استفتاء سويسرا: «صدام حضارات» من أجل 30 منقّبة؟/ صبحي حديدي
إذا صحّ ما تردد في وسائل الإعلام السويسرية من أنّ عدد النساء اللواتي يرتدين النقاب في سويسرا لا يتجاوز الـ30، في بلد يبلغ عدد سكانه 8.6 مليون نسمة وتشكل النساء فيه نسبة 50.4؛ فإنّ الاستفتاء الأخير حول حظر تغطية الوجه يبدو أقرب إلى الانطباق على الرجال (مثيري الشغب في ملاعب كرة القدم مثلاً، ممّن اعتادوا إخفاء الوجوه تفادياً لانكشاف الهوية) أكثر من النساء. ليست هذه مزحة بالطبع، لأنّ التعديل الدستوري الذي صوّت لصالحه 51.2٪ من الناخبين في سويسرا، لا يسمّي المرأة بصفة محددة أوّلاً؛ كما أنه، ثانياً، لا ينصّ بالتسمية الصريحة على حظر النقاب أو البرقع أو الحجاب؛ عدا عن حقيقة إحصائية تقول إنّ نسبة المسلمين في سويسرا لا تتجاز 5.5٪.
ليست مزحة، في المقابل، مواقف الحكومة السويسرية المناوئة صراحة لتمرير الاستفتاء، لأنه «يُلحق الضرر بالسياحة» ولأنّ غالبية المنقبات هنّ «سائحات يقضين فترات وجيزة في البلاد» و«قلة قليلة في سويسرا ترتدي ما يغطي الوجه بالكامل، و«الحظر على مستوى البلاد سيقوض سيادة المحليات ولن يكون نافعا لفئات معينة من النساء». ولهذا بادرت الحكومة إلى طرح مشروع بديل يُلزم بكشف الوجه كاملاً أمام السلطات عند تدقيق الهوية. أخيراً، ليست مزحة ما يقوله بعض ممثلي وممثلات مجموعة «إيغركنغر» المقربة من «حزب الشعب» اليميني، والتي قادت حملة الدعوة إلى الاستفتاء وجمعت من أجل إجرائه أكثر من
105 آلاف توقيع تحت لافتة «نعم لفرض حظر على إخفاء الوجه». هذا من حيث توصيف التعديل الدستوري، وأمّا الشعارات فقد بدأت من «أوقفوا الإسلام الراديكالي» و«أوقفوا التطرف» ولم تنته عند ملصق الحملة الأبرز الذي يلتقط صورة امرأة منقبة، عاقدة الحاجبين غاضبة متطيرة شرّاً، تنذر بالويل والثبور.
لم يكن من الممكن، والحال هذه، أن تغيب أسطوانة «القيم الحضارية» عن مسوغات الحملة، وسارت مسوغات «حزب الشعب» على منوال «المسألة الحضارية» التي تميّز سويسرا وتاريخها عن أولئك الذين يحجبون الوجه لممارسة التمييز ورفض المساواة. التصويت بالموافقة على مشروع التعديل ضربة موجعة لـ«الإسلاموية الراديكالية» في نظر الحزب، وكذلك لأطروحات اليسار «الاجتماعية الرومانتيكية وغير الواقعية والعبثية». ولم يكن ممكناً، استطراداً، إلا أن تُعاد المعزوفات ذاتها التي ابتدعتها أحزاب اليمين المتطرف والشعبوي في بلدان أوروبية أخرى، على رأسها فرنسا غنيّ عن القول، عندما طغت هستيريا الحجاب وقوانين حظره والتيه في تنويعاته النقابية والبرقعية؛ وأن تُستعاد، في سويسرا تحديداً، تجربة استفتاء حظر تشييد المآذن لسنة 2009، التي وافق عليها الناخبون بنسبة أعلى حينذاك: 57.5.
يومها انتقلت، كالنار في الهشيم، أصناف السجالات الزائفة والسطحية والضحلة حول موقع المئذنة ودلالاتها ورموزها؛ فقال استطلاع رأي أجرته على استعجال مؤسسة «إيفوب» إنّ 46٪ من الفرنسيين يؤيدون حظر المآذن، وقبلت بها نسبة 40٪، ورفضت نسبة 14٪ الإفصاح عن الرأي. لكنّ الخلاصة الأكثر مغزى كانت أنّ نسبة 19٪ فقط هي المؤيدة لبناء المساجد، فكانت النسبة الأدنى منذ ثلاثة عقود، بل كانت أضعف حتى من نسبة ما بعد تفجيرات 11/9 سنة 2001 التي بلغت 22٪. كذلك لم تعدم فرنسا وزيرة سابقة تنتمي إلى اليمين المسيحي، كريستين بوتان، تشرح لمواطنيها أنّ «المئذنة ترمز إلى الديانة الإسلامية، ونحن لسنا في دار الإسلام» وكأنهم غافلون عن حقيقة بديهية مثل هذه؛ أو كأنّ الأمر تناظر بين الإسلام والمسيحية، وليس واحداً من حقوق الإنسان الجوهرية، أي حقّ المعتقد وممارسته والتعبير عنه بالوسائل التي يكفلها القانون.
يومها، أيضاً، لم يتبرع أحد، أو لم يعبأ عابئ ربما، بوضع بوتان أمام مقارنة جائزة منطقياً: ماذا يمكن أن تقول، وسواها من الرهط المشايع لها، لو أنّ استفتاء نظيراً جرى في القاهرة أو بغداد أو دمشق أو الرباط، وهي عواصم مسلمة بامتياز، فأفضت نتيجته (بنسبة 57.5٪، كما في المثال السويسري) ليس إلى منع تشييد كنائس جديدة، بل حظر تزويدها بالأجراس، وحظر قرع تلك الأجراس أيام الآحاد والمناسبات الدينية؟ ألا يشكل استفتاء كهذا اعتداءً على حرّية المعتقد المسيحي، في ديار الإسلام؟ وهل سيتجاسر أحد من أمثال بوتان، في أيّ من دول الغرب التي استفتت حول المساجد والمآذن، فيقول إنّ استفتاء هذه «العاصمة المسلمة» أو تلك خطوة ديمقراطية مشروعة، اتفق المرء معها أو اختلف؛ أم سيعتبره ممارسة أصولية متشددة، منتظَرة تماماً من ديانة لا تحترم عقائد الآخرين؟
وفي العودة إلى واحد من جذور الأمر، يصحّ التذكير بأنّ سويسرا ديار مسيحية، ومن المفهوم أن السويسري المسيحيّ ـ ذاك المتديّن البسيط، التقليدي أو العصري، سواء بسواء في الواقع ـ يمكن أن يلمس هذا المقدار أو ذاك من أخطار تتهدد ديانته من ديانة أخرى لا يكفّ أهل النخبة، في المذياع والتلفاز والصحيفة والكتاب، عن وصفها بالمتشددة والمتطرفة والمنغلقة، فضلاً عن كونها صانعة الإرهاب. بيد أنّ هذه أيضاً، ولا ريب، ديار ديمقراطية تعددية أياً كانت المظانّ حول نظامها، وهي موطن أكثر من شرعة كونية واحدة تعزّز حقوق الرأي والتعبير والمعتقد،؛ بالإضافة إلى ما اشتهرت به من حياد في الحرب، كما في السلام. هل ثمة تناقض موروث ومتأصل ومستعصٍ، إذن؟ وكيف، ومن أين ينبثق؟ وإذا كان طراز الديمقراطية السويسري، أي الاعتماد الدائم على استفتاء الشعب، قد أماط اللثام عن حقائق ذلك التناقض؛ فكيف يمكن أن تتكشف حقائق مماثلة في طراز آخر من الديمقراطية، في فرنسا مثلاً؟
لم يكن غريباً، والحال هذه، أنّ أولى الاعتراضات على تنظيم الاستفتاء السويسري الأخير أتت من منظمة العفو الدولية مثلاً، ثمّ من مكتب حقوق الإنسان في منظمة الأمم المتحدة، وأن يعتمد منطق الاعتراض في الحالتين على نصوص «الميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية» الذي يُعدّ واحداً من المحطات الكبرى التي أنجزتها الإنسانية على طريق تفصيل الحقوق والواجبات في ميادين الحريات العامة والنظام والسلوك. فكيف إذا كان النصّ التشريعي المقترح لا يكاد يميّز بين وجه امرأة ووجه رجل، ولكنه في الآن ذاته يزعم استصدار التشريع في سبيل الدفاع عن حرّية المرأة؟ وكيف إذا كانت أسطوانة «القيم الحضارية» لا تُدار هنا إلا لكي تستعيد تلك الأنغام العتيقة النشاز التي أبطلتها حركة التاريخ، على غرار نظرية صمويل هنتنغتون في «صدام الحضارات»؟
وفي التعليق على حكاية المآذن، ومواقع أديان الأقلية مقابل الأكثرية، كان الأكاديمي الفرنسي جان ـ بول ولايم، الأخصائي البارز في علم اجتماع الأديان، قد اعتبر أنّ «الصروح الدينية صيغة تعبير عن تحدّيات حيازة السلطة، إذْ كان الكاثوليك في القرن التاسع عشر مخوّلين ببناء الكنائس في الشوارع الرئيسية، وتُرك للبروتستانت أن يبنوا معابدهم في الشوارع الخلفية والجانبية فقط». شيء من هذه المطارحة تردد لدى المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، التي ساجلت بأنّ من الممكن بناء المآذن، شرط ألا ترتفع أعلى من برج الكنيسة، حيث يُقرع الجرس. هذا ما أطلق عليه ولايم تسمية «الكاثو ـ علمانية» نسبة إلى كَثْلَكة حياة يومية علمانية في المظهر ولكنها في الباطن تواصل بعض تديّنها القديم.
وإلا، بمعزل عن المزاح مجدداً، كيف استنهضت الديمقراطية السويسرية أكثر من ثمانية ملايين مواطن، في وجه 30 منقبة؟
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي