صفحات الثقافة

جويل كوتكين… من مدن الملح إلى مدن الإقطاع المعَولم

مصطفى شلش

إذا كنا قد شهدنا توسّعاً أكبر في الثروة والفرص في الماضي، فإنّ العالم اليوم في طور العودة إلى حقبة أكثر إقطاعيةً، تتسم بتركّز الثروة والملكية في يد محددة، والركود الديموغرافي، والدوغمائية المتزايدة. وإذا كانت السنوات السبعون الأخيرة شهدت توسّعاً كبيراً للطبقة الوسطى في بقاع عدة من العالم المتقدّم، فإنّ هذه الطبقة في طور الانحدار اليوم، في مقابل صعود مجتمع أكثر هرميةً. تشبه البنية الطبقية الجديدة تلك العائدة إلى العصور الوسطى: طبقتان على قمة النظام الجديد: طبقة الكهنة الجُدد الذين يهيمنون على رأس السلّم المهني، والجامعات، ووسائل الإعلام والثقافة، وأرستقراطية جديدة يقودها الأوليغارشيون التكنولوجيون ذوو الثروة الطائلة والسيطرة المتزايدة على المعلومات. هذا مختصر كتاب جويل كوتكين الباحث في الاتجاهات الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية. في كتابه الجديد The Coming of Neo-Feudalism: A Warning to the Global Middle Class (انكوانتر بوكس ـــ 2020)، يشير إلى أنّ العالم في طور الرجوع إلى العصر الوسيط، لكن بوضع جغرافي مُختلف: نحن أمام نُبلاء جدد، لكن باسم مُعدّل هو «روّاد الأعمال»

يُعلن قادة الشرق الأوسط الجدد عن سياسات «إعادة تحديث» المجتمعات العربية، في ظل ظروف سياسية تلت مرحلة «ما بعد الربيع العربي»، مستفيدين مِن تعثّر الثورات واستنفاد آليات الخطاب الديني الأصولي وفشله في تقديم أي بدائل منطقية للحكم، وصعود نجم اليمين المتطرف في مراكز صنع القرار الدولي في كل من أوروبا وأميركا.

ويبدو أن بلدان الشرق الأوسط، الغني منها والفقير، وجدت ضالّتها في فكر مايكل بلومبيرغ، عمدة نيويورك السابق. فكر يُمكن اختصاره في مفهوم واحد هو «المدينة الفخمة»، أي نموذج حضاري معماري، مُضافٌ إليه خطاب «أصولي» يقدم الفردانية والشوفينية القومية في ثوب جديد مدجّج بوعود التقدم التكنولوجي والرفاه.

من مُدن الملح، التي تقوم وترتفع وتكبر، إلى مُدن خالية مِن الكربون، مُحصّنة بأسوار عالية تحميها أحدث وسائل الأمن، بقيت قاعدة عامة لم تتغير، هي أن ارتفاع الجدران الواقية، وزيادة الحراسات المشددة، والارتفاع في البنيان، دليل على تدهور الثقافة الحضرية، وإعلان بقرب انهيار الإمبراطورية القائمة، وعودة روح المدينة الإقطاعية الجديدة.

يشير البروفيسور وعالم الجغرافيا جويل كوتكين، والباحث في الاتجاهات الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية في كتابه الجديد The Coming of Neo-Feudalism: A Warning to the Global Middle Class (انكوانتر بوكس ـــ 2020) إلى أن العالم في طور الرجوع إلى العصر الوسيط، لكن بوضع جغرافي مُختلف. نحن أمام نُبلاء جدد، ولكن باسم مُعدّل هو «روّاد الأعمال». نحن على موعد مع إقطاع جديد لكن بلا فرسان جريئين، بلا دروع، أو قلاع محصّنة، أو كاتدرائيات شاهقة مليئة بالترانيم الليتورجية. بدلًا مِن ذلك، سنجد إقطاعاً يتباهى بتكنولوجيا جديدة مبهرة، محمية في عقيدة العولمة والتقوى البيئية. مع ذلك، وعلى الرغم من كل ما بعد حداثة هذا الإقطاع، يبدو أن العصر القادم سيحل مكان الديناميكية الليبرالية واليسارية التقدمية والتعددية الفكرية، نوعاً من أرثوذكسية تقبل الركود والتسلسل الهرمي الاجتماعي باعتباره النظام الطبيعي للأشياء.

■ تشكيل المجتمع الجديد

جميع الأنظمة البشرية، من القرية البدائية إلى الإقطاع في العصور الوسطى إلى الديمقراطية الليبرالية، لا تتشكّل فقط من خلال الأفكار ولكن أيضاً من خلال التحكم بالبيئة المادية والموارد. تعتمد الأنظمة الديمقراطية، إلى حد ما، على الاعتراف بحقوق الملكية الفردية ورعايتها، فغالبية المجتمعات الديمقراطية أو الجمهورية في التاريخ (أثينا، روما، هولندا، بريطانيا، فرنسا، أميركا الشمالية، وأوقيانوسيا…) قد أقيمت واستمرت بملكية واسعة، وهي ملكية الطبقة الوسطى.

ولطالما روّج سياسيّو اليمين واليسار في معظم البلدان ذات الدخل المرتفع، المثل الأعلى المتمثّل في ملكية فردية على نطاق واسع. قال الرئيس فرانكلين روزفلت: «أمة من أصحاب المنازل، من الأشخاص الذين يمتلكون حصة حقيقية في أراضيهم، لا يُمكن قهرها». لقد رأى أن ملكية المنازل أمر بالغ الأهمية ليس فقط للاقتصاد، ولكن للديمقراطية وفكرة الحكم الذاتي.

اليوم، يجري العكس كما يشير كوتكين، في ما يتعلق بملكية الأراضي في الولايات المتحدة وفي جميع أنحاء العالم. يتم دفع المزيد والمزيد من الناس للعيش في شقق أو منازل مستأجرة، مع فرصة ضئيلة للحصول على الاستقلال المالي. هذا الاتجاه ليس مجرد نتاج لقوى السوق. تم الترويج للمساكن المستأجرة – سواء كانت شققاً أو منازل عائلية ــ بشكل كبير من قبل الكثير من الأوليغارشية، وأكثر من ذلك من قبل مديري التخطيط من رجال التكنوقراط/ رجال الدين الجُدد، ومصادرة أراضي الأفراد لإنشاء مُدن مسوّرة وعملاقة.

وفي مواجهة هذه التحديات الاجتماعية، تسعى الطبقات الفكرية في البلدان ذات الدخل المرتفع ــ في الجامعات، ووسائل الإعلام، وأهل الفنون ـــ بشكل شبه عالمي إلى تفكيك القيم التي وجّهت صعود بلدانهم، ووفّرت الأساس لازدهار واسع النطاق. بدلاً من الاهتمام بأنفسهم بمعالجة عواقب الركود الاقتصادي ـــ المزيد من الفقر، والعجز الاجتماعي، والصراع الطبقي ـــ يروّج العديد مِن هؤلاء الكهنة الجُدد، إلى جانب الأوليغارشية، لمصطلحات مثل «الاستدامة» على النمو الذي يُبقي الوضع على ما هو عليه. تماماً كما دعا رجال الدين في العصور الوسطى ضد المادية. إن الشخصيات البارزة في الأوساط الأكاديمية ووسائل الإعلام اليوم، وحتى البعض من نخب الشركات، ينظرون بارتياب إلى فكرة الاقتصاد الديناميكي، وروح الابتكار، والالتزام بتحسين الحياة اليومية. حتى إنّ بعضهم يقترح بأنّ التقدم هو أسطورة.

وبهذه الطريقة، يُعزز الكهنة الجُدد الفكرة التشاؤمية القائلة بأن الترقي الطبقي هو من مخلّفات الماضي، وأن مهامّنا الأساسية الآن حماية البيئة، بدلاً من البحث عن طرق لتوزيع عادل للثروة وإتاحة الفرص.

■ التسلسل الهرمي الحضري

أدّى نمو المدن من العصور الوسطى المتأخرة إلى العصر الحديث، إلى توفير الأرضية لتطوير طبقة وسطى مزدهرة. عندما ولّدت الثورة الصناعية مظالم جديدة صارخة، أدى الضغط من النقابات العمالية والإصلاحيين من الطبقة الوسطى إلى تحسينات حضرية، في أنظمة الصرف الصحي والنقل، وإنشاء الحدائق العامة على سبيل المثال.

