عن أوشفيتز في ذكراه وعن الفاشيات المحلية والوافدة إلى إيطاليا/ عبدالله أمين الحلاق
ليس بلا دلالة، أن يتزامن إحياء الإيطاليين ذكرى تحرير معسكر الاعتقال والإبادة النازية بحق اليهود (أوشفيتز) مع العملية الأمنية الواسعة التي نفذتها الأجهزة الأمنية الإيطالية ضد واحدة من خلايا ما بات يعرف اليوم باسم “النازيين الجدد”.
وهي خلية كان الإيطالي أندريا كافالييري (22 سنة) مسؤولاً عنها وعن صوغ خطابها و”أدبياتها” و”مشاريعها المستقبلية”. هذا تزامُن لا تمكن قراءته بمعزل عن إطار إيطالي وأوروبي، وعربي أيضاً، وإن بدرجات متفاوتة وعلى مستويات مختلفة.
فإلى جانب الكلام الممتاز والمسؤول لرئيس الحكومة الإيطالية جوزيبي كونتي في ذكرى أوشفيتز، والقائل بضرورة “التصدي لمعاداة السامية ولكل شكل آخر من أشكال العنصرية في إيطاليا”، لا يغيب عن المتابع أن البلاد تشهد منذ سنوات صعوداً لخطابات العنصرية والكراهية تجاه غير الإيطاليين، وخصوصاً المسلمين والأفارقة منهم. وازداد هذا بعد وصول اليمين الإيطالي المتطرف إلى السلطة في الانتخابات التشريعية عام 2018، ممثلاً بوزير الداخلية السابق ماتيو سالفيني.
سقوط الحكومة التي كان سالفيني مشاركاً فيها وكان واحداً من أبرز أقطابها، في آب/ أغسطس 2019، ثم تشكيل حكومةِ تَحالف بين “تيار يسار الوسط” (الحزب الديموقراطي) و”حركة خمس نجوم”، برئاسة كونتي، شكّل ضربة للسياسات العنصرية “الرسمية” تجاه المهاجرين، والتي تجلى بعضها في احتجاز سفن تحمل هؤلاء ومَنْعها من الرسو على الشواطئ الإيطالية، وإغلاق الموانئ أمامهم وتركهم لمصيرهم في الأبيض المتوسط، إضافة إلى تنامي خطاب الإسلاموفوبيا في البلاد.
غير أن حركات “النازيين الجدد” تتعدى إمكان وصفها بمجرد “اليمين” (وهذا الأخير، مثل اليسار، حمّال أوجه بالمناسبة) إلى كونها نازيات وفاشيات جديدة معلَنة بوضوح، ومن دون “تقية سياسية”، على رغم كونها غير قابلة للتمدد وغير قادرة على إلحاق الأذى بالآخرين لأسباب عدة، من بينها التدخل الحاسم والفوري من قبل الدولة الإيطالية عبر قنوات وأدوات “العنف الشرعي”، إذا استعدنا تعبير ماكس فيبر في توصيفه الدولة واحتكارها العنف ومشروعية هذا الأخير.
يواجه أندريا كافالييري الذي اعتُقل في 21 كانون الثاني/ يناير في مدينة سافونا، تهمة “الدعاية والتحريض على ارتكاب جريمة لأسباب تتعلق بالتمييز العنصري، وتأسيس جمعية بغرض الإرهاب”. وهو واحد من بين 22 شخصاً تتم ملاحقتهم اليوم والتحري عنهم في مدن تورينو وكالياري وبولونيا وباليرمو وبيروجيا وجنوا. وكان هؤلاء قد بدأوا بنشر استبيانات وأسئلة عبر مواقع التواصل الاجتماعي بهدف ضم آخرين إليهم، أسئلة مثل: “ما رأيك بهتلر وموسوليني؟ هل تحب اليهود؟ ما رأيك بالنساء؟..” إلى جانب إنكارهم المحرقة بالطبع. كما دعوا بشكل مباشر إلى مذابح تستهدف النساء فـ”النساء المعاصرات فاسقات وبلا مشاعر” بحسبهم، وطرحوا على أنفسهم مهمة الحرب على المثليين و”الزنوج” كما سموهم. وذكرت صحف ومواقع إيطالية أن كافالييري “تعاون مع آخرين أيضاً في صوغ وثائق النازية الجديدة المعادية للسامية ونشرها على شبكة الانترنت، وأنه كان يسعى إلى تأسيس شبكة شبه عسكرية في مناطق عدة في إيطاليا”.
حددت “مجموعة كافالييري” أعداءها ضمن مروحة واسعة، لكنها ركزت على “اليهود والشيوعيين والنساء”، وهي استلهمت في عملها التنظيمي “نماذج عالمية” من أجل “تنقية المجتمع” على ما أوردَت، ومن بين تلك النماذج أندريس بريفيك الذي نفذ هجومين إرهابيين في النرويج عام 2011، وبرينتون تارانت، وهذا الأخير هو منفذ هجومين إرهابيين آخرين في نيوزيلاندا ضد “مسجد النور” و”مركز لينود الإسلامي”. في هذا ما يضيف المسلمين إلى لائحة المستهدَفين.
وفي الفترة التي أُعلن فيها عن اعتقال المجموعة المذكورة أعلاه وملاحقتها، تجمع حوالى 300 ناشط “سياسي” إيطالي، بدعوة من حركة “كاساباوند” الفاشية، في ذكرى ما سموه “مذبحة Acca Larentia”، في إشارة منهم إلى مقتل ثلاثة شبان إيطاليين عام 1978 كانوا أعضاء في “الحركة الاجتماعية الإيطالية” وهي، أيضاً، حركة قومية يمينية متطرفة. وأدى المجتمعون في وقفتهم تلك ما يعرف بالتحية الرومانية أو التحية الفاشية، ممثلة بمد الذراع إلى الأمام بشكل مستقيم.
لا تدعي هذه الأمثلة استيفاءً ولا إحاطة، غير أن المرور بها على رغم كونها أمثلة عن حركات وتحركات محدودة النطاق والتأثير (حتى الآن على الأقل)، يحمل دلالات كثيرة تتجاوز كونها شأناً إيطالياً صرفاً. صحيح أن الشرطة الإيطالية قامت قبل أكثر من عام باعتقال عدد من الأشخاص، هم تونسيون وإيطاليون، من بينهم إمام مسجد منطقة “أبروتسو”، بتهمة “ارتكاب جرائم مالية ساعدت في توفير التمويل لجبهة النصرة الإرهابية في سوريا”. غير أن هذا “العنف” المشروع هو، وعلى رغم اعتباره ضرورياً، لا يكفي لإحداث ربط بين ما يحصل هنا وما يحصل هناك. بمعنى أن المسألة ليست مجرد تفكيك لخلايا وشبكات، على أهمية ذلك وضرورته، بل تتعداها إلى ما يمكن أن يصيب الثقافة والسياسة معاً، والعلاقة بين ضفتي المتوسط، أوروبا والعالم العربي.
ذلك أن التمعن في توجهات النازيين الجدد في إيطاليا (وأوروبا)، وتوجهات الإسلام الجهادي الذي يبقى “أقل حداثةً” من إمكان وصفه بالفاشية أو النازية، هو تمعُّن يتيح الخروج بتقاطعات كثيرة بين الخطابين. فإضافة إلى معاداة اليهود كانتماء ديني وهوية، ثمة أيضاً معاداة النساء واحتقارهنّ بمفردات وسلوكيات يضيق المجال بذكرها. أما ما يتعلق بمناهضة الشيوعيين وكرههم، فهذه أيضاً لا تحتاج إلى دلائل، ولا تنفع معها حذلقات بعض “الباحثين” الإسلاميين “المعتدلين” باعتبارهم الإسلام “اشتراكياً”. غير أن هناك تقاطعاً آخر بين الطرفين هو، وللمفارقة، معاداة المسلمين.
