بين الماغوط وغوار الطوشة/ ميسون شقير
تعتبر رواية “الدون كيخوت” لثيرفانتس من أهم الروايات، لما فيها من سخرية رشيقة وذكية. تناولت مفهوم الفروسية الذي نما كثيرا في العصور الوسطى، محولة إياه إلى مفهوم أجوف لا ينتج إلا حالات مشوهة من البطولة الفارغة الناقصة كل بعد أخلاقي عميق. وقد جعلت الرواية كلاً منا، يسخر من الدون كيخوت الذي يسكنه، وجعلت كلاً يرى نفسه كم توهم ذاته فارساً، لكنه في الحقيقة لا يقاتل إلا طواحين الهواء.
وقد تناولت رواية إمبرتو إيكو “اسم الوردة” دور السخرية بوصفها حالة من التحدّي الذي قد يفجر ثورات كاملة، وقد يزلزل عروشا طاغية، إن في السياسة، أو في المجتمع، أو حتى في الفكر المتزمت، فثقافة السخرية سرعان ما تتحوّل قوة جذب هائلة، تجعل المتلقي يقبل عليها بشراهة المقهور الجائع إلى ضحكة، لأن المظلوم والمهزوم يدافع عن ذاته فيها بطريقةٍ تجعله منتصراً، ولو فترة قصيرة، فهي طريقة سحرية وفريدة، تعيد إلى الإنسان المهزوم فينا حالةً من التوازن المفقود، وتبني في روحه صرحاً مذهلاً من الضحك من قاهره.
.. كان الكاتب السوري محمد الماغوط ظاهرة نادرة في الأدب العربي الحديث، تميزت بمزيج فريد من العفوية والفطرية والشعرية الحادة واللاذعة، مهملا كل المفاهيم النقدية للكتابة، ومنتقدا شديدا كل أشكال الاستبداد والسلطة، معرّياً الطغاة والساسة، والأحزاب، والرؤساء، بجرأة وقوة وعمق، وبموهبة صادمة وعرة لم يستطع شيء ترويضها. وقدّم تجربة فريدة في مسرح الكوميديا السوداء، آتية من حياة الفقر والبؤس والوعي الفكري الذي عاشه. فترك الماغوط “مملكة مترامية، حدودها الكوابيس والحزن والخوف. واللهفة الطاعنة بالحرمان، وشمسها طفولة نبيلة وشرسة”. وحين رحل ترك لنا إرثا عظيماً من النصوص والمسرحيات التي استطاعت الوصول إلى عمق كل عربي، ومن القصائد البرّية الطافحة بالقهر وبالشاعرية والسخرية معا، تصفعنا في نهاياتها. قدّم نفسه “عازفاً منفرداً، وطائراً خارج السرب”. له لغته التي لا تشبه أحدا قبله، قدّم كل منجزاته بشجاعة حقيقية في اختراق حصار الخوف وأعين الرقباء. وعلى الرغم من إعلانه أن الفرح ليس مهنته، وأن غرفة نومه بملايين الجدران، فقد استطاع أن يترك فينا مزيجا فريدا من المرارة والفرح، من الضحك العميق على هذه الكوميديا السوداء الذكية التي تخدش قلب كل منا.
كما جسّد نهاد قلعي صورة الممثل والمثقف الموهوب، القادم من وعي فكري طافح بالعمق الإنساني. موهبته هذه جعلته يتلقف أعمال الماغوط التي حاكت روحه، وقالت ما تمنى هو أن يكتبه ويقدّمه ليس فقط ممثلا، بل أيضا صاحب مشروع ثقافي مليء بالكوميديا السوداء، باعتبارها السكين الحادة التي تنحت حجارة الاستبداد بكل أنواعه، ويعرّيها ببشاعتها، لتعود وتظهر مدى جمال الداخل الإنساني النقي البكر.
وجد دريد لحام نفسه، ضمن هذا الثنائي، ممثلا شابا يمتلك فقط موهبة في تقديم شخصيته الساخرة، وفي قدرته على التحكم بملامح وجهه التي كانت مزيجاً محبباً وذكياً في الوقت نفسه. من تميز الماغوط الإبداعي، ومن مشروع نهاد قلعي، الفكري والفني، ولدت قامة دريد لحام الفنية. لم يكن مؤلف تلك النصوص التي سرت في المجتمع العربي كما تسري الشائعة، أو الضحكة المحرّمة، وتسللت الى ملايين القلوب العربية، وحاكت أحلامها المؤجلة. لذا كان من الطبيعي أن يدرك الجميع أن دريد لحام هو ممثل لديه مواهب عديدة ساعدته في بناء ذاته الفنية، لكنه ليس ذاك الإنسان الذي يحمل مشروعا فكريا حضاريا يواجه به السلطات الاستبدادية التي تحكم الوطن العربي، بدءا بالسلطة السياسية الديكتاتورية، مرورا بالسلطة الفكرية والاجتماعية، وصولا إلى السلطة الدينية.
يتعرّى اليوم دريد لحام للمرة الثانية. أولا حين وقف مع نظام قاتل ضد شعبه. وثانيا حين قال، أخيرا، مع إذاعة محلية، في مقابلة إنه هو “من جعل الماغوط مشهورا، وأنه هو من كتب مسرحيات غربة، وكاسك يا وطن، وهو من حمى نهاد قلعي من أن يصبح مفلسا”. تسقط اليوم عن دريد لحام، وعن غوار الطوشة، ورقة التوت الأخيرة، لتبدو عورة أخلاقه واضحة. وفي لقاء مع مجلة الناقد، أجراه معه يحيى جابر ويوسف بزّي، قال الماغوط “دريد لحام انتهزني .. استغلني كجواز سفر ليعبر”. وبعد مقابلة دريد لحام المخزية، صرح المخرج مأمون البني إن دريد لحام متلوّن وكاذب، كما قالت عنه سلاف ابنة الشاعر محمد الماغوط للصحافة إنه مادي وضحل.
عرّت الثورة السورية هشاشة دريد لحام الفكرية والإنسانية والأخلاقية، وجعلته تصريحاته المعيبة بحق رفاق دربه ينكشف على حقيقته. ولن يشفع له أرشيفه المهم في التمثيل، ولن يحميه. ما بينه وبين الماغوط مسافة شاسعة. لن يبقى منه سوى غوار الطوشة، وسيبقى الماغوط سيد التفرّد والتمرّد والشجاعة، وسيد الشعر الصادم كصفعة، والمسرحيات المضحكة المبكية، وسيبقى ذاك العصفور الأحدب الذي يطير في فضاء أرواحنا.
العربي الجديد