العالم الحضري اليوم بطبقته المتوسطة الآخذة في الانكماش هو خروج عن المَثَل الأعلى للمدينة كمحرّك للحركة الصاعدة، وهو رمز للحقبة الرأسمالية الصناعية. وغالباً ما لا يستطيع بعض الأشخاص الذين يديرون المدينة – مثل المُعلمين ورجال الإطفاء وضباط الشرطة – تحمّل تكاليف العيش هناك. الأمر نفسه بالنسبة إلى العديد من العمّال المهرة ـــ الفنيين وعمال البناء والميكانيكيين ـــ الذين تقلّ رواتبهم في المدن ذات تكاليف الحياة المرتفعة. ويجد العديد من الأشخاص العاملين في هذه المهن المُهمة، أن تكلفة المعيشة الكريمة في مدينة كبيرة أصعب مِن أن توفره مجرد زيادة عابرة في الأجر.

يشير كوتكين إلى أنه منذ العصور القديمة، قدّمت المدن فرصة للجماهير لتحقيق الازدهار. رعت روما الطبقات الوسطى الطموحة التي وجدت في المدينة بيئةً مثالية لتحسين حالتها. لكنّ الأعداد الكبيرة من العبيد الذين تم جلبهم مع نمو الإمبراطورية، أدّت إلى نزوح العديد من المزارعين والحرفيين الذين يتمتعون بالاكتفاء الذاتي، فقد قال جوفينال إن أفضل نصيحة للرومان هي الهجرة من المدينة الخالدة.

تدهورت الثقافة الحضرية بعد انهيار الإمبراطورية، بخاصة بعد الفتوحات الإسلامية والتوغّلات التي قطعت طرق التجارة المربحة. تحولت المدن إلى حصون، حيث يمكن للزعماء البرابرة والسلطات الكنسية العيش في مأوى خلف الجدران الواقية. لكن لقرون، كانت هذه المدن المحصّنة هامشيةً في حياة معظم الناس: بالكاد خمسة في المئة من سكان أوروبا في العصور الوسطى عاشوا في المدن. مع تسارع التجارة مرة أخرى في العصور الوسطى المتأخرة وظهور طبقة تجارية كبيرة، تم توسيع أسوار المدينة لتشمل عدداً متزايداً من السكان. خلال العصر الحديث المبكر، أصبحت المدن مولّدة للازدهار مرة أخرى.

في الصين، كانت المدن الرئيسية مخصّصة في الغالب لرجال الدين والأرستقراطيين، الذين تخدمهم طبقة أدنى دائماً. كان البيروقراطيون الإمبراطوريون بشكل عام معادين أو غير مبالين لطبقة التجار، إذ كانوا يرون أن التجارة أدنى أخلاقياً، بالنظر إلى أنّ التجار بلا تعليم أحياناً ولا يدركون قيمة الزراعة. كما هي الحال في أوروبا، عاش السكان بأغلبية ساحقة خارج بوابات المدينة.

مع التصنيع، أصبحت الثروات الضخمة تتركز في المدن الكبرى. بطبيعة الحال، يميل الأثرياء دائماً إلى التجمّع في أماكن معينة. في القرن التاسع عشر، انتقلت مثلًا عائلة روكفلر الشهيرة من كليفلاند، مسقط رأسها، إلى نيويورك. وبالمثل، جلب العديد من الأباطرة الآخرين ثرواتهم إلى المدينة التي أُطلق عليها في ما بعد تسمية «أكبر مركز تراكم رأسمالي»، وعاشوا في عزلة بمأمن عن الفقر من حولهم.

وعلى الصعيد العالمي، يتجمّع أصحاب المليارديرات اليوم في عدد قليل من المدن، أبرزها مدينة نيويورك، إلى جانب سان فرانسيسكو وموسكو وطوكيو وشنغهاي ومومباي وبكين وسنغافورة ولندن وباريس. وتمتلك خمس عشرة مدينة معاً ما يقرب من 11 في المئة من إجمالي ثروة كوكب الأرض.

أصبحت هذه «المدن الخارقة» أكثر تشعباً، حيث يعيش الأوليغارشية ورجال الدين الزمن الحديث (فئات من كبار المثقفين والفنانين ومشاهير اللعبات الرياضية والأنفلونسر…) الأعلى في قلب المدينة المحصّن، تحيط بهم جماهير لا ملكية لها وغالباً ما تكون فقيرة على الأطراف. وتشكل النوى الحضرية النخبوية نسبةً صغيرة فقط من منطقة العاصمة في كل من الولايات المتحدة وأوروبا. في فرنسا، يعيش أكثر من 60 في المئة من السكان في الأطراف التي يزداد إهمالها، كالضواحي والمدن الإقليمية والبلدات الصغيرة والمناطق الريفية.

■ تشعّب حضري

بدلاً من كونها قاعدة للتنقل التصاعدي، أصبحت المدن الكبرى، مناطق جذب لأولئك الميسورين بالفعل. قلة من عائلات الطبقة العاملة أو الطبقة الوسطى يمكنها الآن الانتقال إلى أماكن مثل باريس ولندن وطوكيو ونيويورك وسان فرانسيسكو. غادر العديد من السكان السابقين، مثل الطبقة الوسطى السوداء في شيكاغو، ليصنعوا مستقبلهم في مكان آخر. يضطر العديد ممن لا يزالون يعملون في تلك المدن، إلى التنقل لمسافات طويلة بشكل لا يطاق. ومع تضاؤل الطبقة الوسطى، فإنها تترك وراءها سكاناً حضريين هامشيين يعتمدون على المدينة لكسب الرزق ولكنهم بالكاد يستطيعون العيش. يركّز الصحافيون والسياسيون الآن على نقل المتعة الهستيرية لافتتاح أحدث مطعم فخم في المدينة أو معرض فني عصري، أو نقل حدث لكتابة جنس مولود على إحدى ناطحات السحاب… ولكن في المراكز الحضرية، لا يزال هناك العديد من الأحياء الفقيرة، ومعدلات الفقر أعلى بأكثر من 65 في المئة منها في الضواحي.

مثلًا، لا تنتج المدن الأميركية الكبرى بشكل عام، نمواً اقتصادياً شاملاً. نتيجة لذلك، لديها الآن مستويات أعلى من عدم المساواة من المكسيك، وفقاً لدراسة حديثة. وإذا كانت مدينة نيويورك دولةً، فسيكون لديها المستوى الخامس عشر من أعلى مستويات عدم المساواة من بين 134 دولة، وتهبط إلى مستوى أدنى مِن تشيلي وهندوراس. ووفقاً لمعهد السياسة المالية، ما يقرب من 25 في المئة من أطفال المدينة يعيشون في فقر، أي أكثر من ضعف معدل السكان.

يلاحظ كوتكين أنه لا يوجد مكان أكثر وضوحاً لفروقات الطبقية الحضرية مِن منطقة خليج سان فرانسيسكو، المكان المفضل للأوليغارشية التكنولوجية. بعد عقدين من الازدهار التكنولوجي، ما يقرب من 40 في المئة من العائلات في مدينة سان فرانسيسكو «تكافح» لتغطية نفقاتها. ارتفعت الأجور وفرص العمل في المناطق الثرية ذات الغالبية البيضاء، لكنها انخفضت في المناطق التي تهيمن عليها الأقليات. وتسبّبت أسعار المساكن المتضخّمة بشكل كبير في طرد العديد من أفراد الطبقة العاملة وحتى أفراد الطبقة الوسطى إلى مواقع بعيدة. وتنام أعداد متزايدة من السكان على أرائك الأصدقاء أو في سياراتها أو بدرجة مخزية في مخيمات المشرّدين. وتعاني سان فرانسيسكو أيضاً من أعلى معدل للجرائم الفردية في الولايات المتحدة. وتمتد هذه الأنماط إلى أجزاء أخرى من منطقة الخليج، ولا سيما في وادي السيليكون. أكثر من نصف المجتمعات ذات الدخل المنخفض في منطقة الخليج معرّضة لخطر النزوح الجماعي، وفقاً لدراسة أجرتها جامعة كاليفورنيا.

■ المدن ذات البوّابات: منظور عالمي

عن بريطانيا، حيث تركّزت الثروة بشكل كبير في لندن، يلاحظ المؤرخ والأكاديمي البريطاني بيتر ماندلر: «لقد شعرت كما لو أن البلد بأكمله قد انقلب رأساً على عقب واهتزّ ، حتى تجمّعت غالبية الثروة والمواهب في العاصمة». يمكن رؤية أنماط مماثلة في المدن الكبرى حول العالم. حتى تورونتو التي كانت تتمتع بالمساواة تاريخياً، أصبحت منقسمة. في عام 1970، كان ثلثا الأحياء من ذوي الدخل المتوسط، ولكن بحلول عام 2001 انخفض ذلك إلى الثلث، بينما تضاعف عدد الأحياء الفقيرة إلى 40 في المئة من المدينة. توقّع باحثو «جامعة تورنتو» في عام 2007 أن أحياء الطبقة المتوسطة ستنخفض إلى أقل من 10 في المئة من المدينة بحلول عام 2020.

المشهد الاقتصادي المستقطب في لندن هو نموذج للمُدن «الخارقة» بتعبير كوتكين. مدن يحاول الساسة العرب الترويج بأنّها الحل السحري لكل مشكلات المواطن، وليست لندن نموذجاً فريداً، بل تُعاني المدن الرائدة الأخرى في أوروبا (أوسلو، أمستردام، أثينا، بودابست، مدريد، براغ، ريغا، استوكهولم، تالين، فيينا وفيلنيوس) أيضاً من اتساع الفجوات بين أعلى وأسفل التسلسل الهرمي الاجتماعي.

أدّت الهجرة الكثيفة من البلدان النامية، أو من الأجزاء الأقل ثراءً في أوروبا، إلى تفاقم الاستقطاب الحضري. مع انتقال الطبقة العاملة والطبقات الوسطى الأصلية إلى الأطراف الحضرية، يتزاحم المهاجرون وذريتهم في المراكز الحضرية. غالباً ما يشغلون مناصب في الطرف الأدنى من الاقتصاد، ولا سيما في الخدمات. في فرنسا، تصل نسبة الشباب المولودين في المدن الكبرى إلى 35 في المئة كما تشير عالمة الديموغرافيا الفرنسية ميشيل تريبالات. المهاجرون، ومعظمهم من خارج أوروبا، يمثلون 37 في المئة من سكان لندن، وأكثر من 40 في المئة في بروكسل وزيورخ وجنيف.

على عكس الوافدين الجدد الأوائل، يجد المهاجرون اليوم صعوبة في تأمين نوع العمل الذي قد يوفر سلّماً للطبقة الوسطى في الاقتصادات المتراجعة بسرعة مع النمو البطيء. لم تخلق الهجرة الجماعية المستقبل النابض بالحياة المتعدد الثقافات الذي توقّعه بعضهم، ولكنها بدلاً من ذلك أعادت توليد الكثير من الفقر والاضطراب الاجتماعي الذي ميّز المدن الأوروبية الكبيرة في القرن التاسع عشر.

أصبحت الجريمة مشكلة رئيسية في الأحياء المكتظّة بالمهاجرين في المدن الأوروبية الكبرى. حتى في المدن التي كانت تُعرف سابقاً بأنها آمنة ومنظمة بشكل ملحوظ، مثل استوكهولم، ارتفعت الجريمة بشكل كبير خلال العقد الماضي. ووفقاً للعديد من المصادر الرسمية، تزامن هذا الاتجاه مع الزيادة الكبيرة في المهاجرين الجدد. لندن، عاصمة أوروبا متعددة الثقافات، وفقاً لبعض المقاييس، تسجّل معدل جريمة أعلى من نيويورك.

■ المستقبل الشمولي

تهدف شركات التكنولوجيا الكبرى – Y Combinator و Lyft و Cisco و Google و Facebook – إلى بناء ما يسمونه «المدينة الذكية». يتم الترويج لهذه الخطط كطريقة لتحسين الكفاءة في الخدمات الحضرية، كما ستوفر المزيد من الفرص للأوليغارشيين لمراقبة حياتنا، فضلاً عن ترويج المزيد من الإعلانات وبيع البيانات. وستحل «المدينة الذكية» محل النمو الحضري العضوي بنظام يعمل على خوارزميات مصمّمة لترشيد أنشطتنا والتحكم بأسلوب حياتنا.