على عكس ما هو الحال في الإسلام الجهادي.
تعلن “النازية الجديدة” معاداتها المسلمين صراحة وبشكل مباشر، على عكس ما هو الحال في الإسلام الجهادي. يتبنى الأخير “إسلاماً معيارياً” يقاس المسلمون وغير المسلمين، والعالم بأسره وشعوب هذا العالم وفقاً لمسطرته، وبذلك، ترتد ممارسات هذا الإسلام، وبدرجة كبيرة، على الجاليات المسلمة التي لا تتقيد بالمعيار، وخصوصاً تلك المقيمة في أوروبا. تبدّى ذلك بشكل واضح بعد مجزرة شارلي إيبدو عام 2015، وقطع رأس مدرس التاريخ الفرنسي ثم مجزرة نيس قبل أزيد من ثلاثة أشهر. وغني عن القول إن بعض الإسلاميين “المعتدلين” رددوا خطاب معاداة الغرب، بالمطلق، مثلهم مثل الجهاديين، وإن من دون تماهٍ مقصود منهم مع خطاب هؤلاء الأخيرين وأدواتهم بعد أحداث فرنسا 2020، بحيث صارت مقاطعة الجبنة الفرنسية واجباً أخلاقياً أكثر من إدانة الجريمة من دون الـ”ولكن” الشهيرة. هذا التأثير في المسلمين المقيمين في الغرب وفي غيره، وكثيرون من هؤلاء يتمثلون قيم الحداثة وأفكارها ونمط حياتها من دون أن يتخلوا عن أفكارهم وهويتهم، يمكن اعتباره ضرباً من “الإسلاموفوبيا الموازية” أو الاستهداف الموضوعي، غير المباشر، للمسلمين.
واستطراداً، وفي ما يتعلق بالفارق بين التأثير المباشر والتأثير غير المباشر، “الموضوعي” إن جازت التسمية، فإن حركة “كاسا باوند” الإيطالية، التي دعت إلى اعتصام الـ300 شخص في ذكرى Acca Larentia، آنفة الذكر، هي حركة معروفة بمواقفها المؤيدة للنظام السوري، وقد زار وفدٌ لها سوريا قبل عامين والتقى مسؤولين في نظام بشار الأسد، كما زار مدينة تدمر السورية قبل العودة إلى إيطاليا ببروباغندا إعلامية لمصلحة نظام الإبادة في دمشق، تتحدث عن تَدْمر التاريخ والأصالة. أما الإسلام الجهادي، فدائماً يكون أقل مباشرة و”أكثر موضوعية” في خدمته بروباغندا الأسد والأنظمة الشبيهة به، عبر إجرامه وتفجيراته وخلاياه النائمة وغير النائمة. هذه مفارقة أخرى وقَرينة إضافية على تلاقي “الفاشيات الأوروبية المستحدثة” مع “الفاشية الإسلامية الرثة”، مع الحرص الضروري من جانب كاتب هذه السطور على عدم اعتبار كل إسلام جهادي هو محض رد فعل على عنف الأنظمة، أي بخلاف السذاجات التي يتم ترويجها من قبل طيف واسع من “النُخب” العربية. ولهذا حديث آخر يطول.
ختام القول وخلاصته، أن ما يحصل اليوم يحمل الكثير من الإشارات على ما يمكن أن يكون عليه الحال في المستقبل، من خلال تلاقي “أفكار” وحركات النقاء والاصطفاء الديني أو العِرقي، بين “الأوروبي الأبيض” هنا وبين من ينسبون لأنفسهم صفة تمثيل “خير أمة أخرجت للناس” هناك، وهما طرفان يغذي كل منهما الآخر، موضوعياً، عبر عمل دؤوب، مما لا تنقص الدلائل عليه من أمثلة سابقة وحالية.
درج