مقدمة حازم صاغيّة لرواية “ستالين الطيب” للكاتب الروسي ڤيكتور ايروفييڤ
——-
يصعب الكلام عن ستالين من دون الكلام عن الموت. محطّات الكون الدلاليّ للستالينيّة هي محطّات للجريمة التي تنزل إمّا بأفراد، قد يكونون رفاقاً في الحزب نفسه، أو بطبقة اجتماعيّة، كالفلاّحين الكولاك، أو بقوميّة أو إثنيّة كالأوكرانيّين.
ذاك أنّ وضعاً ينشأ عن الموت، ويُحافَظ عليه بقوّة الموت، وضعٌ لا يتحوّل، ولا يستقبل الآخر أو الجديد، إلاّ من ضمن مسار موتيّ.
الميّت هنا، ولو بمعنى فرويديّ ورمزيّ، هو الوالد: والد الكاتب الراوي ڤيكتور إيروفييڤ. في السطر الأوّل من “ستالين الطيّب” يُعلَن قتل الأب.
والحال أنّنا إذا وضعنا التفاصيل جانباً، وجدنا أنفسنا، في هذه الرواية – السيرة الذاتيّة، أمام قطبين نقيضين: إنّهما الستالينيّة ونمط الحياة في ظلّها من جهة، وباريس من جهة أخرى. الستالينيّة هي البطل السلبيّ. باريس هي البطل الإيجابيّ.
لكنّ نمط الحياة الستالينيّ في صورته الأبشع والأشدّ فظاظة ليس محطّ تركيز إيروفييڤ. فهو عاش في بذخ وترف تميّزت بهما النومانكلاتورا الشيوعيّة، وكانت السيّارات الفارهة وأطباق الكافيار بعض عناوينه. أبوه – الذي “قتله” – كان مترجمَ ستالين عن الفرنسيّة، ثمّ مديراً لمكتب وزير الخارجيّة مولوتوڤ، فنائباً له. بيد أنّ الامتيازات التي عاشها هذا الستالينيّ المتحمّس كانت دائماً مشوبة بالقلق ومسكونة بالفراغ، كما لو أنّ هناك خطأً ما في ترتيب الأمور هذا. إلاّ أنّ البطولة الإيجابيّة لباريس هي التي كشفت حقيقة هذا القلق وذاك الفراغ.
فالوالد، بعد رحيل الديكتاتور، عُيّن ملحقاً ثقافيّاً في العاصمة الفرنسيّة، مع أنّ عدّته من الثقافة لا يُعتدّ بها. لكنْ بفضل الأمّ، ذات الهوى والحساسيّة الفنّيّين، أتيح للعائلة أن تستقبل في بيتها بعض كبار المثقّفين والمبدعين في فرنسا كپيكاسو وشاغال. هناك أيضاً أتيح لفيكتور أن يقرأ ساد وهايدغر وياسبرز وبعض ما هو ممنوع في بلده. ولئن أعيد ڤيكتور الصغير في 1958 إلى موسكو، وعمره 12 عاماً (فيما بقيت عائلته سنة أخرى في باريس)، فإنّ شيئاً عميقاً عاد معه، شيئاً استولى عليه وبات يتحكّم به: إنّه غوى باريس، غوى الحرّيّة والثقافة الحرّة.
لقد تحوّلت موسكو، بشروطها الاقتصاديّة الكالحة وحرّيّاتها المعدومة، شيئاً لا يُطاق.
هذه العدوى الباريسيّة هي التي قتلت العالم الستالينيّ فيه، واجتثّت إمكان التعايش مع موسكو السوفياتيّة. في وقت لاحق، كتب فيكتور قصصاً اعتبرها الحزب منحرفة ومشينة، وفي 1979، كتب في التقويم الأنثولوجيّ “متروپول” ما أدّى إلى استدعاء الأب من السفارة في ڤيينا وتحويله موظّفاً صغيراً في الخارجيّة. وبطرده من اتّحاد الكتاب قضي تماماً على المستقبل السياسيّ والوظيفيّ لوالده.
صراعُ القطبين الستالينيّ والباريسيّ لا يلخّص الكتابَ بطبيعة الحال، لكنّه ينبّهنا إلى أهميّة المقارنة كطريق إلى المعرفة وإلى اكتشاف الحرّيّة. وفي سعيه إلى اكتشاف الحرّيّة، يبالغ الكاتب أحياناً إذ يوحي وكأنّ ثمّة عطلاً جوهريّاً في الروس وروسيّا، وفي الانئسار بشخصيّة لا فكاك منها وبماضٍ لا مهرب منه. مع هذا فهو يترك في الحلق طعماً مُرّاً مفاده أنّ ڤيكتور إيروفييڤ قد نجا لكنّ روسيا قد لا تنجو في مستقبل قريب. ذاك أنّ الذين يحكمونها لا يكفّون عن استرجاع هذا الوجه أو ذاك من الستالينيّة، أي عن الاستدعاء المتواصل للموت.
إنّ ستالين يتكرّر، إذاً، على نحو أو آخر هناك، فيما الموتى يُعادون إلى الحياة على هيئة منقذين. هذا مؤلم بما فيه الكفاية.
ستالين الطيب، رواية
تأليف ڤيكتور ايروفييڤ
ترجمة خالد الجبيلي
تقديم: حازم صاغية
الترقيم الدولي: 9781913043148
تاريخ النشر: يناير 2021
منشورات دار كيكا
التوزيع دار الكرمة المصرية
Al-Karma Publishers دار الكرمة