يظن كوتكين أن هذه الرؤية الحضرية هي اعتقاد القلة التقنية بأن مهمتها هي «تغيير العالم»، لا مجرد جني الأموال من خلال تلبية احتياجات العملاء ورغباتهم. في المشهد الحضري، يعني تغيير العالم استبدال البنية المادية والاجتماعية القديمة بما أسماه ويليام ميتشل في عام 1999 بـ «مدينة بيتا – Beta city»، أي نمط مِن المدن المعولمة المُدارة إلكترونياً. ويفسح فهمنا السابق للمدينة الطريق إلى «بيئة معزّزة إلكترونياً» حيث يتم تحديد كل شيء من خلال رمز رقمي. تنبّأ ميتشل بأنّ المدينة ذات التقنية العالية ستكثّف تركيز الثروة في أيدي القلة.

المدينة الرقمية مناسبة تماماً للنظام الإقطاعي الجديد. تُجبر فئة جديدة من الأقنان الحضريين على العيش في شقق صغيرة والعمل بشكل متقطّع، وغالباً ما يظلون معتمدين على الإعانات أو «الحفاظ على الدخل» الذي توفره الدولة. باستثناء أولئك الذين يمتلكون أو يشغلون التكنولوجيا أو يكتبون الخوارزميات، سيصبح الناس أشبه بمتفرّجين في المدينة المحوسبة مثل عامة الشعب في روما الإمبراطورية الذين استولت على وظائفهم السخرة. سيكون البشر موجودين إلى حد كبير كالآلات، بدلاً من أن تتم خدمتهم بواسطتهم. قال أندرو هدسون سميث في كلية لندن الجامعية: «النحل موجود على الأرض لتلقيح الأزهار، وربما يكون البشر هنا لبناء الآلات (…) الروبوتات الحضرية بدأت للتوّ في الظهور، وفي غضون 200 عام، قد تعمل الآلات بالشكل الحضري. ستكون المدينة آلة حضرية كبيرة مرتبطاً بعضُها ببعض، وستؤدي دور البشر على الأرض».

■ هل يمكن مقاومة «مدينة بيتا – Beta city»؟

ما يتم تخميره الآن في وادي السيليكون في نظر كوتكين، والمقترح في تورنتو، ويتم تنفيذه في الصين، والسعودية، والإمارات، ومصر…، يُمكن أن يكون نموذجاً لحضارتنا المستقبلية. يرى الأكاديمي البريطاني ديفيد ليون أنّ المدينة المعولمة والمحصّنة بالأسوار والمسيطر عليها إلكترونياً هي جزء من «مجتمع المراقبة»، حيث تكون جميع الأنشطة الفردية تحت أنظار الطبقات الحاكمة. ستثبت هذه «المدن الذكية» ـــ المسمّى المُهذب للسجون الإلكترونية الكبرى ــــ أنها نقيض الشيء الحقيقي بشكل أساسي، مجرد هيكل يحلّ محل الواجهات الحقيقية للمدينة مضافاً إليها آلات تدير التفاعلات البشرية المجانية والعفوية التي شكّلت في الأساس مجد المدينة التقليدية.

سيتطلب تجنب وصول هذا الشكل الحضري المفتعل والخاضع للرقابة، أو على الأقل إبطاء تطوره، اتخاذ تدابير جديدة للحد من قوة شركات التكنولوجيا الأوليغارشية، والكهنة الجدد الذين يروّجون لأجندتهم. قد يكون الأوروبيون في المقدمة هنا، في محاولة للحد من احتكار المعلومات والحد من التدخلات في الحياة الشخصية.

لا شك في أنّ بعض الناس سيرون معارضة «المدينة الذكية» المتمثلة في مشروعات «نيوم» في السعودية، و«العاصمة الإدارية الجديدة» في مصر، ومن قبلهما دبي، وغيرها من المشروعات التي تدور حول المدن في النطاق العربي، كحالة لرفض التكنولوجيا أو إعاقة الكفاءة والتقدم، أو تقييد المشاريع الحرة. ولكن لكي تنجح الديمقراطية، يحتاج المواطنون إلى التحكم ببيئتهم الخاصة بدلاً من تسليمها إلى عدد قليل من الشركات القوية أو النخبة التكنولوجية الصغيرة التي تستفيد من سرقة خصوصيتنا والتلاعب بسلوكنا. يجب أن تكون المدن مناسبة لتطلعات الإنسان، وألا تعمل على دفع سكانها إلى نوع جديد من القنانة.

ملحق كلمات

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى