار المريع لنظرية «نهاية التاريخ» سوى البرهة الأكثر صخباً، وفضيحة أيضاً، في اختصار سيرورة التحوّل.
والأمر أبسط مما قد يلوح للوهلة الأولى: صحيح أنّ نزاعاً مستحكماً يجري طرحه في عصرنا داخل «المجتمع المفتوح» بين حرّية التعبير من جهة أولى، واستخدام الحرّية ذاتها من جانب المتطرفين الغلاة واليمين المتشدد من جهة ثانية؛ بيد أنّ الحال تبدو أقرب إلى عبارة شهيرة أطلقها ذات يوم جوزيف غوبل وزير دعايالعربية الرايخ: «سوف تبقى على الدوام واحدة من أفضل نكات الديمقراطية أنها أعطت ألدّ أعدائها الوسيلة الكفيلة بتدميرها». في شرح معاصر، وضمن نطاق موضوعات هذه السطور: يلوح أنّ الديمقراطية منحت ألدّ أعدائها (الفاشيين الرقميين) الوسيلة (الفيسبوك، مثلاً) التي سوف يستخدمها الفاشيون لتدمير الديمقراطية؛ ما خلا، كما سيعلّق كليكوير وأمثاله، أنها ليست نكتة البتة! الفاشية الكلاسيكة سارعت إلى توظيف التكنولوجيا الوليدة (الإذاعة، عبر الراديو) وكان طبيعياً أن تتلقف الفاشية الرقمية أحدث صرخات التكنولوجيا المعاصرة، فتعتمد الكومبيوتر الشخصي واللوح الرقمي والهاتف الجوّال؛ وأمّا الهدف فقد بقي ثابتاً من حيث الجوهر، أي الاستغلال الجماهيري للعواطف في القلوب على أوسع نطاق ممكن، وإبقاء العقل بمنأى عن التفكير النقدي.
وثمة، أيضاً، هذا الفارق الحاسم: في ماضي أزمان الفاشية الكلاسيكية اقتضت الحاجة ظهور الفرد/ الزعيم، على غرار بنيتو موسوليني وأدولف هتلر؛ وأمّا في أزمان الفاشية الرقمية فلا يحتاج تصعيد حركة ما، عنصرية أو انعزالية أو شعبوية، إلى ما هو أكثر من موقع على الإنترنت، ونشاط على الفيسبوك، وفيديوهات على اليوتيوب، وليكنْ التنافس الحرّ هو الحكم مع مواقع أخرى مضادة، تنتمي إلى اليسار أو الوسط، سيّان. أكثر من هذا، ولضرب مثال حيّ وجدلي، حين تقرر وزيرة التعليم العالي الفرنسية طلب دراسة عن «اليساروية/ الإسلامية» فإنها لا تفعل ذلك عن طريق منصة يسارية أو معتدلة أو حتى أكاديمية، بل عن طريق محطة CNews التي صارت حاضنة اليمين المتشدد والعنصرية ضدّ الإسلام والمسلمين. وهنا ليس من الضروري أن يدور سجال حول ما إذا كانت الوزيرة منتمية إلى صفّ الفاشية الرقمية أم لا، بل حول ما إذا كانت تخدم ذلك الصفّ عملياً أم لا، في أوّل المطاف ونهايته.
والنقطة الرابعة في تشخيصات إيكو السالفة تتحدث عن الاختلاف بوصفه خيانة، لأنّ الروح النقدية تسفر عن تمايزات، وهذه تكرس العلم، والعلم يحث على الثقافة الحداثية. فهل يعقل أنّ وزيرة التعليم العالي في فرنسا، بلد الثورة دون سواها، وفولتير، وحقوق الإنسان، ترى خيانة من طراز ما في أنّ أستاذاً جامعياً يساجل ضدّ عماء تأثيم الإسلام جملة وتفصيلاً، والمسلمين كافة، فتُلصق به على الفور تهمة اليساروي/ الإسلامي؟ وكيف يحدث أنها توافق محاوِرها، الإعلامي اليميني بامتياز، حين يساوي بين «اليساروية/ الإسلامية» و«العرق» و«النوع» و«الطبقة الاجتماعية»؟ وما الذي تبقى، في هذا الاختلاط العجيب المتنافر، من عقل وبصيرة و… «قِيَم جمهورية»؟
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي
——————————-
“اليسار الإسلامي”… مزايدة تطرف/ ناصر السهلي
تحت عنوان براق، يخرج ساسة “يمين الوسط” الأوروبي بخطاب قديم ـ جديد عن مواجهة “اليسار الإسلامي”، وهذه المرة من فرنسا، على لسان وزيرة التعليم فريدريك فيدال. تهمة “الراديكالية اليسارية الإسلامية” تمتد من كوبنهاغن الدنماركية، الغارقة في منافسة تطرف حزبي على تحييد مواطنيها المسلمين، إلى أنحاء القارة الأوروبية، وتحت عناوين مواجهة زائفة، ومقيتة النتائج، في إقصاء حس المواطنة لدى أجيال ولدت وكبرت في الضواحي، أو ما يسمى “غيتوهات”.
استنباط الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كغيره في أوروبا، في زمن وباء كورونا، مصطلحات مواجهة تقوم على اصطفاف هوياتي ـ ديني، هو وقوع غير محسوب في فخ التطرف القومي، وهروب من استحقاقات عقلانية لسياسات تمييز منهجي ومؤسساتي لعقود خلت. مصطلح “مكافحة الانفصالية الإسلامية” لا يجيب على أولويات التحديات في القارة، بل يخلق “مكارثية أوروبية”، يريدها الفاشيون “محاكم تفتيش”، ويبررونها باتهامات غوغائية بـ”الخيانة”، على نسق جماعات العنف العنصري الأميركية في “كو كلوكس كلان” قبل عقود.
وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان، بمزايدته على “التجمّع الوطني” بزعامة مارين لوبان، باعتبارها تبدي “ليونة” حيال الإسلام، يختزل خطر تكريس مصطلحات عن حتمية التصادم الثقافي ـ الحضاري، بمنهجية سطحية لمستشرقي التنظير الشعبوي، وبما لا يليق بدول المواطنة والعدالة والحرية.
إشاعة أجواء ترهيب، في الإعلام والسياسة والأكاديميا، بتهمة “اليسارية الإسلامية”، هو ما تعيشه دول الشمال وإسكندينافيا منذ 2015، لإجبار تيار سياسي عريض على تبنّي نظرية المؤامرة على “القوميات البيضاء”. وفي أحد تجلياته لا يختلف عن حملات الصهيونية الغربية باعتبار كل انتقاد للاحتلال الإسرائيلي “معاداة للسامية”، حتى لو شارك يهود معادون للصهيونية في “حركة المقاطعة”.
ما يشوّه سمعة وصورة فرنسا، أو إيطاليا والنمسا والمجر وألمانيا والدنمارك، هي الممارسات والقوانين المتحيزة، القائمة على منافسة ديماغوجية للتطرف الشعبوي، وليس “اليسار الإسلامي” المحذر من ضرب أسس العدالة والمساواة، في ارتداد تيار الوسط كسباً لتعاطف الجماهير. وبقدر ما يدرك ساسة معسكر مخضرم، والمستوى الأمني، مخاطر شرعنة اليمينية المتطرفة، فإن انتهازية مغموري السياسة، باستهداف الناس على أساس المعتقد والخلفية الإثنية، تخلق منزلقات ليست مبشرة، وتفسح لتيار متطرف بكسب مزيد من التعاطف بين الأجيال المسلمة.
صحيح أن أوروبا تبدي امتعاضاً ومعارضة لتيار رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، بخطابه الفج في التطرف القومي، ورفع يافطة المعسكر اليميني المتشدد عن “الأسرة والقومية والدين” واعتبار المسلمين عدواً، متهمة إياه وتياره الأوروبي الشرقي وبعضه حليف لروسيا، بتقويض “أسس وقيم” تكتلها. لكنها في المقابل تغمض عينها الأخرى على “تطرف أنيق” في باريس، وفي أعرق ديمقراطياتها الإسكندينافية.
إذا كانت الاستخبارات الألمانية مثلاً، التي شاركت كغيرها في فترة الحرب الباردة في جهود الحد من نفوذ اليسار الثوري الأوروبي، أو من وصوله إلى السلطة، تبدي تخوفها من نازية الخطاب في صفوف حزب “البديل لأجل ألمانيا” المتطرف وتضعه تحت مراقبتها، فلعل باريس، وغيرها، تحتاج لجردة حساب واقعية عن الأسباب والمآلات في سياسة استعداء حتى من يصنفون “يساراً إسلامياً” (بحال القبول أصلاً بهذا التصنيف). وهو تيار يفترض أنه يشجع على الاندماج والانخراط السياسي والثقافي في المجتمعات، ولا لشيء إلا لأنه أيضاً تيار يرفض غوغائية إقصاء ملايين المواطنين، وجر الدول إلى حيث أخذها التطرف القومي بين الحربين العالميتين، الأولى والثانية.
العربي الجديد